لماذا يقع المثقفون في عشق المستبدين والأنظمة الشمولية؟

شارك هذا المقال:

قراءة في كتاب من موسوليني إلى شافيز: المثقفون وقرن من عبادة البطل السياسي

مراجعة: تيودور دالريمبل

ترجمة: كيفورك خاتون وانيس

غالبًا ما يكون السفاحون (القتلة المتسلسلون) المسجونون هدفاً لمقترحات زواج من نساء لا يعرفن شيئاً عنهم سوى سجلهم الجنائي.  تشير هذه الظاهرة الغريبة إلى الأعماق التي يمكن أن يغرق فيها خداع الذات في تحديد سلوك بشري.  من المحتمل أن النساء، اللواتي يقدمن مثل هذه العروض، يعتقدن أن جوهراً أساسياً من الخير موجود في القتلة وأنهن وحدهن من يقمن بإظهاره إلى السطح. وبالتالي فإنهن يميزن أنفسهن أيضاً عن النساء الأخريات، اللواتي يعتبر موقفهن من القتلة المتسلسلين أكثر تقليدية وإدانة بلا تفكير. وبالتالي فإنهن يرون أبعد وأعمق، ويشعرن بقوة أكبر من قريناتهن التقليديات.  على النقيض من ذلك، لا يظهرن أي اهتمام خاص بالمجرمين الصغار أو الأصغر!

يمكن ملاحظة شيء مشابه في موقف بعض المثقفين على الأقل تجاه الأنظمة الديكتاتورية، خاصة إذا كان هؤلاء المستبدين يدعون أنهم يسعون وراء رؤية طوباوية.  أهتم بول هولاندر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ماساتشوستس، منذ فترة طويلة بدراسة الخداع السياسي وخداع الذات – ولم يكن ذلك مفاجئاً في شخص لديه خبرة مباشرة مع النازيين والشيوعيين في موطنه الأصلي هنغاريا.  في عام 1981 ، نشر دراسته الكلاسيكية عن المثقفين الغربيين الذين سافروا، بشكل أساسي في جولات مصحوبة بالصرامة، إلى البلدان الشيوعية ، ولا سيما روسيا ستالين ، والصين ماو ، وكوبا كاسترو ، وعادوا بروايات متوهجة عن عوالم جديدة (وأفضل) قيد الإنشاء هناك.  كان التناقض بين رواياتهم والواقع أمراً مضحكاً لو لم تكن الحقيقة بحد ذاتها رهيبة.

في كتابه من موسوليني إلى شافيز، يحول هولاندر انتباهه إلى آراء المثقفين حول مجموعة واسعة من الديكتاتوريات والقادة المستبدين. لا تدعي دراسته القيام بقياس كمي علمي أو الأحرى زائف علمياً، على سبيل المثال أولاً من خلال تحديد مجموعات عشوائية من ديكتاتوريات ومثقفين ثم إدارة استبيانات منظمة للمثقفين حول موقفهم من الطغاة. هذا النوع من الدقة هو في الغالب خاطئ من جهته كونه متصلب، لكن القياس ليس معنىً ، والبشر يسكنون عالماً من المعنى. لذلك فإن دراسة هولاندر نوعية: أفضل، وأكثر إثارة للاهتمام، لأجل ذلك. حتى لو كان 10 في المائة فقط من المثقفين الغربيين، بغض النظر عن تعريفهم، مدافعين أو معجبين ومؤيدين للديكتاتوريات – أحيانًا بشكل متسلسل، بحيث عندما يموت ديكتاتور في النهاية أو يخيب أمله ، يتم تبني آخر كبطل سياسي – تظل هذه الظاهرة مهمة. إن قائمة المفكرين المؤثرين الذين منحوا مباركتهم للأنظمة الأكثر فظاعة بشكل واضح مثيرة للإهتمام: إتش. جي. ويلز ، جورج برنارد شو ، رومان رولاند ، جان بول سارتر (مدافع متسلسل) ، نورمان ميلر ، سي. رايت ميلز ، ميشيل فوكو ، وعشرات آخرون.

السؤال الذي يطرحه هولاندر هو لماذا ينجذب المثقفون الذين كانت تجربتهم الخاصة مع الخطر من نوع مراجعة سلبية لكتاب أو لجنة تثبيت معادية، والذين كانوا حساسين جدًا لأدنى تهديد، حقيقي أو متخيل، لحريتهم في موطنهم، إلى الظالمين، وحتى قتلة، شعوب أُخرى؟.

أولاً، هناك طبيعة الديكتاتور التي يجب اخذها بعين الاعتبار. من الواضح أنه ليس كل الطغاة متساوون، ولا المثقفين. كان من الصعب على المثقفين غير الألمان أن يعجبوا بهتلر أكثر من ستالين بسبب طبيعة أفكار هتلر: إن ادعاء التفوق المتأصل الذي لا يمكن القضاء عليه للعرق والأمة في كل شيء منذ زمن سحيق هي ليست الطريقة المثلى لجذب أتباع أجانب. ومع ذلك ، فإن العديد من المفكرين الألمان، ومنهم مارتن هايدجر وكارل شميت ، وقفوا إلى جانب هتلر ، وقليل منهم عارضه بشدة. إلى أي مدى كان الدافع وراء دعمهم هو الخوف أو الانتهازية من المستحيل تحديده. لكن سنوات الدراسة والفكر لم تحمهم من سوء التقدير الجسيم، وحتى قبل وصول هتلر إلى السلطة، كان التأييد له أكبر بين طلاب الجامعات والأساتذة منه في الأمة ككل (هنا، المعلومات الكمية مهمة). بعبارة أخرى، فإن البصيرة والإيثار تجاه الإنسانية التي يطالب بها المثقفون في كثير من الأحيان لأنفسهم بالمقارنة مع تخلف بقية السكان هي على الأقل في بعض الأحيان – وربما في كثير من الأحيان أو دائماً – خدمة ذاتية وأسطورية.

حقيقة أن الجزء الأكثر تعليماً في المجتمع الحديث يدعم هذه السياسة أو تلك ليس دليلاً على صحتها.  ومع ذلك، سيكون خطئاً منطقياّ أن نستنتج من هذا أن غير المتعلمين هم دائمًا على حق.  ليس من الضروري أن يكون نقيض الخطأ حقيقة: فهو غالبًا مجرد خطأ من نوع آخر.  وبالمثل، قد يكون لأولئك للمستبدين – أولئك الذين يتمثل هدفهم الرئيسي في الحفاظ على أنفسهم ورفاقهم في السلطة، كبشار الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق – مدافعين، ولكن نادراً ما يكون لهم متحمسين. لإثارة المثقفين، يجب على الطغاة أن يجسّدوا، أو يزعموا أنهم يجسّدون، بعض الطوباوية المثالية.

إن القدرة الخاصة على رؤية ما وراء المظاهر التي يحب المثقفون تهنئة أنفسهم على امتلاكها هي، في الواقع، سبب وجودهم: لأنهم إذا لم يتمكنوا من إدراك ما لا يستطيع الآخرون إدراكه ، فما هو دورهم؟ في حين أن البسطاء لا يرون في مذبحة الكهنة إلا مذبحة للكهنة، على سبيل المثال، يميز المثقفون فيها عملية ديالكتيك التاريخ، وخاتمة المستقبل المتخيلة التي هي أكثر واقعية بالنسبة لهم من الموت الفعلي لهؤلاء، مجرد قشر بيض في مسار العجة.

على الرغم من أن هولاندر لا يدعي أن هناك تفسيراً وحيداً لانجذاب المثقفين إلى الديكتاتوريات كما في حالة ستالين وماو وكاسترو (أو الخميني، في حالة فوكو)، ناهيك عن العثور عليه، إلا أنه يؤمن مع ذلك، وهي معقولة من وجهة نظري، أن التوق إلى معتقد شبه ديني في عصر شهد رفض الدين الفعلي إلى حد كبير هو جزء مهم من التفسير. لم يكن المستبدين الشموليين هم الساسة النموذجيون لأنظمة ديمقراطية الذين، بغض النظر عن خطابهم الذي يبدون أنه يعبث بشكل رئيسي عند حواف الوجود البشري، هم مستعدون أو مجبرون على القيام بتوافقات وضيعة مع خصومهم، والكشف بأنفسهم عن فسادهم الأخلاقي والمالي، ذو تأثير أقوى في المعارضة منها في الموقع الرسمي، وليس لديهم أفكار شاملة لخلاص البشرية، ولا يدعون حيازتهم كامل المعرفة والحكمة البشرية. بدلاً من ذلك، كان هؤلاء الطغاة قادة دينيين ادعوا القدرة على الإجابة على جميع الأسئلة البشرية في وقت واحد وقيادة البشرية إلى أرض اللبن والعسل والسلام الدائم. كانوا كلي المعرفة والكفاءة، ومحبين ولطيفين، ومهتمين بلا حدود برفاهية شعبهم؛ لكنهم في الوقت نفسه كانوا متواضعين ومن المفترض أنهم محرجون من التملق الذي تلقوه. فالمثقفون إذن لم يبحثوا عن رجال بل عن مسيحٍ متخيل.

الدليل على الطبيعة شبه الدينية لعبادة الديكتاتور المتسلسل لسارتر يكمن في العنوان الذي أطلقه على الصحيفة التي أعاد إطلاقها في السبعينيات والتي لا تزال تنشر حتى اليوم: Libération. التحرر من ماذا بالضبط؟ إذ أنن فرنسا كانت بعيدة جداً عن الطغيان.  من الصعب عدم استنتاج أن المقصود كان تحرراً صوفياً أو تحرراً دنيوياً آخر من الظروف الوجودية التي في ظلها يُجبر الجنس البشري على العمل إلى الأبد.  لسوء الحظ، هناك أشياء قليلة أقل جاذبية من دين لا يجرؤ على التحدث باسمه كدين.

ينتهي كتاب هولاندر المثير للاهتمام والمنتج  بإتقان  وفي الوقت المناسب بتحذير ضمني بأننا بعيدون عن تعلّم الدرس مرة واحدة وإلى الأبد ، وبالتالي فإننا بعيدون عن الحصانة من الأخطاء المماثلة في الحكم في المستقبل. على العكس من ذلك، مع تزايد الاستياء من السياسة والسياسيين “العاديين” في أجزاء كثيرة من العالم ، يمكننا أن نتوقع أن الأوهام الطوباوية ستندفع لملء الفراغ:

هذا الكتاب . . . يؤكد أن العديد من المثقفين، مثل البشر بشكل عام (وربما أكثر من ذلك)، يحتاجون إلى أنواع من الأوهام التي تعد بحياة أكثر إرضاءً وذات مغزى.  إن خيالهم ومثاليتهم وحثهم على السمو الذاتي يجعلهم بشكل خاص عرضة لإغراء النوايا الحسنة التي يجسدها القادة الأبطال في سعيهم المزعوم لتحقيق العدالة الاجتماعية.

شارك هذا المقال: