فلنتواضع في الحُكم قليلا

شارك هذا المقال:

‏”لا أدري نصف العلم”

ماجد ع  محمد

لا شك في أن المشهد الذي قد يُشغل بقوةٍ ملحوظة آليات الانتباه، وربما يدفع بالمعاين نحو النفورِ المباشر عندما يُلاحظ في اللوحة التي أمامه في صالة المُتعِ الوقتية ذلك التباين الواضح بين بائعة الهوى وهندامها، فالإجفال على كل حال ليس مرتبطاً بشكل المرأة وطبيعة عملها، ولا هو في وجود ذلك الاِختلاف بين ملامح وجهها وتضاريسها، إنما شيئان سيجلبان الانتباه أو النفور على الفور عند المشاهدة أو الإصغاء؛ أولهما أن تكون كلمة الشرف مطرَّظة أو مطبوعة على تنورة تلك المرأة أو على ظهر قميصها، والثاني هو أن تجيب تلك الأنثى عند السؤال عن اسمها بأن اسمها شريفة، فللوهلة الأولى قد يتوقع البعض بأن سبب الإجفال عائد للحكم والموقف المسبق ممن يعمل في ذلك المجال المتعي، إنما السبب الأساسي هو في وجود هذا التعارض الفاقع الذي لا يقبله بسهولة  النسق الثقافي السائد، لأن نغمة اسمها أو كتابة تلك الكلمة على تنورتها أشبه بوضع شيءٍ نفيسٍ في مخيال الناظر ولهُ قيمة مادية ومعنوية  في مكان غير مناسب .

ومناسبة هذه التوطئة هو التضاد الظاهر بين الأقوال والأفعال لدى بعض المحيطين بنا مِمَن لهم علاقة بالشأن الثقافي حيال أمورٍ بسيطة جداً ولا تستدعي كل هذا التخالُّف بين ما يُصرِّحون بهِ عفوَ الخاطر في الخلوات وما يتبجحون بهِ في المحافل العامة، إذ أنك قد تلاحظ كامل العجرفة في طريقة تعاطي بعضهم مع حدثٍ أو موضوعٍ ما، وتلمس تلك اللغة المشمئزة في ردود أفعالهم حيال قضية أو مشكلة أو موقف، بينما في الحالة العادية تراهم هم أنفسهم وبدون أي استحياء يقولون بأنهم أشخاص متواضعين، وفريق آخر تكون أغلب أحكامِهم وآرائهم مطعَّمة بالكثير من الاستكبار والتباهي وتصغير شأن الغير، ومع ذلك تراهم بدون أي احساسٍ بالخجل من فرط تناقضهم وهم يقولون إبان التعرُّف إلى الآخرين إنهم متواضعين جداً، مع أن التواضع حيال الحالات المذكورة مثلها مثل كلمة الشرف المطبوعة على فستان بائعة الهوى.

وعلماً أن التواضع ليس يافطة نرفعها، ولا جُمل نحفظها عن ظهر قلب ومن ثم نرميها في الميدان كالنردات المتراقصة على طاولات المقاهي، إنما هو ما ينبغي أن يظهر في سلوكنا وتعاملنا مع الغير، وأن يطفو إلى السطحِ من خلال أحكامنا وآرائنا المتعلقة بالأشياء أو الأشخاص، وكم سنكون أبلغ في التعبيرِ عندما نتحلى بشيء من التأني ولا نسارع إلى إصدار الأحكام بدون أيَّة أدلة، ونقول بجرأة عن مسألةٍ نجهلها إننا لا نعرف عنها أيَّ شيء، أو لسنا ملمين بها، وذلك بدلاً من سرد المسوغات التي لا تمت للعلم والمنطق بصلة، ومِن ثَمَّ إيراد الأمثلة والحجج السخيفة من باب الانتصار لتصوراتنا فقط، وبأن نمتلك بعضاً من جرأة الإمام الشعبي الذي سُئل يوماً عن مسألة: فقال: “لا أدري” ‏فقيل له: ألا تستحي من قولك لا أدري  وأنت فقيه أهل العراق ؟! ‏فقال رحمه الله : “لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ}”.

وبخلاف الشعبي وفلسفته، فبعضنا فوق جهله التام بالمسائل المطروحة عليه لا يتورع عن إصدار الفتاوى أو إطلاق الأحكام، وعلى سبيل الذكر أنني في منتصف الشهر الثالث من عام (2023) اقتنيت كتابين من المكتبات العربية في مدينة اسطنبول التركية بسعر ٤٠٠ ليرة تركية، وبعدها بأسبوعٍ واحدٍ فقط أخبرني الصديق (ح ـ ج) بأن ثمة كاتب كردي في ديار بكر يُقدم عرضاً مغرياً لكتبه، حيث أنه يبيع ٢٧ كتاباً بـ: ٢٠٠ ليرة تركية ومع تكاليف الشحن يصبح السعر ٢٥٠ ليرة تركية فقط، تصوروا الفرق ٢٧ كتاباً بـ: ٢٥٠ ليرة، بينما كتابين باللغة العربية بـ: ٤٠٠ ليرة، فتحمست حينها وطلبت من الصديق (ح) أن يطلب مجموعة الكتب، وبعد أن وصلت المجموعة بالشحن وتصفحتُ محتوياتها رأيتُ بأن الأمر يستحق الترويج بين الأصدقاء والمعارف، فرحتُ حينها أتواصل مع معارفي وأصدقائي ممن لهم علاقة بالكتاب عبر التلفون لأحثهم على اغتنام الفرصة واقتناء المجموعة، ولكني انصدمت بأجوبة وردود أفعال بعضهم الدالة على التعالم الفارغ.

حيث قال أحدهم بأن كتابات كرد تركيا مليئة بالأخطاء القواعدية! وآخر قال وهل كرد تركيا يجيدون الكتابة بالكردية؟! وآخر قال بمنطق العارف كل شيء مَن هو هذا الكاتب فلو كان مشهوراً لسمعنا به – على أساس الأخ يُفكر نفسه قرين الكاتب حاجي خليفة[1] صاحب ببلوغرافيا الكتب – وآخر قال لو كانت الكتب جديرة بالاقتناء ولا تعاني من مشاكل فنية أو قيمية لما عرض المؤلف كتبه بهذا الرخص!!

وكنتُ أتمنى أن أسمع من أحدهم وهو يلمِّح إلى أنه يعاني ضيقاً مالياً أي أنه مفلس، أو أنه لا يمتلك الوقت للقراءة، أو أنه غير مهتم أصلاً بهكذا نوعية من الكتب، أو أنه ضعيف في القراءة بالكردية، أو أنه يُعاني من مشاكل بصرية، أو أن مكانه ضيّق ولا متسع لديه لحشر الكتب فيه، إلاَّ أن الأجوبة كلها كانت بخلاف ما تمنيتُ أن أسمع، وبقدر ما أزعجتني تلك الأجوبة فإنها بنفس الوقت دفعتني للتساؤل التالي: يا ترى مِن أي قاعدة علمية أو معرفية انطلق هؤلاء الأشخاص ليُصدروا أحكامهم بسرعة عربةٍ من طرازٍ حديث على الأوتوستراد الدولي، ويدلوا بآرائهم فيما لا عِلمَ لهم به وهم بكامل وضعية الاستعلاء؟ هذا من دون أن يرف لأحدهم جفن بكونه مزَّق ستر التواضع بكل برودة بناءً على ثقةٍ فارغة لا مسوّغ أو أساس علمي لها، باعتبار أنه بناءً على الإحصاء ولغة الأرقام فإن كرد سوريا لم يصدروا إلاّ بضعة عناوين باللغة الكردية في العام ذاته، بينما وفق موقع ديار نامة “diyarname” طبع 349 عنوان جديد باللغة الكردية بتركيا في عام 2023، هذا عدا عن إعادة طبع مجموعة أخرى من الكتب النافدة.

كما دفعني الأمر ذلك اليوم إلى تذكُّر ومراجعة أسماء الكتَّاب والمؤلفين والمواد الكتابية في مجال الثقافة واللغة الكردية، فتذكرتُ على الفور بأن واجِد الأبجدية الكردية الأمير جلادت بدرخان وشقيقه كاميران بدرخان من كرد تركيا، وعثمان صبري الشاعر وكأحد واضعي قواعد اللغة الكردية مثل أقرانه المذكورين كذلك الأمر من تركيا، وقدري جان من تركيا، وجكرخوين من تركيا، وملا أحمد بالو من تركيا، ورشيد كرد صاحب كتاب قواعد اللغة الكردية اللهجة الكرمانجية المنشور في 1956 هو أيضاً من كرد تركيا، والشاعرة ديا جوان من تركيا، ومن القدماء ملا جزيري وفقي تيران وأمير الشعراء الكرد أحمد خاني من تركيا، وكاتب أوَّل رواية كردية عرب شمو من تركيا والقائمة طويلة جداً.

وحقيقةً لا أعرف ما الذي أضفناه للمكتبة الكردية نحن كرد سورية حتى يكون لدينا كل هذا العُجب والغرور والثقة الزائفة التي تجعلنا نعتبر أنفسنا متقدمين على كرد تركيا، بينما ما تم إنتاجه باللغة الكردية من قِبل الكرد السوريين يكاد لا يُذكر أمام ما تم ويتم إنتاجه باللغة الكردية في تركيا من قِبل كتابها، وبتصوري أن هذا العُجب لو لم يكن حالة عامة وليست محصورة ببضعة أشخاص لمّا جاءت ثلة من القراء ومن دون أيِّ اتفاقٍ بينها وحكمت على مؤلّفات كاتبٍ ما بأنها عديمة النفع وهم لم يسمعوا أصلاً بالمؤلف من قبل ولا قرؤوا أيَّ شيء من مؤلفاته، علماً  أن الكاتب لديه ما بين الإعداد والجمع والتأليف ١٣٠ كتاباً باللغة الكردية عدا عن الكتابات التركية، ويأتي شخص لم يقرأ طوال حياته عشر مقالات باللغة الكردية، ولا في مسيرته الوجودية كلها ألَّف كتيباً واحداً ومع ذلك يتعامل بكامل الفوقية ويسمح لنفسه بكل صفاقة بأن يعطي رأيهُ بكاتبٍ لم يقرأ حرفاً له!!

في الأخير، يبقى الأسوأ من كل الأجوبة المستهجنة التي ذكرناها في الأعلى هو أن كل مَن اتصلتُ بهم لم يمهلوا أنفسهم قبيل المضي في طريق القطعيات، ولا منحوا ذواتهم التفكير بعض الوقت، إنما وعلى الفور قيّموا وحكموا على شخصٍ لم يسمعوا به، ولا يعرفون عن منتجاته شيء، ولا علم لهم بالمجال الذي ألَّف فيه!! هذا مع أنهم في الحالة العادية يعتبرون أنفسهم عادلين وفوقها من الناس المتواضعين! لعلهم فعلاً في موضوع القدرة على تقييم وتقدير الأشياء وتمييز الجيد من الرديء ومعرفة كُنه الأشخاص والمنتجات أصحابُ بصيرةٍ جدُ متواضعة.

ؤ


[1]كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة

شارك هذا المقال: