ذكرى الضحايا والتضحية!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

في كل سنة يتم استذكار الضحايا وعذاباتهم، وفي مثل هذه المناسبات لا بُدَّ من استذكار الأبطال الذين عملوا المستحيل في سبيل إنقاذ هؤلاء المستضعفين، من خلال تصديهم للظالمين معرضين حياتهم وحياة عائلاتهم لأشدِّ المخاطر!

صحيح أنه في كل المذابح والحروب والمآسي الإنسانية هناك دائماً أناس خيرين وقفوا مع “الآخرين” ضد الظالمين حتى لو كانوا من نفس “عرقهم”، لكن التضحيات التي شهدتها الأحداث المأساوية المروعة التي وقعت في عام 1915 يجب ألا تُنسى؛ فهي أفعال فريدة تفوق على الضمير والأخلاق الإنسانية.

كيف لا وهم يتحدون فرماناً صادراً عن قائد الجيش العثماني الثالث محمود كامل باشا:” المسلم الذي يحمي أرمنياً سوف يقُتل أمام منزله ويُحرق بيته…..”

كيف لا وهم يتجرؤون على إيواء وإنقاذ من تم وصمهم من قبل الباب العالي بـ “الخونة” و “المتآمرين مع الأعداء” (لكي لا نفسد الاحتفاء بهؤلاء الابطال، سأعود إلى هذا الموضوع الشائك في نهاية المقال). 

ثمة ظروف كثيرة تقف وراء ندرة المعلومات عن هوية هؤلاء الصالحين وأعدادهم وأفعالهم؛ أهمها الحذر والسرية والخوف من انكشاف الأمر من قبل المسؤولين عن تنفيذ الأوامر والفرمانات. لكن لحسن الحظ هناك الكثير من الناجين الذين، بعد وصولهم إلى بر الأمان، لم ينسوا أولئك الذين كانوا السبب في بقائهم أحياء هم وعائلاتهم فكتبوا مذكراتهم عرفاناً بالجميل ووفاءً لذكرى أخوتهم في الإنسانية الذين وقفوا معهم في أحلك لحظات التاريخ!

ولكي لا يبقى هؤلاء “المجهولون” مجهولين، يتوجب التذكير دائماً بهوية هؤلاء وتضحياتهم عند الحديث عن ضحايا المذابح والحروب والمظالم الإنسانية، فالقيام بذلك يخدم هدفين نبيلين: التعبير عن الوفاء أولاً، وتخليد ذكراهم كمثال تقتدي به الأجيال في كل مكان وزمان!

صحيح أنه لا يمكن لأحد أن يّبسط التاريخ وينكر حقيقة كونه مليء بالمظالم والفواجع والمآسي، لكن يمكننا دائماً قراءته عبر عدسة الأعمال الإنسانية وتضحيات الخيّرين في زمن الشرور الكبرى، إذ إننا بذلك نتغلب على عجزنا بتغييره وبنفس الوقت نفوّت على الآخرين فرصة استغلال عواطفنا لخدمة أجنداتهم السياسية وبالتالي زرع الأحقاد والكراهية بدل البحث عن حلول وعلاجات وضمادات.

هذه القراءة المختلفة ضرورية أيضاً لأن فيها إنصافٌ للخيرين والصالحين الذين بأعمالهم الإنسانية والبطولية يطهرون أرواحنا من الكراهية والانتقام، وهي تجنبنا الانزلاق إلى حكم عام ومطلق لا يصب إلا في مصلحة المذنبين؛ ففي التعميم تبرئة للمذنب الحقيقي!

لكن للأسف الشديد لا يتسع المجال لذكر كل هؤلاء، فهم كُثر ومن مختلف الأصول، ويبقى ذكر الموقف الإنساني لبعض رعايا الدولة العثمانية (أتراك، كُرد، عرب……الخ) وخاصة الذين كانوا في مواقع السلطة وتلقوا أوامر التهجير والقتل، امراً يستحق تقديراً خاصاً، إذ إن مجرد التهرب من تنفيذ الأوامر أو التقاعس في تنفيذها أو إظهار أي شكل من أشكال التعاطف مع الضحايا يعني الموت المحقق لصاحبه وأهله!

في كل مرة نستذكر الضحايا ومعاناتهم، يجب ألا ننسى االتضحيات وأصحابها الذين ساروا وراء إنسانيتهم غير آبهين بالعواقب والمخاطر؛ حيث يدين معظم الشتات الأرمني، الذي يفوق تعداده اليوم عدد سكان دولة أرمينيا، بنجاتهم إلى الكثيرين من أمثال:

خيري باي وعائلته

ساعد خيري باي، الذي شغل منصب مدير السكك الحديدية في ولاية حلب في فترة الحرب العالمية الأولى، بمعونة عائلته (والدته وزوجته وزوجة أخيه وأقرباء آخرين) الكثير من النساء والفتيات الارمنيات على الهروب إلى إسطنبول وبالتالي النجاة من التهجير والموت في صحراء دير الزور!

فائق علي باي

رفض فائق علي باي (الذي كان يفضّل لقب الشاعر) والي كوتاهيا في عام 1915 تهجير أرمن ولايته، وكذلك الأرمن الذين التجؤوا إليها من ولايات أخرى. مع ذلك يقول فائق علي بتواضع: ” لا يجب أن يدين أرمن كوتاهيا بخلاصهم لشخص بحد ذاته بل للخيّرين من أبناء كوتاهيا الذين عارضوا بشدة تهجير الأرمن”.

حسين نظمي

عندما لاحظ حسين نظمي، الذي كان قائمقام منطقة ليجه في ولاية ديار بكر، بأن الترحيل لا يشمل فقط هؤلاء الذين يُشك في ولائهم للدولة العثمانية بل كل الأرمن، حاول حماية ما أمكنه من الأرمن وذلك بتأخير انطلاق القوافل، كما استطاع اقناع الرجال في مدينة ليجه للزواج من النساء الأرمنيات بشكل صوري لتقديمهن على أنهن مسلمات وبالتالي انقاذهن من التهجير والموت!

لكن جمعية الاتحاد والترقي نصبت له كميناً واغتالته بالقرب من قرية كاراز ( منطقة ليجه ).

علي ثابت الصفدي

شغل هذا الشاب منصب قائمقام منطقة بشيري (ولاية ديار بكر) في عام 1915 ، وبسبب رفضه للمشاركة في تهجير الأرمن تم اغتياله من قبل العصابات التي كانت تستخدمها جمعية الاتحاد والترقي. 

ولاية أزمير وطباع دادا

يذكر الأرشيف الفرنسي بأن توفيق باي والي منيسا قد تمكن من أنفاذ الكثير من الأرمن، كما تمكن نوري باي قائد شرطة منطقة آيدين من منع التهجير، أما طباع دادا فقد قال كلمته المشهورة في حماية جيرانه الأرمن:” من يريد أن يؤذي هؤلاء الناس عليه أولاً أن يدهس على جثتي”!

جميل كنّه

تمكن جميل كنّه (مدير حوض بناء السفن في منطقة الفرات) من إنقاذ الكثير من الأرمن المهجرين من عنتاب وذلك بتسجيلهم كعمال وفنيين في الحوض.

ولاية سيفاس

كان سكان هذه الولاية هم الأكثر رفضاً لترحيل الأرمن وقتلهم في عام 1915، ولم ينحصر ذلك فقط في إيواء الأرمن وإطعامهم بل في بعض الأوقات تجرؤوا على الوقوف في وجه قوات الدولة الرسمية وغير الرسمية  من أجل الاستمرار في حمايتهم ( الأرمن).

ولاية أنقرة

عند الحديث عن أحداث أنقرة في عام 1915 يقفز إلى الواجهة اسم علي مظهر باي والي أنقرة صاحب مقولة ” أنا والٍ ولست قاطع طريق” رافضاً أوامر جمعية الاتحاد والترقي في تهجير الأرمن وتعريضهم للموت .

جمال باي وسليم باي

شغل الأول منصب والي منطقة يوز غات والثاني رئيس شعبة التجنيد، اللذان تم عزلهما نتيجة لرفضهما الأوامر ومحاولتهما حماية الأرمن؛ فقد وضعا الضمير وليس المنصب أساساً لموقفهما.

سيد علي ورؤوساء عشائر من ديرسيم

قام هذا الأغا بإعلام الأرمن المختبئين في الجبال الأربعة المحيطة بمدينة ديرسم، بأنه سمع أخاه مملي آغا قد وعد الحكومة بالبحث عن الأرمن وتسليمهم إلى مسؤولي الاتحاد والترقي. فأخذهم إلى قرية زاروك وقدم لهم الطعام والمأوى ومن ثم نقلهم إلى منطقة كوزان حيث تمت معالجة المصابين من قبل عشيرة محيو آغا الذين استقبلوهم بكل حفاوة.

طاهر بيه

يدين بعض الأرمن الذين نجوا في ولاية فان  ( وان ) ببقائهم على قيد الحياة إلى هذا الرجل الذي رفض أوامر قتل الأرمن أو تسليمهم لمسؤولي جمعية الاتحاد والترقي في منطقته، ونتيجة لموقفه هذا تم تسميمه من قبل مرتزقة الاتحاد والترقي وحرقوا منزل عائلته.

القائمة طويلة والمكان لا يتسع لكن لابد من ذكر جلال بيه والي حلب ومن ثم والي قونية، الذي أصبح مثال المسؤول الذي رفض أوامر جمعية الاتحاد والترقي وأنقذ حياة الآلاف ….لتبق ذكراك وذكرى أمثالك خالدة!

أعتقد أن هذه المواقف هي خير دليل على زيف ذريعتي الخيانة والتآمر مع الأعداء اللتين بنيت عليهما الرواية التركية، لكن مع ذلك ثمة سؤالان من شأن الإجابة عليهما أو التفكير فيهما أن يلقي بعض الضوء على هذه المسألة:

بالأخذ بعين الاعتبار أن الحدود الشرقية للدولة العثمانية كانت هي جبهة القتال مع روسيا أثناء الحرب العالمية الأولى، وعلى فرض أن التعاون الأرمني المضخَّم والمزعوم هو حقيقة، لماذا إذاً تم تهجير الأرمن الذين كانوا يعيشون في مناطق بعيدة عن جبهات القتال، كأنقرة وإسطنبول وإزمير وأضنة…إلخ؟ إذا كانت الخشية تكمن في تعاون الشباب الأرمن مع الروس لماذا تم تهجير الأطفال والنساء والشيوخ؟

الأمر الآخر هو: كلنا يعلم بأنه في ذلك الوقت ( وقت المذابح)  قامت الثورة العربية الكبرى 1916 حيث تعاون الشريف حسين مع الإمبراطورية البريطانية ضد الدولة العثمانية من أجل الحصول على الاستقلال. عُرف ذلك التعاون بمراسلات حسين – مكماهون.

فهل من المنطقي والمعقول قبول ذرائع الحكومات التركية فيما لو قامت حكومة جمعية الاتحاد والترقي حينها بتهجير العرب واجتثاثهم بذريعة أنهم خونة وتعاونوا مع عدوهم وطعنوهم من الخلف؟

ولأنني أعلم جيداً بأن السبب وراء اقتناع نسبة لا بأس بها من قراء العربية بهاتين الذريعتين، هو افتقار المكتبات العربية إلى أبحاث ودراسات حول هذه المسألة، أتشرف بإهداء الراغبين و المهتمين نسخ من كتاب : الفعل المشين ..الإبادة  الأرمنية ومسألة المسؤولية التركية ، وكتاب أوامر القتل…… برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية للبروفيسور التركي تنار أكجام الذي كان لي شرف ترجمتهما.

فمن يرغب بالحصول على الكتابين المذكورين مراسلتي على هذا البريد  

Kivork1973@gmail.com

شارك هذا المقال: