خالد حسين
I
باندفاعٍ من سلطةِ عقل مغلقٍ، إرادةِ عقلٍ أعمى، جوهرانيٍّ، ملتفٍ على ذاته حيث لا مكان للآخر في مَنْطقِهِ، تحرّكه شهوةُ اليقين النهائي والشرِّ في سعي محموم لإلغاء الآخر ــ المختلف، بل حتّى تدميره([1])، لا ينفكُّ “الفكر التكفيرُي” في خطاباته يرتكب دسائس الإقصاء وجرائره معضوداً بشبكةٍ مخفيةٍ من كائناتٍ شَبحية هنا وهناك. وكما يتبدّى من ممارساته الخطابية في المشهد الكردي(سوريا)، فإنّه اتخذ من الشّاعر الكردي جكرخوبن بشعره ودوره التنويري هدفاً استراتيجياً للهجوم وذلك لـ”جسِّ نبضِ” الرأي العام الكردي حول الفكر التنويري/العلماني والعمل على العبث بالبساطة الدينية ــ التي تَسِمُ التأويل الكردي للإسلام بصورته العامة، وما يترتّبُ على ذلك من جمالياتٍ تميّزُ النسيجَ الاجتماعيَّ الكردي بمختلف انتماءاته الدينية والمذهبية عن غيره ــ هكذا وعن طريق عتمة أطاريحه التي تستمدُّ من اليقين الديني مرجعاً فهو يجترىء ليحكم على البشر والقضايا الثقافية في القرن الحادي والعشرين، زمن الديمقراطيات حيث انبثاق الفكر المختلف والمتعدّد، بمقياس ثنائي لا غير: (الإيمان أو الإلحاد) وهو مقياس الإسلامـ[ـو]ية الأثير.
II
وعلى أيّ حال؛ وعقب خطابٍ متصدّع لا يصمد أمام القراءة السياسية ببعدها النقدي بعنوان (الشّاعر الكوردي جكرخوين: في ميزان العقل والمنطق والأخلاق) يشرع صاحب هذا الفكر التكفيري بمحاولةٍ يائسةٍ وفاشلةٍ أُخرى في مقالة أُخرى بعنوان (جولة فكرية: في رحاب العقل)([2]) لإلحاق الإساءة بالشَّاعر الكبير وإثبات “كفره أو إلحاده” عن سابقٍ قصدٍ وترصُّدٍ باختبار شذراتٍ شعريةٍ للشّاعر بمنظورٍ متهافتٍ وسطحي لا يليق بالكلمة الشِّعرية، التي تملك في العادة خصوصيةً في سياسات الاستعمال وتمتاز بتعدّد الدلالات (المعاني) المنبثق عنها في سياقي القصيدة والتاريخ، فطبيعة الكلمة الشّعرية تقودها إلى اللاحسم في المعنى، أو العبث بالمعنى؛ وهذا ما يجعلُ من الاستحالة بمكان التكهّن بالمعنى الحقيقي للعلامة الشعرية في أسيقتها النَّصية، فالبنى الصّوتية والنحوية والإيقاعية والمجازية والسياق العام تتشابك فيما بينها لتُخرج العلامة اللغوية عن المعنى المتعارف عليه، بل إنها لا تمتثل حتّى لإرادة الشّاعر كونها تستقلُّ بذاتها وتُبَاعِدُ بينها وبينه بعد الانتشار. ومن هنا؛ فمن التعسُّف بمكان التعامل مع الكلمة الشّعرية على أنها كلمةٌ ساطعةُ الوضوح في متناول القارىء، لكن الفكر التكفيري له شأن آخر.
إنّ هذه المعالجة العرجاء والمحفوفة بالمخاطر في تسطيح الكلمة الشّعرية من أجل مقاصد سياسية مبيّتة تنزاحُ لحساب رؤية يقينٍية محددة، تتوهم أنها تقبضُ على قرني الحقيقة وحسبما تهوى، بل هذه القراءة التكفيرية لنصّ شعريٍّ تشفُّ عن إرادة العقل المعطّل، العقل المغلق على ذاته في رؤيته الشائهة للجمال والعالم والسياسة والدولة والبشر والحرية، هذه الإرادة العمياء هي التي تدفعُ بمنتج الخطاب إلى هذا النّوع من القراءة الشّاذة، الملتذةٍ بـ”وصايا التكفير” والإجهاز على تلك اللحظات المضئية في تاريح الكرد الحديث. من هنا يمكن إدراكُ اختيار الفكر التكفيري للشاعر جكرخوين لضرب مَكْمَنَي الشّعري والتنويري في استهدافٍ مكثفٍ.
III
لنستهلَّ التحليلَ بسؤالين يخصّان سياسات التسمية: هل سيقودنا عنوان المقال: (جولة فكرية: في رحاب العقل) إلى حدثٍ معرفيٍّ مزعومٍ كما توهّم صاحبُ المقال؟ علامَ يشير التحوّل في الاسم (الشّخصي) سياسياً للكاتب في وسائل الميديا من (جمال حمي) إلى (جمال [الدين] حمي)؟ لكن لنبدأ بمعاينة المقال:
إن خطابَ الكاتب يشرع في الظهور من خلال تمهيد دون أن يتزحزح قيد أنملة عن أسلوبية الإسلامـ[ـو]يين في إيراد معلوماتٍ عامةٍ قائمةٍ على الاختلاق والتدليس أو دون توثيق من قبيل: [يقول العلماء: اللسان ترجمان العقل، يقول سقراط: تكلم حتى أراك]، وبضربٍ من الاختبار البسيط يمكن التساؤل: من هم هؤلاء العلماء وما المصدر الذي اقتبس منه أقوالهم وفي أي محاورة لأفلاطون يمكن قراءة هذا القول لسقراط؟ هذه المسألة لاتهمُّ “الفكر التفكيري” المفخخ بشعبويةٍ مقيتةٍ، فوسيلته تكمن في الاتكاء على التلفيق والافتئات للوصول إلى غايته القصوى: التكفير. يتابع الكاتب خطابه: (وفي هذا المقال سنحاول أن نخضع بضع عبارات وردت في بعض الأبيات التي وردت في قصيدة من قصائد الشاعر الكوردي الراحل جكرخوين إلى اختبارات عقلية ومنطقية). وهنا نتساءل كذلك: كيف يمكن إخضاع الشِّعر لاختبارات عقلية ومنطقية؟ إنَّ الشّعرَ قائمٌ كينونةً في حقل المجاز والانحراف الدلالي والاستعارة مما يجعل من الاختبار المنطقى ضرباً من الغشامة والبلاهة وعلامة على انعدام الكفاءة في معالجة الكلمة الشعرية، فالشِّعر بماهيته يقوّضُ المنطقَ ذاته ويجعله أداةً خرقاء غير ملائمة لألعاب الكلمة الشّعرية وسياساتها في الفتك بالنظام الدلالي للغة لأسباب ذكرناها فيما تقدّم. وبناءً على ذلك؛ فالمبدأ النقدي لدى صاحب المقالة يتنافر تماماً مع المنطق الشّعري وسياسات الكتابة الشعرية ذاتها ومن ثمَّ؛ فتهمةُ “تكفير الشّاعر” كائنةٌ طيَّ إبط الكاتب حتّى قبل أن يبدأ بتفسير الشّذرات الشّعرية. فكيف يمكن الحكم بالمنطق الشائع على هذه الشّذرات الشّعرية المقتبسة من قصيدة “يطير الحمام” لمحمود درويش وفق المنطق المتّبع أو “منطق التكفير” لدى كاتب المقال: [صباحك فاكهةٌ للأغاني/ وهذا المساءُ ذَهَبْ/ وأنتِ الهواءُ الذي يتعرّى أمامي كدمع العنَبْ/ أطير بخصركِ قبل وصولي إليكِ/ مجموعة: مدائح لحصار البحر]، فهذه الشّذرات الشّعرية تطيح بالمنطق الثنائي وتحتاج إلى رؤية مغايرة تأخذ بالحسبان “منطق البناء الشّعري وقوانينه”، وخصوصية الفكر الشعري في ابتكار العالم.
وطالما أنَّ هذا المنطق الغارق في شعبويته يشهر “التكفير” شعاراً له، فمن البداهةِ أن تتقدَّمه نتائجه بالخبل ذاته، يكتب: [القصيدة: بمجملها كلها طعن في الإسلام كدين وعقيدة وشريعة]، وذلك حتّى قبل أن يحيطَ بالقصيدة التي يورد عنوانها من دون توثيق إلى المصدر أو الديوان المعتمد([3]):
” Ji tirsa zana xwedê birne azmana!“
خشيةً من العلماء رفعوا الإله (خُدَا) إلى السَّماء!
ثم يعقب ذلك بالقول الآتي: [أن علماء ومشايخ المسلمين، خافوا على ربهم مِنَّا نحن الأذكياء والعباقرة كي لا نهزمه بالمناظرة والمحاججة العقلية وكي لا نتغلب عليه وينهزم ربهم أمام أعينهم! وحتى لا يتهاوى دينهم الباطل وينهار أيضًا وتنكشف آلاعيبهم وخداعهم لبسطاء الناس وينفضحوا بين الناس، ولذلك أخذوا ربهم إلى السماء بعيدًا هناك وأخفوه عنا حتى لا تطاله أيدينا!]. دعونا نتجاوز أخطاء صاحب المقال، الغيور على دينه، في العربية، ونوضّح أن “الشّرح العربي” هو كلامٌ عائدٌ له وإليه على وجه التحديد وليس للشاعر أو القصيدة؛ فالشّاعر ليس بإزائنا ليؤكد ما مضى إليه “الشَّارح” من هوىً ونزوة في التفسير، ومن ثمّ فالقول الذي يذكرنا بالشّروح المدرسية: [أن الشاعر هنا أراد أن يقول] لا يعكس إرادة الشّاعر قولاً، فهذه الإرادة تمثّلها عبارة العنوان بذاتها وفي ذاتها. كما أنّ جملة العنوان بوصفها خطاباً، في خطوةٍ ثانية، تباعد نفسها عن منتجها الأصلي(الشّاعر) لتستقلَّ بحياةٍ لا ترتهن إلا بمقاصدها بعد رحيل الشّاعر عن الحياة: إنّ خطاب العنوان في محاولةٍ أولى من التأويل، وبخلاف ما ذهب إليه صاحبُ المقال، ينتقد المعرفة السّطحية حول تموضع (الإله) مكاناً، فطالما أن الإله كليُّ القدرة، حسب المؤمنين به، فينبغي أن يتواجدَ في كل مكانٍ وزمانٍ، ومن ثمّ فالصعود به إلى مكان أعلى(السّماء) يمثّل طعناً في كماله وقدرته الكلية، فَهُمْ بهذا التدخُّل إنما يكشفونَ عن هشاشة هذا (الإله) بصورةٍ مناقضة لما يتصفُ به من كمالٍ! فالكامل في كماله، من المفترض، ألا يعاني من الفقد والنقصان، فكيف بالكليِّ القدرةٍ أن يتقبّل “النقصان” وإلا سيفقد الألوهية؟ إنّ “السماء” مفهوماً (حيث صُعِدَ الإله مكاناً) لا يُؤخذ في علوم الفيزياء الفلكية ــ من حيث هو مفهوم يعكس الرؤية الأسطورية، الدينية السّابقة على العالم ــ فليس ثمة سوى (فراغ لانهائي)، أما هذه الزرقة المتبدّية للعين فليست خلا غازاتٍ مكثفة سرعان ما تُتجاوز بالصواريخ الفضائية أثناء نقل رواد الفضاء حيث الفراغ الكوني. فلماذا لا يكون مُفَاد التأويل: أن خطاب العنوان ينطوي على انتقاد للمعرفة الأسطورية الشائعة التي يؤبّدها بعض الدّجالين من رجال الدين في أي ثقافةٍ من الثقافات من أجل استغلال الناس.
لكنَّ الشّعر ليس بالخطاب ذي المعنى الواحد، فهو يفيضُ عن حدوده؛ ليفاجىء المتأمُّل ذاته. وهنا، في الحظوة الثانية، يمكننا استثمار الحمولة الدلالية لاسم الإله في الثقافة الكردية (xwedê خُدَا) الوارد في العنوان بدلاً من الاسم العربي (الله)([4]) الذي يخصُّ الثقافة العربية و(الإسلام ضمناً)؟ والحال أنّ الخطاب التكفيري ليس معنياً بالأسئلة العميقة التي تحتاجها الكلمةُ الشّعريةُ بوصفها “منزل النّداء العميق للعالم” لكي تضيء العقل في حضورها. فاسم الإله كردياً خُدَا (Xwe+ da) ينفتحُ على معنى الوهب الذاتي، أي وَهَبَ أو أعطىى أو منح ذاتَهُ بذاتِهِ بمعنى كليّ القدرة، الحاضر في كلّ مكان وزمان، ولذا فهو لا يفتقد القوة في الحضور فخطاب العنوان يوجّه انتقاده إلى الميتافيزيقا التي ترى في الإله نقصاً فرفعته إلى السّماء مغبّة نقد العلم والعلماء، كما لو أن العنوان يومىء إلى القول: لِمَ الخشيةُ من العلماء إنْ كان الإله يتمتّع بالكمال الكلي في حضوره سواء أكان باسم (خُدَا) أم (الله)؟! وفي خطوةٍ تأويليةٍ ثالثة ضمن اشتغالات سيميوطيقا المفهوم ثقافياً لا يعدمُ خطابُ العنوان أن يكون إشارةً إلى تاريخ مفهوم الإله: من المحسوس حيث (عبادة الأشياء والأحداث الحسية) إلى المفهوم المجرّد غير المرئي ومن تعدُّد الآلهة إلى الإله الواحد في الثقافات الإنسانية مروراً بثنائية الإله). وهكذا يستحضر لنا خطاب العنوان الإله (خُدَا) بوصفه موضوعاً ثم الصّراع بين العلم والميتافيزيقا حول الموضوع، وهذا ما يعكس ماهية المشهد الثقافي في زمن الشاعر وقتئذٍ.
وكما أشرتُ في هذه المساجلة أعلاه أن نتائج “القراءة التكفيرية” تسبقً تحليلها للظواهر، فالفكر التكفيري يبحث عن بغيته، لا التحليل النّصيّ في سياسات خطاب العنوان تركيباً ومجازاً وبلاغةً وتداولاً، لذلك نرى صاحب المقال يعقب على شرحه التسطيحي بالقول: [من الواضح هنا ومن خلال عنوان القصيدة أن جكرخوين الإنسان كان يعاني من جنون العظمة وكان مصابًا بالغرور، وكان يجد أن كل مفاتيح وأسرار ومقاليد هذا الكون بيده هو، وهو وحده يعلم كل شيء]، وكما بينّا بالتحليل أنَّ العنوان رغم بساطته فإنه يتحرك في اتجاهات متنوعة من الدِّلالة والمعنى، وليس ثمة أيّ علامة تشير إلى حقيقة الهُراء الذي أدلى به صاحب المقال واتهامه للشاعر بـ”جنون العظمة”، فخطاب العنوان يدلُّ على السياقات الثقافية والسياسية والعلمية التي انخرط الشاعر فيها بكل ما أُوْتي من قوةٍ شعريةٍ ومعرفيةٍ لتقويضِ الأوهام الدينية التي تحاصر الفكر الكردي وتدشين كوّةٍ أمل في ليل الكرد الثقيل والمعتم.
VI
وفي المفصل الأخير من مقاله يقتبس السطرين التاليين من القصيدة ذاتها، حيث الشاعر يصفُ رجلَ دينٍ صديقاً له:
Dostê mini li mêjker tim tizbî û siwak liber , li mêjker û rojîgir
doza kurdîtîyê dikir , eger derw eger rast xwe ji çavan di parast
ولكن بالعودة إلى الأعمال الكاملة ([5]) للشاعر وجدنا اختلافاً في الهندسة الطباعية للقصيدة وكذلك في النظم الشعري:
Dostê minê nimêjker/ tizbî û siwak li ber
Nimêjker û rojîgir/doza kurdîtî dikir
Eger derw, eger rast/ Xwe ji çavan diparast
صديقي المثابرُ على الصّلاة / من غير فراقٍ للسُّبْحَةِ والسّواك
المواظبُ على الصّلاة والصّيام/ يتعاطى الشأن الكردي
وإن كان صادقاً أو كاذباً/ فهو يقي نفسه من مغبّة السُّؤال.
إلى ذلك، وفي تحليله، يطلق صاحبُ المقالِ موجةً من الأكاذيب والافتراءات التي لا صلة لها بالسّطرين الشّعريين من حيث الدلالة القريبة أو البعيدة، لنتأمل هذا الإفك بحقّ الشَّاعر: [يحاول هنا جكرخوين الإنسان أن يشكك بصدق نوايا كل شيخ أو عالم كوردي مسلم يزعم بأنه يحب قوميته الكوردية، ويطعن بكل قادات الثورات والإنتفاضات الكوردية ضد مستعمري كوردستان كأمثال الشيخ سعيد بيراني والشيخ محمود الحفيد والشيخ عبد السلام بارزاني والشيخ أحمد بارزاني والملا مصطفى بارزاني والشيخ القاضي محمد وغيرهم الكثير]. إنَّ الشّاعر يتحدّث عن صديقٍ شيخٍ له (Dostê minê) فالمشار إليه يتحدّد معرفةً عن طريق ياء المتكلم (صديقي) وليس أيّ شيخ ناهيك عن أن يكون تمثيلاً لكل شيخ أو عالم كردي أو مسلم. لكنَّ المخادعة والنفاق والتضليل تتكثّف جميعاً في هذا البهتان بحقّ الشاعر الذي كان على معرفةٍ عميقةٍ بالواقع الكردي فكلّ هؤلاء الذين قادوا الثورات والانتفاضات الكردية يتقطّرون حسّاً قومياً قبل الحسّ الديني لاسيما أن الأنظمة المقتسمة لبلاد الكرد هي أنظمة مسلمة تشارك الكرد وهؤلاء القادة الإسلامَ ديناً، فلم تكن ثوراتهم من أجل “الإسلام” مطلقاً، بل من أجل “حرية الكرد” في كيان مستقل باسم “كردستان” فالتاريخ يتحدّث عن القائد وليس (الشيخ) “قاضي محمد” وعن “جمهورية مهاباد” وليس عن “مشيخة مهاباد”. أما الثورة الكردية الكبرى التي قادها الزعيم ملا مصطفى البرزاني فهي ثورةٌ كرديةٌ محضةٌ من ألفها إلى يائها ولا علاقة لها بأية أجندات دينية يتوهمها صاحب المقال. ويجدر بالذكر في هذا السياق، وهو أمر معروف للقاصي والداني، أنّ أحد مرجعيات الإخوان المسلمين راهناً “بديع الزمان سعيد النورسي 1876ــ 1960 ” رفض المشاركة في ثورة الشيخ بيران، الثورة العارمة التي اشترك فيها مختلفُ الانتماءات الكردية قاطبةً، بل من القوميات الأخرى في جنوب شرق تركيا الحالية (المنطقة الشمالية من بلاد الكرد).
إنَّ الشّاعر في تقديمه لهذه الصُّورة إنما ينتقدُ صورة رجل الدين الذي كان يمارس التدجيل والافتراء على المواطنين البسطاء وقتئذٍ. ولولا تفاقم هذه الظاهرة في الحياة الكردية وذلك في النصف الأول من القرن العشرين لما تحوّل إلى ثيمةٍ للقصيدة الشّعرية لدى جكرخوين أو غيره من الشعراء بقصد انتقاد هذه الظاهرة لتحرير الفكر الشّعبي من هذه الآفة، التي ينافح عنها صاحب المقال في مسعىً تفكيريّ للنيل من الشّاعر بوصفه شاعراً وفاعلاً مؤثراً في المجتمع الكردي على هذا الصعيد لإنقاذ الروح الكردية من تلك العَطالة التي زرعها الآفاقون من “رجال الدين” حينما جعلوا من ذواتهم أوصياء على الإيمان ومنح المساكين والفقراء الكرد صكوك الغفران الموهومة للعبور إلى “الجنة الموعودة”، كما يجترىءُ صاحب المقال راهناً على نشر هذه الافتراءات والأوهام للعودة بالكرد إلى هيمنة السّراب الديني كحل للمآزق الكرد في تكرار سمج لمآزق الطائفة السنية في كلّ من العراق وسوريا. أما ما تبقّى من المقال فلا يعدو أن يكونَ على منوال ما رُصِدَ في هذه المساجلة من كلام إنشائي لا يصمد أمام القراءة النقدية.
وفي خاتمة المطاف يجدر بنا الالتفات إلى ما تقدّم من سؤالين يخصّان سياسات التسمية في المقال، أولاهما أن تحليل المقال برويّة قد أماط اللثام عن صدعٍ بين العنوان ونصه، فلا التزام ولا وفاء بين الاسم والمسمّى، كما أنّ الرّهان على الجولة الفكرية المزعومة انتهى بزوبعةٍ من الحشو والهذيان والاتهام حيث لا طائلَ من ذلك ولا فائدةً معرفيةً تُذكر. وثانيهما أن التحوّل في الاسم (الشّخصي) لصاحب المقال في وسائل الميديا من (جمال حمي) إلى (جمال [الدين] حمي) يعكس مسار الانعطاف الحادّ نحو الفكر السّلفي التكفيري وهو ما يتراءى للقارىء في خاتمة مقاله على وجه الدقة.
تحية لروح الشّاعر الكردي جكرخوين في الحياة والممات
([1]) ــ هذا العقل المغلق، بل العقل المنتحر جرى تشكيله تحت التأثير المتفاقم لكتابات حسن البنا والمودودي وسيد قطب…إلخ ولكن يمكن القول إن الإرهاصات الأولى لهذا التحجُّر لم يبزغ بغتةً وإنما عندما أدار العقل الإسلامي برمته ظهره للفلسفة ولاذ بالدوغمائية كما يقول روجر سكروتون في تقديمه لكتاب بروبرت ر. رايلي: إغلاق عقل المسلم (كيف خلق الانتحار الفكري الأزمة الإسلامية الراهنة)، ترجمة: مجدي نعيم، بيروت: دار الجمل، ط1، 2018.
([2]) ـــ وصلني المقال بصورة غير كاملة عن طريق بعض الأصدقاء فلهم الشكر الجزيل. ولاحقاً اطّلعت على ما تبقّى من المقال لكنه لا يحتوي على أي جديد: لذلك سأكتفي بما جرى إنجازه هنا. لكنْ لابدّ من الإشارة إلى زعمٍ أنهاه به الكاتبُ مقاله مفاده تأييد شريحة كبيرة من أبناء الشعب الكردي لما ورد ويرد في خطابه وهذا إن كان صحيحاً فهو أمر خطير…!!!
([3]) ــ Cegerxwîn: Berhemên Gişti, Dîwan 4(Ronak), Istanbul, Avesta, 2014, Ça 6, R 114 -117.
([4]) ــ إنّ الاسم العربي (الله) كان شائعاً في الثقافة العربية لدى اليهود العرب ومسحييهم قبل الإسلام وهو على الأرجح إما مشتق أو متحول عن (أو مصوغ من) من اسم الإله (إيل) الشائع قي اللغات العراقية والسورية القديمة (بابل (باب إيل)، أربيل (الآلهة الأربع)، وهكذا يتحول الاسم (إيل) في العربية إلى: إلـ ــــ إله ـــ الـ/إله= الله. وكلُّ ذلك في تقاطع صوتي ودلالي مع اللغتين العبرية (إلوهيم (جمع إلـ) والآرامية. وفي هذا الحقل تمكن الإشارة إلى كتاب: مفهوم الله وأنداده عند العرب قبل الإسلام: مجموعة مؤلفين، ترجمة: هشام شامية، بيروت: المركز الأكاديمي للأبحاث، ط1، 2020. وعلى وجه التحديد الفصل الثالث من الكتاب: العلاقة بين الله في العربية واللّاها في السريانية: ديفيد كيلنر، ص 58ـــ 102.