ومضات من أفكار عثمان صبري

شارك هذا المقال:

روخاش زيفار

ترجمة: ماجد ع  محمد

إذا ما نظرنا بدقة عقلٍ مقارن إلى التاريخ الكردي القديم والحديث، لوجدنا من بين الكتاب الكرد الذين رفعوا مشعل الحرية لينيروا درب شعبهم، أن الأديب الراحل عثمان صبري لم يكن سياسياً ومناضلاً جسوراً وأديباً باسلاً فحسب، إنما كان  إلى جانب ذلك مفكراً مستقلاً وحراً أيضاً، وحقيقةً هم قلة قليلة جداً أولئك الذين كتبوا مثله بجرأة في مجال الفكر في تلك المرحلة.

خاصةً عندما نرى الكثير منا، هذا ، إن  لم نقل أن الجميع كانوا حينذاك ينهلون أفكارهم من حقول الآخرين كما هي من دون أيّ تساؤلٍ أو شكوك في الذي يأخذونه، وفي الوقت الذي كان الحاذق فينا يحارب مفهوم عبادة الأشخاص وقتها، نعم وقتها، أي في ذلك الزمن التعيس والمظلم، فلم يحارب عثمان صبري مفهوم عبادة الأشخاص فحسب، إنما كان الراحل متقدماً على الكثير من مجايليه وبلا تردُّد كان يحارب عبادة الأفكار أيضاً، وكان يقول: “صحيح أنه مع خروج المحتل من بلادنا، سيستقل الوطن، ولكن الكرد لن يُصبحوا أحراراً، لأن حرية شعب ما لن تتم إلاَّ بالتحرر من الأفكار الغريبة”.

وهو دليلٌ على أن عثمان صبري كان يرى بأنه ليس أمراً صحياً بأن يجافي المرء ما ينتجه الآخرون في مختلف فروع المعرفة بل على المرء أن يستفيد من حدائق الأفكار العالمية، إنما كان يشدِّد على ضرورة ألاَّ يغدو المرء أسيراً لتلك الأفكار، وألا يضيع مع عبير ورود تلك الحدائق فيصل لمرحلة الثمالة، وذلك لكي لا يفقد خصوصيته الثقافية ومشاعره القومية، إنما عليه أن يروِّض تلك الأفكار لتناسب تربة عقله، ويستخدمها في مصلحة شعبه، لذا كان يلاحظ بأن أغلب الكرد الذين يصبحون شيوعيين كانوا ينقطعون عن روح الشعب وعن تاريخ أمتهم، لذلك كان يقول لهم: “صيروا شيوعيين، شيوعيون كرد، وكردٌ شيوعيون”.

وهكذا نستطيع القول إن عثمان صبري كان يرى بأن الأفكار مثل الأقمشة، فكل شخص يقدر حسب مقاسه الشخصي أن يُخيِّط ذلك القماش، ويلبس عندئذٍ ذلك الثوب المفصل من ذلك القماش المستورد ويستفيد منه، ولكن للأسف فإن الكثير من الكرد لم يستفيدوا كما الآخرين من تلك الأقمشة، إنما وبدلاً من أن يستفيدوا من تلك الأفكار ويقوموا باستغلالها لصالح ملتهم راحوا يفقدون ذواتهم معها، ويصبحون كالمهرجين مع تلك الأقمشة أو الأفكار الفضفاضة التي لا تناسب طبيعتهم الشخصية والجسمانية، ولا هي متلائمة مع طبيعة مجتمعهم، بل وبدلاً من استغلالها والاستفادة منها راحوا يضعون تلك الأفكار المستوردة فوق رؤوسهم ويصلون بها إلى حد العبادة والتقديس، وبدلاً من استثمارها كنتَ تراهم عراة فلا يحمون بها أجسادهم من حر الصيف أو زمهرير الشتاء.

حقيقةً كان عثمان صبري ناقداً فذاً في كل مجالٍ يتطرق إليه، وكان في أي محورٍ يبحث فيه تراه ممتلكاً رؤيته الخاصة، وها هو في الإطار الديني أيضاً يوضح أفكاره وتصوراته، ويرى بأن المرء إن لم يكن حراً ومستقلاً لا يستطيع بأريحية وإباء أن يعبِّر عن معتقده الديني أيضاً، بما معناه أن طريق الجنة يمر من حرية المرء واستقلال وطنه.

لذلك عندما كان في مدينة دمشق وصادف مجموعة من كرد شمال كردستان وفهم منهم آنئذٍ بأنهم ذاهبون لأداء فريضة الحج، وبلا أي تردُّد راح يقول لهم: ” في الوقت الذي نصبح فيه أحراراً وقتها سنقدر أن نؤدي تلك الفريضة بقلبٍ مبتهج، وبوجهٍ أبيضٍ صبوح نقصد الحجاز من أجل زيارة بيت الله”. فبتلك الطريقة النقدية وبعد مجادلاتٍ صعبة وطويلة معهم يستطيع عثمان صبري حينها إقناع الكثير منهم بالعودة الى الوطن، ليس ذلك فحسب وإنما ودفعهم أيضاً إلى العمل في طريق الحرية.

كما كان عثمان صبري يدرك بأن منبع عللنا هو الجهل، ولكن في ذات الوقت كان يعرف جيداً بأن المعرفة لوحدها لا تعالج وتشفي أمراضنا، وكان يدرك كيف يربط المعرفة بالإيمان والأخلاق، وفي هذا الخصوص كان يقول: مهما كانت المعرفة شيئاً قيِّماً ولكن بدون الإيمان والأخلاق تصبح تلك المعرفة سُّماً، وتسهّل طرق المثالب أمام صاحبها ” .

وهو لم يكن يكتفِ بقول ذلك إنما كان يقول ويفعل الذي يقوله على أرض الواقع، كما كان صلب المراس وصاحب موقف في الظروف القاهرة، وما من مرةٍ صغَّر ذاته في أعين أعدائه في المعتقلات، خاصةً عندما كانوا في السجن يريدون انتزاع الأقوال منه بالغصب والإكراه، وذلك لكي يقوموا باصطياد رفاقه بناءً على تلك الاعترافات، وكان بكل وضوح وإباء يرد على الجلادين: أنا عضو في اللجنة المركزية للحزب، وأعرف كل شيء يخص الحزب، ولكني لن أخبركم بأيّ شيء، وكان يمسك نفسه ولا يقر بشيء تحت الضغطِ وكل صنوف الضرب والتعذيب، فيقفل فاهه عن أي كلمة ستضر بأحدٍ من رفاق دربه، ولم يكن يعطي اسم أيَّ شخص من رفاقه لأعداء شعبه.

وكان المناضل الراحل بلا رحمةٍ يهاجم التقصير والجبن لدى رفاقه، وكان بتلك الطريقة يود أن يبث خصلة الحماس ومحاربة التقاعس في المجتمع بشكلٍ عام ويقول: “صفعة للمستبد وصفعتان لمن كان خانعاً أمام المستبد” منوهاً إلى أن المقاومة في معتقلات المحتلين من أنواع البطولة، ولكن على المرء بدون أسباب ودواعي المقاومة أيضاً أن لا يسلم نفسه بسهولة للأعداء.

لذلك عندما كان العم عثمان صبري يسمع أو يرى بأن المناضلين الكرد يسلمون أنفسهم للعدو بيسر كان يقول: “من الضروري ألا يسلم المناضلون الكرد رقابهم للأعداء بتلك السهولة، وبدلاً من موتهم في السجون من الأفضل لهم ولأمتهم بقاءهم على رؤوس الجبال بين صخور بلادهم وهم يقاتلون أعداءهم ومن ثم يُقتلون في سبيل ما يناضلون من أجله”.  

وكان عثمان صبري يعرف أيضاً دور اللغة الكبير في حياة الشعوب، وظل يحاول قدر المستطاع إبعاد الكلمات الغريبة من مقالاته وقصائده المكتوبة باللغة الكردية، ولحرصه على موضوع اللغة وأهميتها غيّر حتى اسم ابنه الذي كان وقتها في عامه الثامن إلى اللغة الكردية، وقال في هذا الإطار: “إن الذي ينقذنا اليوم من التلاشي والضياع هو تعلُّم القراءة والكتابة بلغتنا الجميلة والجليلة”.

وفي المجال الفلسفي أيضاً لم يكتفِ فقط بنهل ونقل أفكار فلاسفة العالم إلى لغة ملته، ولا اكتفى بحفظ خميرة ذكرياتهم ودراساتهم في ذهنه، بل كانت له أيضاً فلسفته الخاصة في الأخذ والعطاء، وعلى سبيل المثال سأله أحد المستشرقين الأوروبيين ذات يوم: عثمان هل أنت كردي أم مسلم؟”. 

فكان رده الحازم له: أنا إنسان، بعدها أنا كردي ومن ثم فأنا مسلم.

والمستشرق استفسر آنئذٍ كيف؟

فكان جوابه: عندما ولدتني أمي لم أكن أعرف شيئاً، ومشاعري كانت إنسانية صرفة، لذا كنتُ وقتها إنساناً فحسب، بعدها تعلمت اللغة الكردية، وعرفت نفسي إنساناً كردياً، وبعدها تحدثوا لي عن وجود الله، وبأن محمداً رسول الله، وبناءً على ما تعلمته وتلقفته من محيطي الاجتماعي واُسرتي آمنت به وصرتُ مسلماً”.

فقال المستشرق: هذا ليس صحيحاً، فبالنسبة لي لقد ولدتُ من أمي وأنا مسيحي.

فرد عليه وقتها عثمان صبري بجوابٍ محكمٍ وقيِّم قائلاً له:

لنفترض بأن أمير الموتِ اختطف روح والدكَ وأنتَ في بطن أمك، فراحت والدتك بعدها وتزوجت من شخصٍ بوذي (هندي) وانتقلت والدتك معه إلى الهند، وبعد ذلك بمدة زمنية غادرت والدتك هذه الدنيا، وقام ذلك الشخص الذي تزوّج من والدتك بأخذك إلى معبد البوذيين، فهل يا ترى وقتها ستكون مسيحياً أم بوذياً؟

وفي ختام هذه الوقفة الخاصة بومضات الراحل عثمان صبري أقول حقيقةً ياعم عثمان لم تكن استاذي لوحدي فحسب، إنما كنتَ أستاذ الأساتذة أيضاً، فتعالوا إذاً يا جميع تلاميذ الراحل أن ننمي شجرة أفكارناً معاً، ونرفع صوتنا عالياً من أجل عدالة الأفكار الوطنية للعم عثمان ولكل الذين كانوا في حكمه، وذلك لئلاً يقولوا لنا مع العم عثمان في قبره: “إن الشعوب الحية تقوم بإحياء رجالاتها الأموات، والشعوب المتخلفة تدفن رجالاتها الأقوياء والقيمين وهم أحياء”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر :

1ـ   Derdên Me, rûpel4

2ـ   Apo, rûpel 102

3ـ   Derdên Me, rûpel 12

4ـ   Derdên Me, rûpel 3

5ـ   Elifbêya Tikûz, rûpel 18

6ـ   Çar Leheng, rûpel 11

7ـ   Derdên Me, rûpel  8

8ـ   Eifbêya Tikûz, rûpel 17

ملاحظة: المصادر المذكورة بمجملها من كتب الشاعر الراحل عثمان صبري.

شارك هذا المقال: