النقد والنقد الذاتي! .. “الوثبة الكبرى إلى الأمام” نموذجاً

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

ثمة سلوك طبيعي (لكنه يبدو غير طبيعي)  لكونه غير مطبّق إلا في دولة المؤسسات التي تحترم شعبها وينُظر فيها إلى المنصب على أنه تكليف وليس امتياز، إنها المسؤولية الأخلاقية التي تحتم على المسؤول، مهما علا شأنه، تحمّل نتائج أي تصرف خاطئ أو تقصير أو إهمال تسبب به أحد أفراد طاقم عمله في الإخلال بسلامة المجتمع وأمنه، حتى وإن لم يكن  هذا الخطأ ناتجاً عن تطبيق لقرار أو تنفيذاً  لأمر صدر عن المسؤول!  

تكرر هذا في الكثير من دول الغرب، لعل ما قام به وزير العدل البلجيكي قبل بضعة أشهر هو أحدث تجسيد لهذه الحالة، حيث أعلن استقالته بعد الهجوم الارهابي الذي وقع في العاصمة بروكسل في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والذي أودى بحياة مواطنين سويديَّين.

فعلى الرغم من أن الجريمة  وقعت نتيجة إهمال غير متعمّد من قبل القاضي المسؤول عن ملف الجاني؛ حيث كان من المفترض ان يتم  ترحيله إلى تونس ( كونه يحمل الجنسية التونسية ومطلوب للقضاء بعدة جرائم ارتكبها في تونس)  قبل عام من تاريخ وقوع الهجوم، لكن مع ذلك أعلن الوزير تحمله المسؤولية الأخلاقية قائلاً: “لقد تبيّن من تقرير النيابة العامة الأخير بأن القاضي المسؤول لم يتابع طلب الترحيل؛ إنه خطأ فردي جسيم لكنه غير مقبول وكانت له تداعيات وخيمة؛ أنا لا أبحث عن أية أعذار، وأعتقد أن من واجبي أن أستقيل.. “

أما في دولة الزعامات التي تعامل شعوبها كفئران تجارب فأن مسؤوليها أو على الأصح من ينصّبون أنفسهم أوصياء على شعوبهم، بارعون في ابتداع الشعارات واستخدامها في تبرير فشل أي تجربة أو في الالتفاف على النتائج الكارثية لتطبيق  نظرياتهم.

يُعتبر شعار “النقد والنقد الذاتي” من أخطر الشعارات وأكثرها غموضاً وبعداً عن الإنسانية على عكس ما يوحي به التعبير، فللوهلة الأولى يبدو هذا المبدأ موازياً أو مساوياً  لمصطلح المسؤولية الأخلاقية، لكنه عملياً مناقض له.

لعل تجربة أو بالأحرى كارثة ” الوثبة الكبرى إلى الأمام” هو أفضل مثال لمعرفة ماهية هذا الشعار الذي شكّل أساس جلسات مراجعة تلك المأساة التي تُعتبر واحدة من أسوأ الكوارث البشرية غير الطبيعية!

لا تختلف “الوثبة” عن باقي الكوارث إلا في الزمان والمكان وعدد الضحايا، فالمتسبب فيها جميعاً هو ذات العقلية: تطبيق أو بالأحرى تجريب الطليعة الثورية للحزب العقائدي الذي وصل إلى السلطة، نظرياتها وأفكارها على المجتمع بشكل ارتجالي غير مدروس معتمدة على فكرة “حرق المراحل” متجاهلة في ذلك الواقع أو جاهلة به !

باختصار وقعت الكارثة عندما باشر الحزب الحاكم  في الصين بقيادة ماو تسي تونغ في عام 1958  بتطبيق تجربة “الوثبة الكبرى إلى الامام ” على الشعب الصيني، بهدف نقله من مجتمع زراعي إلى صناعي متقدم تحت شعار ” ثلاثة سنوات من العمل الشاق، عشرة ألاف سنة من السعادة”! فكانت النتيجة بعد ثلاث سنوات انهيار اقتصادي هائل ومجاعة إنسانية أودت بحياة حوالي  30 مليون إنسان!

بعد هذا الفشل الذريع والباهض الثمن، عُقدت عدة مؤتمرات حزبية أخرها وأشهرها ” مؤتمر السبعة ألاف قيادي” في عام 1962 تحت شعار “النقد والنقد الذاتي ” الفارغ من أي محتوى إنساني والمتخم بالعقيدة الحزبية، حيث لم يشهد المؤتمر أي محاسبات أو استقالات  بل كعادة كل الدول الشمولية (دولة الحزب الواحد) تحميل القوى الرجعية المسؤولية الكاملة عن نتائج فشل التجربة!

بالطبع ليست “الوثبة الكبرى” هي الوحيدة التي تم فيها استخدام مبدأ النقد والنقد الذاتي بهذا الشكل فقد استُخدمت ولا تزال تُستخدم من قبل الحزب الحاكم في جميع الدول الشمولية، فهو بالنسبة لهذا الحزب مفهوم عقائدي داخلي  لا صلة له بالبعد الإنساني لهذا المبدأ!

لكن إذا كان تطبيق هذا الشعار يخلو من أي محاسبات عملية، ما الحاجة من وراء التشديد على اشهاره في كل المؤتمرات التي  تخصص لتناول “أخطاء” تجربة أو خطة معينة؟

بحسب المؤرخ البريطاني دافيد بريستلاند تعود نشأة مفهوم “النقد والنقد الذاتي” المقحم سياسياً إلى مرحلة التصفيات التي جرت في الأوساط  الاكاديمية 1921-1924 داخل الاتحاد السوفيتي، والذي تطور في النهاية إلى ممارسة حملات “النقد والنقد الذاتي” التي يتم فيها استجواب المثقفين المشتبه في ميولهم المضادة للثورة وذلك كجزء من تطبيق منهج “البروليتاريا”.

أما أكثر المتمسكين والمنشغلين بهذا المفهوم  فهو الزعيم الصيني  ماو تسي تونغ، الذي خصص فصلًا كاملاً من الكتاب الأحمر الصغير لهذه المسألة.  وبناءً على ذلك، أُجبر العديد من أعضاء الحزب، الذين كانوا قد فقدوا حظوتهم لدى النخبة المتنفذة ، إلى الخضوع لجلسات النقد الذاتي، وإصدار بيانات مكتوبة أو شفهية توضح بالتفصيل أخطاءهم الأيديولوجية وتؤكد إيمانهم المتجدد بخط الحزب.

من هنا يتضح بأن القصد من وراء الإصرار على التمسك بهذا المبدأ في كل مؤتمر للحزب الحاكم هو إجبار عضو الحزب على انتقاد ذاته ليس لمسؤوليته عن أضرار إنسانية أو اقتصادية بحق المجتمع،  بل لخروجه عن الخط العقائدي للحزب أولاً، وإعلانه التوبة وتجديد الولاء للقيادة ثانياً. وهو ما يضع هذا الشعار على النقيض من مبدأ المسؤولية الاخلاقية القائم على أساس الضرر الذي لحق بأمن المجتمع وسلامته!

شارك هذا المقال: