مدارات كرد
حاز الباحث “ياسين طه محمد” من قسم التاريخ بكلية العلوم الإنسانية في جامعة السليمانية مؤخرًا على درجة الدكتوراه في فلسفة التاريخ بتقدير “امتياز”، وذلك عن دراسته بعنوان “المذهب الأشعري في الوسط الكردي”. تتناول الدراسة تطور المذهب الأشعري وعلاقته بالمذاهب الدينية الأخرى في بلاد الكرد خلال الفترة من القرن الرابع إلى الثامن الهجري (العاشر إلى الرابع عشر الميلادي).
تشير الدراسة في مستهلها إلى أن المذهب الأشعري يمثل نهجًا سنيًا كلاميًا يدعو إلى التوفيق بين العقل والنقل، ويختص بفهم العقيدة وتفسير النصوص المتعلقة بصفات الله. يعتمد هذا المذهب على علم الكلام في تفسير معاني النصوص الدينية، محاولًا الجمع بين الفهم العقلي والدلالات النصية لتحقيق انسجام بينهما.
كما تشير الدراسة إلى أن المذهب الأشعري ظهر بشكل رئيسي في بغداد خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، ثم انتشر بعد ذلك من المشرق الإسلامي إلى مغربه. وقد شكّل اتجاهًا مهيمنًا داخل الدائرة السنية في مواجهة الفرق المنشقة عنها لقرون عديدة. كما انتشر هذا المذهب العقدي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، حيث تفاعل فقهاء الوسط الكردي معه على غرار المجتمعات الإسلامية المجاورة، من خلال المدارس النظامية وحلقات التدريس في بلاد الكرد، والدعم الذي حظي بها من قبل الدولة الأيوبية وقبلهم الدولة الزنكية.
وتسلط الدراسة الضوء على خلفيات وآراء الشخصيات البارزة الذين لم ينتموا إلى الحركة الأشعرية المهيمنة في المناطق الكردية، خاصة في أوساط الشافعية. إذ كانت الشافعية حاضنة ومنطلقًا لانتشار الأشعرية، بشكل أساس.
النطاق الجغرافي للدراسة يشمل مناطق انتشار الكُرد في العصر العباسي، وتشمل أقاليم ومدن الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان والجبال وشهرزور وأربل، إضافة إلى بعض الحواضن الكردية في أطراف العراق العربي، بالإضافة إلى مناطق انتشار ونفوذ الكرد الأيوبيين والقبائل الكردية الموالية لهم في مصر وبلاد الشام.
أما من الناحية الزمنية، فتغطي الدراسة التطورات المذهبية والعقدية السنية من القرن 4هـ/10م، وهو القرن الذي شهد ظهور وتطور المذاهب والمعتقدات، بما في ذلك المذهب الأشعري، وتستمر حتى نهاية القرن 8هـ /14م الذي شهد انتهاء العصر العباسي (656هـ/ 1258م) الذي مثل نهاية لحقبة تأريخية وحضارية مهمة في التاريخ الإسلامي الوسيط.
الفصل الأول من الأطروحة يتناول الأوضاع الدينية والاتجاهات المذهبية عند الكُرد قبل انتشار المذهب الأشعري، ويركز على المذاهب الفقهية السنية الأربعة السائدة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية)، كما يُسلط الضوء على فكر الخوارج والشيعة في المناطق الكردية كأقدم الفرق الفكرية التي ظهرت خلال القرن الأول الهجري. ويتعمق في بحث الصوفية والمنطلقات القريبة منها، نظرًا لأنها تُعتبر سببًا في انتشار الأشعرية أو كانت قريبة من منطلقاتها الفكرية.
يبدأ الفصل الثاني من الأطروحة بتسليط الضوء على شخصية مؤسس المذهب، أبو الحسن الأشعري، والمراحل التي مر بها والجدل الدائر حول النصوص المتناقضة الموروثة من كتبه. ویتضمن الفصل ايضاً تغطية تطور المذهب على يد طلاب وخلفاء الأشعري وعلاقتهم بفقهاء المناطق الكردية، إضافة الى أهم المبادئ الأساسية للمذهب في العقيدة.
أما الفصل الثالث، فيركز على انتشار المذهب الأشعري بين الكرد، مع التركيز على أسباب وكيفية انتشاره بين الدراسة الدينية والمحفزات السياسية. يُشير أيضًا إلى أبرز الحواضن الأشعرية في المناطق التي سكنتها أغلبية كردية. كما يتطرق إلى عدد من علماء الشافعية الذين انضموا إلى المذهب الأشعري أو كانوا على اتصال برواده عن طريق الدراسة.
يتناول الفصل الرابع انقسام الشافعية الكردية بين الأشاعرة والسلفيين، ويسلط الضوء على الفسيفساء المذهبي المتنوع في تلك المناطق خلال فترة الدراسة مع تسليط الضوء على تأثير الصراعات والأزمات العقدية على المناطق الكُردية.
تبين الدراسة بشكل عام أن المناطق الكردية كانت اتسمت بالتعددية المذهبية ضمن النطاق الإسلامي العام، سواء فيما يتعلق بالمذاهب الفقهية أو العقدية خلال العصور الوسطى الإسلامية. ورغم هذا التعدد، كان الغلبة تاريخيًا للشافعية الأشعرية.
وقد تأثرت المناطق الكردية ونخبها الفقهية والعلمية بتداعيات الصراع الديني خلال العصر العباسي. وكان بعض العلماء والمشاهير الذين استقروا في مناطق انتشار الكرد لهم تأثير وسيطرة على الجوانب العقدية في أجزاء أخرى من الخلافة العباسية.
والأطروحة قيد الطبع حاليًا من قبل منظمة “خال” الكردية المعنية بالتراث و “مركز زهاوي” للدراسات الفكرية، ومن المقرر أن ترى النور خلال الأشهر القليلة المقبلة.