عن علاقة الديمقراطية بالسياسة الخارجية في الدول الديمقراطية

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

في أجواء صيف 1953 المتوترة، التي شهدت  انتهاء الحرب الكورية كأول صراع عسكري في مرحلة الحرب الباردة، واستيلاء خروتشوف على السلطة في موسكو، واجراء الاتحاد السوفييتي لأول اختبار للقنبلة الهيدروجينية (سيتم في نهاية المقال التطرق بشكل مختصر إلى بعض مواقف مدير هذا المشروع كونها تتعلق بجوهر هذا المقال) قام الناشط المدني روجر ماسترود، الذي كان عضواً في جمعية مستقلة لا ربحية تدعى جمعية السياسة الخارجية  مهمتها دمقرطة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أي إشراك العامة في  القرارات الحاسمة التي تتخذها الدولة، برحلة تثقيفية ضمن الولايات الغربية لأمريكا، قطع خلالها حوالى 40 ألف كم (جال خلالها في كل القرى والمدن والبلدات) بسيارة صغيرة تجر مقطورة ممتلئة بالمنشورات الإعلامية والأفلام التثقيفية بهدف شد اهتمام العامة إلى الشؤون الخارجية للدولة.

وبعد أكثر من 5 سنوات من الجهود الهائلة التي بذلتها هذه الجمعية، صرح هذا الشاب وهو يحاول أن يتغلب على يأسه: “يجب أن نكون صادقين في مواجهة الحقيقة، وهي أن كل هذه النشاطات لم تنجح في إحداث فرق ملموس في فهم العامة لأي مسألة حاسمة”.

قد تكون هذه التجربة فريدة في طريقة تطبيق نظريتها لكن ما من شك بأن الفكرة، فكرة دمقرطة السياسة الخارجية، قد نشأت مع تشكّل النادي الديمقراطي ومازالت الشغل الشاغل ليس فقط للمهتمين بالشأن العام أفراداً ومنظمات، بل لدى أغلب طبقات الشعب.

 فعند الحديث عن مواقف الدول الديمقراطية من كل نزاع  دولي أو صراع داخلي في أي بقعة من العالم  يتم نزع صفة الديمقراطية  عن هذه الدول أو أقله لعنها، ويتكرر رد الفعل هذا عند الحديث على علاقات الدول الديمقراطية مع أنظمة استبدادية تعامل مواطنيها أو على الأصح رعاياها (لا وجود لمواطنين في الدولة الأمنية بل مجرد رعايا!) بطريقة لا تليق بأدمية الانسان!

يستند هذا الموقف من هذه الدولة الديمقراطية أو تلك إلى تساؤل منطقي: كيف لحكومة تمثل إرادة شعب ( منتخبة من قبل الناس بشكل حر) تعمل كل ما في وسعها من أجل صيانة حقوق مواطنيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أن تتجاهل أو أن لا تتدخل للدفاع عن حقوق شعب آخر يعيش في ظل دولة محكومة بأنظمة قمعية!

لكن هذا التساؤل المنطقي لا يلبث أن يصطدم بجدار الواقعية المستند إلى قراءة تحليلية لتركيبة المجتمع وماهية الديمقراطية وعلاقتها بالشؤون الخارجية للدولة.

أولاً، الديمقراطية شأن داخلي تحدد علاقة الدولة كجهاز حكومي بالفرد والمجتمع، وتعتمد على آلية ثابتة واضحة للمواطن في اختيار المرشح أو الحزب الأقرب إلى ضمان مستقبله ومستقبل أسرته المعيشية بالدرجة الأولى. إذ أن البرامج الانتخابية للأحزاب تركز على الجانب الاقتصادي للمواطن ( ضمان التقاعد، تخفيض الضرائب، تحسين القيمة الشرائية، رفع الرواتب، الرعاية الصحية والاجتماعية …..الخ). أما السياسة الخارجية فهي شأن دولي يحدد علاقات الدولة مع باقي دول العالم، وهي متغيرة حسب الظروف والاحداث في هذه المنطقة أو تلك؛ وهذه النقطة غير مطروحة في البرامج الانتخابية.

ثانياً، إن خلو البرامج الانتخابية من أي موقف حاسم وواضح من السياسة الخارجية، ليس خداعاً تمارسه الأحزاب أو تهرباً من الالتزام بهذا الموقف في حال مشاركتها في الحكومة، بل لأن تخطيط السياسة الخارجية وفق برامج مسبقة هو أمر غير ممكن، فهي غير محكومة بقوانين أو تشريعات كما هو الحال مع السياسة الداخلية، بل تسير وفق متغيرات عالمية (نزاعات، صراعات، حروب، منافسات اقتصادية….الخ).

بالعودة إلى تجربة جمعية السياسة الخارجية الامريكية المذكورة أعلاه، التي كانت غايتها شد اهتمام المواطن العادي إلى مشاركة في القرارات الحاسمة عن طريق توعيته بالشأن العام، والتي فشلت في تحقيقها، يمكننا طرح  بعض التساؤلات حول هاتين النقطتين؛ الغاية والفشل:

  • ما مدى معقولية الطلب من كل المواطنين أن يهتموا بالشؤون السياسية، بعبارة أخرى، هل يتوجب على مختلف شرائح المجتمع (أطباء، مهندسين، عمال ، مزارعين، أساتذة مدارس وجامعات، حرفيين…..الخ) إهمال وظائفهم وابحاثهم العلمية وحياتها الأسرية والتفرّغ لقراءة التحاليل السياسية والأبحاث والدراسة المتعلقة بالنزاعات والصراعات في مختلف بقاع العالم ( إذ أن المشاركة في القرارات الحاسمة التي تتخذها دولته تتطلب منه اطلاعاً واسعاً بالمسألة المعنية)؟
  • ثم هل من المعقول والممكن، على فرض نجاح هذا المسعى، أن تطرح الحكومة (وزارة الخارجية) كل موقف تود اتخاذه من أي صراع دولي على الاستفتاء أو الانتخاب الشعبي؟ أليس لإجراء كهذا، الذي يستحيل تطبيقه، أن يعطل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الدولة ويكّلف ميزانية الدولة أمولاً طائلة؟!

كل تعارض بين أي فكرة منطقية والحالة الواقعية تحلّه العقلانية التي تقوم بدور المصالحة بين الأولى والثانية؛ إذ ليس هناك نظام مثالي ( ولا يمكن تحقيقه، إذ أن اليوتوبيا مصيرها الديستوبيا والتجارب ليست بعيدة)، بل هناك دولة معقولة تحترم شعبها وتهابه مع كل خطوة تتخذها؛ فهناك في هذه الدولة برلمان مؤتمن من قبل الشعب يراقب الحكومة، وهناك صحافة حرة لا تتوانى عن نشر أو فضح أي خطأ ترتكبه الحكومة!   

في هذا السياق، سياق السياسات الخارجية وحقوق الانسان والديمقراطية، نعود إلى صديقنا عالم الذرة السوفيتي أندريه زاخاروف  الذي ورد ذكره في المقدمة، فقد كانت له مواقف إنسانية مشرفة من كل هذه المسائل؛ فبعد إجراء اختبار تجربة القنبلة الهيدروجينية عارض سياسة سباق  التسلح فقامت القيادة السوفيتية بفصله من عمله وتعرّض إلى مضايقات وترهيب من جهاز الاستخبارات الـكي جي بي، كما أنه انتقد اقتحام دبابات حلف وارسو لربيع براغ 1968 وعارض غزو  الاتحاد السوفيتي لأفغانستان 1980 فتم نفيه  إلى سيبيريا ولم يعد إلى الحياة الطبيعية إلا مع إطلاق برنامج الإصلاح السياسي والاقتصادي البيريسترويكا (إعادة الهيكلة) والغلاسنوست (الشفافية)، حيث أعاده ميخائيل غورباتشوف إلى موسكو ليعود إلى نشاطه السابق ويترأس كتلة برلمانية معارضة ضمن مجلس ممثلي الشعب الذي كان أول تجليات برنامج الإصلاحات.

شارك هذا المقال: