بين التعليم الإسلامي وفقه اللغة القومية: ملا محمود البايزيدي والأنثروبولوجيا الذاتية للكرد (1)

بريشة الفنان التشكيلي محمد شاهين

شارك هذا المقال:

ميشيل ليزنبيرغ- جامعة امستردام، هولندا

الترجمة عن الإنكليزية: راج آل محمد

إهداء إلى جان دوست [ميشيل ليزنبيرغ]

ملخص:

تعالج هذه الورقة الأعمال الأنثروبولوجية واللغوية لعالم كردي عاش في القرن التاسع عشر هو الملا محمود البايزيدي الذي تشكل أعماله مرحلة هامة في تاريخ المعرفة باللغة الكردية المحكية . يتوصل البحث إلى أن البايزيدي، ورغم أنه كان يعمل في خدمة القنصل الروسي، أوغست جابا، فإنه لا يمكن أن يُصنّف كـ”عميل محلي” ولا كـ”عالم استشراق “.بعد تقديم لمحة تاريخية، أناقش الكتابات الرئيسية للبايزيدي وأهميتها. بعد ذلك أناقش مفاهيمه عن اللغة والأدب والتقاليد و الثقافة المحلية والتاريخ لأتوصل في النهاية إلى أن أياً منها لا تحمل آثار فقه اللغة الغربية الحديثة أو القومية الرومانسية. من هنا، لا يمكن أن تُوصف أعماله بأنها “استشراق ذاتي”. ولكن، لكونها مكتوبة باللغة المحكية، فإنها لا تمثّل بالكامل التعليم الإسلامي الكلاسيكي.

مقدمة:

لم تلق تقاليد التعلم باللغة المحكية في بدايات [تشكل] العالم الإسلامي الاهتمام البحثي الذي تستحقه[1]. لكن عند دراستها بالتفصيل فإنها في نهاية المطاف تُربك أو تقوّض بعض المعتقدات الرائجة عن انتشار القومية أو هيمنة الاستشراق الغربي في الشرق الأوسط الحديث. وكمثال على ذلك، أقترح أن يتم دراسة كتابات ملا محمود البايزيدي أو بازيدي (1797-1858). لا تنطوي تلك  الكتابات فقط على فائدة متأصلة بصفتها ،ربما، أقدم مصدر محلي عن عادات الكرد وتاريخ التعلم بالكردية والأدب، بل تمثل أيضاً مرحلة مهمة في تطور التعلم بالكردية المحكية. إلى جانب الترجمة الكردية وتكملة كتاب شرفنامه الذي وضعه شرفخان البدليسي في القرن السادس عشر،  وهو سجل تاريخي باللغة الفارسية عن الإمارات الكردية، كتب بايزيدي أعمالاً عن قواعد اللغة الكردية والأدب والفلكلور وألّف أيضاً عدة مجموعات من النصوص النثرية القصيرة. وعلى الرغم من عدد وأهمية تلك الأعمال فإنها بالكاد نُوقِشت أو أُعطيت لها أية أهمية على الإطلاق من قبل الباحثين في الدراسات الكردية ناهيك عن إعطائها أية أهمية في أماكن أخرى. بناءً عليه، ورغم الفائدة المتأصلة، فإن بايزيدي غائب عن أعمال مهمة ومؤثرة عن الكرد مثل كتاب مارتن فان برونسين الموسوم الآغا والشيخ والدولة، أو كتاب ديفيد مكداول تاريخ الأكراد الحديث أو حتى عمل هاكان أوز أوغلو أعيان الكرد والدولة العثمانية[2]. علاوة على ذلك، فإن إسهامات بايزيدي نادراً ما تأخذ حقها في الروايات التاريخية أو في تطور الدراسات الكردية.  وحتى في الدراسات العامة الحديثة، مثل كتاب ساجا آصلان جاكلي، فإن دور بايزيدي يقتصر على كونه “عميلاً” أو “مصدر معلومات”. مثل هذه الروايات تخاطر بالتقليل من قيمة العلماء الكرد (والآخرين غير الغربيين) إلى مجرد “مصدر معلوماتين محليين” وإعادة انتاج أنماط topos  المعرفة الاستشراقية الحديثة على أنها تقدّم بشكل رئيسي، إن لم يكن بشكل حصري، من قبل العلماء الغربيين.[3]

في الواقع هناك تقليد استشراقي عريق في الدراسات الغربية تنظر إلى الكرد بصفتهم بالدرجة الأولى شعباً قبلياً وريفياً وعملياً بدون ثقافة تعليمية عالية خاصة بهم، وبالتالي يعيرون اهتماماً أقل للمؤلفين المحليين والتطورات الثقافية والفكرية من اهتمامهم بالتاريخ الاجتماسي والأنثروبولوجيا. يشكل هذا التلقي أو التهميش لأعمال بايزيدي مرحلة مبكرة من خلق هذه الصورة الأنثروبولوجية ومؤشراً على عملية أشمل قام بموجبها الاستشراق الأوربي- ولا سيما الامبراطوري الروسي منه- بالتقليل من شأن العلماء المحليين والنظر إليهم كأشخاص مجهولين أو “رواة محليين” شفاهيين بالدرجة الأولى.

على نحو مماثل فإن البايزيدي غير معروف نسبياً في الأوساط الكردية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لم أجد أي دليل على أن البايزيدي كان معروفاً لتلاميذ المدارس المحلية سواء خلال سنوات عمره أو في السنوات اللاحقة ولم تُنشر معظم كتاباته إلا بعد مرور أكثر من قرن على كتابتها. وفي الحقيقة ما من دليل على أن أياً من كتاباته قد وصلت إلى القراء في كردستان بشكل مستقل قبل أن يتم طباعتها في الاتحاد السوفيتي بدءاً من الستينات.

وهكذا، فإن أهمية البايزيدي بالكاد تكمن في قراءته على نطاق واسع بين الأجيال الكردية اللاحقة من علماء الدين أو من قبل الناشطين القوميين. لكنني لن أناقش هنا أسباب عدم التأثير بالتفصيل، بل إن هدفي، بشكل رئيسي، هو مناقشة أعماله بوصفها علامة فارقة في تطور التعلم باللغة الكردية المحلية على خلفية الدولة العثمانية الحديثة والمركزية وعلى خلفية زحف الإمبراطورية الروسية. سوف أناقش أولاً ما هي بالضبط مفاهيم اللغة والأدب والدين والتراث والثقافة التي يمكن العثور عليها في كتابات ملا محمود البايزيدي، ثانياً كيف أن أنماط فقه اللغة للاستشراق الغربي قد شكلّت تلك المفاهيم ولا سيما إنها تشكل جوهر عمل معاونه وراعيه أوغست جابا، وثالثاً فيما إذا كان ذلك التأثير يرتقي إلى نوع من الاستشراق الباطني أو “الاستشراق الذاتي”. وأخيراً سوف أناقش باختصار مصير كتابات بايزيدي في الاستشراق الروسي اللاحق[4].

  • قومية لا غربية: استشراق ذاتي؟

إن دراسة مفصلة عن أعمال بايزيدي تثير أسئلة ذات طبيعة عامة. أولاً وقبل كل شيء إنها تستكشف دور التقاليد المحلية لتعلم فقه اللغة في بروز الهويات القومية، وهو موضوع تم دراسته بشكل موسع أكثر في حالة وسط وغرب أوربا. ثانياً تثير أسئلة بخصوص التحديد الافتراضي للاستشراق مع فقه اللغة الحديث بشكل عام، وبشكل خاص تأثيرها البناء على القوميات غير الأوربية وغير الغربية، كما زعم ستاثيس غورغوريوس فيما يخص الحركة الهيلينية الحديثة، ومارك نيشانيان بخصوص القومية الأرمنية الحديثة[5].

لا تقوم مناقشة الأخير فقط، وبشكل واضح، على نقد إدوار سعيد للاستشراق  بل أيضاً على حفريات ميشيل فوكو حول أصول فقه اللغة الحديث. كما هو معروف، يناقش فوكو في كتابه الشهير الكلمات و الأشياء بأن المفاهيم الغربية الحديثة عن اللغة ككائن حي يتطور تاريخياً بدلاً من كونها أداة شفافة للتمثيل، والأدب بوصفه شكلاً جمالياً خالصاً قائماً بذاته أو مملكة اللغة التي تطورت كجزء من نشوء العلوم الإنسانية الحديثة في القرن التاسع عشر. واستطراداً يمكن القول أن أنماط مثل الدين والثقافة (أو التراث) والتاريخ كذلك لها جذورها في العلوم اللغوية الحديثة. لكن مزاعم كهذه تترك السؤال كيف أصبحت هذه الأصناف الحديثة كونية أو انتشرت من الغرب إلى بيئات ليست غربية. تشكل كتابات بايزيدي بشكل خاص، كما آمل أن أوضح، أرضية مناسبة كحقل تجارب لفرضيات وأسئلة من هذا النوع.

دعونا نناقش أولاً المسألة الأكثر إشكالية المتمثلة بالقوميات اللاغربية بمزيد من التفصيل. ثمة اعتقاد على نطاق واسع أن هيمنة الأفكار القومية الحديثة تعتمد على الأنماط القومية الرومانسية الألمانية، واستطراداً فإنها استخدمت مفاهيم جديدة للغة والأدب التي طورها بشكل رئيسي فقهاء اللغة الألمان وبشكل أكثر تخصيصاً المستشرقون. أبعد من ذلك، وعلى خطى غورغوريوس، يماثل نيشانيان بشكل افتراضي بين فقه اللغة “القومية” والاستشراق مثلما حددها ادوار سعيد:

حيث يقول  إن أساليب فقه اللغة الحديثة تشكل في الوقت نفسه الذات القومية والآخر اللاغربي. لكن هذه العملية تصبح أكثر تعقيداً في حالة “القوميات اللغوية” الأوربية اللاغربية مثل الهيلينية الجديدة والحركات الأرمنية الناشئة عن الامبراطوريتين العثمانية [بشكل رئيسي]والروسية بشكل جزئي. يجادل نيشانيان أن فقه اللغة الحديث والأدب، يسميه هو “أختها التوأم”، يفرضان تعريفاً جديداً للذات (القومية)بوصفها “وطنية”- أي، تزخر بلغة وأدب قوميين شفاهيين قدر ما يكونان كتابيين، وثقافة فلكلورية أو موروث وثني مثلما هو مسيحي. بناءً عليه، يزعم نيشانيان أن اعتماد الاستشراق اللغوي الحديث في القرن التاسع عشر [ساهم] في تشكيل الأرمن والسكان المحليين الذين لديهم إرث من الفلكلور الوثني ما قبل المسيحية ، وبهذا المعنى، يجادل نيشانيان، بأن الاستشراق اللغوي الأرمني يرقى إلى أن يكون “توجها ذاتياً نحو الاستشراق”- أي استيعاب الفئات المهيمنة من الاستشراق الأوربي الغربي (الألماني بشكل خاص). بمعنى أن الأرمني ليس فقط هو الشرقي الآخر بل أيضا، وفي الوقت نفسه، ذاتاً قومية.

إن صحة هذه المزاعم بخصوص الأرمن لا تهمنا هنا، بقدر ما يهمنا السؤال فيما إذا كان جدلاً مشابهاً ينطبق على الأشكال الجديدة من التعلم بالكردية المحلية التي ظهرت إلى الوجود في الفترة الزمنية ذاتها تقريباً. في كتاباتي السابقة عن تاريخ الفكر الكردي قلت إنه أولاً وبدءاً من القرن الثامن عشر يمكن للمرء أن يلاحظ المرحلة الأولى من استخدام ما يُطلق عليه عمننة[6] الكردية (أي الاستخدام الجديد للغة الكردية من قبل المتعلمين) كجزء من عملية استعمال اللغة المحلية  الواسعة النطاق في الامبراطورية العثمانية وثانياً إنه في أواخر الامبراطورية الروسية وبداية المنح الدراسية السوفيتية بات من الممكن ملاحظة “الفوْكلرة”[7] (أي، إعادة صياغة الكرد بصفتهم شعباً غنياً بشكل رئيسي بفلكلور قومي شفاهي أكثر من غناه بأدب مكتوب). حينها يبدو مغرياً أن ننظر إلى بايزيدي-الذي يمكن القول أنه كتب معظم نصوصه بتأثير من النفوذ الإمبراطوري الروسي- بصفته مرحلة مهمة جداً في هذا التطور. واستطراداً لهذه الفرضية، يمكن أن يقول المرء أن العمننة والفوْكلرة للثقافة الكردية عملية مشابهة لما وصفها كل من نيشانيان وغوروريوس. بناءً عليه، فإن الأسئلة التي ينبغي استكشافها هي أولاً فيما إذا كان بروز الوعي القومي الكردي جاء بتأثير الأنواع المهيمنة للاستشراق اللغوي، مثلما يُزعم بخصوص القومية اليونانية والأرمنية، وثانياً ما هو الدور الذي لعبه بالضبط الممثلون الكرد في هذه العملية. في هذا السياق، سوف أبحث فيما إذا كانت كتابات بايزيدي تنطوي على ترجمات فقه اللغة الغربي والأنواع الأنثروبولوجية للغة، والفلكلور والتقاليد والشعور الوطني وإلى أي حد. من خلال القيام بذلك، آمل أن أقدم بعض الفروق الدقيقة-الكاسحة أحياناً-بخصوص مزاعم “هيمنة الاستشراق” الغربي. وسوف أتتبع بشكل خاص كيف أن سياق أصناف بايزيدي تختلف عن فقه اللغة الحديث، وإلى أي حد تم إهمال مساهمة بايزيدي في تطوير الدراسات الكردية من خلال تقليص دوره بصفة “مصدر معلومات محلي”.

وقد تبين أنه من المغري أيضاً قراءة نصوص كردية أقدم في ضوء القومية اللاحقة التي تفرض لغة وثقافة كرديتين، ولكن ينبغي على المرء أن يقاوم إسقاط مفاهيم وهويات متأخرة كهذه على فترة كانت الأنواع الرومانسية من القومية في طور التبلور، ناهيك عن عالميتها. وبشكل أكثر تحديداً ينبغي إغراء تنظيم الملاحظات المتناثرة للمؤلفين الأوائل في “عقيدة” موحدة ومتماسكة وتصويرها على أنها “استباق” لبعض المذاهب اللاحقة (في هذه الحالة، القومية الرومانسية). في الواقع إن تلك المفاهيم والعقائد الرومانسية إبداعات أوربية غربية في القرن التاسع عشر، وبالتالي، ينبغي ألا يفترض المرء بقابلية تطبيقها على نطاق عالمي بل استكشاف فيما إذا أصبحت عالمية ومتى وكيف. لهذا السبب ورغم إنني سوف أتتبع آراء بايزيدي على أربعة محاور هي اللغة والأدب والدين والتراث، إلا إنني لا أتبنى أياً من تلك المفاهيم بأي معنى معين-أي إما كمفاهيم تحليلة محايدة أو كفئات توّحد مجالاً استطرادياً برمته. إن هدفي هو بالضبط أن أبين كيف أن هذه المفاهيم المركزية قد تغيرت جذرياً معانيها ومضمونها من خلال القرن التاسع عشر.

2- الخلفية التاريخية:

إن تاريخ التنظيمات  Tanzimat المبكر للمقاطعات الكردية على طول الحدود الروسية-الفارسية غير معروف كثيراً مثل بقية المناطق الكردية مثل بوطان وراوندوز وديار بكر ناهيك عن المناطق الخارجية للإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة مثل إمارات الدانوب. المثير للدهشة هو إننا في الوقت الحاضر لا نعرف سوى القليل عن الإمارات الكردية الواقعة على خط الجبهة الشرقية للإمبراطورية العثمانية، رغم إنها كانت خط هام على الجبهة في صراعها المتكرر مع الإمبراطورية الروسية المتمددة. مع ذلك، كانت التطورات- وإن لم تكن مثيرة مثل البلقان- جذرية هناك. وينطبق هذا أيضاً على الأحداث في منطقة بايزيدي الأصلية المحيطة ببلدة بايزيد، أو ما يطلق عليه اليوم Dogubeyazit ، على الحدود التركية-الإيرانية. بدءاً من القرن السابع عشر أصبحت بيازيد سنجقاً، وحدة إدارية، تابعة لولاية أرضروم. وكان يحكمها بشكل وراثي حكام أكراد الذين قاموا بانجازات من بينها بناء قصر اسحق باشا. تقع بيازيد ليس فقط على الحدود بين الامبراطوريتين العثمانية والقاجارية بل أيضاً، وهو الأهم بدءاً من القرن الثامن عشر، بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا، القوى الإمبراطورية الصاعدة. شهدت الحرب العثمانية- الفارسية في عام 1821-1822 بعض التقدم المؤقت للفرس في الأراضي العثمانية، لكن معاهدة أرضروم في عام 1823 أكدت مجدداً على الحدود وفق [معاهدة] 1639 بين الامبراطوريتين. الأمر الأكثر أهمية هو أنه خلال الحرب الروسية-العثمانية 1828-1829، تم احتلال قارص وبيازيد، والمناطق المحيطة بهما، من قبل الجيش الروسي. ورغم إن الروس انسحبوا لاحقاً من تلك المناطق في أعقاب اتفاقية أدرنة، فإنها بدأت منذئد بحقها في حماية رعايا الامبراطورية العثمانية من المسيحيين في الأقاليم الشرقية، مثلما فعلت تماماً بخصوص المسيحيين الذين يعيشون في الأقاليم الغربية في اتفاقية كوجوك كاينارجا  Kücük Kaynacara  الموقعة سنة 1774. علاوة على ذلك، وفي إطار التنافس الامبراطوري تسابقت الامبراطوريتان الروسية والإنكليزية إلى فتح قنصليات لها في العاصمة الإقليمية، أرضروم.

وقد بات زائران أجنبيان لتلك المنطقة مشهوران بشكل خاص. أولاً وأثناء حرب 1828-1829، انضم الشاعر الروسي الكسندر بوشكين إلى القوات الروسية الغازية وسافر مع الجيش لغاية أرضروم. وقد أبدى بوشكين اهتماماً خاصاً باليزيديين المحليين (في ذلك الوقت كان نحو 300 عائلة يزيدية تعيش على سفح آرارات وتعترف بسيادة القيصر) مشيراً- ببعض الارتياح الواضح نوعاً ما- أنهم ليسوا عبادي الشيطان كما يزعم منتقدوهم:

“حسب شريعتهم، يُنظر إلى شتم الشيطان على أنه أمر غير لائق ووضيع، فهو الآن يعيش في تعاسة، ولكنه يمكن أن يُعفى عنه حيث لا حدود لرحمة الله… سُررت جداً أن اليزيديين لا يعبدون الشيطان، وتبدو أخطاؤهم قابلة للغفران.”[8]

في هذه التصورات ذات الملاحظات الأصيلة يسمع المرء صدى للمعتقد الصوفية إن ابليس، وهو يرفض إطاعة أمر الله في السجود لآدم، هو في الواقع الأكثر إخلاصاً للإرادة الإلهية في ألا يعبد الإنسان أي شيء سوى الله، الذي عُوقب بسببها حتى يأخذ مكانه الصحيح إلى جانب الله في نهاية الزمان. ولكن فيما عدا تعليقات كهذه، فإن بوشكين يمتنع عن التعليق على الحكام أو السكان المحليين الكرد.

على نفس القدر من الشهرة أيضاً وفرت بيازيد المكان لحادثة المستشرق والدبلوماسي الفرنسي بيير أميدي جوبير  Pierre Amédée Jaubert . ففي 1805 مر جوبير ببازيد في طريقه إلى بلاط فاتح شاه علي في قاجار بإيران حيث أُرسِل من قبل نابليون لكي يتفاوض بشأن تحالف روسي-فارسي. شكّ الحاكم المحلي، إبراهيم باشا، بأمر الزائر الأجنبي فأمر بسجنه، ولكن في 1806 توفي الأمير متأثراً بإصابته بالطاعون. فأطلق خليفته محمود باشا الأكثر اعتدالاً سراح جوبير، على ما يبدو بناءً على رغبة السلطات الإقليمية العثمانية التي تم إخطارها بالقضية. وسوف نعود إلى هذه الحادثة فيما بعد.

أدخلت إصلاحات التنظيمات ، التي سبقتها في 1826 حل فيالق الجيش الانكشاري والتي بوشر بها بمرسوم كولخانه الامبراطوري لعام 1839، تغييرات كبيرة في منطقة بيازيد مثل التجنيد والمركزية الإدارية والأكثر إثارة إنهاء الحكم الوراثي المحلي. كانت الإصلاحات التعليمية أبطأ في الوصول إلى المقاطعات على الحدود الروسية، ولم تتحق التغييرات الرئيسية في نظام الأراضي إلا بعد قانون الأراضي 1858. رغم هذه الاختلافات في المدى الزمني، كانت للإصلاحات انعكاسات مثيرة على المناطق الكردية ككل. فقد دفعت هزيمة العثمانيين في معركة نيزيب في 1839 بدرخان بك، الحاكم الكردي الوراثي (مير) لمنطقة بوتان، من ضم قواته إلى قوات منافسيه السابقين نور الله بك من هكاري وخان محمود من موكس في تحد للحكومة المركزية. وقد أخذ الجيش العثماني الجزء الأكبر من العقد التالي لهزيمة هذا الثلاثي . وقد قُبض أخيراً على الرجال الثلاثة وتم إرسالهم إلى المنفى. يُعرف القليل عن حفيد إبراهيم باشا، بهلول باشا، آخر الحكام الوراثيين لبيازيد والذي حكم السنجق منذ 1816  وعلى ما يبدو طُرِد من قبل العثمانيين في وقت ما من 1840 وتوفي في عام 1854. يذكر نيكيتين أن بهلول باشا حاول عبثاً أن يتحالف مع الروس[9] أثناء الحرب الروسية-العثمانية في 1828-1829 أما المؤرخ الكردي محمد كولتكين Mehmet Gultekin فيذكر أن بهلول باشا سلّم المدينة للجيش الروسي وأنه أُرسِل إلى تفليس كأسير حرب[10].أما القنصل البريطاني في أرضروم، النقيب جيمس برانت، فيقدم رأياً مختلفاً عن الباشا: ففي تقرير مؤرخ في  24 نيسان 1848 يتحسر ليس فقط على ” الحالة المزرية” لمنطقة بايزيد التي “سُلِّمت لأكثر الناهبين والرعاع صفاقة في المنطقة”[11]  بل أيضاً على عدم رغبة أو عجز السلطات المحلية على فعل أي شيء حيال ذلك. لقد وُصِفت المدينة بكونها غير آمنة بسبب تفشي اللصوصية التي تقوم بها القبائل الكردية (بعضها من المسلمين السنة والبعض الآخر من اليزيديين)وأنها لم تعرف أي نظام ضريبي غير الممارسات الابتزازية التي يقوم بها الزعماء المحليون. فيكتب أن بهلول باشا “يأتي إلى السلملك حوالي ربع ساعة كل صباح، وبعد أن يدخن غليونه مع شرب قهوته، يعتزل مع حريمه، حيث لا يظهر بعد ذلك.” لا يأتي برانت على ذكر أي دعم سلبي أو إيجابي من قبل الروس للباشا. وبغض النظر عن دقة أو مصداقية تقريره، فإن الدليل المتوفر يشير بحق أن بهلول باشا لم يكن حاكماً طموحاً ولا ذو همة (ناهيك عن كونه عنيفاً) مثل بدرخان بك أو نور الله، وكان هذا بالطبع خبراً جيداً للسلطات المركزية العثمانية- على ما يبدو أُزيلت إقطاعيته من دون أي ثورة تذكر.

شكلت حرب القرم (1853-1856) مرحلة جديدة في المواجهة ما بين الامبراطوريتين العثمانية والروسية. تقدمت القوات العثمانية أولاً في جنوب القوقاز، ولكن في صيف 1855 بدأ الروس بهجوم على قارص التي سقطت أخيراً في شهر تشرين الثاني من تلك السنة. في معاهدة باريس لعام 1856 تعهدت روسيا مرة أخرى بالتخلي عن الأراضي التي احتلتها في شرقي الأناضول. ولكن كانت كافة الإمارات الكردية في المنطقة قد  حلت.

نعرف التاريخ السياسي لبايزيد بخطوطها العريضة، ونعرف أقل من ذلك عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة. وبالتالي، ليست هناك دراسات مفصلة عن العلاقات بين الأرمن والأكراد، وبين السكان القبليين وغير القبليين، أو ما بين المسلمين واليزيديين. يذكر الرحالة أنه كانت هناك أحياء خاصة بالأرمن وأخرى بالأكراد في المدينة نفسها. من الواضح أن بناء قصر اسحق باشا قد وضعت مزيداً من العبئ المالي على كاهل السكان المحليين مما جعل الحاكم يفقد شعبيته وهناك بعض المؤلفين الذين يتحدثون عن انتفاضات ضد الأمراء المحليين.[12] بحسب أوليغ فيلسيفيج Oleg Vil’cevskij كانت هناك انتفاضة في باشويات pashaliks بايزيد ووان حوالي 1815 انضم إليها أكراد رحل من مناطق خوي وإريفان ونخجيفان، ولكن تم القضاء عليها أخيراً من قبل قائد جيش serasker أرضروم. يصف فيلسيفيج تلك الانتفاضات بأنها أكثر من مجرد مكائد من قبل الزعماء المحليين أو لصوصية من قبل القبائل المحلية بل ينظر إليها على أنها [13]obabshi [كذا في الأصل] التي يصفها بـ “البرجوازية المحلية الجنينية”. من الواضح أن تحليله متأثر بالمبادئ الماركسية الخاصة بأنماط الإقطاع والرأسمالية البدائية للانتاج وتطور الوعي الطبقي بين العمال الفلاحين الكرد، ولكنه يفترض ذلك دون أن يشرح فيما إذا كانت المنطقة قد شهدت، وإلى أي درجة، تغلغلاً رأسمالياً في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

لا يُعرف الكثير أيضاً عن الميول والولاءات السياسية للسكان الكرد المحليين فيما عدا أن بعض القبائل الكردية انحازت للروس أو أنها باتت موضع شك متزايد من قبل العثمانيين إما لأنها انحازت بالفعل أو لديها ميل لعمل ذلك. لقد حافظ أمراء [مير] الكرد وزعماء القبائل المحلية على موقف متأرجح بين الامبراطوريتين المتنافستين حيث كانوا في موقع تغيير ولاءاتهم أو التعبير عن سخطهم. وهكذا، فإن هنري تروتر يصف أن القبائل الكردية الرحل في الامبراطوريات العثمانية والفارسية والروسية في أواخر  1880 كانت تتهرب من الضريبة والتجنيد، ناهيك عن الملاحقة  الجنائية من خلال الترحال عبر الحدود حينما تستدعي الحاجة ذلك.[14]

يتبع …

———————-

1-  أنا مدين لما سمعته في المؤتمر الدولي كردستان: بين الماضي والمستقبل، جامعة صوران، ولمؤتمر : وجهات نظر جديدة في  كتابة تاريخ الأكراد، جامعة أوكسفورد. لكل من أبدى تعقيباً على النسخ الأولى من هذه الورقة أوجه شكراً خاصاً لكل من جيل فيرهيج ونيليدا فوكارو على تزويدهم  لي بالمواد الأرشيفية ومعاف البرزاني على مساعدتي في تأمين نسخة ديرشي من “شرفنامه” . الشكر موصول أيضاً لجين بالاجان وجان دوست وهلكوت حكيم وسعيد ديرشي وسردار أوجار.

[2] Martin van Bruinessen; Agha, Sheikh and State: on the Social and Political Structures of Kurdistan (London; Zed Press 1991); David McDowell, A Modern History of the Kurds (London: I.B. Tauris, 1996); Hakan Ozoglu, The Kurdish Notables and the Ottoman State: Evolving Identities, Competing Loyalties and Shifting Boundaries (Albany: State University of New York Press, 2004)

[3] Sacha Alsancakli, “The Early History of Kurdish Studies (1787-1901), W155 (2016) 55-58, esp.78-79, 82.

 في هذه الأثناء صدرت ترجمة فرنسية لكتاب بايزيدي “رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم” من إعداد جويس بلو وساندرين الكسي (باريس، 2015) [4]

 5-مناقشات نيشانيان وثيقة الصلة في السياق الحالي: لأن الكرد والأرمن عاشوا مع بعض في منطقة متداخلة جغرافياً ولديهم تجربة تاريخية مشتركة ومتقاربة إلى حد ما.

[6]vernacularization  لم أجد بديلا سوى نحت هذه الكلمة وتعني جعله عامياً

[7] Folklorization   نحت من كلمة فلكور

[8] الكسندر بوشكين، الترجمة الإنكليزية “رحلة إلى أرضروم؛ في ميخائيل ليرمنتوف: بطل من زماننا (اوكسفورد، 2013)

[9] Nikitine, Kurdes, 192

[10] www.ehmedxani.org/index.php?page=tarih&op=openPage&id=31&title=MELA-MEHMUD-BAYAZID%CE> (accessed April9,2013)

[11] FO 195-227,nr.261846.04.24;cf, Consul Brant, “Notes of a Journey through Part of Kurdistan, in the summer of 1838, Journal of the Royal Geographic Society 10 (1840)341-432, esp. 418-28

[12] يذكر جوبير، رحلة ص69 أن السكان المحليين كان يكرهون القصر لأنه بُني من خلال الابتزاز والسرقة

[13] على الأرجح المقصود  هنا كلمة أوبه باشي ، وتعني زعماء الاقطاع ويقابل كلمة اوبه العثمانية كلمة زومه وهي تجمع عشائري  يرأسه رئيس (باشي ) قبيلة وللراحل عرب شمو دراسة مطولة عن الاقطاع الكردي و نظام  الأوبه في كتابه عن الاقطاع الكردي ] مدين بهذه الملاحظة للصديق محسن سيدا. المترجم

[14] Henry Trotter, “Report on the Kurds”, No. 134 of Parliamentary papers (Turkey no. 6,1881) 

شارك هذا المقال: