بقلم البروفيسور دافيد ليفينغستون
الترجمة عن الإنكليزية : كيفورك خاتون وانيس
لماذا رحب الناس بالطغاة والقادة المستبدين مرة بعد أُخرى؟ على مر العصور ومنذ آلاف السنين، حاول الفلاسفة والمنظّرون السياسيون تفسير سبب مشاركتنا عن طيب خاطر في اضطهادنا من خلال الخضوع للزعماء المستبدين. واليوم، تصبح هذه المسألة ملحة أكثر من أي وقت مضى بعد الصعود المشؤوم للأنظمة الاستبدادية في العديد من دول العالم.
كان أفلاطون من أوائل المفكرين وأكثرهم تأثيراً في تناول مشكلة الاستبداد. فقد جادل في كتاب الجمهورية، الذي كتُب حوالي 380 ق.م، بأن الدول الديمقراطية مقدّر لها أن تنزلق إلى حالة الطغيان. لم يكن أفلاطون من محبي الديمقراطية، ربما لأن ديمقراطية أثينا هي التي حكمت على معلمه المحبوب سقراط بالإعدام. كان يعتقد بأن الأشكال الديمقراطية للحكم تخلق جماهير فاسدة وغير منضبطة تكون فريسة سهلة لسلاسة خطاب السياسيين المهرة في فن سمسرة رغباتهم. في كتاب الحوار، الذي كتب في نفس الفترة، يخبرنا بأن هؤلاء السياسيين يغوون الجماهير بوعود غير صحية بدلاً من تعزيز الصالح العام. فقد كتب أفلاطون بسخرية ’مخبز المعجنات يلبس قناع الطب، ويتظاهر بمعرفة الأطعمة الأفضل للجسم، بحيث إذا كان على الخباز والطبيب التنافس أمام الأطفال، أو أمام رجال بحماقة الأطفال، لتحديد أي من الاثنين، الطبيب أم خباز المعجنات، حول من لديه معرفة متخصصة بالطعام الجيد والسيئ سيموت الطبيب من الجوع.‘
دعونا ننتقل بالزمن بسرعة من ألفي سنة ونيف إلى أوائل القرن العشرين، ونتأمل في دراسات عالم الاجتماع الألماني ماكس فايبر. فقد طور فايبر، أحد مؤسسي علم الاجتماع، مفهوم `السلطة الكاريزمية ‘ – ` خاصية معينة للشخصية الفردية، بفضلها يتم فرزه عن الرجال العاديين ويعامل على أنه يتمتع بما هو خارق للطبيعة، أو فوق طاقة البشر، أو يمتلك على الأقل، خصائص أو صفات استثنائية.‘ يحفّز القادة الذين يتمتعون بالكاريزما الولاء، ويعتبرون في منزلة الانبياء من قبل أتباعهم. تعمّق رؤى فايبر تفسير أفلاطون المبسّط. يتمتع الطاغية الصاعد بهالة خاصة تكاد تكون سحرية. يعتقد أتباعه أنه يستطيع عمل المعجزات وتغيير حياتهم. ولكن كيف تتم هذه العملية؟ ما الذي يدفع أناس عقلاء إلى الانصياع لتبني مثل هذه الآراء غير الواقعية على نحوٍ خطير؟ لشرح ذلك، نحتاج إلى التعمّق أكثر.
في الوقت نفسه الذي كان فيه فايبر يطوّر نظريته عن الكاريزما في برلين، كان سيغموند فرويد يتصارع مع أفكار مماثلة في فيينا. توّج أفكاره في كتاب علم نفس الجماهير وتحليل الأنا (1921). يركّز علم نفس الجماهير على الديناميات النفسية للتابع. إنه نص معقّد، كمعظم أعمال فرويد، ولكن يبرز فيه موضوعان رئيسيان. أولاً، جادل فرويد بأن أولئك الذين ينجذبون إلى القادة المستبدين يحولونهم إلى نماذج مثالية. يُنظر إلى القائد على أنه إنسان بطولي قدوة خالٍ من كل عيب فادح. ثانيًا، جادل فرويد بأن الأتباع يتماهون مع القائد من خلال استبداله بما أسماه فرويد بـ الأنا المثالية. التي هي تمثيل عقلي للقيم الإرشادية للمرء التي تتكون من معتقدات حول الحق والباطل، وما هو واجب و ما هو محظور. إنها بوصلتنا الأخلاقية: في الجوهر هي نفس بوصلة ضمير المرء. عندما يحل محل الأنا المثالية لديهم، يصبح القائد المستبد هو ضميرهم، ويصبح صوته هو صوت ضميرهم. مهما كانت مشيئة القائد فهي، بحسب التعريف، صالحة وصحيحة.
تنسجم أطروحة فرويد بشكل كبير مع ما حدث في ألمانيا هتلر. لنتأمل مقال الشاب ألفونس هيك الذي كان عضواً في شبيبة هتلر. ففي كتابها “الضمير النازي” (2003) ، كتبت المؤرخة كلوديا كونز أنه عندما رأى هيك الغستابو وهم يجمعون اليهود في قريته من أجل الترحيل، بمن فيهم صديقه المفضل هاينز، لم يقل: ‘كم هم فظيعون وهم يقومون باعتقال اليهود “. بل قال بدلاً من ذلك، بعد تشرّبه مقولة ” التهديد اليهودي ” :’ يا لسوء الحظ أن يكون هاينز يهودياً ‘. كشخص مدرك ، قال: ’قبلت الترحيل على أنه عادل‘.
إن حقيقة أن مجتمع الأتباع لديهم تشبّه مشترك مع الزعيم المستبد لها تبعة هامة أخرى. إذ ان الاتباع يتماهى الواحد مع الآخر كأجزاء من “حركة” ، ويعيشون تجربة الاندماج في كل جمعي. هذا الإحساس المنتشي الاتحاد معاً، وإخضاع المصلحة الذاتية الشخصية لقضية أكبر، هو عنصر مهم للغاية في الأنظمة الاستبدادية. إنه موجود في جزء كبير من الخطاب الاستبدادي، كما تجلى في الرايخ الثالث. كانت الفكرة المتغلغلة لألمانيا هتلر هي أن: الفرد مهم فقط كآلية نقل في خدمة العرق أو الشعب، وأن واجب المرء تجاه هذه الروح العظيمة المتسامية يتفوق على المصلحة الذاتية الضيقة. تم توجيه الأطفال الألمان للحفاظ على دمائهم “نقية” – أي لتجنب اختلاط الأجناس. قيل لهم إن دماءهم ليست لهم، بل للعرق الألماني – تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً- ومن خلاله سيمتلكون الحياة الأبدية.
إن المشاركة في الأنظمة الاستبدادية لها توافقات دينية لا لبس فيها. إنها تنطوي على الاستسلام لقوة أعلى والتخلي عن حدود الأنا الفردية، من أجل النقاء. إنها تستحضر الحياة الأبدية والولادة الجديدة والافتداء. وصف المؤرخ لورانس ريس الطبيعة شبه الدينية لصعود هتلر في كتاب الكاريزما المظلمة لأدولف هتلر (2012):
إن جحافل الألمان الذين سافروا – على طريقة الحجاج – لتقديم الولاء لهتلر في منزله في بيرختسغادن؛ وآلاف الالتماسات الشخصية التي أرسلت إلى هتلر في مستشارية الرايخ ؛ الأيقونة شبه الدينية لتجمعات نورمبرغ ؛
وحقيقة أن الأطفال الألمان قد تم تلقينهم بأن هتلر “مرسل من الرب” وأنه “إيمانهم” و “نورهم” ؛ كل هذا يشير إلى حقيقة أن هتلر قلما تم النظر إليه كسياسي عادي بل على الأغلب كنبي مبارك من قبل الآلهة.
في هذا السياق، من المفيد الرجوع إلى بحث فرويد مستقبل الوهم (1927). على الرغم من أنه يهتم إلى حد كبير بسيكولوجية الدين، إلا أنه من الخطأ تجاهل سياقه السياسي ومحتواه. لم يوجد يهودي في ’فيينا الحمراء‘ في عام 1927 (وهو بالمناسبة نفس العام الذي تم فيه تنظيم أولى تجمعات هتلر في نورمبرغ) ألا وشعر بالقلق إزاء تصاعد معاداة السامية السياسية. أخبر فرويد أحد المحاورين قبل ذلك بأقل من عام، 1926:
لغتي ألمانية. ثقافتي، إنجازاتي ألمانية. اعتبرت نفسي ألماني الفكر، حتى التاريخ الذي لاحظت نمو التحيز المعاد للسامية في ألمانيا والنمسا الألمانية. منذ ذلك الوقت، أفضل اعتبار نفسي يهودياً.
أحد الأوهام التي أشار إليها في النص هو الرأي القائل بأن ’العرق الجرماني هو الوحيد الجدير بالحضارة.‘
في ذلك الوقت، كان المضمار السياسي النمساوي منقسماً بين اليمين المتمثل بالاشتراكيين المسيحيين (الذين تم تمويل جناحها المسلح ، Heimwehr ، أو ’حارس البيت ‘، من قبل الفاشيين الإيطاليين) واليسار المتمثل بالاشتراكيين الديمقراطيين (بوحدة مسلحة تسمى Schutzbund أو رابطة الحماية ).
اندلعت التوترات بين المجموعتين في 15 تموز/ يوليو 1927، وذلك عندما نظم اليسار مظاهرة احتجاجية ضخمة، بدأت كمحاولة لاحتلال جامعة فيينا، التي كانت على بعد بضع دقائق مسير من شقة فرويد، وبلغت ذروتها أمام القصر العدلي، على بعد حوالي 20 دقيقة مسير، حيث اقتحم الحشد المبنى وأّضرم فيه النار. فتحت الشرطة النار على المتظاهرين، وفي غضون ثلاث ساعات مات 89 منهم، وخمسة من رجال الشرطة. عُرف ذلك اليوم واليومين التاليين، باسم Schreckentage – ’أيام الرعب‘. بالنسبة لمثقفي فيينا أمثال فرويد، كان خطر السياسة الاستبدادية قريبًا جدًا من البلد.
بالسير على التقليد المتبع من قبل الفلاسفة الألمان لودفيج فيورباخ وكارل ماركس، جادل فرويد بأن المعتقدات الدينية هي أوهام، ومع ذلك فإن له وجهة نظر فريدة: بأن ما يميز الوهم عن اللاوهم ، ليس في ما إذا كانت صحيحة أم مزيفة، وإنما كيف نشأت. الأوهام هي معتقدات نتبناها لأننا نريدها أن تكون صحيحة. عادة ما تكون هذه المعتقدات خاطئة، لكنها في بعض الأحيان يتضح أنها صحيحة. لنفترض أنك اشتريت تذكرة يانصيب لأنك استيقظت في ذلك الصباح مقتنعاً بأنك ستربح. وافترض أنك، بالمصادفة، فزت باليانصيب. على الرغم من أن اعتقادك أنك ستربح كان حقيقياً، إلا أنه لا يزال يعتبر وهماً فرويدياً.
وأكثر الأوهام أسراً تتأهل إلى خداع الذات. فخداع الذات هي أوهام زائفة وبنفس الوقت تتصف بمقاومة عالية للمراجعة العقلانية، بسبب القوة الهائلة للرغبات التي تغذيها. القناعات الدينية هي أمثلة فرويد الرئيسية عن خداع الذات. فقد كتب:` إنها تحقيق لأقدم وأقوى وأشد أمنيات البشرية إلحاحًا. يكمن سر قوتها في قوة هذه الرغبات‘.
الرغبات التي يقوم عليها المعتقد الديني لها علاقة بالتحرر من العجز البشري. فنحن عرضة لقوى الطبيعة، كالأمراض والكوارث الطبيعية ومن ثم الموت، وكذلك لأفعال الآخرين الذين يمكن أن يؤذونا أو يقتلوننا أو يعاملوننا بشكل غير عادل. يعتقد فرويد بأننا نعود، عند إدراكنا لعجزنا، إلى نموذج طفولي: ذكريات العجز المطلق التي عشناها عندما كنا أطفالًا – اعتمادنا الكامل والمروع على البالغين الذين أهتموا بنا (أو فشلوا في رعايتنا). ويعتقد بأن المتدينين يتعاملون مع شعورهم بالعجز من خلال التشبث بوهم معبود قوي، حامي يمنحهم الحياة الآخرة.
هناك روابط واضحة بين تحليل فرويد للاندفاع الديني والقوى النفسية التي تلعب دوراً في المجال السياسي. فالسياسة، بشكل صريح، هي استجابة لضعف الإنسان. فأعمق آمالنا ومخاوفنا تخترق حلبة السياسة، وهذا ما يجعلنا عرضة لأوهام سياسية، التي غالبًا ما يتم التشبث بها بإصرار عاطفي، ومقاوم للحجج المنطقية، بحيث تتناسب مع تشخيص فرويد لـ خداع الذات. من هذا المنظور، فإن الأنظمة السياسية المستبدة تردد صدى الديانات التوحيدية. فالقائد كالإله، كلي العلم، كلي القدرة، وكلي الوجود. كلماته تحدد آفاق الحقيقة. يجب الثناء عليه وإرضاءه، ولا يجوز أبدًا الاعتراض عليه. أعداؤه، بحسب التعريف، في تحالف مع قوى الشر.
إذا كانت الأديان تدور فقط حول أوهام تحقيق الامنيات، لكانت كلها متسقة ومتوائمة. لكنها ليست كذلك. الوعد الجميل بالفردوس له دلالة فقط بالضد من تهديد الجحيم، والخلاص يتطلب شيئاً يحتاجه المرء لكي يحفظه منه، حتى على حساب التقشف والمعاناة، والتعذيب والموت -في حالة الشهداء الدينيين- . الشيء ذاته ينطبق على الخطاب السياسي الاستبدادي. إنها ليست كلها كعكة: إنها سم أيضاً.
لتناول هذا البعد الأكثر قتامة للذهنية الاستبدادية، تحولت إلى ورشة عمل محلل نفسي آخر أقل شهرة – روجر موني كيرل، الذي ينحدر من عائلة أرستقراطية إنجليزية. التحق بسلاح الطيران الملكي في سن 18 من أجل القتال في الحرب العالمية الأولى، وأسقطت طائرته في شمال فرنسا عام 1917، مما أنهى مسيرته العسكرية. بعد الحرب، التحق بجامعة كامبريدج لدراسة الفيزياء والرياضيات، لكنه سرعان ما تحول إلى الفلسفة. مثل العديد من مفكريي كامبريدج في ذلك الوقت، أصبح موني كيرل مهتماً بالتحليل النفسي، وسافر إلى فيينا في عام 1922 لإكمال الدكتوراه تحت إشراف الفيلسوف موريتس شليك (مسؤول حلقة فيينا) ولاجراء التحليل مع فرويد. بعد عودته إلى بريطانيا في عام 1926، حصل على درجة دكتوراه ثانية، هذه المرة في الأنثروبولوجيا، وأصبح في النهاية محللًا نفسيًا متمرساً.
في عام 1932، زار ماني كيرل برلين لفترة وجيزة بدعوة من صديقه الدبلوماسي آرثر ينكن (الذي قُتل لاحقًا عندما زرع النازيون قنبلة موقوتة في طائرته). أخذه ينكن إلى تجمع للحزب النازي، حيث ألقيت خطابات فيه من قبل كل من جوزيف غوبلز وهتلر. كان موني كيرل مفتوناً ومنزعجًا بما رآه وسمعه، وحاول فهم ما حدث بتفحص الخطابات وديناميات الحشد عبر عدسة التحليل النفسي. وكانت النتيجة مقالة “سيكولوجيا البروبغندا‘ (1941).
أثناء زيارته لألمانيا، كان موني كيرل إلى حد كبير تحت التأثير الفكري للمحللة النفسية الإنجليزية ميلاني كلاين الهنغارية المولد. فقد اعتبرت كلاين أن البشر جميعاً مسكونين بمخاوف عميقة ومرعبة وصفتها بـ “القلق الذهاني”. لقد اعتقدت بأن هذه المخاوف واستجاباتنا لها، تقود قدراً كبيراً من السلوك البشري – باتجاه الخير أو الشر. وفق صيغة كلاين، هناك نوعان أساسيان من القلق الذهاني: قلق الارتياب المفرط، وهو الذعر من الاضطهاد من قبل قوى الشر، والقوى الأبدية، والنوع الثاني هو القلق الاكتئابي ، وهو الشعور بأن المرء مذنب بتدمير ما يحب ويقدر. كما وصفت كلاين ما أدعته بـ الدفاع الهوسي، وهو إنكار العجز والاعتماد على الآخرين بأوهام القوة والعظمة والاكتفاء الذاتي، ويتجسد في مواقف الانتصار والسيطرة والازدراء.
استخدم ماني كيرل إطار عمل كلاين لفهم قوة الخطاب النازي. وخلص إلى أن هتلر وغوبلز تسببا في شيء يمكن تسميته بالذهان الجماعي في جمهورهم، وشكلاه لمآرب سياسية. إذ يقول:
لم تكن الخطابات بحد ذاتها مؤثرة بشكل خاص. لكن مشهد الحشد لا يُنسى. فقد بدا أن الناس يفقدون شخصيتهم الفردية تدريجيًا ويصبحون مندمجين في وحش ليس ذكياً جداً لكنه قوي للغاية … كان ذلك تحت السيطرة التامة للشخصية التي على المنصة الذي استدعى او غيّر عواطفهم بسهولة كما ولو أنهم كانوا نوطات موسيقية في آلة آرغن عملاقة.
لقد أوصلت مراقبة ماني كيرل لهتلر وغوبلز أثناء نشاطاتهما إلى فكرة أنه لكي تنجح الدعاية السياسية، يجب على مروجيّها أن يحدثوا شعوراً بالعجز في جمهورهم (السّم) ثم يقدمون لهم حلاً سحرياً (الكعكة). أولاً، يجعلون الجمهور يشعر بالاكتئاب – لجعلهم يشعرون أنهم فقدوا أو دمروا شيئًا جيدًا وذو قيمة كبيرة للغاية. لقد تم تركيعهم. إنهم أضحوكة. لقد خانوا المصير العظيم للشعب الألماني. كما يصفها ماني كيرل: ’ لمدة 10 دقائق سمعنا عن معاناة ألمانيا … منذ الحرب. بدا الوحش مفرطاً بالاشفاق على الذات “.
الخطوة الثانية هي تحديد أقلية أو مجموعة من الغرباء كمتسببين في معاناة المرء. إنها قوى الشر، تضطهدنا من الخارج أو تنهشنا من الداخل. كتب ماني كيرل :
ثم في الدقائق العشر التالية، جاء الوعيد الفظيع ضد اليهود والاشتراكيين الديموقراطيين باعتبارهم السبب الوحيد لهذه الآلام؛ حلت الكراهية محل الاشفاق على الذات ؛ وبدا الوحش على وشك أن يصبح قاتلاً.
والخطوة الثالثة هي تقديم علاج هوسي مخاوف العجز:
لم تكن الكراهية والشفقة كافيتين. كان من الضروري أيضًا طرد الخوف … لذلك تحول الخطباء من اللوم إلى الثناء على الذات. من بدايات صغيرة، نما الحزب بشكل لا يقهر. شعر كل مستمع بجزء من قدرته المطلقة داخل نفسه. تم نقله إلى ذهان جديد. انتقلت السوداوية المستحثة إلى بارانويا ، والبارانويا إلى جنون العظمة.
كان تصعيد هذه المرحلة الهوسية الأخيرة من أداء هتلر بمثابة دعوة إلى الأتحاد أو الوحدة ، التي اعتقد ماني كيرل أنها كانت حاسمة في نجاح الدعاية الاستبدادية ، لأنه ` إذا لم يكن لديه سوى صواعق ليقدمها، فمن شبه المستحيل كان سيبقى الإله الذي هو عليه‘. بعد أن بدا هذا الوتر قوياً وايجابياً في الختام، وعد هتلر بالجنة على الأرض؛ ’هذه الجنة، مع ذلك، كانت فقط للألمان الحقيقيين والنازيين الحقيقيين. كل ماعدا هؤلاء بقي مضطهداً، وبالتالي موضوعاً للكراهية ‘.
على الرغم من ذلك مستوحى من تفحص الخطاب النازي، إلا أن ماني كيرل لم يعني أن تحليله ينطبق فقط على النازيين. في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، حضرت الصحفية غيوون غيلفورد العديد من تجمعات دونالد ترامب، ودونت ملاحظاتها لمقارنتها مع وصل إليه ماني كيرل. كتبت ذلك في مقال رائع نُشر في المجلة الإلكترونية كوارتز: “لقد راجعت عددا كبيرا من ملاحظات كتبتها للتأمل في تجمعات ترامب. فوجدت بأن كلها تقريبا تتوافق مع السلسلة التي وضعها ماني كيرل‘.
سواء أكان تشخيص التحليلي النفسي لجاذبية هؤلاء القادة صحيحًا أم لا، هناك حاجة إلى تحليل كهذا للمنابع النفسية للتوق إلى القادة المستبدين. يمكن أن يساعد فهم جاذبية الأوهام الاستبدادية في تحصيننا ضدها، وبالتالي تجنب الانقياد مرة أخرى إلى الهاوية.
سؤالان من المترجم:
- هل ينطبق هذا التحليل حتى على النخب “البعيدة” التي لم تعش في كنف أولئك الطغاة ومع ذلك بقوا حتى آخر لحظات حياتهم معجبين بهم؛ الكاتب المسرحي برنارد شو، على سبيل المثال، الذي بقي حتى مماته معجباً بـ ستالين (بقيت صورة ستالين إلى جانب سرير شو حتى نهاية حياته!)؟
- إلى أي مدى يمكن استخدام هذا التحليل في تفسير حالة النخب التي تظل معجبة بطاغيتها رغم سقوطه المدوي والدمار الهائل الذي نتج عن تطبيق نظريته داخلياً وخارجياً؛ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي بقي مؤمناً بالنازية وهتلر حتى بعد سقوطهما!؟