إضاءة على ديوان “نداء يتعثّر كحجر”

شارك هذا المقال:

وداد سلوم

لأن النداء حجر تأتي القصائد تضاريس ومنعطفات:

لا شك أن الكتابة عن ديوانٍ شعري لخالد حسين قد تتعثّر ونتعثّر فيها وهو دكتور في الأدب والنقد وصاحب مؤلفات كثيرة، ويأتي ضمن هذا الكثير ديوانه الصادر عن دار رامينا بعنوان ” نداء يتعثر كحجر”

والنداء عادة يكون للبعيد ليلتفت وينتبه، أو هو نوع من المناجاة وهذا يعني أن الحبيبة المرغوبة بعيدة عنه لا يصلها النداء الذي لا يتعدّى دائرة الشاعر إذ يسقط عند قدميه كحجر، فهي كالحلم الذي يخالجه ويحاوله فلا يمسك به ولا يصل مبتغاه. وقد يكون النداء تعثّرٌ بالمسافة أو ظرف طارئ ممتد كالحرب التي استلبت وطنه فالشاعر في منفاه وهذا كاف لندرك الشتات الذي يأكله:

 “كصيادٍ يقايض طريدةً مستحيلةً بحياةٍ طارئة”

يصنف الشاعر قصائده ويجمعها في الفهرس تحت تسمية تضاريس ومنعطفات وهو ابتكار جميل يستفتح القارئ به كأنه يدعوه ليتنزه بين القصائد كمن يتجول في أرض ممتدة. لنرسم معه خريطة هذ الحب ففي المنعطف الأول ذاك الشغف المفتون بالأنثى يتصاعد بفوران مبهج لنرى في المنعطف الثاني كيف يتنازعه قلقٌ وجودي مستمر يسكنه ويتبدّى كل حين إذ يدرك المسافة بين الحلم والواقع وتحضر مرارة الخيبة التي ترافق الحسّ الشعري بتخلي المحيط عنه ليواجه أزمته وحيداً حيث يتخلّى عنه الحب واللغة والمرأة؛ فكل هذا الحلم والمتعة وكل ما نعيشه ليس إلا سراباً. ليأتي المنعطف الثالث والأخير مازجاً بين ذاك القلق وبين السعادة بالسعي للحب فالصبي الذي يعود من الزمن بالانكسار سيظل يبحث وينتظر الحب الذي لمّا…. وهذه النقاط التي يكرّرها بعد لما غير مرة ٍ تقودنا إلى أنّ كل ما حدث لم يكن إلا  (حلماً في الكرى او خلسة المختلس)

يأتي الديوان نشيداً في الحب والسعي إليه رغم الوعي المتواري باستحالته فالشعر لا يهتم بالنتيجة أو تحقق الوصال، بل يكتفي بطلبه كحالة انسانية عليا ترومها البشرية في سعيها للاستمرار وللحرية منذ الأزل.

مشاركاً الأشياء والطبيعة وتضاريس الجغرافية المكانية بتضاريس الجسد – الأرض الثانية إذ قوبل الجسد دوما بالأرض والجنس بحرثها.

ليستدرج الحب كنوز الجمال الأنثوي في تفاصيل اللقاء والرغبة والشهوة المتفتّحة بأوجها والجمال الخالص كطقس قدسي للنشوة والوصال الروحي والجسدي حيث الحبيبة ترتدي وجه الزمان والمكان وتتواشج مع الأرض والوطن فتارةً لها وجه الحقول وتارةً وجه الآلهة فيسميها “آناهيتا” ربة الينبوع. ليبدو الوصال كالحلم المكتفي بالحب والحب المكتفي بالحلم حيث حضور الأنثى بكامل الجمال الجسدي وإغوائه مستدركاً كل مرة تفاصيل جديدة للجسد وحالاته والاندغام الكلي بينهما:

“كما لو أن الأمر لم يكُ أكثر من غيمة حلم…!

كما لو أن الحلم لم يكُ سوى حرير الحقيقة بهاءً…!

أيها الغافلون عن الحكاية

أيّ سرد هذا

أيّ سرد له من المروءة، من بسالة القول لأصف حلمي ملحمةً نشيداً لا ينتهي.”

يمهد الشاعر للسرد منذ البداية فيخبرنا عن تصنيفه للقصائد قائلا: “اشتباكات سردية في إهاب الشعر” حيث الكثير من العبارات الطويلة امتداد السطر والتي قد ترهق مزاج القارئ. ورغم ذلك لم تفقد العبارة شعريتها بل بقيت زاخرة بالجماليات البلاغية التي تحتفي وتوازي جماليات الجسد بجرأة واضحة منحها الخيال ذلك التنوع والتصاعد فنحن في الحلم لا نجد عيوباً في الآخرالمشتهى بل نبالغ في وصفه المادي ويصبح الصورة المثلى للجمال وصولاً إلى الأسطرة والكمال.

تبقى اللغة على مدار الديوان في استنفار جمالي مشغولة بعناية المجاز مكتنزة بطاقة التصوير والإيحاء المتدفّق في صور مبتكرة ومغايرة تعيد الدهشة للتفاصيل الكثيرة. كتشبيه الدبكة الكردية بالقيامة وهي الصُّورة غيرالنمطية للقيامة المعروفة بالخوف والفزع، أو الشّجرة التي تأسر الريح.. إلخ، كما يؤنسن الأشياء فيمنحها روحاً كالماء الذي يرسم تفاصيل المرأة كأنه العاشق الداعر الذي يتغلغل في ثنايا الجسد.

تتألق المفردات التي يحاول تطعيمها بمفردات كردية او من سياق الحياة الشعبية الكردية كالدبكة والنيروز وأسماء الأعشاب البرية وتارة أخرى أساطير شعبه إذ يعيد تجسيد أسطورة (مموزين) وأسطورة (سياميند وخجي) موازياً قصة حبه المحال في الواقع وبين أساطير الحب المؤلمة التي تشكّل تراث الشعب الكردي الموسوم بالمعاناة والقهر.

ورغم ذلك التبادل العشقي المحسوس حين يجعل الشاعر اللقاء أرضياً فيناوب الكلام في بعض القصائد بين الحبيبين على شكل حواريات ملونة؛ ندرك المسافات التي تحضر مؤشراتها في السياق (الحقول، التناوب المكاني بين القرية والبحيرة، الأفق البعيد….) وغيرها وهي ما يشعل شغاف القلب بالذكريات، فحميمية اللقاء تستحضر حميمية المكان إلى الذاكرة.

الجسد

إنّ المشتهى والمؤسطر بالجمال في كماله المشحون بالحب وبالتالي بالعالم الروحي الملهم للشاعر وبفطرية الانجذاب الكلي بين حبيبين يقول:

“من أي نشيد للحجر صاغك الإله تحت وهج الرغبة؟”

ما يعكس تلك الرغبة المشتعلة للتجسد بتلك الشحنة العاطفية والشعرية الباهرة، والشهوة الدائمة الاشتعال التي لا ترتوي ولا تصل لأنها خارج الإمكان ولهذا يحكم الديوان عنوان النداء فهو مستمر للحاجة التي لا ترتوي .

 ورغم الإغراق في وصف الجسد واللقاء بقيت بينه وبين الإيروتيكية تلك المسافة التي فرضتها الحالة الغائمة بين الحلم والحقيقة تارة وتلك الإسقاطات التي تأخذ القارئ إلى عوالم متعددة.

المرأة الحبيبة في احتمالاتها

“وأنت امرأة ملتبسة بكل النساء اللواتي يحركن الكون بنظرة مغتلمة”

هكذا نجد المرأة (الشجرة – اليمامة – مشعلة الحرائق – عيناها سماء – الغزالة- المتوهجة كشمس – حورية الكهف) التي تلخص النساء في احتمالاتها الكثيرة؛ فهي تلك الغزالة التي تتحدّى الصياد أو تلك التي تملك حساً سادياً وتزداد كبراً بازدياد العشاق لتتمتع برميهم على الأسفلت، أو التي تنادي الذئب ليحرث أرضها مثنى وثلاث ورباع حتى بلوغ النشوة (المرأة الواعية برغبتها وجسدها). والمرأة التي تحرك العالم بابتسامتها، والمرأة الرمز الحبيبة والأرض والوطن عطرها اختلاط روائح البراري مجتمعة.

أما الأم فهي صورة الأنثى الوحيدة التي لا تتخلى والتي تمسك الشاعر عن السقوط يروي لها أحلامه وانكساره وحيرته في غربته. ولعل مراوحة المرأة بين حبها ومشاغل ذاتها في احتمالاتها المتعددة هوما يقود الشاعر إلى التردد والغيرة وكسر عالم الحلم ومن ثم إقامته مرة أخرى. وكم يرتطم الحلم بجدران الواقع لينتهي إلى الاحساس بالنهاية العدمية للأشياء والوجود.

العدم

تأتي قصيدة العدم في منتصف الديوان كما لو كانت ميزاناً بين تحليقين ممتدين بين الحلم ومكابدة السعي إليه وكأن الروح إذ تكابد في الحياة وتبتكر طرقاً وأحلاماً تحاول دفع الاهتراء الروحي ما يفعله الشاعر فالحبُّ ملاذ أمام الحتمية.

“إنك ترمي روحك في أرضٍ سراب.”

“مثل الذي يقامر على كل شيء لينقذ روحه من الاهتراء”

هكذا ينتهي الديوان على شكل صرخة في مقطع تبدُّد في آخر الديوان

“فسحة العشب تتكبد عزلتها

عاشقة مكتظة بعاشقها

ظلان يتبددان في صرخة ..!”

والصرخة ثنائية الاتجاه فقد يكون فيها تبدّداً وجودياً، أو احتجاجاً أخيراً على هذا التشظي. ولعله يريد أن يقول إن الصرخة تتبدد كما تتبدد حالة العشق بالمنع والاستحالة. فيأكل الصمت النداء وهذا ما يستدعي الألم، حتى أنه يتمنى لو كان حجراً ينطوي على حجر حتى لا يجرح قلبه المرور بالحب، ولعل الحب مجرد صرخة في وجه الواقع والحياة.

  فهل نحن ذاك النداء للحياة الذي ينتهي حجراً.

                                         وداد سلوم / شاعرة وكاتبة سورية

شارك هذا المقال: