رحلات في كردستان وبلاد ما بين النهرين – الحلقة (1)

شارك هذا المقال:

JBFraser

ج.بيللي فريزر

“جيمس بايلي فريزر: (1783 – 1856) كاتب رحلات و فنان اسكتلندي كتب و رسم لوحات عن آسيا الصغرى و الهند و بلاد فارس.”

 

الحلقة (1)

ترجمة: عمر رسول

فصل من كتاب مترجم معد للطباعة ينشر في مدارات كرد على حلقات

كتاب عن الرّحلات في كردستان وبلاد ما بين النهرين وحولها يشتمل على وصف لأجزاء من هذه البلدان لم يزرها الأوروبيون حتى اليوم مع صور وصفية لخصائص وعادات القبائل الكردية والعربية بقلم ج. بيللي فريزر المحترم- مؤلّف كتابي”قزل باش” و”رحلة شتائية إلى فارس” في مجلّدين.

 المجلّد الأول

الرسالة السادسة

مصير السليمانية – أحوال الباشا – حديثه – أسياد لا يتأثرون بالنار – المدينة – المقابر – شخص في حداد – طلب المغادرة من الباشا – خيبة أخرى – شهرَزور – سرتيب خان – دليل كردي – عبور الجبال – قرداغ – اليهود – ضعف التصور عند الأكراد حول الخرافات المتخلية –  شرح حول نظركه –  قبائل جاف وهماوند  –  مضيق طريق سكرمه  – لمحات عن آشور – زاله – قزم – الضيافة – أرض محجّرة – سنديان جميل –  سليم آغا – لزعماء الأكراد – تأملات حول الإمبراطورية الآشورية – رستم آغا – الملامح العامة للأكراد – كفري –  تغيير العادات والناس.

السليمانية، الأول من شهر تشرين الثاني – 1834

العزيز….،

قبل يومين انتهيت من كتابة رسالة أود إرسالها إليك، لكن ولأنه لا يوجد بريد لندن هنا سأضطر أن أخذها معي إلى بغداد. زارني يوم أمس بعض الضباط الإيرانيين الذين يقودون القوات الأذربيجانية هنا. أعطوني وصفا بائساً للأمور هنا، لكن ليس أكثر مما تؤكده حقيقة الأشياء ذاتها. وبعد ذلك قمت بزيارة إلى خيمة الباشا حيث وجدته وسط مجموعة من الأكراد جميلي البشرة، لم يكن يحيط به شيء من مظاهر الباشوية…يا للرجل المسكين! لم يستطع أن يقدم شيئاً من ذلك. لأن باشوية السليمانية فقيرة بالثروة والسلطة على حد سواء، لأن الكثير من المآسي قد حلت بها في الآونة الأخيرة، مما جعلتها تتمرغ في البؤس. ففي البداية حلت بها الحرب الأهلية التي اندلعت بين شقيقين بسبب الصراع العائلي على السلطة. ومع الحرب تدخلت القوى الخارجية، كنتيجة منطقية، في الصراع، فوقعت الولاية التي كانت تابعة لبغداد في يد الأمير الإيراني محمود علي ميرزا حاكم كرمنشاه. لكن لم تتوقف الصراعات والاضطرابات الداخلية فقد أدت إلى إضعاف الفريقين أكثر فأكثر، إلى درجة تجرأ حاكم رواندوز بمهاجمتها واقتطاع جزءٍ كبيرٍ من الولاية لنفسه بعد موت محمود علي خان. وقد نشبت الحرب بينه وبين حكومة أذربيجان بسبب ذلك لأن الأخيرة تعتبر المناطق التي سيطر عليها أمير رواندوز هي تابعة لسلطة حكومتها، ولسوء الحظ كانت السليمانية هي التي تدفع تكاليف الحرب للجيش الإيراني إلى جانب الضرائب التي تدفعها لإيران. ومن بعد الحرب أتت جائحة الطاعون لتقضي على نصف سكان المدينة والقرى المحيطة، وما تبقى من النصف الآخر لم يكن هناك من يستجيب لنجدته لإنقاذه من مصائبه أو تخفيف الضرائب عنه، لذا فقد هاجر الناس إلى المناطق التي تقلّ فيها المشاكل مثل رواندوز وكركوك وأربيل والمقاطعات الأخرى في المناطق المنخفضة. بهذه السياسة القاصرة كانت إيران تقوّي يد أعدائها وتضعف يدها. ولم يكن الباشا المسكين يستطيع أن يهرب من العاصفة، فقد جلس هناك، بعد العظمة، وسط الحطام والدمار مشوّش الفكر وحائراً إلى أقصى درجات التشويش والحيرة لأن المطلوب منه كان أكبر مما تتحمله طاقته. وضعه لا يحسد عليه! لذا لا تستغرب عندما أقول لك أنني لم أشاهد شيئاً من الأبهة أو العزّ أو الراحة عند الباشا. لقد سأل خدمه من خدمي إذا كان لديهم شيء من البسط كي يمدوه في المنزل الترابي الذي نزلنا فيه، لأنها نادرة الوجود هنا؛ لكن للأسف لم يكن لدينا أي من البسط أو ما شابه، لذا فقد بقينا دون بساط!

كان الباشا شخصاً لطيفاً، واسع الإطلاع، وكان يعرف القضايا المتعلقة بالعثمانيين أكثر من القضايا المتعلقة بالأكراد الذين كانوا في مثل موقعه. لقد سألني أسئلة كثيرة حول الوضع في أوروبا، علاقة القوى ببعضها البعض، وخاصة العلاقة بين الباب العالي وروسيا ومحمود علي باشا. وبدا الباشا أنه على إطلاع جيد أيضاً بالمسائل المتعلقة بأمريكا، وكان وصفه دقيقاً للكثير من الإيرانيين، بالإضافة إلى هذا كان تحليله صائباً فيما يتعلق بالأفكار الغريبة عند أبناء شعبه. لقد ناقشنا أيضاً ظروف الهند، وتحدثنا عن اختراعاتها الجديدة وخاصة الحربية منها. وقد قادنا الحديث عن قدح الأسلحة إلى التحدث عن العديد من أنواعها، خاصة تلك التي يمكن أن تكون مفيداً في المعركة وسبل مقاومتها. لقد جعلني الحديث عن هذه الأمور أن أذكر شيئاً عن التلميحات التي سمعت عنها أكثر من مرة، أعني النموذج الخرافي الغريب عند هذا الشعب الذي يمتاز بالبساطة من جهة، وبالشعوذة الصفيقة من جهة أخرى.

كما تعرف ينحدر الأسياد من نسل النبي محمد؛ لكنهم ينقسمون إلى عدة فئات متفاوتة من حيث درجة الاحترام، أي أن هناك فئة تدّعي بأنها مبجّلة أكثر من الفئات الأخرى في الحسب والنسب.

والأُسَر التي تدّعي لنفسها هذا النسب هي قليلة العدد، لكنها تتباهى بأنها قادرة على تحمل النار من دون أن تتأذى بها. وفي صاوج بلاق سمعت أن عائلة من هؤلاء الأسياد تعيش في قرية قريبة من المدينة، ولكن عندما حققتُ رغبة مشاهدة هذه المعجزة لم يكن هناك من يقوم بها أمامي. لقد أكّد الناس أن الواحد من هؤلاء الأسياد يستطيع أن يدخل في تنور ملتهب النيران، أو يضع النار فوق رأسه، ومع ذلك سيصيح: “أنا بارد”!..وسيخرج من النار بعد ذلك سليماً معافى دون أن تؤذيه النار بشيء. يخرجون قطعة من الحديد المحمرّ في النار دون أن تحترق أياديهم، باختصار إذا ما صدقنا ما يقال عنهم، فأنهم أناس ضد النار.

ولكن إذا ما ضحكتَ على هذه الخرافة المنافية للعقل فأن الناس سوف يغضبون منك، وستكون ضحكتك عندئذٍ بلا قيمة في نظرهم، لأن هذه القصة مثل جميع القصص الأخرى توارثتها الأجيال حتى أصبحت لديهم معتقدات راسخة لا يمس في صحتها، ولا مجال لدحضها إلى بالتجربة الملموسة، وعندما تستعد للقيام بالتجربة للكشف عن الحقيقة فأن الفريق الذي يدّعي بأنه حامل السرّ سيتهرب من الميدان. لكن ومع ذلك، بقيت حقيقة هذه القوى الإعجازية تضغط عليّ من كل الجهات، لم يكن لدي القدرة على تصدقيها ولو ضمنياً، حتى شاهدت ذلك بأم عيني كبرهان لا يدحض، شاهدت أحد هؤلاء الأسياد الموهوبين بهذه القوة يخرج قطعة من الحديد المحمرّ من النار بذراعه العارية، ومن ثم يمسكها لبعض الوقت بين أصابعه، هذا سيقنعني بأنه موهوب بطاقة إعجازية خاصة. وأجاب الجمع من حولي بصوت واحد: “نحن لا نشك بما نراه، أننا نعتبره من الحقائق”… لكنني ألححت وقلت: “حسناً، ها أنني شاهدت الحديد المحمرّ في يد السيد، إذاً يجب علي أن أعترف أيضاً أن الله هو الذي منحه هذه القوة، أياً كانت الغاية التي تكمن وراء ذلك”…”يجب أن تعترف” قال ميرزا الإيراني، الذي كان يحاول بإصرار أن يجرجرني إلى فخ النقاش في الأمور الدينية، لكن باءت جميع محاولاته بالفشل، “ويجب أن تصدق كل ما يقوله لك أيضاً” عندئذٍ قلت له: “افترض أنه أنكر وجود الله، هل يجب علي أن أصدقه أيضاً في هذه الحال”…أجابني: “كلا، لكنه يستحيل أن يقول ذلك”. قلت له: “ليس مستبعداً أن يقول ذلك، لأنكم تقرّون في أعماقكم بهؤلاء الأسياد بأنهم هم الله، لأنهم يمتلكون هذه القوى الخارقة، وهناك من يرفض حكاية ادعائهم من الأساس، بناءً عليه ينبغي ألاّ تتوقع أن يصدق إنسان قول الآخر إن لم  يسمع ما يقوله، ومن ثم يرى إذا ما كان كلامه قابلاً للتصديق أم لا”. قال الباشا: “صحيح، سيكون من غير المعقول أن تفعل غير ذلك”. بعدها سكت ميرزا ولم يتفوه ببنت شفة.

عندئذٍ قلت للباشا: “اسمح لي يا سماحة الباشا أن أسأل: هل شاهد جنابكم العالي أياً من هؤلاء الأسياد ينجز عملاً خارقاً نسب إليهم”؟ أجاب الباشا بالنفي. عندئذٍ قلت لرجل عجوز كان يجلس بالقرب مني ينصت إلى النقاش بشوق: “وهل شاهدت شيئاً من هذا القبيل”، أجابني: “كلا، لكنني وجدت أحدهم يدخل النار في فمه”…فقلت له: “إن أي حقه باز (مشعوذ) يمكن أن يفعل ذلك، ولا يمكننا أن نصدق ما يقوم به لأنه يندرج تحت فنون الخداع”. “يقول الحقيقة، وجدت بأم عيني أنهم يقدمون بعض هذه الفنون” قال الباشا مرة أخرى للتأكيد على ما قلته. عندئذٍ التفتُ إلى الناس المجتمعين الذي بدؤوا بالمشاركة في الحديث لأسألهم واحداً تلو الآخر، ولكن لم يقل لي أي شخص منهم أنه شاهد بنفسه أي شيء من ذاك القبيل. عندها قلت لميرزا بشي من عدم التحيز، لا شيء يبرهن على صحة المعجزات المؤكدة أكثر من الأقاويل والإشاعات، لم يتمكن الميرزا أن يتوقع بأنني سأتخلى عن منطقي وأفكاري واستسلم له، وبانتظار أن يأتيني بأدلّة جديدة اكتفيت بما قلته.

 (يتبع ….. )

شارك هذا المقال: