لم تكن مجرد كراهية…قدمت الفاشية رعاية اجتماعية متينة!

شارك هذا المقال:

Professor: Sheri Berman

ترجمة:  كيڤورك خاتون وانيس

ثمة مقارنة تطارد الولايات المتحدة ألا وهي مضاهاة الفاشية.  من المستحيل تقريباً (عدا بعض الفصائل من جناح اليمين نفسه) فهم اليمين المنبعث من دون سماع وصفه أو مقارنته بفاشية ما بين الحربين العالميتين.  فهذا اليمين، مثل الفاشية، غير عقلاني ومنغلق وعنيف وعنصري؛  هذا هو وجه الشبه ، وثمة حقيقة في ذلك.  لكن الفاشية لم تصبح قوية بمجرد مناشدة دهاليز الغرائز لدى المواطنين، بل تبنّت الفاشية أيضاً وبشكل حاسم الاحتياجات الاجتماعية والنفسية للمواطنين لحمايتهم من ويلات الرأسمالية في زمن لم تقدم  فيه الجهات السياسية الفاعلة الأُخرى سوى القليل من المساعدة.

إن أصول الفاشية تكمن في الوعد بحماية الناس. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أدى اندفاع العولمة إلى تدمير المجتمعات والمهن والقواعد والمعايير الثقافية عبر خلق  موجة من الهجرة.  فنشأت الحركات القومية اليمينية التي وعدت بحماية الناس من التأثير الضار للغرباء والأسواق، واستجابت لها الفئات المرعوبة والمرتبكة والنازحة. أدت الحركات الفاشية المبكرة تلك إلى تعطيل الحياة السياسية في بعض البلدان، لكنها تغلغلت وانتشرت بشكل هادئ نسبياً حتى الحرب العالمية الثانية.

كانت الحرب العالمية الأولى قد دمرّت أوروبا، حيث أدت إلى مقتل 16 مليون شخص، وتشويه 20 مليون آخرين، وسحقت الاقتصاد ونثرت بذور الاضطرابات.  ففي إيطاليا، على سبيل المثال، شهدت فترة ما بعد الحرب ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، فضلاً عن الإضرابات واحتلال المصانع ومصادرة الأراضي وغير ذلك من أشكال الاضطرابات الاجتماعية والعنف. فشلت الحكومات الإيطالية الليبرالية في فترة ما بعد الحرب في معالجة هذه المشاكل بشكل مناسب. كما تخلت عنهم المؤسسات الليبرالية المنتخبة ــ رجال الأعمال، وملاك الأراضي، وأفراد الطبقة المتوسطة.  ولم يقدم أكبر حزبين معارضين في البلاد ــ الحزب الاشتراكي PSI  والحزب الكاثوليكيPPI  ــ سوى القليل من العلاج الفعّال لهذه المشاكل الاجتماعية الأساسية.

تدخّل بنيتو موسوليني وحزبه الوطني الفاشي (PNF) لسد الثغرة، مستفيدين من فشل أو عدم فعالية المؤسسات والأحزاب والنخب القائمة، ومقدمين مزيجاً من سياسات ’وطنية‘ و’اشتراكية‘. فقد وعد الفاشيون بتعزيز الوحدة الوطنية، وإعطاء الأولوية لمصالح الأمة فوق مصالح أي مجموعة، وتعزيز مكانة إيطاليا على المستوى الدولي. كما احتكم الفاشيون إلى رغبة الإيطاليين في الضمان الاجتماعي والتضامن والحماية من الأزمات الرأسمالية. لذلك وعدوا باستعادة النظام وحماية الملكية الخاصة وتعزيز الرخاء وكذلك بحماية المجتمع من الركود الاقتصادي والاضطرابات. وشدد الفاشيون على أن الثروة تنطوي على مسؤوليات وامتيازات أيضاً، ويجب إدارتها لصالح الأمة.

مكّنت هذه المناشدات الفاشيين من حشد الدعم من جميع الفئات الاجتماعية والاقتصادية تقريباً. كانت إيطاليا دولة شابة (تشكّلت في ستينيات القرن التاسع عشر)، تعاني من انقسامات إقليمية واجتماعية عميقة. هكذا بزعم خدمة المصالح العليا للمجتمع بأكمله، أصبحت الفاشية أول ’حزب شعبي‘ حقيقي في إيطاليا.

بعد وصولهم إلى السلطة، أنشأ الفاشيون الإيطاليون جمعيات ترفيهية وتجمعات طلابية وشبابية وأنشطة رياضية ورحلات سياحية. عززت هذه التنظيمات جميعها أهداف الفاشية المتمثلة في تنشئة مجتمع وطني حقيقي. كما أن الرغبة في تمتين هوية وطنية (فاشية) ألزمت النظام على اتخاذ تدابير ثقافية غير عادية. فقد روجوا لطراز متميز من العمارة العامة، ومعارض فنية وإنتاج سينمائي وإذاعي. تدخّل النظام على نطاق واسع في الاقتصاد. وكما قال أحد الفاشيين: «ليس هناك أية مصلحة اقتصادية فوق المصالح الاقتصادية العامة للدولة، ولا وجود لمبادرات اقتصادية فردية دون إشراف الدولة وأنظمتها، وليس هناك من علاقات بين مختلف طبقات الأمة ليست من شأن الدولة.’ لقد حافظت سياسات كهذه على شعبية الفاشية حتى أواخر الثلاثينيات عندما ربط موسوليني مصيره بهتلر. فقط عندما تورطت البلاد في الحرب العالمية الثانية، وتحوّل النظام الإيطالي بوضوح أكثر إلى فهم ٍ”عنصري” للفاشية، عندها بدأت الفاشية الإيطالية تفقد شعبيتها.

اختلفت الفاشية الإيطالية عن نظيرتها الألمانية في مناحي مهمة. ربما أبرزها هو كون معاداة السامية والعنصرية أكثر تآصلاً في النسخة الألمانية. لكن الفاشية الإيطالية والألمانية تشتركان أيضاً في جوانب مهمة. كانت ألمانيا، مثلها مثل إيطاليا، دولة ’جديدة‘ (تشكّلت في 1871) تعاني من انقسامات عميقة. بعد الحرب العالمية الأولى، وجدت ألمانيا نفسها مثقلة بشروط السلام العقابية. خلال عشرينيات القرن العشرين، شهدت انتفاضات عنيفة واغتيالات سياسية وتعرضت لغزو أجنبي وضربتها موجة التضخم الاقتصادي الكبرى المعروفة عالمياً.  تلاها الكساد الكبير، محدثاً معاناة هائلة في ألمانيا. وهنا يجب تذكّر الطريقة التي اتبعتها الحكومة والجهات الفاعلة السياسية الأخرى في المعالجة. لقد  فضّلت، لأسباب مختلفة، كل من الحكومات المحافظة في تلك الحقبة ومعارضيها الاشتراكيين التقشف في المقام الأول كرد فعل على الأزمة. وهو ما منح الفاشية فرصة ذهبية.

وعد حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني (NSDAP) بزعامة هتلر، أن يكون في خدمة الشعب الألماني بأكمله، لكن الرؤية الفاشية الألمانيّة لـ “الشعب” لم تشمل اليهود وغيرهم من ’غير المرغوب فيهم‘. لقد وعدوا بإنشاء “مجتمع الشعب” (Volksgemeinschaft) الذي من شأنه أن يتغلب على انقسامات البلاد. كما تعهد الفاشيون بمحاربة الكساد وقارنوا نشاطهم من أجل رخاء الشعب، مع خنوع وتقشف الحكومة والاشتراكيين. بحلول انتخابات عام 1932، ساعدت هذه النداءات، لحماية الشعب الألماني، النازيين على أن يصبحوا أكبر حزب سياسي، والحزب الذي يتمتع بأوسع قاعدة اجتماعية – اقتصادية.

وعندما أصبح هتلر مستشاراً في كانون الثاني/ يناير من عام 1933، باشر النازيون بسرعة في برامج خلق فرص العمل والبنية التحتية. فقد حثوا الشركات على توظيف العمال، ووزعوا القروض. فانتعش الاقتصاد الألماني وتحسنت معدلات البطالة بشكل كبير: انخفضت البطالة الألمانية من حوالي 6 ملايين في أوائل عام 1933 إلى 2.4 مليون بحلول نهاية عام 1934؛ وبحلول عام 1938، تخلصت ألمانيا من البطالة بشكل أساسي. وبحلول نهاية الثلاثينيات، كانت الحكومة قد فرضت سيطرتها على القرارات المتعلقة بالإنتاج الاقتصادي والاستثمار والأجور والأسعار؛ كان الإنفاق العام ينمو بشكل مذهل.

ظلت ألمانيا النازية رأسمالية. لكنها تعهدت أيضاً بتدخل الدولة في الاقتصاد بشكل غير مسبوق في المجتمعات الرأسمالية. كما دعم النازيون أيضاً دولة الرعاية الشاملة (بالطبع للألمان ’الأنقياء عرقياً‘ ). التي شملت التعليم العالي المجاني، ودعم الأسرة والطفل، والمعاشات التقاعدية، والتأمين الصحي، وسلسلة من خيارات الترفيه والإجازة المدعومة من قبل الدولة. كان لا بد من إخضاع جميع مجالات الحياة، بما في ذلك الاقتصاد، لـ ’المصلحة العامة التي تسبق الذاتية‘ (Gemeinnutz geht vor Eigennutz)، والالتزام الفاشي بتعزيز المساواة والنشاط الاجتماعي. لا يُنظر عادة إلى الإصلاحات الجذرية المستندة على معيار الجدارة كتدابير ذات بصمة نازية ، لكن الرايخ الثالث ، كما أشار هتلر ذات مرة: ’ فتح الطريق أمام كل فرد مؤهل – أياً كانت أصوله – للوصول إلى القمة في حال كان مؤهلاً وديناميكيًا ومجتهدًا ومثابراً‘.

لهذه الأسباب إلى حد كبير، ربما كانت تجربة معظم الألمان مع النظام النازي حتى عام 1939 إيجابية. يبدو أن النازيين كانوا قد تغلّبوا على الكساد واستعادوا الاستقرار الاقتصادي والسياسي. طالما تمكّن الألمان من إثبات “نقائهم” العرقي وتجنبوا إظهار عدم الولاء، فإنهم بالإجمال خبروا الاشتراكية القومية ليس باعتبارها طغياناً وترهيباً، بل كنظام إصلاح اجتماعي ومريح.

ما من شك في أن العنف والعنصرية كانتا سمتين أساسيتين للفاشية. ولكن بالنسبة لأغلب الإيطاليين والألمان وغيرهم من الفاشيين الأوروبيين، فإن الدعوة لم تكن مبنية على العنصرية، ناهيك عن التطهير العرقي، بل على قدرة الفاشيين على الاستجابة بفعالية لأزمات الرأسمالية عندما لم تكن الجهات السياسية الفاعلة الأخرى قادرة على كذلك. أصر الفاشيون على أن الدولة يمكنها ويجب عليها السيطرة على الرأسمالية، وأن تعمل على تعزيز الرفاهية الاجتماعية، وأن المجتمعات الوطنية بحاجة إلى تثقيف. بطبيعة الحال، كان الحل الفاشي في نهاية المطاف أسوأ من المشكلة. رداً على رعب الفاشية، تحرك الائتلاف الديمقراطي الجديد في الولايات المتحدة، والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا، نحو إعادة التفاوض على العقد الاجتماعي. لقد وعدوا المواطنين بأنهم سيسيطرون على الرأسمالية ويقدمون سياسات رعاية اجتماعية ويتخذون تدابير أخرى لتعزيز التضامن الوطني – ولكن من دون خسارة الحرية والديمقراطية التي استلزمتها الفاشية.

الرسالة الموجهة إلى الحاضر واضحة: لا يمكنك التغلب على أي شيء دون مقابل. إذا لم تتوصل الجهات السياسية الفاعلة الأخرى إلى حلول أكثر إقناعاً لمشاكل الرأسمالية، فإن الجاذبية الشعبية للجناح اليميني الصاعد سوف تستمر. ومن ثم فإن القياس على الفاشية والانهيار الديمقراطي في سنوات ما بين الحربين العالميتين قد يكون أكثر أهمية مما هو عليه الآن.

شارك هذا المقال: