القائد الضرورة!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

لا يهم إن كان عبد الجبار محسن هو أول من اطلق هذا اللقب على الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، إذ سبق وأن  استخدمت ألقاب لا تقل تبجيلاً وعبودية ًعنه، من قبيل : الزعيم، القائد الخالد، المرشد الأعلى، الفوهرر، الدوتشي، كوديلو……..الخ  في وصف من وصلوا إلى رأس هرم السلطة (سواء بالانقلاب أو الثورة) في العديد من الدول شرقاً وغرباً. وجميعها أوصاف تضليلية  ذات نتائج  خطيرة لشخصية حقيقية : ديكتاتور أو طاغية أو مستبد! بل المهم هو تفكيك هذه الظاهرة من حيث العقلية التي تنتجها كونها العقبة الأساس في الخروج من نفق الاستبداد بكل اشكاله؛ فهي ليست ظاهرة ليست فردية ولا فريدة!

بمجرد تناول هذه الظاهرة تبدأ أسئلة عديدة في طرح نفسها، أهمها: هل من قاسم مشترك بين مبتدعي هذه الألقاب، هل من تماثل في تركيبة الأنظمة السياسية التي شاعت فيها هذه الألقاب، متى كثر استخدام هذه الألقاب، وهل اقتصرت هذه العقلية في التأليه على رؤوساء دول فقط ؟

تنبع أهمية البحث عن إجابة  على  السؤال الأول في كونه سيؤكد أو ينفي مقولة: الشعوب هي من تصنع طغاتها.

قد يوحي مشهد الجماهير وهي تملأ الساحات والشوارع وتهتف بحياة القائد والزعيم بأنها هي مشاعر حقيقية وعفوية نابعة عن قناعة تامة، لكن الحقيقة تقول بأن لهذه الشعارات صنّاع وتاريخ ومكان انتاج غير الذي يظهر في المسيرات الشعبية. فما نراه من مظاهر التعظيم وما نسمعها من صيحات التأليه ما هي في الحقيقة إلا صدى ما تجود به العديد من النخب على منابر الاعلام المختلفة من تمجيدٍ وتقديسٍ وابتداعٍ لألقاب على مدى سنوات وبشكل متواتر إلى درجة تجعل  غالبية الشعب تصدقها وترددها؛ إذ كيف لا يثق بها الانسان العادي وهي صادرة عن نخب أوهمته بأنها تحمل  همومه  وأحلامه؟!

لا يمكن لأي طاغية مهما امتلك من وسائل الترهيب أن يستمر طويلاً في السلطة  دون نخب تسوّقه على أنه بطل سياسي، وإلا لماذا إذن نراه يستعين بهم عند كل هزة داخلية تهدد عرشه أو منبر خارجي يكشف حقيقته؟!

الأمثلة كثيرة، ربما أبرزها مجاعة هولودومورأو القتل بالتجويع (كونها تضم نخب عالمية) التي وقعت في أوكرانيا ما بين 1932-1933 والتي أودت بحياة حوالى 3 مليون إنسان. عند تسرّب أخبار هذه المجاعة إلى العالم وخاصة الغرب، اضطر ستالين إلى الاستعانة بنخب غربية كونه يعرف مدى تأثيرها على الرأي العام، فقام بدعوتهم لزيارة الاتحاد السوفيتي في عام 1933. لبى الدعوة شخصيات لا يُستهان بصوتها الذي أنكر المجاعة؛ من ضمنهم الكاتب المسرحي العالمي جورج برنارد شو، والروائي والشاعر الفرنسي المعروف هنري باربوس، صاحب كتاب ( ستالين : اكتشاف عالم جديد من خلال رجل واحد)!

يمكن تصنيف دوافع النخب من وراء هذه الصناعة في فئتين أساسيتين: انتهازية وحالمة، الأولى تسعى إلى حظوة عند الزعيم بما يتضمن ذلك من سلطة وجاه ومصالح. والثانية ساذجة منغمسة في النظريات ومنقادة وراء الشعارات، بعيدة عن الواقع والممكن؛ لا توفر جهداُ في تبرير “تقصير” بطلها السياسي وتستميت في الدفاع عنه مستمرةً في خداع الذات وتخدير المجتمع!

عند مقارنة تركيبة الدول التي شاعت فيها صناعة هذه الألقاب، و مراجعة الفترات التي كثرت فيها، نصل إلى استنتاجين هامين:

الأول هو أن تكون أوروبا، السباقة في انتاج الديمقراطية، هي السباقة أيضاً في انتاج النقيض، أي البطل السياسي!

 الثاني هو تزامن ظهور هذه الألقاب مع بدء تشكل الدولة العصرية التي من المفترض أن تكون دولة مؤسسات وليس دولة الزعيم!

إذن كيف يمكن تفسير هذين التناقضين ؟ ألم يكن الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا محقاً  عندما نبّه من الدور السلبي المؤثر للكثير من النخب في كتابه: خيانة المثقفين الذي صدر 1927 وأعاد إصداره بنسخة منقحة 1946 بعد مراجعة مواقف العديد من النخب الفرنسية  التي تعاونت مع هتلر، والمثقفين الذين تحمسوا بلا هوادة وانساقوا وراء ستالين!

رغم انتهاء حقبة الألقاب وثبات نتائجها الكارثية في أوروبا، إلا أن نخب الشرق أعادت تصنيع هذا المنتج بعد الحرب العالمية الثانية لكن باستخدام قاموس الألقاب  الخاص بها، والا نكى من ذلك أن الكثير منهم لازال يحن إليها ويتوق لعودتها! وهو أمر يصعب على متلازمة استوكهولم أن تفسره أو تحلله

قد يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى غريباً، لكن عند التدقيق في  الخلفية الفكرية لهذه النخب يمكن استكشاف ميزة مشتركة بينهم ألا وهي التطرف في العقيدة؛ بمعنى آخر عدم رؤية العالم إلا من خلال النظرية التي يؤمن بها ولا يرى الخلاص إلا على يد صاحب النظرية أو من يتوهم أنه يجسدها!

ثمة أمر آخر غريب ويحتاج إلى بحث وهو أن القاب التبجيل والتأليه، وإن لم تستخدم بمصطلحات صريحة، قد استُخدمت من قبل نخب غير سلطوية في التعاطي مع رؤوساء أحزابهم، تقدمية كانت أم رجعية! إذ أنهم يعتبرونهم معصومين عن الخطأ وفوق المساءلة والنقد!

إن توقف النخب (أي المهتمة بالشأن العام )عن صناعة هذا المنتج وتسويقه هو شرط لازم وضروري في تمكين المجتمع من بناء دولة مؤسسات متينة لا دولة الرفيق الزعيم أو القائد الخالد أو المرشد الأعلى الهشة!

شارك هذا المقال: