الجزيرة

شارك هذا المقال:

الجــــــــــــــــزيـــــــــــــــــــــــــــــــــــرة[1]

إيلياهو إيبشتاين  Eliahu Epstein [2]

الترجمة عن الإنكليزية: راج آل محمد

الجزيرة، التي يُعرف القليل عنها في العالم الخارجي في الوقت الحاضر، لديها الكثير من مقومات الشهرة في المستقبل. وقد تصبح في المستقبل القريب مشهورة مثل الموصل باعتبارها المركز المرتقب الأغنى بحقول النفط في سوريا. ولكنها، من ناحية أخرى، قد تصبح مشهورة على نحو سيء باعتبارها عين عاصفة شرق أوسطية أخرى.

الجزيرة منطقة تقع على الحدود التركية-العراقية-السورية. وهي ذات خليط سكاني قوي وفيها عدد كبير من المكون الكردي في الجزيرة العليا. توجد فيها حركة قوية تميل للحكم الذاتي أدت إلى صراع مرير مع حكومة دمشق. كما تضم التركيبة السكانية أيضاً عنصرين فريدين في بعض الجوانب و[يستحقان] اهتماماً خاصاً: اليزيديون، عبدة الشيطان، والآشوريون. إن الآشوريين الذين كانوا شديدي البأس فيما مضى، قدمت الجزيرة ملاذا مؤقتا للناجين من [المجازر] المأسوية – قد يصبح موطنا دائماً لهم. إن قصة الآشوريين، الذين حملوا السلاح إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية والذين واجهوا هجرة جماعية من العراق في أعقاب المجازر المأسوية بحقهم، واحدة من الفصول المؤلمة في تاريخ ما بعد الحرب.

من جوانب أخرى أيضاً تستحق الجزيرة الدراسة كونها نموذج يجسد حالة الكثير من مناطق الشرق الأوسط في الوقت الحاضر. إنها منطقة شاسعة ذات خصوبة كامنة وقليلة الكثافة السكانية ويُزرع جزء من طاقتها الإنتاجية القصوى السابقة. ولا تزال في الكثير من الأماكن تحمل علامات نظام ري استثنائي وازدهار سكاني وحضارة قديمة رائعة مندثرة طمس معالمها بدو الجبال والصحارى المجاورة.

 

الحدود والجغرافيا

الجزيرة، بالمعنى الواسع للكلمة، هي المنطقة الشاسعة المثلثة الشكل التي تقع بين نهري الفرات ودجلة حيث تتكأ قمتها إلى الشمال قليلاً من بغداد في حين تقع قاعدتها على حواف طوروس في تركيا. الجزيرة التي تعنيها هذه الورقة هي القسم الذي يقع ضمن حدود الجمهورية السورية[3].  تتألف الجزيرة السورية من منطقة الجزيرة ومنطقة الفرات. تتضمن الجزيرة الأراضي الواقعة إلى شمالي نهر الخابور (الذي يفصل بين الجزيرة العليا والسفلى) ويمتد حزام من الجزيرة السفلى إلى شرقي الخابور حتى الحدود العراقية. هذه المنطقة الأخيرة، في طرفها الشمالي، أُعطيت بعد ترسيم الحدود شكلاً لافتاً للنظر أُطلِق عليه اسم “منقار البطة”. يمتد منقار البطة إلى نهر دجلة الذي ينبع من هضبة أرمينيا ويجري برمته في الأراضي العراقية، فيما عدا امتداد قصير لمسافة 40 كم.

كان تعيين حدود الجزيرة السورية موضوع خلاف طويل أولا بين الحكومتين الفرنسية والإنكليزية ومن ثم بين الفرنسيين والسلطات العراقية. ثُبِتت حدود الجزيرة بين سوريا وتركيا في عام 1926في اتفاقية de Jouvenel بينما تم الاتفاق بشكل نهائي بين سوريا والعراق مؤخراً في عام 1933 من قبل لجنة ايسلين Iselin التي أرسلتها عصبة الأمم. وكنتيجة لتوصيات اللجنة جرى الاتفاق على [إحداث] تغييرات كبيرة هامة وبشكل خاص حول قسم “منقار البطة” التي كانت موجودة منذ الاتفاقية الإنكليزية-الفرنسية في 1920. تلك التغيرات جلبت معها خسائر وأرباح لكلا الفريقين المعنيين. فمرتفعات جبل سنجار، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية واقتصادية فائقة والتي كانت في السابق جزءاً من الحدود السورية قد انتقلت بالكامل إلى العراق. من جهتها كان على العراق أن تتنازل لسوريا عن الأراضي الخصبة الواقعة بين نهر دجلة وصفان-درة Saffan-Dere . ونظراً لإحجام العراق في التنازل عن تلك الرقعة، فقد أُرسِلت القوات الفرنسية لاحتلالها في الخامس من آب/أغسطس 1933.

تتكون الجزيرة من هضبة منخفضة تتشكل بشكل رئيسي من الحجر الكلسي والحصى والصخور الرسوبية التي تقع بين الصخور الكلسية والجص والبازلت. تهبط هذه الهضبة من نتوءات جبل طوروس لتندمج شرقاً في السهول الرسوبية الواسعة للعراق. القسم الشمالي الشديد الانحدار للجزيرة السورية يصبح تدريجياً قليل التموج وتتجلى فيه الصفات التي ترتبط عادة بمثل هذه المناطق من خصوبة التربة ووفرة والهطول المطري الجيد. هذه الظروف الطبيعية المؤاتية سرعان ما تتراجع كلما ابتعدنا عن الهضاب لتفسح المجال أمام منطقة السهول الصحراوية في القسم العراقي من الجزيرة السفلى. من حيث قيمتها الزراعة، تفوق الجزيرة السورية إلى حد بعيد “الجزيرة العراقية” التي يكون جزؤها الأكبر أرض صحراوية مقفرة.

تتضح أهمية الجزيرة العليا القديمة باعتبارها مركزاً لحضارة قديمة من بقايا البلدات والقرى التي يُعثر عليها هناك ومن آثار الطرق القديمة التي تعود إلى العصور الرومانية والإغريقية والفارسية والفترة الأولى من الفتح العربي. وسواء أكانت الجزيرة مزروعة أو غير مزروعة فإنها عبارة عن أرض سهلية واسعة تكون مغطاة في الموسم الماطر بحياة نباتية غنية ولكنها قاحلة خلال بقية السنة. تشكل المناطق القريبة من الينابيع والأنهار واحات خصبة والتي تكثر بشكل خاص بالقرب من نهر الخابور وفي الشمال-شرق ولكنها تقل بالتدريج في الجنوب-غرب.

تقدّر المساحة الإجمالية للجزيرة السورية بـ 37،480 كم2 وهي المنطقة الأقل كثافة في سوريا حيث تبلغ الكثافة السكانيةـ5.6/كم مقارنة بـ8.7/كم لعموم دولة سوريا و49 لدولة اللاذقية و93 للجمهورية اللبنانية.

تقدر المساحة المزروعة للجزيرة السورية بنحو 460،000 هكتار بينما تبلغ المساحة القابلة للزراعة بنحو 1،260,000 هكتار[4] . تتفاوت التقديرات بشأن الأراضي القابلة للزراعة بشكل ملحوظ نتيجة عدم وجود معلومات دقيقة عن السمات الفيزيائية الأولية كطول الأنهار الرئيسية، على سبيل المثال. بناءً عليه، يشير السيد حسني صوّاف، في مراجعة منسوبة لـ”المنظمة الاقتصادية السورية”[5] إلى أن طول نهر الفرات داخل الحدود السورية هو 680كم بينما يقدّره خبير آخر هو السيد أ. غروفيل   A. Gruvel بثلثي الرقم المذكور أعلاه[6]؛ وفي الوقت عينه  يطرح م. ي. آرتشرد  M.E. Archard  تقديراً أعلى بكثير يصل إلى 800 كم[7]. لسوء الحظ لم تجرَ بعد تحقيقات للتخلص من التباين الشديد بشأن مسائل جوهرية تتعلق بالوقائع؛ وبدون دراسة كهذه فإن كافة النتائج التي تم التوصل إليها تبقى إلى حد بعيد ضرباً من التأمل. والرقم المشار إليه أعلاه عن مساحة الأراضي القابلة للزراعة التي تقدر بـ 1،260،000 هكتار قد يؤخذ على أنها حسابات غير دقيقة حيث أنه اعتمد على أعلى التقديرات لطول الأنهار وامتداد الأراضي في الجزيرة.

إدارياً فإن الجزيرة السورية التي تقسم إلى منطقتين (لواءين)-منطقة الجزيرة ومنطقة الفرات-تتفرع إلى عدد من الأقضية والنواحي. توضع إدارات المناطق تحت سلطة وزارة الداخلية لحكومة دمشق ولكن هناك مستشارون فرنسيون يساعدون السلطات المحلية في المراكز الرئيسية للوحدات الإدارية؛ كما تنتشر حاميات فرنسية في أماكن عديدة.

مصادر المياه

شريان المياه الرئيسي الذي يزود الجزيرة السورية هو نهر الفرات. يقدر إجمالي طوله بـ2،860كم ولكن قسماً صغيراً منه فقط يتدفق عبر حدود الجزيرة السورية، يقدّر بشكل متباين بين 450 إلى 800كم. ويبدو أن الرقم 680كم الذي أشار إليه السيد حسني صواف أكثر تلك التقديرات رجحاناً حيث أنه اعتمد على آخر التحقيقات لـ “دائرة الدراسات المائية”  Règie des Ètudes Hydrauliques  التي تهتم بالبحث العلمي المنهجي عن مصادر المياه في سوريا. يعتمد تدفق الفرات على موسم السنة ويتفاوت بشكل كبير. في أوقات التدفق الكامل (نيسان, 1931) قُدِّر أن الفرات دفق 2،087 متر مكعب/الثانية. والمستوى الأدنى للتدفق والبالغ 204 متر مكعب/الثانية سُجّل في شهر تشرين الأول/أكتوبر من السنة ذاتها. وبما أن الحاجة للري تكون بشكل رئيسي في أواخر الصيف، فإن هذا الحد الأدنى من التدفق المقدّر بـ200 متر مكعب/ثانية قد يُتخذ أساساً للحساب. بموجب اتفاقية بين سوريا والعراق فإن لكل دولة الحق في استعمال نصف كمية التدفق المتوفرة. كمية المياه المتوفرة كافية لسقي مساحات كبيرة من الأراضي والتي لا يمكن تقديرها على نحو موثوق دون معرفة القياس الدقيق لطول النهر. لذلك فإن السيد صواف يقدر مساحة الأراضي المروية في الجزيرة بـ170،000 هكتار بينما يقدرها م آرتشرد برقم أكبر بكثير يقدّر بـ250،000 هكتار[8].

ماء الفرات يميل إلى اللون الرمادي بسبب الطمي الذي يحمله الجريان القوي من هضبة أرمينيا وجبال طوروس. هذه التربة الرسوبية تكون غنية بالعناصر المخصِّبة. عندما يكون الفيضان في أعلى حالاته، يفيض النهر على ضفتيه فيتراكم الطمي الخصب كما في حالة نهر النيل.  في الوقت الحالي لم يُفعل الكثير للاستفادة من النهر وخصائصه المخصِّبة حيث هناك سواتر وأقنية فقط. مساحة وادي الفرات هي 3كم وهو خصب جداً نتيجة رواسب الطمي وهو بذلك قابل للمقارنة فقط مع وادي النيل. هذه الخصوبة، ربما، تفسّر الربط التقليدي بين هذه المنطقة وجنات عدن ” وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا[…] وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس[…] واسم النهر الثالث حداقل(دجلة)… والنهر الرابع الفرات.” (سفر التكوين، الإصحاح الثاني، 10)

يدخل الفرات الأراضي السورية عند جرابلس على ارتفاع 325 م فوق سطح البحر ويغادر الأراضي السورية عند البو كمال على ارتفاع 166م. هذا التباين في المنسوب والبالغ 159 متراً فقط علاوة على بطء النهر ومستوى مجراه، فإنه غير صالح لتوليد الطاقة الكهرومائية. ولكن ثمة احتمالات أكبر، لم يتم البحث فيها بشكل كاف، بأن يتم استغلال روافد الفرات لهذه الغاية. إن نظام مياه الفرات أبسط بكثير من مثيله نهر العاصي أو الأنهار السورية الأخرى. أهم روافده داخل الجزيرة هي الخابور والجقجق والبليخ التي بدورها تتحد مع العديد من الينابيع والأنهار الصغيرة.

نهر الخابور هو أهم شريان للمياه في القسم الشمالي من الجزيرة (منطقة الجزيرة الحقيقية). ويمتد طوله إلى أكثر من 260كم ويشكل مع رافده الجقجق وروافدهما الصغيرة أوسع المناطق السورية القابلة للري في مثلث رأس العين-حسكة-قامشلي. يتقاطع هذا المثلث في طوله وعرضه بالأنهار والينابيع التي تشكل هنا وهناك مستنقعات وجزر. بعض تلك الجزر والمستنقعات تغطيها المياه عندما يفيض الخابور على ضفتيه. هذه المنطقة غنية بحياة نباتية برية وتُستخدم كمرعى للخنازير البرية والحيوانات الأخرى. الحد الأقصى لتصريف الخابور يُقدّر بـ 20 م3 /ثا بينما يصل تصريف نهر الجقجق إلى نحو 10 م3 /ثا تقريباً. على طول السفوح والنتوءات المتماوجة لجبل سنجار وجبل عبدالعزير فإن مياه الخابور تنزل بتدفق كبير وتتحول في بعض الأماكن إلى شلالات. يشكّل هذا المثلث أفضل أراضي الجزيرة وأكثرها ملائمة للتنمية والتوطين المكثف. ويُقدّر مساحة الأراضي المزروعة والقابلة للزراعة في منطقة الخابور بما لا يقل عن 60،000 هكتار.

يتشكل نهر البليخ الذي يعبر القسم الغربي من الجزيرة من التقاء جداول وينابيع تنبع من منحدرات [جبال] كردستان. بالقرب من عين العروس يتفرع إلى مئات الأنهار الصغيرة وتتسبب في نمو نباتي غني. تشكل هذه البقعة الدائمة الخضرة قبلة للبدو وقطعانهم فتجذبهم طول فصول السنة ولا سيما في أشهر الصيف حين تصبح السهوب الصحراوية قاحلة. لقد وُجدِت آثار استيطان قديم بالقرب من النهر وفي عام 1925 اكتشف سيليرير  Cellerier قطعة مهمة من الموزاييك التي أعطت دليلاً  لافتاً للنظر عن حضارة مشرقة تعود إلى أيام الإمبراطورية الرومانية. إن الروافد الرئيسية لنهر البليخ تنبع من خارج حدود سوريا وبشكل رئيسي من تركيا حيث تُستخدم قسم كبير من مياهها من قبل سكان سهل سروج. ضمن سوريا يتدفق البليخ لأكثر من 100كم حيث يصل تصريفه الأدنى إلى 6 م3 /ثا. في أوج مده يفيض النهر على ضفتيه. يتحد البليخ مع الفرات على بعد 8 كم غربي صابحة.

أما نظام المياه لدجلة فضئيل الارتباط بسوريا حيث أنه يمر عبر سوريا لمسافة 40 كم تقريباً في أقصى الشمال لمنقار البطة. وهو يتدفق في مجرى واحد في خط مستقيم تقريباً حيث يدخل الجزيرة عند جزيرة ابن عمر ويخلق ظروفاً ملائمة لري مساحات كبيرة من المناطق المجاورة التي تكون بعيدة جداً لتُسقى من الخابور. هذه الأراضي تكون خصبة وتكون مغطاة بغطاء نباتي متنوع من النباتات البرية.

الطقس والتربة

يتأثر مناخ الجزيرة بشكل رئيسي بقربها من التلال ومصادر المياه الوفيرة من جهة وبقربها من الصحراء من جهة أخرى. مناخياً، تشكل الجزيرة منطقة انتقالية بين مناخ دمشق ومناخ الصحراء السورية. ثمة تنوعات مناخية كثيرة في المناطق المختلفة. فالظروف المناخية في القامشلي، في الشمال، تختلف عن الظروف المناخية السائدة في دير الزور في الجنوب-غرب.[9] المناخ في الجزيرة يشبه إلى حد بعيد المناخ في هضاب كردستان المجاورة من ناحية والصحراء السورية من ناحية أخرى. حرارة الصيف تكون جافة وقابلة للتحمل أكثر من الحرارة الرطبة في السهول البحرية. الشتاء قاس في الجزيرة الشمالية حيث تكتسحها الرياح العاتية القادمة من هضاب كردستان. في الصيف تهب أحياناً عواصف رملية قادمة من الصحراء السورية. الملاريا متفشية بكثرة ولا سيما في مستنقعات الخابور جنوبي القامشلي.

معظم أنواع التربة في الجزيرة هي من نوع التربة الطينية (الثقيلة) الداكنة. ولكن في الكثير من الأماكن هناك طبقة متداخلة من الرمل الممزوجة بالحصى والكلس والصلصال. تُظهر التربة عموماً نسبة عالية من الكلس وتصل إلى نحو 10-12 % مقارنة بـ5% كحد أقصى في التربة المصرية. وجود الكلس بهذه النسبة العالية في غاية الأهمية لجودة التربة. وهناك أيضاً اكتفاء بالمكونات الأخرى: النتروجين (آزوت) والفوسفات والبوتاسيوم. إن تركيبة التربة وخواصها الفيزيائية ملائمة للزراعة. إن خصوبة أراضي الجزيرة وغنى الطمي الذي تجلبه معها الأنهار بشكل مستمر وتدفق المياه بغزارة عبر طول أراضيها وعرضها بالإضافة إلى الطقس الملائم هي التي جعلت هذه المنطقة الغنية والخصبة واحدة من أهم مخازن الحبوب للعالم القديم وموطناً لعدد كبير من السكان.

حالة الزراعة

لا تعتمد الثروة الزراعية على خصوبة التربة قدر اعتمادها على الاستغلال الملائم لمصادر الري الوفيرة التي تُستغل حالياً بشكل طفيف؛ ولكن التنمية الزراعية الحالية لا ترتبط بأي شكل من الأشكال مع الإمكانيات التي تقدمها هذه الوفرة في مياه الري في ظل ظروف مناخية من هذا النوع.

يذكر السيد صوّاف “… في الوقت الحاضر، المنطقة المروية فعلياً على طول نهر الفرات ضئيلة جداً بالمقارنة مع المنطقة التي يمكن سقايتها. هناك فقط عدة مئات من الهكتارات مروية فعلياً عادة بالقرب من البلدات الصغيرة الكائنة على طول النهر.”[10]

المنطقة المزروعة في الوقت الحاضر هي بالكامل تقريباً مقصورة على تلك التي تقع بالقرب من الجداول حيث تكون السقاية سهلة ولا تتطلب أية ترتيبات تقنية. في سهول الفرات يستفيد المزارعون من رواسب الطمي على طول النهر. يكون الري هنا أصعب من حوض الخابور، على سبيل المثال، حيث أن سرير نهر الفرات المنخفض وبطء جريانه يمنعان الري بالجاذبية الطبيعية ويستدعي تركيب المضخات.

آداة الري الرئيسية المستخدمة من قبل الفلاح الأصيل لجر المياه من النهر هنا، كما في أجزاء أخرى من سوريا (وادي العاصي وحماه وحمص) هي الناعورة- وهي دولاب كبير مثبت عليها دلاء من الصفيح (التنك) وتديرها البغال، الحمير أو قوة تيار النهر نفسه. حتى وقت قريب كانت فقط عدة مضخات تعمل بالمحركات قيد الاستعمال ولكن في السنوات التالية فثمة زيادة في عددها وسوف يزداد عددها أكثر نظراً لاستيطان الآشوريين فيها. إن الحواجز وأقنية السقاية الجوفية

( الفجارات؟fajawir) التي بُنيت في زمن الرومان قد باتت في حالة ميؤوسة ويمكن أن تستخدم على نطاق ضيق على عكس قنوات الري لعثمانية القديمة في وادي العاصي وفي سهول دمشق وحلب التي لا تزال تُستعمل في الكثير من الأماكن حتى الوقت الحاضر.

المحاصيل الرئيسية للجزيرة هي القمح والشعير والذرة والتبغ والسمسم. في السنوات الأخيرة تم إدخال القطن والرز. محاصيل الحبوب (القمح والشعير والذرة) تُزرع بشكل رئيسي في القسم الجنوب-غربي من منقار البطة، جنوب-غرب القامشلي في منطقة الخابور وفي منطقة البليخ وعلى طول الحدود التركية ولا سيما في منطقة تل عبيدة في المناطق المجاور لجرابلس وفي وادي الفرات وفي عدة أودية أخرى. يُزرع الرز في الأماكن التي تتميز بوفرة المياه: في السبخات الجنوبية في جوار رأس العين. أما زراعة القطن فتتم في منطقة دير الزور، وقد أُجريت تجارب في السنة الماضية حول زراعة القطن في منقار البطة أيضاً.

تربية الحيوانات تكون بشكل رئيسي في أيدي رجال القبائل البدو وهي تشكل مهنتهم الرئيسية في منطقة الفرات حيث القبائل البدوية تتخصص في تربية الجمال والأغنام. في منطقة الجزيرة حيث وفرة مصادر المياه والمراعي الغنية فإن تربية الأغنام والماعز تحتل الصدارة وتأتي تربية الجمال في المرتبة الثانية كفرع ثانوي. وتُربى الخنازير في المستوطنة الألمانية في منطقة الجزيرة بالقرب من دمر قابو  Demir Kapu على طريق نصيبين –الموصل.

في المواسم الجيدة مثل 1937 فإن محصول القمح (المحصول الرئيسي) قد يصل إلى 85000 طن والشعير إلى 5000 طن والذرة إلى 62،213 كيلو والسمسم إلى 700 طن والرز إلى 450 طن والقطن إلى 20 طن. هناك توسع ملحوظ في الإنتاج الزراعي في السنوات الأخيرة. ويشير تقدير صدر في عام 1936 أن الثروة الحيوانية في الجزيرة هي 121000 رأس غنم و61000 رأس ماعز و14000 رأس من الجمال و320 خنزيراً.

توفّر الزراعة الصادرات الرئيسية التي تجد أسواقاً لها في أجزاء أخرى من سوريا. القسم الرئيسي من الجزيرة مشهورة بشكل أساسي بحبوبها وأغنامها بينما تقوم منطقة الفرات بتصدير الأغنام والجمال. وتشكل تجارة جلود الأغنام والسمنة مادة هامة للتجارة مع المدن السورية.

إن الظروف غير المستقرة لتملك الأراضي والتي تؤدي إلى خصومات طويلة تشكل أحد العوائق الرئيسية أمام تحسن الزراعة. كانت أقسام كبيرة من أراضي الجزيرة لأجيال تحت سيطرة القبائل البدوية وشبه البدوية؛ وكان القاطنون في القرى الواقعة في المناطق القبلية تعترف بالسيادة المطلقة للقبائل وتدفع لها الجزية مقابل الحماية. في أوقات الصراعات القبلية الداخلية- وهي حالات تتكرر غالباً في تاريخ الجزيرة- كانت القرى أول من تعاني من عنف وطغيان القبائل البدوية. في فترات كهذه كانت البدايات الضعيفة للاستقرار الزراعي في القرى تُمحى بالكامل تقريباً. عندما تهدأ الأحقاد، كان من تبقّى من القرويين يعودون إلى مناطقهم ليعيدوا بناء مساكنهم من الأنقاض التي خلفتها الصراعات. مع هؤلاء الفلاحين العائدين جاء مهاجرون جدد من أجزاء مختلفة من سوريا من مناطقهم الأقل حظاً منجذبين إلى خصوبة الجزيرة. حرمت عملية التسوية المضطربة هذه الفلاحين من تثبيت أقدامهم بإحكام على الأرض والشعور بالأمان من خلال التمسك الدائم بالحقوق التقليدية للملكية الدائمة وهو ما يفسر لماذا شيوخ القبائل المهمة في كل مكان في الجزيرة يظهرون مطالبين بالأراضي. لقد اكتسب الأغنياء والحضريون النافذون أيضاً حقوقاً في الريف وقاموا باستثمارات بعد الحرب في تحسين مشاريع الري وترميم السدود الصغيرة القديمة وشراء مضخات…الخ. وتسير عملية تسجيل الأراضي ببطء شديد بسبب النزاعات وحقوق الملكية المعقدة.  لهذا السبب، مثلا، ورغم أن سجلات الأراضي الجديدة قد فُتِحت في 1921، فإن 3،780 هكتاراً فقط من أراضي الجزيرة قد سُجِلت رسمياً لغاية الآن في الجزيرة[11].

ريثما تُستكمل عملية التسجيل، التي ستأخذ وقتاً طويلاً استناداً إلى الوتيرة الحالية، فإن الحكومة لن تكون في وضع يتيح لها التأكد بشكل نهائي من الأراضي التي تمتلكها. إن أسعار الأراضي، التي تكون عموماً متدنية، بدأت تأخذ بالزيادة في السنوات الأخيرة، وعلى وجه الخصوص مع بدأ استيطان الآشوريين ولا سيما في الأراضي القابلة للري.

 

 

 

السكان

ثمة إشارات كثيرة إلى الجزيرة في الكتب الجغرافية القديمة للعرب. لقد فُتحت المنطقة على يد “عياض بن غنم” في أيام خلافة عمر ووصلت إلى أوج ازدهارها في الحقبة العربية في زمن الخلافة العباسية. كانت الزراعة متطورة جداً في تلك الأيام موفرة أسباب العيش لسكان مئات القرى والبلدات. الجغرافي العربي المشهور المقدسي يصف الجزيرة بكونها حقاً أرض تفيض بالحليب والعسل وتزود الإمبراطورية العربية بصفوة المواد الغذائية مثل العسل والزبدة والقمح والجوز وهلم جرا. وبحسبه فإن أي أرض أخرى لا تستطيع منافسة الجزيرة بخصوبة تربتها أو وفرة مياهها. لكن ازدهار الجزيرة لم يدم طويلاً. فسرعان ما بدأ قطاع الطرق البدو القادمين من الأطراف الشاسعة من الصحراء السورية المجاورة وضراوة الكرد من الهضاب القريبة من الحدود الشمالية تهدد بشكل مستمر أمن المزارعين والتجار في المدن والقرى على حد سواء. مع تراخي قبضة السلطة المركزية في الدولة العباسية، بدأ البدو بالانقضاض على السكان المستقرين لسلبهم ونهبهم. المصير الذي واجهته قرى ومدن موآب وحوران وغور الأردن وسهل يزرعيل (مرج ابن عامر) واجهه سكان الجزيرة؛ حيث وقع البعض منهم ضحية للبدو وآخرون، ولا سيما في الأقاليم الشمالية، تعرضوا للنهب من قبل سكان الجبال الكرد. عندما سيطر الكرد على الجزيرة في القرن الرابع عشر، وجدها الرحالة العربي المشهور ابن بطوطة أرضاً قاحلة ومقفرة وكانت كل قراها ومدنها المزدهرة عبارة عن خراب. وقد دمر تيمورلنك القليل الذي لم يدّمره الكرد والبدو. بعد الاحتلال العثماني، بقيت الجزيرة عملياً في ملكية البدو والكرد. ولم تستطع أيداً أن تسترد مجدها العريق في أزمنة الحثيين والفرثيين والإغريق واليونان والعباسيين.

بلغ عدد سكان الجزيرة في عام 1934، وفقاً للمصادر الرسمية، 209،531 نسمة منهم 144،645 نسمة في منطقة الفرات (33،800 في دير الزور) و64،866 في منطقة الجزيرة. سكان حوض الفرات موزعون على 284 قرية وبلدة وفي الجزيرة موزعون على 286 قرية وبلدة.

تزايد عدد سكان الجزيرة منذ عام 1934 وهذا هو السبب الرئيسي وراء نمو بلداتها واستمرار استقرار البدو الذين لم يكونوا مسجلين من قبل بسبب نفورهم المعروف من الإحصاء وجزئياً بسبب استيطان الآشوريين. ويقدر عدد السكان الحالي بنحو 130،000.

يندرج السكان ضمن ثلاث فئات اجتماعية رئيسية هم: البدو وأشباه البدو والحضر في القرى والبلدات. القبيلتان الرئيسيتان من البدو هما العنزة والشمر اللتان تعيشان على تربية الجمال والأغنام ولا تعملان في الزراعة. زعيم قبيلة الشمر الشيخ ميزر عبدالمحسن يمتلك عدداً من القرى في جوار القامشلي والدرباسية بينما شيوخ آخرون منها ومن قبيلة العنزة يمتلكون قطعاً من الأراضي يزرعها الفلاحون.

فضلاً عن البدو، الذين يتكلمون العربية، هناك قبائل أخرى من البدو وأشباه البدو يتكملون الكردية. يشكل البدو وأشباه البدو أغلبية السكان ويطبعون الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة بطابعهم. البدو وأشباه البدو الذين يتكلمون العربية ويبلغ عددهم نحو 60،000 يتمركزون بشكل رئيسي في منطقة الفرات. أما القبائل الكردية التي يبلغ عدد نفوسهم نحو 40 ألفاً فيتمركزون في منطقة الجزيرة. يتألف سكان القرى المستقرين بشكل رئيسي من الكرد والمسيحيين الذين يتحدث قسم منهم باللغة الكردية. إن القيود التي فرضتها الحدود الجديدة على حرية الحركة وعلى نطاق الترحال القبلي وانحسار أهمية تربية الجمال والأغنام وتفسخ الأسس الاجتماعية للبدو القائمة منذ دهور أدت جميعها إلى زيادة حركة الاستيطان لدى البدو. وأشباه البدو يفقدون الكثير من صفاتهم البدوية ويتكسبون صفات الفلاحين. الفرق الوحيد بين أشباه البدو والفلاحين العاديين هو أن أشباه البدو لا يزالون يعيشون في الخيم ويعترفون بسلطة الشيوخ الذين يقومون في العالم الخارجي بدور المخاتير (زعماء القرية) ويجسّدون داخلياً الرابطة القبلية. لقد ازداد عدد القرى بشكل كبير بسبب استقرار أشباه البدو الذين يعملون الآن في أراضيهم بشكل دائم. هذا الاتجاه ملحوظ بشكل خاص في منطقة الجزيرة وأقل وضوحاً في منطقة الفرات.

لقد بدأت البلدات، التي لها أهمية ليس فقط للتجارة المحلية بل أيضاً للتبادل التجاري مع العراق وتركيا، تُظهر بعد النمو. إن موقع الجزيرة على حدود الدول الثلاث والطرق الهامة التي تعبرها وسكة حديد حلب- تل كوجر [في الأصل تل كوجك. المترجم] (بغداد) ساهمت جميعاً في زيادة سكان المدينة.  لقد جلب اكتشاف النفط والتعلل بالآمال العريضة من أجل التطوير المبكر لحقول النفط في الجزيرة القدرة على التفكير في نشاطات جديدة للبلد وتركزت في البلدات.

يشكّل الحرفيون قطاعاً هاماً من الناحية الاقتصادي للسكان المدنيين لأنهم يلبون حاجات رجال القبائل والقرى المجاورة. كل الحرفيين والحدادين والإسكافيين…الخ تقريباً هم مسيحيون. يشكّل اليهود والمسيحيون الأغلبية بين التجار. أهم مدينة بين المدن هي دير الزور في منطقة الفرات وهي المدينة الوحيدة التي تستحق الذكر. أكبر المدن في منطقة الجزيرة هي القامشلي والحسكة [في الأصل حسجة). يقدّر عدد سكان ديرالزور 34000 وعدد سكان القامشلي 20000 وعدد سكان الحسكة 10000 نسمة. ويتألف البدو من الكرد والعرب واليزيديين واليهود.

 

الكرد واليزيديون

   من الناحيتين القومية والدينية فإن سكان [الجزيرة] يتمتعون بعدة مزايا مثيرة للاهتمام. في إقليم الجزيرة يشكل الكرد والعناصر الناطقين باللغة الكردية غالبية السكان؛ بينما يشكّل الناطقون باللغة العربية الأغلبية في منطقة الفرات. بالإضافة إلى جماعات صغيرة من الأرمن واليهود[12]، تعتبر الجزيرة مركزاً لطائفة عبدة الشيطان، اليزيديين. وقد أُضيف عنصر فريد آخر مع وصول الآشوريين الذين وطنتهم عصبة الأمم. وبذلك، فإن السكان مقسّمون إلى مسلمين (سنة) ومسيحيين (سريان أرثودوكس وأرمن غريغوريين، وسريان كاثوليك، وأرمن كاثوليك، وبروتستانت ويعاقبة ونسطوريين [آشوريين])واليهود واليزيديين. العربية والكردية ومؤخراً السريانية هي اللغات الثلاث التي يتم التحدث بها. فضلاً عن الكرد الذين يبلغ تعدادهم نحو 60،000، يتكلم 16000 مسيحي و1500 يزيدي ونحو 1000 يهودي باللغة الكردية في الجزيرة. اللغة السريانية، وهي لهجة من الآرامية القديمة، اللغة العامية لفلسطين في الحقبة المدنية، هي لغة نحو 9000 آشوري. يتحدث العربية قبائل البدو وأغلبية سكان المدن ومعظم المسيحيين في منطقة الجزيرة وعملياً من قبل كل السكان في منطقة الفرات.

الكرد عرق خليط مؤلف من قبائل كثيرة ويختلفون في الشكل والمظهر والعادات. اللغة الكردية (الكرمانجية) تتباين أيضاً حيث يتم التكلم بها في الجزيرة بعدة لهجات تختلف بين القبيلة وسكان المدن واليزيديين. أكراد الجزيرة معروفون بشجاعتهم ونشاطهم وحب المغامرة. يتفوق الفلاح الكردي على الفلاح العربي. ورغم أنهم ليسوا متعصبين، فإن الكرد يحاولون بشدة الحفاظ على عاداتهم ولغتهم.

لا تتسم العلاقات بين الكرد وجيرانهم العرب بالود دوماً حيث ينظر العرب بعين الريبة إلى الكرد الذين لا يراعون الكثير من عادات وأفكار العرب وتقاليدهم المتعلقة بالصراعات القبلية والتحالفات، على سبيل المثال. يقدّم الكرد مادة ممتازة لأي محرّض على الثورة أو الاضطراب.

ليس الكرد ميّالون كثيراً للنظام الوطني الجديد القائم في سوريا. لقد قاوموا بوسائل شتى تدخل السلطات فيما اعتبروه شؤونهم الداخلية. وهذا هو الحال أيضاً في الدول المجاورة الأقاليم التي يشكل فيها السكان الكرد عنصراً قوياً.  يقود الحركة ضد السلطات في دمشق شيوخ القبائل الكردية والآغوات وملاكي الأراضي الأغنياء. وقد وُجدت تحالفات فعالة ومؤثرة بين قبائل البدو التي، مثلها مثل القبائل الكردية، لا تريد الخضوع لجهود حكومة دمشق في أن تفرض بالقوة نظام الدولة الجديدة. يُعتبر الكرد عنصر عدم استقرار وقلق في الجزيرة؛ وتعد المشكلة الكردية في المحافظة مصدر تهديد مستمر للسلطات القائمة التي قد تأخذ منحى جدياً في أوقات الاضطراب العام. لم تتوصل حكومة دمشق بعد إلى طريقة للتعايش السلمي مع سكان المنطقة رغم أن جهوداً حثيثة تُبذل في هذا الإطار.

يتكلم اليزيديون لهجةً كردية، ويمكن اعتبارهم أكراداً لولا ديانتهم التي تميزهم بحدة عن الكرد والعرب. يعيش ألف وخمس مائة يزيدي في الجزيرة بالقرب من الحدود السورية-العراقية في جوار جبل سنجار حيث يشكلون أغلبية السكان. معظمهم فلاحون ولكن يوجد بينهم حرفيون مهرة. عدد البدو بين اليزيديين ضئيل ويتناقص من سنة إلى أخرى. ورغم أن اليزيديين بشكل عام ذو نزعة مسالمة، إلا أن ديانتهم غير المألوفة وتعصبهم قد أدت في غالب الأحيان إلى تدخل السلطات وصدامات مع الحكام المسلمين.[13]

وفق بعض المصادر فإن اسم “يزيدي” مشتق من الكلمة الفارسية “يزدان” التي تعني الله. في حين أن مصادر أخرى، وهي التي لاقت قبولاً لدى الشيعة لوقت طويل، أن الكلمة مشتقة من اسم يزيد ابن معاوية وخليفته الذي أصدر الأوامر باغتيال الحسين ابن الخليفة علي. يُظهر الدين اليزيدي تأثراً بالمعتقدات الآشورية والإيرانية القديمة والمانوية والنسطورية. يؤمن اليزيديون بالشيطان بصفته وكيلاً خلاقاً للقوة الأعلى وملاك الشر الذي أُعيد إلى مركزه. ويُمنع عليهم ذكر اسمه بل يُشار إليه بـ” طاووس ملك “. يُطلق على اليزيديين اسم “عبدة الشيطان” من قبل جيرانهم المسلمين وهناك كره دفين بينهم. يُدير زعماء اليزيديين، المير، أي نبلاء القبيلة كافة الشؤون القبلية ويساعدهم في ذلك معلمو الدين، الملالي والقوالون “الوعاظ”.

المسيحيون الذين يقيمون في قسمي الجزيرة والذين يصل عددهم إلى 75000 شخصاً مقسمون إلى عدة طوائف ذُكرت فيما سبق. ورغم أن أتباع الكنسية الغربية (الكاثوليكية) يشكلون فقط ثلث الجمهور المسيحي في الجزيرة، فإنهم، وبشكل خاص [أتباع] الكنيسة السريانية الكاثوليكية، لهم تأثيراً كبيراً على شؤون المسيحيين. ويُعزى ذلك إلى الدعم الممنوح لكاثوليكيي الجزيرة من قبل بطريرك الكنيسة الكاثوليكية حيث يُقيم ممثل الكنيسة بشكل دائم في الحسكة وهو ما يُضيف هيبة على الكنيسة في أعين السكان بشكل عام. يشتغل معظم المسيحيين في التجارة وقليلون منهم يعملون في الزراعة. يُعتبر المسيحيون عنصراً هاماً في الطبقة الرسمية بسبب تعليمهم العالي. إنهم يمثّلون أحد العوامل الرئيسية في الحياة السياسية في منطقة الجزيرة. هناك عدد من كبار ملاكي الأراضي بين المسيحيين في مدن الحسكة والقامشلي والدرباسية.

ولاستيطان الآشوريين على الخابور نتائج مهمة على تطور المنطقة. فقد بدأت أعمال الري والصرف الصحي في عدة أماكن وبذلك انحسار الملاريا التي يعاني منها سكان كثيراً حتى هذه اللحظة. يتركز الإرشاد الزراعي والإشراف الطبي في إيدي لجنة توطين الآشوريين التابعة لعصبة الأمم. بلغ عدد اللاجئين الآشوريين 2100 في عام 1932 عندما أقاموا على الخابور. وقد ازداد عددهم إلى 6100 في عام 1935 ومع وصول 2500 لاجئ في عام 1936 يبلغ عدد الآشوريين في الجزيرة اليوم نحو 9000 نسمة.

حقول نفط الجزيرة

ربما من الأنسب إنهاء هذه الدراسة عن الجزيرة بالإشارة إلى أحدث وأهم تطور: اكتشاف حقول النفط الواعدة. لقد عُرِف منذ القدم أن الجزيرة تحتوي على ثروات معدنية ذات قيمة بما في ذلك رواسب الكبريت بالقرب من رأس العين ورواسب الجبس في وادي الفرات بين الرقة ودير الزور وثروات أخرى[14] أكثر ثرواتها المعدنية الواعدة لسنوات قادمة هو النفط. لقد لوحظ منذ وقت طويل ارتشاح النفط في جبل البشري بالقرب من دير الزور وقد وجِدت مؤشرات أخرى على النفط في مناطق مختلفة من الجزيرة العليا ولا سيما في “منقار البطة” ممثلة استمراراً لنفس البنية الجيولوجية التي توفرها منابع الموصل الغنية ويبدو أن اكتشاف المصالح النفطية في السنوات الأخيرة تؤكد تماماً على صحة هذه التوقعات ومن الممكن الافتراض الآن أن الجزيرة سوف تبرهن في يوم ما أنها “موصل” سوريا.

التنقيب الذي جرى خلال السنوات الأخيرة من قبل “شركة العراق للنفط” أعطى الدليل على وجود النفط ولا سيما في منقار البطة، جنوبي الحسكة في جبل عبد العزيز بالقرب من التقاء نهر البليخ مع الفرات وبالقرب من دير الزور. لقد عُثر على النفط في 140 بئراً تم حفرها لأغراض الاستقصاء وقد قيل إن معظمها صالحة للاستغلال التجاري.

ولم يكن أصحاب النفوذ الألمان كسولين، فقد نافست ما أُطلق عليه الشركة الهولندية للنفط (وهي في الواقع شركة ألمانية) نزلت إلى الميدان منافسة لـ”الشركة العراقية للنفط” في مسعى منها للحصول على حقوق امتياز من السلطات السورية. وبشكل طبيعي فإن حكومة دمشق بأن حقول نفط الجزيرة سوف توفر لخزينة الدول بيوضاً ذهبية بذات الطريقة التي توفرها حقول الموصل في العراق. لا تزال مفاوضات طويلة تجري بين الحكومة وأصحاب الامتيازات حيث تبدو الشركة العراقية أوفرها حظاً. هذه المفاوضات ربما سوف تُختتم قبل المعاهدة السورية-الفرنسية التي ستؤسس لدولة سورية والتي ستُصادق عليها بدون ريب.

 

[1] نشر البحث في مجلة الجمعية الملكية لآسيا الوسطى في عام 1940.  Eliahu Epstein (1940) Al Jazireh, Journal of the Royal Central Asian Society, 27:1,68-82, DOI: 10.1080/03068374008730945

[2] إيلياهو ابشتاين دبلوماسي ومستشرق إسرائيلي أوكراني المولد. في عام 1948 أصبح أول سفير إسرائيلي في الولايات المتحدة وبين 1950-1959 سفيراً لإسرائيل في المملكة المتحدة. (عن ويكيبيديا بتصرف. المترجم)

[3] كُتب المقال قبل أن يُعتمد رسميا اسم الدولة إلى الجمهورية العربية السورية في عام 1961. (المترجم)

[4]  J. Eddè, Gèographie de la Syrie et du Liban, Beyrouth, 1937-38, p.54

[5] S. Himadeh, Economic Organization of Syria, Beirut, 1936, p.32

[6] A. Gruvel, Les Ètate de Syrie, Paris, 1931 p.262

[7] E. Archard, “L’Irrigation,” L’Asie Farçasie, May, 1924, P.205

[8]  وفق حسابات م آرتشرد فإنه يفترض أن كمية المياه المتدفقة من الفرات هي 300 متر مكعب/ثانية وأن كمية المياه المتاحة للري في الجزيرة السورية في الصيف هي 150 م3/ثانية وليس 100 م3 كما يفترض السيد صواف.

[9]  الحد الأدنى من معدل الدرجات كانت ما بين 6.9 درجة في القامشلي (500م فوق مستوى سطح البحر)  و8.2 درجةفي دير الزور (200 م فوق سطح البحر). بالمقابل، فإن أرقام المعدل الأقصى للمعدلات السنوية (بين القوسين) كانت كالتالي: 31.5 درجة (19.2) و 32.4  درجة (20.2). معدل هطول الأمطار وصل إلى 350مم في القامشلي و29مم في دير الزور.

[10] Himadeh, P33

[11] إجمالي الأراضي المسجلة في لبنان وسوريا لغاية كانون الأول/ديسمبر 1933 هو 1،399،464 هكتاراً.

[12]  يبلغ تعداد اليهود في الجزيرة نحو 2000 شخص (1500 في القامشلي و500 في الحسكة) يتكلم بعضهم الكردية ولكن الغالبية تتكلم العربية، وهم يشتغلون بشكل رئيسي في التجارة. وقد ازداد العدد بعد الحرب إثر الهجرة من نصيبين في الأراضي التركية.

[13]  على سبيل المثال، اندلع نزاع خطير أدى خسائر ثقيلة في الأرواح منذ عدة سنين حين ثار يزيديو “القسم العراقي من جبل سنجار” ضد حكومة بغداد

[14] “Les Gisements Miniers et Mineraux de Etats du Levant sous mandate française” M. Aubert de la Rue, Bulletin Economique de Syrie, NO. 17,1933

شارك هذا المقال: