ترجمة: عمر رسول
الأول من تشرين الأول، زالة – القرية الكردية البائسة المكوّنة من ستة أو ثمانية بيوت.
أكتب لك يا عزيزي…. من هذه الحفرة البائسة، بقصد ملء هذه الساعة من الفراغ، لا بسبب وجود خبر هام عندي يستوجب الكتابة عنه. خرجت من السليمانية يوم أمس حوالي الساعة الحادية عشر صباحاً، بعد أربع ساعات من الانتظار، حيث أنني كنت انتظر مع الدواب المحملة الباشا منذ الساعة السابعة حتى يرسل لنا الدليل الذي وعدنا به قبل يوم من سفرنا ليقودنا باتجاه بغداد. لقد نسي الرجل العظيم الأمر وغرق في النوم، ولم يكن هناك من يتجرأ على أن يغامر باستيقاظ سموه؛ لذا فقد ركبت صهوة جوادي، نخزته بعقبيَّ، وأنا أستشيط غضباً، حتى حان الموعد الاعتيادي لخروج سموه من غرفته، عندئذٍ قال لخادمي إن طلبي غاب عن ذهنه تماماً! وهكذا يبدو أن عدم مراعاة الرجل العظيم لمشاعر الآخرين سيجرّ عليه غالباً الخسارة والقلق. يا للرجل المسكين! لديه من الأسباب ما تكفي أن تغفر له هذا الإهمال، لأنه غارق بحزن في مشاكله الخاصة. لقد اكتشفت ذلك فيما بعد، كان مشوّش الفكر في اجتماع الأغوات، يناقش معهم كيف يمكن تقديم تكاليف حفلة سيقيمها الجيش الإيراني، كانت الحفلة تكلف ألفي تومان، ويبدو أن تأمين هذا المبلغ كان كثيراً عليهم في ظروفهم الحالية، وقيل أنهم لا يستطيعون أن يجمعوا هذا المبلغ من كل السليمانية. أعتقد أن جذور البرودة التي تعامل بها الباشا مع موضوعنا كانت تكمن في هذه المشكلة.
ولكن عندما جاء الدليل تبيّنَ أن تعليماته كانت دقيقة فيما يتعلق براحتي وسلامتي. لقد أخذنا إلى كفري وطلب سلامتي، على الطريقة الشرقية، من مرؤوسه. كانت هذه هي صيغة الرسائل المعطاة للمرافقين مع الرحّالة القادمين من عند الحكام، أو للرّحالة أنفسهم، ليقدموها إلى المسؤولين الحكوميين في المنطقة في طريقهم إلى الجهة التي يقصدونها. هكذا جعلني عبدالله خان أن أكتب بخط يدي تلك الرسائل إلى كلّ من أخيه صمد خان في سردشت، وإلى زعماء القرى الآخرين، يبدي فيها رغبته أن يسمحوا لي بالمرور في المناطق التابعة لسيادتهم معزّزاً مكرّماً، محذراً إياهم في الوقت نفسه إذا ما سالت قطرة واحدة من الدّم من خيولي فإن غرامة ذلك ستكون خمسة آلاف تومان.
الثالث من شهر تشرين الثاني- خرجنا من السليمانية حوالي الساعة الحادية عشرة برفقة خدر آغا، عبرنا السهل وصعدنا التلال الغربية التي تحيط بالوادي الطويل المعروف باسم وادي السليمانية، الذي يبلغ من الطول، مع سهل شهرزور، حوالي سبعين أو ثمانين ميلاً. من قمة هذه التلال يمكن للمرء أن يرى منطقة غنية على نحو استثنائي تمتد على مدى البصر، أعني تلك المنطقة الواقعة بين التلال التي نقف عليها وبين السلسلة التي تكثر فيها الصخور الواقعة على مسافة منّا، والتي تشكل في الواقع الحدود الطبيعية بين المناطق المرتفعة والمنخفضة. سأسمّي هذه المنطقة تجاوزاً بالوادي لأنها أخفض من التلال المحيطة بها، لكنها في حقيقة الواقع هي الأخرى سلسلة من التلال الوعرة الأقل ارتفاعاً تنتشر فيها أجمات السنديان هنا وهناك، بالإضافة إلى أشجار الجوز والفواكه في القرى التي كانت في الماضي آهلة بالسكان، وهناك أيضاً الكثير من أشجار الرمان والكرم والفواكه الأخرى التي لا زالت تنمو بشكل طبيعي وأخّاذ بعد رحيل السكان من هذه القرى.
عبر هذه التلال الوعرة اتجهنا صوب قرية قَرَداغ حيث سنقيم فيها هذه الليلة، كانت بيوتها تتوزع على نحو فريد بين الصخور الرملية وبين الصدوع، لم أجد مساكن بشرية غريبة مثلها حتى الآن. هناك تم استقبالنا كضيوف وفقاً لأوامر الباشا، لكنهم حذّرونا شديد التحذير من أن نشدد حراستنا على أشيائنا حتى نحفظها من اللصوص الذين يكثرون وينشطون هنا على نحو خاص. بالإضافة إلى هذا كانت القرية تمتاز بسمة أخرى، وهي أن ثلثي بيوتها، البالغ عددها بين مائة وخمسين إلى مائتين بيت، كانت بيوتاً لليهود. وجدتُ الكرد واليهود يعيشون في هذه القرية مع بعضهم البعض في وئام رائع يشهد له.
لقد أخبرتك من قبل عن رغبتي في تحرير أصدقائي الكرد من الصفة الملتصقة بهم بخصوص قدراتهم العقلية الضعيفة في المسائل التخيلية المتعلقة بالخرافات الموجودة عندهم بشكل خاص، لم أترك فرصة مناسبة من أجل التعرف على أفكارهم حول الأشباح والجن والأرواح الشريرة، لكنني أصبت بخيبة أمل كبيرة في كل محاولاتي في هذا المسعى. في الواقع إذا ما اعتمدت فقط على من قابلتهم وسألتهم حول هذه المسائل، لا أستطيع إلاّ أن أقول إنّ الكرد يفتقرون افتقاراً تاماً إلى كل ما يتعلق بالخرافات والجن، وهذه النقطة تشكل وصمة في شخصيتهم القومية! ولم أترك فرصة التحدث حول هذه المسائل مع دليلنا خدر آغا، خاصة عندما وجدته على قدر كبير من الذكاء، والصراحة، والطلاقة في اللغة الفارسية، حيث سألته بطرق مختلفة العديد من الأسئلة المتعلقة بهذه المواضيع. ولكن لم أحصل منه أيضاً على نتيجة مرضية. وقلت له في نهاية حديثنا “ماذا! ألا يؤمن الكرد بالجن والكائنات الخرافية أو الأرواح”؟ ..أجابني: “آه يا سيدي ماذا تريد أن تعرف”؟ هذا كان جوابه وقد أرفقه بنوع من الاعتذار بهزة من كتفه تليق بنبيل من نبلاء فرنسا من أيام العهد الملكي. ثم قال: “الكرد شعب جاهل يا سيدي! إنهم يفتقرون إلى التعليم، إنهم لا يستطيعون قراءة الكتب حتى يتعلموا منها، لذلك لا يعرفون شيئاً عما تريد الوصول إليه. إن فئة الملالي هي وحدها التي تعرف شيئاً عن هذه المواضيع، أما البقية فلا، وخلاصة القول إنهم أكراد لا أكثر”.
إن هذا يضع الموضوع بالتأكيد في محور جديد ومسلّي في آن، فبينما يعتبر الجهل عندنا أحد الأسباب الرئيسية للخرافات، يرتبط وجود هذه الخرافات هنا بالمعرفة والتعليم، و يعزو عدم توفرها، خطأً، إلى قوة وسلطان الجهل. إنها طريقة غريبة ومنحرفة في التفكير. حينئذٍ قلت بإلحاح: “حسناً، ألا يخاف الكرد من الأرواح الشريرة؟..ألا يؤمنون بشيء من هذا القبيل”؟..أجابني خدر آغا بلهجة ازدرائية: “لا شيء، إنهم لم يسمعوا شيئاً عن هذه الأمور حتى”. فقلت له بعدما غيّرت من طريقة الكلام علني ألتقط أي إشارة تتعلق بالموضوع: “افترض أنّ كردياً سيمرّ بالقرب من مقبرة في الليل، هل سيمرّ دون تلكؤ أو خوف”؟ …فقال الآغا: “سيمرّ دون خوف أو تلكؤ. لمَ الخوف”؟ عندئذٍ قلت: “لا أعني الخوف من الأحياء، بل من الموتى، ألا يخاف أن يظهر له الموتى ويؤذوه بشيء”؟ إن الابتسامة العريضة البلهاء التي ظهرت على وجه الآغا الصادق كانت بمثابة أبلغ الأجوبة على كل أسئلتي، لذا تخليت عن استفساراتي وسط موجة من اليأس الشديد. فإذا ما نظرنا إلى تأثير التعليم أو الحاجة إليها في القضية الراهنة، أعتقد أنّه ما من ولد لامرأة في أي بقعة من العالم بما في ذلك بلدنا العزيز، لا يتعلم، بطريقة أو أخرى، الخوف من الأشباح أو الأرواح الشريرة. وقال لي صديقي خدر آغا إذا ما تمكنتُ من الوصول إلى حلقة الحريم فربما أسمع شيئاً من قصص الكائنات الأسطورية والسَحَرَة منهن لأنهن أدرى بذلك، حيث أن هذه القصص بالإضافة إلى قصص الغيلان والجن منتشرة إلى حد كبير بين الناس في إيران، فضلاً عن القصص التي تدور حول القوى السحرية، ومزية جوهرة الحكيم وقصصاً خرافية أخرى. ولكن لم أكن على قدر كاف من الحظ حتى أصل إلى تلك الحلقة، لذا، وبقدر ما يتعلق الأمر بيّ، فإنّ هذه المعتقدات ستبقى في كردستان طي الظلام. وإذا ما كانت الأمور هي كما بدت لي، لا يسعني إلاّ أن أعتبر ذلك شيئاً معيباً للشخصية القومية للشعب الكردي.
لكن هناك بالتأكيد نوع من الخرافات تنتشر في كردستان كما في البلدان الأخرى؛ وهو الاعتقاد بوجود بعض التأثيرات الخارقة غير المرئية الملازمة لبعض الأشياء أو بعض الأمكنة. ففي إيران توجد المزارات والأمكنة التي وطأها ولي من الأولياء، والنوافير المقدسة، وكذلك في كردستان. لقد ذكرت لك شيئاً عن النظركه في السابق، واليوم وجدت على مسافة قريبة من المدينة نافورتين من النوافير الغزيرة التي تنبجس صاعدة من الأرض، وقيل أنّ الاستحمام فيهما يشفي المرء من كلّ العلل والأمراض. كان المنبع محاطاً بجدار حجري؛ وكانت الأسماك تسبح في مياهه بحرية دون أدنى خوف لأنّ القاطنين في المنطقة لا يتعرضون لها. لكن الجنود الروس الذين قدموا إلى هنا من أذربيجان قد اصطادوا الكثير منها، بالرغم من إدانة الناس لهذا الإثم. وقد أكّدوا أنّ بعض الجنود الذين أكلوا من لحم هذه الأسماك ماتوا فيما بعد بسبب اعتدائهم على حرمة هذا النبع المقدس.
ناقشت اليوم مع دليلنا موضوع أكوام الحجارة (نظركه) المنتشرة على جوانب الطرق، وكان شرحه بسيطاً وكافياً، حيث قال: “عندما يجد أحد المرضى في نومه شخصاً مقدساً أو إماماً من الأئمة يظهر له في بقعة ما، فإن أهله يأخذونه إلى هناك، وإذا ما كتب له الشفاء فإنه يعلّم تلك البقعة من الأرض بكومة من الأحجار، كعرفان بالجميل للروح التي ساعدته على الشفاء وحتى تبقى معالم البقعة واضحة لغيره من المرضى. هذا هو السبب الذي يقف وراء جلب المرضى الآخرين إلى هذه البقع المعلّمة بالأحجار، ولهذا السبب أيضاً نرى أنّ الذين يمرون بالقرب من هذه الأكوام يرمون بالأحجار عليها، ومع مرور الزمن نراها وقد أصبحت كومة كبيرة من الأحجار[1]. وإن أولئك الذين يستفيدون منها يمزقون قمصانهم أو سراويلهم ليربطوا مزقة من القماش على أغصان الأشجار القريبة منها”. لا تُعلَّم قبور العظماء أو الأشخاص الذين ماتوا بيد اللصوص أو الخونة بالأحجار أو مزق القماش، قال الدليل، ولا تتسم بهذا القدر من التبجيل، وبدلاً من ذلك يرفع عليها علم، أو توضع أية علامة أخرى قريبة منها لتذكير المسلمين الصالحين بقراءة الفاتحة على أرواحهم عند المرور بهذه القبور.
[1] – مع احترامي لرأي خدر آغا، لا أعتقد أن السبب الذي يكمن وراء هذه الأكوام الحجرية هو منامات المرضى، بل ببساطة شديدة، أعتقد أن شخصاً ذكياً خطر له أن ينظف الطرق من الأحجار فاخترع هذه الوسيلة، لأننا لا نستطيع أن نجد هذه الأكوام إلاّ في الطرق التي تكثر فيها الأحجار، وكنتيجة لهذه الفكرة نرى كيف أن الطرق التي تكثر فيها الأحجار نُظفِت شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن. (المترجم)