الصحوة الكوردية…الوحدة والخيانة ومستقبل الشرق الأوسط

Henri J. Barkey - auis.edu.krd

شارك هذا المقال:

 

هنري جيه. باركي
ترجمة: مصطفى إسماعيل

 

“نحن نقاتل منذ فترة طويلة في سوريا”، قالها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأيام الأخيرة من عام 2018. “الآن حان الوقت لكي تعود قواتنا إلى الوطن”. لقد قُوبلتْ دعوة الرئيس المفاجئة إلى انسحاب سريع لما يقرب من ألفي جندي أمريكي متمركزين في سوريا بانتقادات واسعة من أعضاء في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية. لكنها كانت بمثابة صدمة أكبر للكورد السوريين، الشريك الرئيسي للولايات المتحدة في الحرب ضد الدولة الإسلامية (أو داعش). قبل أسابيع من إعلان ترامب، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يهدد باجتياح مناطق في شمال سوريا يسيطر عليها المسلحون الكورد. كان الأمر الوحيد الذي منعه هو وجود القوات الأمريكية هناك. إن إخراج هذه القوات سوف يترك الكورد مُعرضين للخطر بشكل عميق. حذَّر أحد الكورد السوريين قائلاً: “إذا غادر [الأمريكيون]، فسوف نلعنهم كخونة”.

التفاصيل حول الانسحاب الأمريكي من سوريا لا تزال مبهمة، ولكن مهما قررت واشنطن في نهاية المطاف، فإن إعلان ترامب يمثل منعطفاً قاسياً للكورد في جميع أرجاء الشرق الأوسط. بالعودة إلى منتصف 2017، كان الكورد ينعمون حينها بنهضة. لقد لعب الكورد السوريون متحالفين مع القوة العظمى الوحيدة في العالم الدور المركزي في هزيمة داعش إلى حد بعيد في ميدان القتال واستولوا على عاصمة الجماعة، الرقة. أحكمت وحدات حماية الشعب وهي ميليشيا كوردية سورية سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية، وبدا أنها ستصبح لاعباً مهماً في المفاوضات لإنهاء الحرب الأهلية في البلاد. كورد تركيا ورغم الحصار المفروض عليهم في تركيا، كانوا يتمتعون بوهجِ إنجازات نظرائهم الكورد السوريين الذين يتوافقون معهم إلى حد بعيد. وفي العراق، كان الهيكل الذي يحكم المنطقة الكوردية في البلاد- حكومة إقليم كردستان- في أوج قوته، ويستعد لاستفتاء سبتمبر 2017 على الاستقلال.

بحلول نهاية عام 2018 بدا أن العديد من أحلام الكورد قد أصبحت في الحضيض. فبعد أن صوتت الغالبية الساحقة من الكورد العراقيين لصالح الاستقلال في الاستفتاء الذي أجرته حكومة إقليم كوردستان، قامت الحكومة العراقية بدعم من إيران وتركيا باجتياح كوردستان العراق واحتلال حوالي 40 بالمائة من مساحة الإقليم. لم تخسر حكومة إقليم كردستان بين ليلة وضحاها فقط نصف أراضيها، بل خسرت أيضاً الكثير من نفوذها الدولي. فيما كان كورد تركيا ورغم نيلهم مقاعد في البرلمان في انتخابات يونيو 2018، قد تعرضوا لاعتداءات بلا هوادة من أردوغان وحكومته طيلة العام، بما في ذلك حملة عسكرية متجددة ضد حزب العمال الكوردستاني، الذي يعد جماعة انفصالية يسارية. في سوريا، اجتاحت تركيا في مارس 2018 بلدة عفرين التي كانت خاضعة للسيطرة الكوردية، ما أدى إلى إزاحة وحدات حماية الشعب وتشريد نحو 200 ألف من الكورد المقيمين في المنطقة. ثم في ديسمبر علم الكورد السوريون أن حماتهم الأمريكيين قد يتخلون عنهم كلياً قريباً.

لكن هذه الانتكاسات يدحضها منحى أكبر- وهو منحى سوف يصوغُ الشرق الأوسط في السنوات القادمة، فالكورد في جميع أنحاء المنطقة يكتسبون ثقتهم بأنفسهم، ويضغطون باتجاه الحقوق التي حُرِموا منها منذ فترة طويلة، والأهم من ذلك كله هو هذا التعاون مع بعضهم البعض عبر الحدود الوطنية وفي جميع أنحاء الشتات. إلى حد أكبر من أي نقطة سابقة في تاريخهم، بدأ الكورد في الأجزاء الأربعة البارزة تقليدياً من كردستان- في إيران والعراق وسوريا وتركيا- في المسيرِ ليصبحوا دولة كوردية واحدة. لا تزال هناك عوائق كبيرة أمام الوحدة الكوردية منها الانقسامات اللغوية بين الكورد، وفي أقل تقدير وجود دولتين قويتين، إيران وتركيا، مع اهتمام فائق لديهما بإحباط أي شكل من أشكال النزعة القومية الكوردية. رغم ذلك فإن الأحداث الأخيرة بدأت عملية بناء الأمة الكوردية التي من الصعب على المدى الطويل احتواءها. حتى لو لم تكن هناك كوردستان واحدة، موحدة ومستقلة، فلقد بدأت الصحوة القومية الكوردية. ربما تخشى دول الشرق الأوسط الصحوة الكوردية، لكن إيقاف هذه الصحوة يتجاوز قدراتهم.

 

القضية الضائعة

يعيش حالياً قرابة 30 مليون كوردي في كردستان الكبرى، وهي منطقة متصلة جغرافياً تمتد عبر جنوب شرق تركيا، شمال غرب إيران، شمال العراق، وشمال شرق سوريا. تفاعلت القبائل الكوردية مع الإمبراطوريات العربية والفارسية والتركية على مر القرون، تعاونت معهم أحياناً وتمردت عليهم أحياناً أخرى. القومية الكوردية الحديثة لها جذورها في فترة تفكك الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. دعت معاهدة سيفر لعام 1920 الموقعة بين الحلفاء والعثمانيين المهزومين إلى إجراء استفتاء على الاستقلال في المناطق ذات الأغلبية الكوردية في تركيا المعاصرة، ولكن بعد حرب الاستقلال التركية أعادت الحكومة التركية الجديدة التفاوض مع الحلفاء، الأمر الذي أدى إلى معاهدة لوزان لعام 1923 والتي ضمنت السيادة التركية على ما كان يمكن أن يشكل كوردستان مستقلة.

لكن المطالب الكوردية في الاستقلال لم تنتهي. اندلعت الثورات الكوردية طيلة القرن العشرين، والتي غالباً ما دعمتها دول متنافسة في كل بلد كان لديه عدد كبير من السكان الكورد تقريباً. قامت تركيا بقمع حركات التمرد الكوردية في أعوام 1925 و1930 و1937. ثم في منتصف الثمانينيات، أطلق حزب العمال الكوردستاني تمرداً مسلحاً في تركيا لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا. في إيران عام 1946، أسس الكورد بدعم من الاتحاد السوفييتي أول حكومة كوردية فعلية، هي جمهورية مهاباد المستقلة والتي استمرت لمدة عام قبل أن تنهار بعد سحب موسكو لدعمها. ثار كورد العراق مراراً ضد حكومتهم المركزية، وقد خاضوا مدعومين من شاه إيران حربين ضد بغداد خلال الستينيات والسبعينيات، إلا أنهم تلقوا الهزيمة في عام 1975 بعد أن أبرم الشاه اتفاقاً مع رجل العراق القوي صدام حسين، تاركاً الكورد لمصيرهم.

هذا الاضطراب كان يعني أنه بالنسبة لكل دولة من الدول الأربع التي تضم أقلية كوردية كبيرة فإن قمع القومية الكوردية كان هدفاً سياسياً ذو أهمية قصوى. حظرت الدولة التركية الجديدة خلال حكم الرئيس كمال أتاتورك استخدام اللغة الكوردية في عام 1924، وبمرور الوقت فرضت قوانين صارمة في المناطق الكوردية، حارقة القرى، مشردة الكورد، ومصادرة ممتلكاتهم. (رغم أن المخابرات المركزية الأمريكية كانت دائماً على ثقة من أن بإمكان تركيا التصدي لأي تحدٍ يفرض من جانب الكورد، فقد أقر تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1971 بأن السياسات التركية وخاصة تلك التي تمنع استخدام اللغة الكوردية، كانت السبب الرئيسي في الاضطرابات الكوردية). كما أن إيران بشكل مشابه حظرت اللهجات الكوردية في ثلاثينيات القرن الماضي. في سوريا، لم تحظر الحكومة المركزية فقط تعليم وتعلم اللغة الكوردية، بل فرضت أيضاً قيوداً على ملكية الأراضي الكوردية. وبدءاً من الستينيات جردت دمشق عشرات الآلاف من الكورد السوريين من الجنسية ما جعلهم عديمي الجنسية. في جميع أنحاء الشرق الأوسط تم إهمال وتهميش المناطق الكوردية اقتصادياً.

نجح الكورد في مواجهة هذا الاضطهاد في الحفاظ على هويتهم وتعزيزها عبر أجيال. وكما قد لاحظ الباحث الكوردي حميد بوز أرسلان، فإن الكورد الذين عوملوا كأقلية من قبل حكومات إيران والعراق وسوريا وتركيا لا يعتبرون أنفسهم أقلية. إنهم أغلبية في وطنهم كوردستان والذي تم إلحاقه بدول أخرى فقط من خلال حدث من التاريخ الجيوسياسي، وأن نظام الدولة الحديثة في الشرق الأوسط هو- تاريخياً- العقبة الرئيسية أمام الطموحات القومية الكوردية. جادل تقرير استخباراتي استشرافي صادر عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في 1960 أن كورد إيران والعراق يمتلكون كل العناصر اللازمة للحكم الذاتي: القوة العسكرية والقيادة وإمكانية الدعم المادي من قوة خارجية مثل الاتحاد السوفييتي، ولاحظ التقرير أن “الاستقرار النسبي الوحيد للحكومات المركزية ” يعيق الانفصالية الكوردية النشطة.


خطوتان إلى الأمام، خطوة الى الوراء

المسار الوحيد الممكن للحكم الذاتي الكوردي (أو الاستقلال، في هذا الشأن) خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين مرَّ عبر فشل الدولة. وفي الواقع، هذا هو بالضبط ما حدث على مدى العقدين الماضيين، وإذا كان لدى الكورد اليوم بصيصُ أمل في العراق وسوريا، فإن ذلك يعود إلى انهيار السلطة في بغداد ودمشق. وبخاصة فإن تدابير الولايات المتحدة- دعمها للكورد في أعقاب حرب الخليج، وإطاحة صدام عام 2003 واحتلال العراق لاحقاً، وجهودها الأحدث في محاربة داعش في سوريا- قد خلقت الظروف لإحياء التطلعات السياسية الكوردية. واشنطن وعن غير قصد وخدمة لاحتياجاتها الاستراتيجية الخاصة كانت بمثابة المولدة/ القابلة للقومية الكوردية.

بدأ الانخراط الأمريكي العسكري والسياسي مع الكورد بشكل جاد مع حرب الخليج 1990-1991. بعد طرده من الكويت وجّه الجيش العراقي أسلحته باتجاه الكورد والشيعة الذين استجابوا لدعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى الانتفاض ضد بغداد.

مُواجهةً احتمالَ حدوث أزمة إنسانية، أعلنت الولايات المتحدة بدعم من فرنسا والمملكة المتحدة منطقة حظر جوي فوق المناطق الكوردية في شمال العراق. وقد تمكن الكورد العراقيون محميين بمنطقة حظر الطيران من تشكيل حكم ذاتي إقليمي، مؤسسين حكومة إقليم كوردستان في عام 1992. وأصبحت كوردستان العراق معقلاً للمشاعر المؤيدة لأمريكا في البلاد وخاصة بعد غزو الولايات المتحدة في عام 2003، مُروجين لمزيد من التعاون بين الولايات المتحدة والكورد. تحالفت القوات الكوردية مع القوات الأمريكية في الحرب الأولى ضد صدام، وفي السنوات التي أعقبت ذلك قدمت كوردستان العراق مرتكزاً للاستقرار، في حين انحدرت بقية البلاد إلى حرب أهلية.

قدم تأسيس حكومة إقليم كوردستان دفعة نفسية مهمة للكورد، ليس في العراق فحسب بل أيضاً في باقي أنحاء الشرق الأوسط. لقد برهن ذلك أن الكورد يمكن أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ويحصلوا على الاعتراف الدولي. كما بدأت في إعادة صوغ العلاقات الكوردية مع الدول الأخرى. رغم رفض تركيا تقليدياً للمطالب الكوردية في الحكم الذاتي، إلا أن الحكومة التركية في عهد أردوغان اختارت عدم مواجهة حكومة إقليم كوردستان، بل بناء روابط سياسية واقتصادية معها. كان الكورد العراقيون المفتقرين إلى سواحل بحاجة إلى قناة للدبلوماسية والتجارة- وخاصة الصادرات النفطية- وكانت أنقرة سعيدة بتأمينها لهم. في عام 2010، افتتحت تركيا قنصلية في أربيل، عاصمة إقليم كوردستان. ثم في عام 2012، وقعت حكومة إقليم كوردستان وتركيا اتفاقاً لبناء خط أنابيب نفط من كوردستان العراق إلى البحر المتوسط. وبحلول عام 2018، كان نحو 400 ألف برميل من نفط حكومة إقليم كوردستان يصل إلى ميناء جيهان التركي يومياً. لقد وفرت أنقرة اقتصادياً شريان حياة لحكومة إقليم كوردستان، مانحة إياها مجالاً للتنفس لترسيخ نفسها في العراق. استفاد أردوغان من ذلك لبعض الوقت على الصعيد الداخلي، حيث بدأ كورد تركيا المؤيدون لرئيس إقليم كوردستان مسعود البارزاني بالتصويت لصالح حزب أردوغان في الانتخابات التركية. واثقاً من حسن النوايا الكوردية، أطلق أردوغان في عام 2009 عملية سلام محلية مع حزب العمال الكوردستاني.

لكن كان هناك فعل أمريكي آخر غيّر بدون قصد وضع الكورد في الشرق الأوسط. في عام 2014 بدأت إدارة أوباما حملة قصف جوي للحيلولة دون سقوط كوباني، وهي بلدة كوردية سورية على الحدود التركية، في يد داعش. في ذلك الوقت، كان داعش قد اكتسح للتو شمال العراق وسوريا، مستولياً على مساحات واسعة من الأراضي بما في ذلك ثاني أكبر مدن العراق، الموصل. أثار قرار واشنطن بحماية كوباني اعتراضات مهتاجة من أردوغان، لأن الولايات المتحدة ستدعم بشكل مباشر وحدات حماية الشعب، التي كانت لديها علاقات وثيقة مع حزب العمال الكوردستاني في تركيا. لاقت الشراكة الأمريكية مع وحدات حماية الشعب نجاحاً في أرض المعركة، وأصبح انتصار الكورد النهائي في كوباني نقطة تحول في المعركة ضد داعش، لكن هذا النجاح في حد ذاته قد بدأ بدق أجراس الإنذار في أنقرة.

مثل تحالف الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب بالنسبة إلى أردوغان تغييراً في قواعد اللعب في المنطقة. ما كان يخشاه الرئيس التركي أكثر هو ظهور حكومة إقليم كوردستان ثانية وهذه المرة في سوريا. على أي حال، كانت حكومة إقليم كوردستان نفسها نتاج تدخل أمريكي أدى إلى حرب أهلية وانهيار السلطة المركزية في بغداد، بلغت ذروته في إنشاء نظام فيدرالي في العراق مع حكومة إقليم كوردستان كعنصر تأسيسي فيها. مع استنزاف سوريا في الحرب الأهلية، اعتقدت أنقرة أن واشنطن على وشك تكرار ما فعلته في العراق، أي تحويل سوريا إلى دولة فيدرالية، يحصل فيها الكورد على الحق في إدارة أنفسهم. لم يكن أردوغان يرغب في الموافقة على الترتيبات الفيدرالية في دولتين مجاورتين، أقلَّه فيدرالية كوردية سورية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحزب العمال الكوردستاني. في عام 2014 تخلى أردوغان عن مفاوضاته مع حزب العمال الكوردستاني، وبدأ سياسة صراع مع كل من كورد تركيا وكورد سوريا، وقد سعى في ذلك إلى نزع الشرعية عن النشاط السياسي الكوردي من خلال ربطه بحزب العمال الكوردستاني، وإلقاء القبض على أعداد كبيرة من النشطاء والسياسيين الكورد.

ولكن إذا عطلت الولايات المتحدة بشكل غير متعمد العلاقات التركية-الكوردية، فإن السياسة الأمريكية في العراق وسوريا- إذا أخذت ككل- أكسبت الكورد درجة غير متوقعة من الشرعية الدولية. وقد وسعت فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية اعترافها الدبلوماسي بحكومة إقليم كوردستان، فضلاً عن تزويدها بالدعم الاقتصادي وغيره من أشكال الدعم. وتمكن الكورد السوريون، الذين تجاهلهم المجتمع الدولي من قبل، من رفع مكانتهم العالمية بفضل دورهم في القتال ضد داعش. هذا الاعتراف لم يأت فقط من القوى الغربية، ففي مسودة اقتراح من أجل دستور سوري جديد طرحت في عام 2017 خلال عملية السلام في آستانا، اقترحت روسيا تنازلين هامين من أجل الكورد: إسقاط كلمة “عربي” من اسم الجمهورية العربية السورية وإنشاء منطقة “مستقلة ثقافياً” في شمال شرق البلاد، حيث سيتم تعليم الأطفال بكلتا اللغتين العربية والكوردية. هذه التنازلات رُفضتْ من قبل دمشق، ولا توجد هناك ضمانة بأن يتم منحها للكورد. لكن إدراجهم في المقترح الروسي أظهر أنه وعلى الرغم من وضع الكورد السوريين غير المستقر، فإن القوى الخارجية بدأت تعترف بهم كقوة مستقلة ينبغي أخذها في الحسبان.

الانبعاث الكوردي

لجأ الكورد إلى التحشيد خلال القرن العشرين من أجل نيل الاستقلال الثقافي وبعض درجات الحكم الذاتي من الحكومات المركزية. منذ حوالي 100 عام شكل التمرد والمقاومة خلفية الحياة الكوردية العادية. والآن يتغير هذا الوضع، حيث اكتسب الكورد خبرة في الحكم- ليس فقط في حكومة إقليم كوردستان، ولكن أيضاً في العديد من البلديات في سوريا وتركيا- وهذا أدى بدوره إلى أن تبدأ الهوية الكوردية بالتكتل عبر الحدود الوطنية.

إلى الآن، كانت تجربة الكورد في السلطة محفوفة بالمشاكل. على سبيل المثال، فإن حكومة إقليم كوردستان هي في طريقها إلى أن تصبح دولة نفطية معتمدة على مبيعات النفط، ومحاصرة بالفساد والمحسوبية والقوة الهائلة لعائلتيها السياسيتين الرئيسيتين، وهما البارزاني والطالباني. أما حزب الاتحاد الديمقراطي وهو الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب، فلقد نجح في تقديم الخدمات بكفاءة في المناطق السورية التي يسيطر عليها، لكنه أنشأ أيضاً دولة أمر واقع يحكمها حزب واحد. وفي تركيا، ورغم فوز ممثلي حزب الشعوب الديمقراطية اليساري الذي يهيمن عليه الكورد بـ 102 بلدية في انتخابات مارس 2014، فقد قام أردوغان بعد ذلك بإقالة 94 رئيس بلدية منهم، وقد تعهد أردوغان بالتصرف بصورة مماثلة بعد الجولة القادمة من الانتخابات البلدية في مارس، وقد يحفز نجاح حزب الشعوب الديمقراطية مستقبلاً أردوغان على حظر الحزب بقرار من المحكمة الدستورية، الأمر الذي فعله جنرالات تركيا مع أسلاف حزب الشعوب الديمقراطية.

ولكن حتى لو لم يكن الحكم الذاتي الكوردي قد حقق نجاحاً خالصاً، فقد كان ذلك بمثابة نعمة للثقافة واللغة الكوردية في جميع أرجاء المنطقة. هذا صحيح بخاصة في كوردستان العراق التي تتباهى بمؤسساتها الخاصة باللغة الكوردية، بما في ذلك المدارس والمؤسسات الإعلامية. رغم التحديات مثل وجود لهجتين كورديتين مختلفتين والتي تطابق تقريباً الانقسامات السياسية لحكومة إقليم كوردستان، فإن اللهجة الكورمانجية التي يتم التحدث بها في المناطق التي يهيمن عليها الحزب الديمقراطي الكوردستاني، واللهجة السورانية التي يتم التحدث بها في المناطق التي يديرها الاتحاد الوطني الكوردستاني أنشأت بيئة ثقافية كوردية غنية في الأراضي التي تسيطر عليها حكومة الإقليم. هناك الآن مئات القنوات التلفزيونية الكوردية ومواقع الإنترنت ووكالات الأنباء وغيرها من النتاجات الثقافية مثل الروايات والأفلام. وفي سوريا، التي منعت فيها دمشق على مدى عقود حتى التعليم الخاص باللغة الكوردية، قام حزب الاتحاد الديمقراطي رسمياً بإدخال تعليم اللغة الكوردية إلى المناطق الخاضعة لسيطرته. بعد ما يقرب من قرن من محاولات منع نشر اللغة والثقافة الكوردية، خسرت الحكومات المركزية في المنطقة الآن بشكل حاسم تلك المعركة.

بدورها أدت نهضة اللغة الكوردية في العراق إلى تجديد الوعي الذاتي الكوردي في وسائل التواصل الاجتماعية عبر الوطنية وفي مجتمعات الشتات. إن المهجر الكوردي قوي بشكل خاص في أوروبا التي هاجر إليها أكثر من مليون كوردي على مدى العقود الستة الماضية. في البداية كعاملين مقيمين ثم كلاجئين هاربين من الاضطهاد. متمتعين بحرية التنظيم والتعاون مع مجموعات المجتمع المدني الأخرى، رفع كورد أوروبا الوعي العام بالقضايا الكوردية، وضغطوا على الحكومات الوطنية في ألمانيا وفرنسا وهولندا- وكذلك على الاتحاد الأوروبي ككل- من أجل تغيير سياساتهم تجاه إيران والعراق وسوريا وتركيا. تم دعمهم في هذا من خلال ظهور وسائل الإعلام الاجتماعية باللغة الكوردية.

امتد ازدهار اللغة الكوردية إلى إيران وتركيا، حيث يتمتع الكورد بقوة أقل نسبياً. خلال انفتاح أردوغان القصير على الكورد بين عامي 2009 و2014 كان هناك انتشار لمعاهد اللغة الكوردية والمنشورات الكوردية والمدارس الخاصة الكوردية. النشوة المنبثقة عن ذلك لم تدم طويلاً، إذ بحلول نهاية عام 2017 تم القضاء على كل هذه الأمور تقريباً من قبل أنقرة، والتي ذهبت إلى الحد من جميع المظاهر الكوردية، من إشارات المرور إلى لوحات المدارس ولوحات المباني البلدية المكتوبة بالكوردية. لكن لم يتم افتقاد كل شيء. إذ لا تزال بعض الجامعات التركية تسمح للطلاب بدراسة اللغة الكوردية، وقد أنشأت الدولة التركية قناة تلفزيونية مخصصة للبث الرسمي باللغة الكوردية. وفي الوقت نفسه، سمحت الحكومة في إيران منذ عام 2015 بصفوف اختيارية لدراسة اللغة الكوردية في المدارس الثانوية والجامعية في المناطق ذات الأغلبية الكوردية في البلاد.


بناءُ أمة

المرونة المتزايدة للحدود المادية بين الكورد، وإنشاء حكومات يديرها الكورد مثل حكومة إقليم كوردستان، وظهور مجتمعات قوية في الشتات (خاصة في أوروبا)، وبروز وسائل الإعلام الاجتماعي والنتاجات الثقافية باللغة الكوردية اجتمعت كلها لتقوية الهوية القومية الكوردية. اليوم، ينخرط الكورد من إيران والعراق وسوريا وتركيا وبلدان والشتات في نقاش مشترك. إنهم لا يتحدثون في تناغم، لكن أيام العنف السياسي فيما بين الكورد والتي نشبت في العراق خلال التسعينيات قد ولت إلى حد كبير، لأن الشعب الكوردي لن يتسامح معها. لقد اكتسب الكورد كل خصائص الأمة باستثناء حق السيادة.

إن استعادة الوحدة قد انعكس في ظهور وحدات عسكرية قومية كوردية. قاتل كورد تركيا مع وحدات حماية الشعب في سوريا، تماماً كما تم دمج كورد سوريا وتركيا في القوات المسلحة لحكومة إقليم كوردستان. تطوع كورد الشتات أيضاً للقتال وخاصة مع وحدات حماية الشعب. يقود حزب العمال الكوردستاني قوات مسلحة في العراق وتركيا وسوريا، وفي عام 2004 أنشأ جناحاً تابعاً له في إيران. تسارع تآكل الحدود البينية الكوردية بشكل متعاظم مع تقدم داعش عبر العراق وسوريا في صيف عام 2014، الأمر الذي عرض الكورد في كلا البلدين للخطر وعزز التضامن بينهم. وضع الكورد في مواجهة خطر وجودي حقيقي سياساتهم المنقسمة جانباً وظهروا ككتلة واحدة. وكلما قاموا بذلك، سوف يبدأون في إعادة تشكيل سياسات الشرق الأوسط.

إن هشاشة الحكومتين المركزيتين في كل من العراق وسوريا يتيح للكورد فرصة للحكم الذاتي، الأمر الذي لا يزال غير وارد في كل من إيران وتركيا. هذه العملية أبعد بكثير في العراق حيث يحمي الدستور الحكم الذاتي لإقليم كوردستان، ولكن لا تزال حكومة إقليم كوردستان ضعيفة كما أظهر رد فعل بغداد على استفتاء عام 2017 الكارثي على الاستقلال. في سوريا، قد تتاح للكورد فرصة للتوصل إلى اتفاق مع نظام الأسد يمنحهم درجة من الحكم الذاتي المناطقي. هكذا نتيجة أبعدُ من ان تكون مضمونة، إذ قد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من البلاد إلى ترك الكورد السوريين تحت رحمة دمشق وأنقرة. مع ذلك، فإن أي حملة سورية أو تركية للقضاء على وحدات حماية الشعب مهما كانت دموية، سوف تولد ردة فعل عنيفة بين الكورد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فما من شيء يبني وعياً قومياً إلا حدث مماثل لتغلب داوود على جالوت.

في تركيا، حقق الكورد قدراً كبيراً من التقدم خلال العقد الماضي بالرغم من التدهور الأخير في علاقاتهم مع الحكومة المركزية. لم تمنع جهود أردوغان لتخريب الفرص الانتخابية لحزب الشعوب الديمقراطية- حبس المرشحين وفرض تعتيم إعلامي ومضايقة الناخبين الكورد- الحزب من دخول البرلمان التركي في ثلاث انتخابات متتالية (كثير من سياسيي حزب الشعوب الديمقراطية، بمن فيهم زعيم الحزب صلاح الدين دميرتاش يقبعون الآن في السجن). لقد حوّل الدستور التركي الجديد الذي تم إقراره في استفتاء أبريل 2017 تركيا إلى نظام رئاسي محيداً برلمانها، وبالتالي فإن تأثير حزب الشعوب الديمقراطية رغم عدد نوابه الكبير قد حُدد بشكل كبير.

إلا أن حقيقة حصول الحزب على المركز الثالث في انتخابات يونيو 2018 خلف الحزب الحاكم وحزب المعارضة الرئيسي فقط هي إشارة إلى أن القضية الكوردية قد تم ترسيخها في السياسة التركية. نجاح حزب الشعوب الديمقراطية سوف يشجع على تعبئة المجتمع المدني الكوردي، ويؤدي في نهاية المطاف إلى تطوير العلاقات الكوردية مع الآخرين في المعارضة التركية. وقد يساعد انتشار المنظمات الكوردية في أوروبا على تحريك المواقف الأوروبية من تركيا في اتجاه أكثر تأييداً للكورد. كما أن كورد تركيا في وضع أفضل لتولي دور قيادي بين الكورد في جميع أنحاء المنطقة رغم انقسامهم بين الجناح العسكري (حزب العمال الكوردستاني) والجناح السياسي (حزب الشعوب الديمقراطية)، ذلك لأنهم على عكس المجتمعات الكوردية الأخرى جزء من بلد ترسخ في المؤسسات الغربية. حتى إذا تباعدت ممارسات تركيا عن المعايير الغربية، فقد استفاد كورد تركيا من التعرض للقيم والمبادئ المقترنة بالغرب.

حالة كورد إيران هي الأكثر إبهاماً، نظراً لعلاقات طهران المتوترة مع العالم الخارجي والطبيعة السرية للنظام نفسه. لكن الأحداث في أجزاء كوردستان الأخرى تؤثر على التطورات في المناطق الكوردية في إيران. لقد اتبعت إيران دائماً سياسة متعددة الأوجه تجاه الكورد. فعلى الصعيد المحلي قمعتهم، بما فيه من خلال الاستخدام المفرط لعقوبة الإعدام ضد النشطاء، وفي الوقت نفسه أقامت علاقات مع حكومة إقليم كوردستان في جهد ناجح لمراقبة المجموعات الكوردية الإيرانية الموجودة في كوردستان العراق. وبينما تجد إيران نفسها منتشرة في المنطقة، وقادتها قلقون بشأن استقرار النظام والاقتصاد المتدهور للبلاد، من الممكن أن ترى الحكومة المركزية الكورد يوماً كتهديد أكبر. لدى كورد إيران خبرة قليلة في الحكم الذاتي، حيث عاشوا لعقود من الزمن تحت سلطة حكومة تتدخل في جميع جوانب الحياة اليومية، لكن إيران، مثل سوريا، دولة هشة. التغيير سيبدأ في المركز. إذ كلما نمت الهوية القومية الكوردية والثقة الكوردية بالنفس، كلما زاد احتمال استعداد الكورد لعدم الاستقرار في طهران.

ختاماً، تظل الولايات المتحدة الفاعل الأكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بتقرير مستقبل الكورد ولا سيما في العراق وسوريا. ربما ينهي ترامب شراكة الولايات المتحدة مع وحدات حماية الشعب، بيد أن الكورد السوريين قد استفادوا من هذه العلاقة، حيث أن القوى الخارجية كانت تعتبرهم في السابق أقل الكورد أهمية في المنطقة. أما الآن فهم على الخارطة: بعد ساعات من إعلان ترامب انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، ادعى ناطق باسم الخارجية الفرنسية أن فرنسا “ستضمن أمن” الكورد السوريين. مع ذلك، فإن خطوة واشنطن سوف تجبر الكورد السوريين على التفاوض مع دمشق في وقت أبكر مما كانوا قد خططوا له ومن موقف ضعف نسبي. الانسحاب الأمريكي الكامل قد يؤدي من ناحية أخرى إلى تدافع مزعزع للاستقرار بين القوى الإقليمية في سوريا مع نتائج كارثية على الكورد.

قلقين من هذه الانعكاسات، حذر المسؤولون الأمريكيون بمن فيهم وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون تركيا من التدخل ضد الكورد في شمال سوريا. متعثرة بالمعضلة الكوردية المستمرة في الشرق الأوسط، تجد الولايات المتحدة صعوبة في انتشال نفسها منها. سوف يتعين على واشنطن استخدام جميع قدراتها الإقناعية لضمان عدم تعرض الكورد للسحق من قبل أنقرة ودمشق والقوى الإقليمية الأخرى، وهذا بدوره سوف يتطلب درجة من الاهتمام واتساق السياسات الذي لم يكن واضحاً من قبل في إدارة ترامب. ولكن على الولايات المتحدة، وإلى المدى الذي تقدّر فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات، دعمَ الكورد في جميع أنحاء الشرق الأوسط ضمن نظام الدولة القومية الحالي، وحتى إذا كان ترامب غير راغب في إنفاق الكثير من رأس المال السياسي لدعم الكورد، فإن هناك مراكز أخرى للقوة والنفوذ في الولايات المتحدة مثل وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني يمكنها القيام بذلك.

أياً يكن ما سيحدث في المستقبل القريب، لن يكون هناك عودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل بضعة عقود، وقبل أن تضع تدخلات الولايات المتحدة في المنطقة الكورد على مسار جديد تماماً. رغم النكسات المتكررة والقمع المستمر، وعلى مدار أكثر من قرن دون وطن، برز الكورد أخيراً كشعب موحد. قد تكون الدولة الكوردية هدفاً بعيد المنال، لكن إذا ظهرت دولة واحدة، فسوف تكون هناك أمة لجعلها عامرة.

 

* هنري جيه. باركي: أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي الأمريكية في ولاية بنسلفانيا، وأحد الباحثين في دراسات الشرق الأوسط في المنظمة الأمريكية: مجلس العلاقات الخارجية.

** نشرت هذه المقالة في عدد مارس/ أبريل 2019 من مجلة فورين أفيرز الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية:

 

 

 

 

شارك هذا المقال: