المفارقة وثيمة التّحوُّل في قصة “الجقل” لمالك صقور

شارك هذا المقال:

أحمد عزيز الحسين

      بدأت قصّة (الجقل ) لـ “مالك صقّور” باستهلالٍ سرديٍّ بارع يرشح بما يتبوّؤه (أبو العزّ) من أهميّة استثنائيّة في المجتمع التّخيُّليّ الذي تشكِّله القصة، ويشِي هذا الاستهلال بأنّه الصّوت السّرديّ المُجلجِل الذي يطغى على باقي الأصوات السّرديّة قي المتن الحكائيّ، ويُحفِّز الحلقات السّرديّة على  الاندياح والإشعاع، وقد انتهت القصّة بخفوت صوته، وخروجه مهزوماً من المتن الحكائيّ مسلِّما رايته لـ(الرّاوي المشارك) بعد أن باء بغضب الله، وطُرِد من رحمته، واستحقَّ أن يُمسَخ إلى (جَقَل ) جرّاء ارتكابه عدداً من المعاصي والانتهاكات التي أخرجته من (فضاء الدّنيا الشّاسع) إلى (عالم الآخرة الضّيّق ) خاسراً ما جنتْه يداهُ من أموال طائلة وأطيان وقصور وشهرة مدوّية.

       وقد تمّ الانتقال بسلاسة من صيغة الرّواي العليم إلى صيغة الرّاوي المشارِك، وتقديم رؤيتين سرديّتين مُتغايِرتين للحدث نفسه، وفي حين أكّد الرّاوي العليم أنّ إصابة (أبي العزّ) بجلطة وغيبوبة تركتْ صدىً واسعاً وأثراً كبيراً في المحضَن الاجتماعيّ الذي ينتمي إليه، عمَد (الرّواي المشارِك) إلى التّقليل من شأنها مؤكِّداً أنّ الأثر الكبير الذي أحدثتْه راجعٌ إلى (موت الضّمير) في هذا المحضَن، وإلى استفحال الفساد، وغياب القدرة على المحاسَبة، وغضّ النّظر عن منتهِكي القانون، وقد كانت الحلقات السّرديّة التي تلتْ ذلك برهاناً سردياًّ على صحّة هذا الحكم؛ فــ(أبو العزّ) ليس سوى موظَّف كبير أفاد من تعفُّن المحضَن الاجتماعيّ من حوله، وانتهز تراخيَ سلطة القيم والقانون، وأثرى ثراءً فاحشاً مُستغِلًّا كلّ الثّغرات ومناحي الضّعف الموجودة في هذا المحضن، ولذلك ترك الإعلانُ عن موته المفاجِئ صدى كبيراً في البنية الاجتماعيّة من حوله، وقد كان من الطّبيعيّ أن يتسنّم (أبو العزّ) سُدّة السُّلّم الاجتماعيّ، لأنّه كان يتبنّى مجموعة من الشّعارات الخُلبيّة التي تؤكِّد قدرته على التّلوُّن والصُّعود والتّكويع والالتفاف على القيم والمبادئ، ولذلك بنى الكاتب شخصيّته على المفارَقة، لأنّها تحقّق ما قاله أفلاطون في كتابه (الجمهوريّة) على لسان سقراط  من أنّ المفارَقة “طريقة ناعمة هادئة في خداع الآخرين“، كما تنهض على ادّعائه ما ليس له، وتهجو تظاهرَه بالفضيلة وتمسّكَه بأهداب الدّين وميلَه إلى استعمال الّلغة بشكل مخادع؛ بحيث تغدو الّلغةُ لديه صيغةً بلاغيّةً مُفرَغةً من دلالتها، يقول المرءُ فيها عكس ما يعني، أو يقول شيئاً، وهو يعني سواه؛ ولهذا تتّسم شخصيّته بالمفارَقة بين منطوقها اللّغويّ وسلوكها العمليّ؛ وتبدو ادّعاءاتها متنافرةً مع السّياق الحياتيّ الّذي تتحرّك فيه.

  ومع أنّ صوت (أبي العز) يبدو مُهيمِناً على الحيّز الاجتماعيّ الذي تُوهِم به القصّة، وصوت الرّاوي المشارك يبدو خافِتاً ولا أثرَ له في هذا الفضاء؛ إلا أنّ الصراع بين الصّوتين بقي قائماً في المتن الحكائيّ، وظلّ كلاهما يسعى  إلى احتلال هذا الفضاء والهيمنة عليه بوصفه الصّوتَ الأوحد الجدير بالتّسيُّد والهيمنة. وظلّ الأمر على ما هو عليه إلى أن أصِيب (أبو العزّ) بنوبة قلبيّة، ووقع في غيبوبة، وعندئذ عاد التّوازُن بين الصّوتين إلى المتن الحكائيّ، وأصبح (أبو العزّ) في أمسّ الحاجة إلى الاستعانة بالرّاوي المشارِك للخلاص من أزمته القلبيّة العارضة، وانتهت القصّة بغيابه عن الفضاء الاجتماعيّ العامّ، وتحوُّله إلى (جقل)، وانتصار الرّاوي المشارك عليه بشكل مؤقَّت.

    لقد نُحِّي (أبوالعـزّ) من حيّز البنية الاجتماعيّة بوصفه شخصاً، ولكنّه بقي فيها بوصفه رمزاً ونموذجاً، ولمّحت القصّة إلى أنّه من الممكن أن يظهر فيها من جديد إذا لم تتغيّر الظّروف الموضوعيّة التي ساعدته على الظهور أوّل مرة، وإذا لم يستطع (الرّاوي المشارِك) أن يكون أكثر قدرةً على الفاعليّة والتّأثير في هذه البنية، ويتخلّص من حالة الانزواء والتّقوقُع التي رضي بأن يؤول إليها.

      إنّ القصّة تُتابِع صعودَ (شخصٍ مغمورٍ) من القاع الاجتماعيّ وصولا إلى سُدّة الهرَم، وتُلاحِق مسوِّغات تحوُّله إلى غول ووحش كاسر ومهيمِن، وهي تؤكِّد بقاءه حتّى بعد الموت مُتّخِذاً هيئة حيوانٍ عُرِف بقدرته على التّلوّن والتّخلُّص من المآزق الصّعبة، في إشارة دالّة إلى أنّ موته الجسديّ المؤقّت لم يكن إيذاناً بتعطيل إمكانيّته على البقاء، بل كان تأكيداً على قدرته على الاستمرار في تربة خصبة وظروف موضوعيّة مهيّأة لذلك.

           لقد توازى (موتُ الضّمير) في البنية الاجتماعيّة التي تُوهِم بها القصّة مع صعود شريحة (أبي العزّ) إلى سُدَّة الهرم، ومع أنّ (أبا العزّ) أدرك أنّه مات، أو تخيّل ذلك، إلّا أنّه لم يتخلَّ عن سمات شخصيّته الحقيقيّة التي استطاع بموجبها تحقيق النّجاح والثّراء والشّهرة، لقد تخفّف من ثقل جسده بعد الموت العارض الذي تعرّض له، لكنّ جسده بقي الوعاءَ الذي يحتضن روحَه، وما إنْ أتيح لروحه العودة إلى جسده المتلاشِي، حتّى تمّتِ المصالحةُ بين الجسد المتهالِك الذي آذَن بموته والرّوح التي بقيتْ قلقةً وعصيّةً على الموت البيولوجيّ الذي هدّدها بالفناء والتّلاشي.

      وقد انطلق المبنى الحكائيُّ الذي شيّده الكاتب لشخصيّة (أبي العزّ) من منظور ذكوريّ أعلن تسيُّده كذكر وبطرك على الحيّز الاجتماعيّ الذي يتحرّك فيه، وأتاح له أن يلِغَ في أجساد النّساء ويستبيحَ حرماتِهنّ، وينشر مواليده غير الشّرعيّين أنّى حلّ وأقام، بوصفه رمزاً لهيمنة البنية البطركيّة، وتسيُّد الذّكر البطرك على المرأة المُستعبَدة والذّكر المقموع معاً.

        وقد حاول (أبوالعزّ) تبرئة نفسه من ارتكاب الخطأ بلغة دينيّة، واعترف بأنّه (آثِمٌ) بدلا من أن يعترف بأنّه (انتهك) القانونَ بتقصُّدٍ ووعيٍ. وقد حاكم الصّوتُ السّرديُّ الخارجيُّ (أبا العزّ) على انتهاكه للقانون الوضعيّ وخروجه على منظومة القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة باسم (الدّين)، وحكَم عليه بالكفر، أي أنّ القصّة اتّكأتْ في محاكمتها لأبي العزّ على الشّريعة الإسلاميّة، وعدّتْه (كافراً) بدلا من أن تحتكم إلى القانون الوضعيّ والمدنيّ في محاكمته ومقاضاته، و(أبو العزّ) لم يخطئ؛ لأنّه حاد عن الدّين، وكفر به وحسب بل أخطأ لأنّه تجاوز القانون الوضعيّ، وانتهك منظومة القيم الأخلاقيّة، وتعدّى على حقوق النّاس، وسطا على المال العامّ، وارتكب ما ينهى عنه القانونُ الوضعيّ لا ما ينهى عنه الدّينُ وحسب،  وقد حاول الالتفاف على (الحكم الدّينيّ) الذي وُصِم به مُستعمِلا المفاهيمَ الدّينيّة نفسها، واللّغة الدّينيّة نفسها، وعدّ نفسه مخطِئاّ لا لانتهاكه القانون، وتجاوزه للأعراف والتّقاليد وتعدِّيه على الحقّ العامّ، بل لأنّه قدّم الدّنيا الفانية على الآخرة الباقية، ولم يُولِ الآخرةَ والشّعائرَ الدّينيّة ما تستحقّه من اهتمام.

      ولقد آثر (أبو العـزّ) وهو يتحوّل إلى حيوان، ويُمسَخ إلى (جقل) أن يبقى محتفظاً بجوهره الذي كان له قبل الموت، في إشارة دالّة إلى استمراره كظاهرة في بنية اجتماعيّة وسياسيّة لم يطرأ عليها أيُّ تغيير بعد موته، لقد اختفى من البنية الاجتماعيّة بوصفه شخصاً، ولكنّه بقي فيها بوصفه رمزاً ونموذجاً.

        ومالك صقور في تأكيده على ما أصاب (أبا العــزّ) من تحوّل، وفي إشارته إلى الصّورة الجديدة التي اتّخذها يؤكِّد أنّ أمثال (أبي العــزّ) باقون في حياتنا، وأنّهم نتاجٌ لظروف موضوعيّة وسياق مكانيّ وزمانيّ محدَّد، وسيكون من الطّبيعيّ أن يستمرّوا في الظّهور ما بقي السّياقُ محتفظاً بالسّمات نفسها التي تسمح لأمثالهم بالانبثاق والتّسيُّد في محضَنِها الاجتماعيّ بشكل دائم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقــد ســوريّ

شارك هذا المقال: