زهرةُ اللوتس أو رَنينُ الحبِّ في ممرّات الّليل

شارك هذا المقال:

خالد حسين ،

عتبة

لا يطمئن الشّعر إلى الأشكال، الحدود، المتاريس بعد مرور الزّمن، طبيعةُ الشّعر تكمن في قدرته على الالتفاف والمغادرة والاندفاع نحو الأشكال الجديدة واختبارها وامتحانها في لعبة الاختلاف والإرجاء والظّلال. في هذه النُّصوص تلوذُ الكتابةُ الشّعريةُ بما هو غير مرسوم من رجومٍ وعلاماتٍ، إنها تنهارُ في المكان/ البياض وتصنعُ فضاءاتها وتخومها بالامتداد والانتثار دون تصوّراتٍ مسبقةٍ كما لو أنَّ الحدث/ الفعل الشّعري يتنزّلُ في إيهابٍ يخضعُ للترتيب في غضون التشكُّل، والتشكُّل وحده. لِنَقُلْ إنَّ هذه اللطخات السّوداء، هذه الامتداداتُ اللغويّةُ هي أشبه بمساحاتِ عشبٍ تعشقُ الانتشار والانتشار المتشتّت، بقع متناثرة، كتابة جذمورية وفق مفهوم جيل دولوز، كتابةٌ تحوز على فضاء لا يخضع للنَّظام.       

I

أَليفٌ كماءِ نبعٍ؛

هذا الضَّيفُ يَعْبُرُ عَتَبَاتِ المنزل بخطا هادئة،

يَدَعُ علامةً تومضُ بخفوتٍ كأثر جُرح قَديم…

تلك نجمةُ المسَاء تقترفُ غياباً كصمتٍ يخنقُ مدينةً مهجورةْ …

أرضٌ بِدَمَارِهَا، سًماءٌ بأنقاضِهَا، عتمةٌ تجهلُ ممرَّ العبور، صورةُ وداعٍ أخيرةٍ للضَّيف الغريب!

يَرُنُّ الانتباهُ ألماً

يُضْرَمُ الحزنُ في المسالكِ الموحشة

ها هي العَلامةُ تُوْرِقُ نجمةً في تلكَ النَّوافذ الرّاقدة، يبزغُ الألمُ كجناحي يمامةٍ: كلماتٌ راعفةٌ في رموش الوقت.

أيُّتها النَّجمةُ كالأنيسِ في أُلفتهِ، طائرُ الصُّدفةِ يَرْتكبُ سنابلَ يَديكِ؛ لينضجَ النَّشيدُ في لهفةِ جناحيه.

يَنْبِثقُ نداؤك أُقحوانةً في طارئ الفصول

يَـتَرنَّحُ القلبُ لنرجسةٍ على حافّةِ القصيدة

يا زهرةَ اللوتس بتويجاتها المطعّمة بالفضّةِ

أيُّها الضّيفُ: النَّجْمةُ، التي تَخْضَرُّ في صَوْتي، هِبةُ غَيابِكَ…!

II

في غَيَابِكِ ضَلالةً؛

هذه الأحلامُ لا تعدو أنْ تكونَ سوى أصَابِعِكِ في كمشةٍ زنابق     

ليسَ الأمرُ أكثرَ من هِبَةٍ الظّلال بِوَدَاعَتِهَا، ليس أبعدَ من صُدْفةٍ بأَعْشَابِهَا الهشّة،

قلتُ وليكن على غِرَار طريقين:

أَعْبرُ إليكِ لربّما تَعْبرين تخوم الشهقةِ أيتها النَّجمة!

أين أمضي بهذا الحنين إلى أَرْضِ الطُّفولة؛ بهذا الحنين الغَامق كأرضٍ مُنْهكة؟

عيناكِ اللتان توقظانِ أهواءَ الليل،

جمرُ الرَّغبةِ المتأجّجُ في شفتيكِ،  

نداءُ أهدابِكِ الذي يخترقُ هذه البلادَ التي لا تُطَاقُ فتنةً بجمالها!

تَكْتبينَ في رسالةٍ:

بِخِفّةِ غَزَالةٍ أَعْتقُ روحي من قَبضةِ الخيبة، أَجْتَازُ التوجُّسَ بمآربِهِ الشَّريرة، وأتركُ الوَحْشةَ تَرْعَىى أشواكها الحادّة بغيظٍ.

الحبُّ ليلةٌ مُقْمِرة…! 

عَلَى شَفَا القصيدةِ زهرةُ لوتس تُبَاغِتُ قلادة الماء بأَجْنحَتِهَا البَيضَاء.

III

أَصْدَاءُ لأَوْرَاقٍ مُغْبَرَّةٍ،

فُسْحَةُ احتمالاتٍ تَنْتَابُ رُمُوْشَكِ،

لا موجةَ تمكثُ على يَقَينْ،

وَهَذِهِ الأَشْجَارُ، في الخَلْفِ من جَنَاحَيْكِ، تَحْضُنُ الّليلَ حَتّى تَذُوْبَ فِيْهِ.

 تَمْضِي بِكِ الغَفوةُ إلى أرضِ الأُرْجُوان، يَشْهَقُ الحلمُ بأزهار اللوتس، لا شيءَ أجملُ من حُبٍّ يُطِلُّ عَلَى بُحيرةٍ في بَهَائِهِا.

بتنهيدةٍ أخيرة تَطْوينَ الأَصْدَاءَ الذّابلةَ.

أَسْمَعُ رَنِينَ الحبِّ في ممرّات الليل، صَوْتُ فيروز يُبدِّدُ سأمَ الكآبة، حقولٌ من التّوليب تَفْتتِنُ بسماءٍ فتيةٍ على كَتِفَيْكِ.

للشُرفةِ شؤونُهَا في هذا الصَّباح:

النَّشوةُ تَخْطِفُكِ مع نَكْهةِ البنّ، تَطِيرُ بِكِ القَصْيْدَةُ إلى أَرْضٍ لا تُعْلِنُ عَنْ طُيُورِهَا، مساءاتٌ من ذهبٍ تتنزّه بين التيجان المشجّرة لأيائل الغابة.

للشُرفةِ في الصَّباح قصيدتُها:

أنتِ بكلّ المواسم التي تندلعُ انبجاساً في حقولِكِ المترامية.  

IV

يتكبّدُ غِيَابَها مسافةً،

مترددةً على أريكةِ القصيدة تعبثُ بالكلمات نرداً:

ــ”سأُحِبُّكَ في القَصيدةِ قمراً يعبثُ بشفتيَّ وضفائري”

اللغةُ شِراكٌ تتربّصُ بأَهْواءِ النّجمةِ

لا منجاةَ، يا وردةَ التوجُّس، من الحبِّ إذ يزجُّ الوعدُ قلبَ عاشقةٍ في قلب عاشقٍ.

هواجسُكِ: فراشاتٌ حَيَارَى في هَذَيانها

رسائلُكِ الثريةُ: لغةٌ في مَفَاتِنِهَا الرشيقة   

تخيلاتُكِ: أصائصُ ريحان وهي تتفاقمُ عطراً تحت وطأةِ الليل بعتمته الباهظة

أَحَاسيسُكِ: وابلُ مطرٍ يضربُ التّخوم باحتدام

حقولُ قمحٍ تُرْبكُ شهوةَ النَّظر شَسَاعةً، بساتينُ رمان تضجُّ بالجلَّنار أبداً، بيادرُ مغتبطةٌ في شَمسِ الصَّبَاحِ: جَسدُكِ القدسيُّ في مَغَانمِهِ الأثيرة.

نبيذٌ يفيضُ عن دنانِهِ: شفتاك ـ العنب

ضحكتُكِ: رَشَقَاتٌ زرقاءُ من اليَاسمين تَتَنَاثرُ على مُنْحَدِر الرّيح 

أيتها النَّجمةُ من أيّةِ مَسَالكَ عويصةٍ انحدرتِ إليّ!

أيتها النَّجْمةُ ــ”الهبةُ ــ اللغزُ”!

V

ــ حينما تتسلّلين من ظِلَال قَصِيدةٍ إلى قلبي..

كثيرٌ من الورد يُهَرْطِقُ شغباً في ردهةِ الرّيح

تبزغُ أقحوانةٌ على حافَّةِ المسَافةِ الآثمة  

السَّماءُ الخفيضةُ، في غَبْطةِ الصَّباح، تؤمُّ الأرضَ كَسَرْبِ طيور عائدةً من غربتها.

ــ وأنتِ تخاتلينَ قلبي في ظِلَال قَصِيدةٍ…

يغدو للنّبيذِ مَذَاقُ رَضَابك، لحبَاتِ الرّمان ارتعاشةُ نهديكِ في احتدام اللهفة، لهذه الحجارةِ المصقولةِ شكلُ ردفيكِ ملاسةً ونحتاً ونعومةً وإغواءً، كأنَّ المكان بأشيائه، بكائناته يَسْتَوْلِي على تفاصيلكِ عنوةً.   

مع هذه المخاتلة أَجدُكِ، أَلمسُكِ، أَتنفَّسُكِ، أُطَاردُكِ، أَلوذُ بكِ من هذه الصَّحراء الملثمة التي تُحَاصِرُ “عَطَايَا” عينيكِ.

أُبادلُكِ المخاتلةَ وأَتَسَلّلُ إلى قَلْبِكِ لأَتَلاشَى في جَسَدِ نَجْمَة.

أُبادلُكِ المخاتلة وأُسَافِرُ بقلبكِ وظلال القصيدة، سفرٌ، حلمٌ بِلَا مَصَائِر. 

=============

اللوحة للفنان الكردي: عبد السلام عبد الله

شارك هذا المقال: