الأيديولوجيا والإنسانية!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

تمثال بالحجم الحقيقي لرجل متكئ على جسر صغير في حديقة بسيطة على ضفة  نهر الدانوب العملاق يتأمل جسر الحرية.

رغم كل المعالم الجميلة التي زرناها في رحلتنا الأخيرة إلى بودابست والتي بدأت تأخذ مكانها في ذكرياتنا كلٍ حساب حجمه إلا أن واحدة منها أبت إلا أن تشغل حيزاً أكبر رغم موقعها البعيد نسبياً عن مقاصد السياح وحجمها الصغير غير اللافت للانتباه.

صاحب هذا التمثال هو من أوائل الذين غلّبوا إنسانيتهم على عقيدتهم الايديولوجية؛ إذ أنه قرر في لحظة تاريخية أن يقف مع خيارات شعبه حتى لو كانت على الضد من تاريخه النضالي وتضعه في مواجهة مصيرية مع “رفاقه” العقائديين.

رغم التشابه الكبير بين سيرة ومسيرة إمرى ناغي (صاحب التمثال ورمز انتفاضة بودابست 1956) ، وسيرة ومسيرة ألكسندر دوبتشيك (رمز ربيع براغ 1968) العقائدية والسياسية، إذ أن كليهما شغل أعلى المناصب الحزبية (الأمين العام للحزب الشيوعي كل في بلده )، وكذلك الحكومية (رئاسة الوزراء )، ولهما ذات الموقف من هيمنة الاتحاد السوفيتي على بلديهما، وتبنيهما لذات البرنامج الإصلاحي  (الاشتراكية الإنسانية) في ما يتعلق بحرية التعبير والرأي وتخفيف سلطة الأجهزة الأمنية، والأهم من هذا و ذاك إعلانهما بأن الحزب ليس وصياً على المجتمع أو قائداً له، وتشابه الطريقة الوحشية التي اتبعتها موسكو في قمع ثورتهما؛ إلا أن التعامل معهما شخصياً من قبل الكرملين كان مختلفاً تماماً!

لم يكن ناغي يشغل أي منصب حكومي عندما اندلعت الثورة الهنغارية في أكتوبر/ تشرين الأول  1956، إلا أن الثوار طالبوه بالعودة  إلى رئاسة الحكومة ( حيث سبق وأن شغل هذا المنصب 1953-1955 لكن السوفييت كانوا قد عزلوه عندما بدأ الترويج لنهج جديد في الاشتراكية ) لأنهم رأوا فيه الأصدق والأقدر على إيصال صوتهم.

 وبالفعل أثبت ناغي بأنه على قدر هذه المسؤولية والثقة حيث تبنى مطالبهم وعلى رأسها مغادرة القوات الروسية وإنهاء سلطة الحزب الواحد وحل جهاز البوليس السري (الأمن السياسي!) ÁVH  المختص بالاعتقالات السياسية وترهيب المجتمع، والانسحاب من حلف وارسو وإعلان هنغاريا دولة مستقلة محايدة…الخ، وأوصلها إلى السلطات السوفيتية وأعلنها للمجتمع الدولي.

في الحقيقة كان تعاطي موسكو الآني مع هذه التطورات السريعة غير المتوقعة مرتبكاً؛ ففي البداية (خلال الأسبوع الأول) انسحبت القوات السوفيتية الأمر الذي بدا وكأن الثورة حققت أهم مطلب لكن سرعان ما عادت القوات السوفيتية معززة بعتاد عسكري أقوى واستطاعت قمع الثورة .

وهو أمر يمكن تفسيره وفقاً لأحد احتمالين: إما أن يكون ما قمت به  تكتيكاً عسكرياً تمتص به غضب الثوار وحماستهم، وتوهمهم  بنجاح ثورتهم لحين اتخاذ موقف موحد في حلف وارسو الذي ما قد تشكّل للتو (1955)، وإما أن يكون هناك خلافاً قد نشب داخل القيادة السوفيتية في كيفية التعاطي مع هذه المطالب ما بين فريق متفهم لها وآخر رافض بشكل قطعي، سيما وأن خروتشوف كان قد صرح للتو بأتباع نهج مغاير تماماً لسياسة ستالين في معالجة القضايا الدولية والمشاكل الداخلية.

أما مأساة ناغي فقد بدأت عندما عادت القوات السوفيتية واجتاحت بودابست بوحشية الأمر الذي اضطره إلى اللجوء إلى السفارة اليوغسلافية ظناً منه بأنها ستحميه (إذ أن العلاقات بيت موسكو وبلغراد كانت مقطوعة بسبب خلاف الزعامة الأيديولوجية بين ستالين وتيتو) لكن يبدو أن حساباته لم تكن دقيقة إذ أن العلاقات كانت قد بدأت تتحسن مع تمكن خروتشوف من الوصول إلى سدة الكرملين، هكذا تم استدراج ناغي إلى خارج السفارة بوعود كاذبة، فتم اعتقاله وترحيله إلى رومانيا الواقعة تحت الوصاية السوفيتية!

ما  أن هدأت الأمور واستقرت الأحوال لصالح السوفييت وعملائها، أصدر الكرملين أمراً بإعادة ناغي إلى بودابست لتتم محاكمته بشكل سري وإعدامه في 1958 بتهمة الخيانة العظمى!

وكعادة كل الأنظمة الأيديولوجية التي لا تخشى فقط من الصوت الحر بل ومن صداه أيضاً، أوعزت القيادة السوفيتية لرجالها في بودابست  بوضع ابنة ناغي الوحيدة تحت الإقامة الجبرية لمدة 15 عاماً!

بعد انهيار المنظومة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي والأنظمة التي كانت تدور في فلكها، تمكّن الشعب الهنغاري من تكريم رمزهم الذي ضحى بحياته من أجل حريتهم وكرامتهم. حيث تم نقل رفاته (كان قد دُفن في أرض السجن الذي تم فيه اعدامه خشية أن يتحول قبره إلى مزار شعبي في حال دفنه في مقبرة عامة) إلى مقبرة الدولة ضمن مراسيم رسمية تليق برجل دولة، بالإضافة إلى تخليد ذكراه عبر هذا التمثال المتكئ على ضفة نهر الدانوب وغير البعيد من جسر الحرية!

هذه ليست مجرد مأساة فردية وفريدة، بل واحدة من مآسي عديدة مماثلة وقعت في بلدان حُكمت ولا تزال من قبل أنظمة قمعية مختلفة سمتها المشتركة هي أنها أنظمة إيديولوجية (نظام الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع) التي لا تؤمن بالتعددية السياسية ولا تقبل المشاركة في إدارة البلاد؛ وتخاف من صوت الناس فتقوم بإسكاته بشتى الوسائل وتمنح نفسها حق الوصاية على حياة البشر!

وهنا تبرز عدة أسئلة أو تساؤلات أهمها: إذا كان أنصار أي إيديولوجيا، بغض النظر عن منبتها، يزعمون بأنها أتت لخدمة الانسان، لماذا تفقد الايديولوجيا وأنصارها إنسانيتهم عندما يصلون إلى مقاعد السلطة؟

هل يمكن القول بأن الإيديولوجيا، كونها  مجموعة أفكار ونظريات ومعتقدات مطلقة، تحمل في رحمها العنف حيث أنها تدعي امتلاك الحقيقة الوحيدة والمطلقة التي تصلح لكل مكان وزمان، وبمجرد تمكنها من أدوات تطبيقها (السلطة) تلد ذلك العنف الذي يتحول إلى وحش لا يتردد في افتراس كل من يقف في طريق؟

 ألا يمكن عزو فارق تطور الحياة السياسية والاقتصادية بين دول غرب أوروبا وشرقها (طيلة فترة الحرب الباردة) إلى خلو الأولى من الأحزاب الأيديولوجية؟

هل يمكن العثور في  التاريخ والحاضر أيضاً عن دولة إيديولوجية عاش فيها الانسان بحرية وكرامة ودون خوف؛ حتى من الحيطان التي يصبح لها أذان في هذا النوع من الدول؟

شارك هذا المقال: