كيف خسر الكورد فرصة إقامة دولة مستقلة؟

شارك هذا المقال:

 

مارغريت ماكميلان
ترجمة: مصطفى إسماعيل

حول هذه الترجمة:

تمت ترجمة ما ورد أعلاه من الفصل المعنون بـ “أتاتورك وتحطيم سيفر” من كتاب مارغريت ماكميلان “باريس 1919: الأشهر الستة التي غيرت العالم” Paris 1919: Six Months that Changed the World والذي قدم له الدبلوماسي الأمريكي المعروف وصديق الكورد ريتشارد هولبروك.
يعد كتاب ماكميلان الصادر في 2001 من خلال صفحاته الـ 624 والمترجم إلى العديد من اللغات حول العالم مصدراً مهماً لفهم مؤتمر الصلح في باريس في 1919 والاطلاع على كواليس المؤتمر ومحدداته ونتائجه في أوروبا وآسيا وأفريقيا.
لا يكتفي الكتاب بتقديم المتعارف عليه فيما خص تلك المرحلة التاريخية، وإنما يكتسب أهميته من أن المؤلفة تقدم أيضاً الكثير من التفاصيل المحورية البورتريهات الشخصية لقادة ومسؤولين لعبوا دوراً في رسم معالم نظام عالمي لا يزال إلى حد بعيد مع تفاصيله ساري المفعول في عالمنا الراهن.
الكورد الذين تقرر مصيرهم في تلك المرحلة التاريخية، لا يزالون مكبلين في بحثهم عن كيان قومي بترتيبات مؤتمر الصلح والمعاهدات والاتفاقيات اللاحقة له ومن بينها اتفاقية لوزان 1923، والتطورات العسكرية على الأرض بين 1919 و1923 التي أثرت على صناع القرار ومراكز القرار الدولية المؤثرة والإقليمية، ليخرج الكورد من تلك الحقبة خاسرين فرصة كانت سانحة لهم لإقامة دولتهم المستقلة في الشرق الأوسط. لذا ارتأيت تسمية هذا النص المترجم بـ “كيف خسر الكورد فرصة إقامة دولة مستقلة؟”.

 


 

بينما ناقش الحلفاء وضع أرمينيا في سان ريمو، استولى البلاشفة على جمهورية أذربيجان المجاورة. اندلعتْ في أرمينيا نفسها التمرداتُ مستلهمة الثورة الشيوعية. اتصل الحلفاء بعصبة الأمم ليطلبوا منها حماية الدولة الأرمينية الكبرى التي كانوا يفكرون في إقامتها. ردت العصبة- التي كانت آنذاك في أشهرها الأولى- أن العصبة وبما أنها لم تكن موجودة فعلياً بعد فإنها لن تستطيع فعل شيء. ثم توجه الحلفاء إلى الولايات المتحدة، حيث كانت مسألة الانتداب الأمريكي على أرمينيا هاجعة منذ عودة ويلسون من أوروبا. أحال الرئيس العاجز الطلب إلى الكونغرس الذي رفضه بأغلبية قاطعة في مايو. أخبر السيناتور لودج صديقاً: “لا تظن أني لا أشعر بالأسى تجاه أرمينيا. أنا أشعر بذلك، لكنني أعتقد أن هناك حدوداً لما يحق لهم وضعه على كاهلنا”. ((Walker, p. 281; Suny, p. 129.
كانت لدى كوردستان فرصة أقل من أرمينيا في إيجاد حامٍ لها. لقد ظهرت قضية كوردستان مرة واحدة فقط في مؤتمر باريس للسلام. حين أصدر لويد جورج لأول مرة قائمته عن الانتدابات المحتملة في الأراضي العثمانية في 30 يناير، نسي ذكرها. وعندما أضاف كوردستان في عجالة إلى قائمته، اعترف ضاحكاً أن جغرافيتها كانت خاطئة. كان يعتقد أنه سيغطي كوردستان ببلاد ما بين النهرين (العراق) أو أرمينيا، لكن مستشاريه أعلموه أنه مخطئ. لم يحاول لويد جورج بحكمة تحديد حدود منطقة الانتداب الجديدة: فقد كانت الحدود مثل الكثير من الأمور الأخرى المتعلقة بكوردستان غامضة إلى حد ما. (FRUS, vol. 3, p. 806)
كان الكورد بعيدين جداً، على الجانب الشرقي من الإمبراطورية العثمانية، وفي ذلك الوقت، كان لهم تأثير ضئيل على الرأي العام العالمي. أحبهم مارك سايكس- الذي كان قد سافر إلى المناطق الكوردية قبل الحرب- لأنهم كانوا مقاتلين أقوياء وجيدين. بينما لم يحبهم الخبير الأمريكي الذي لم يكن قد رأى المنطقة قط: “في بعض الجوانب، يُذكّرُ الكورد المرء بالهنود في أمريكا الشمالية… طبعهم عاطفي، حانق، انتقامي، فضولي وغدار. إنهم ينتجون جنوداً جيدين، لكن قادة سيئين. إنهم جشعون، وأنانيون تماماً، متسولون وقحون، ولديهم نزوع كبير إلى السرقة”. (Adelson, p. 65; Gelfand, p. 243)
عاش الكورد في منطقة خطرة. خلف الجبال إلى الشمال والشرق تقع روسيا وبلاد فارس، وإلى الغرب الأتراك ومن الجنوب عرب بلاد ما بين النهرين. خلال الحرب العالمية (الأولى)، تحاربت الجيوش العثمانية والروسية على طرفهم الشمالي، فيما اندفع البريطانيون من الجنوب. ربما مات ما يقدر بـ 800 ألف كوردي محاربين في صفوف الجيوش العثمانية أو من الجوع والمرض. (McDowall, pp. 108–9)
كان تقدير تعداد الكورد دائماً صعباً. نظراً لأن الثقافة الكوردية انطمست في اللغات العربية والفارسية والتركية وحتى الأرمنية، فقد كان من المستحيل تحديد تعداد الكورد. حوالي ثلاثة أرباعهم- ربما مليون أو حتى مليونين- عاشوا في الإمبراطورية العثمانية، التي أسميت لاحقاً تركيا وهم الأكثرية بين الكورد، والبقية الكوردية عاشت في العراق، مع انتشار مبعثر لهم في سوريا. البقية كانوا في بلاد فارس.
كان من الصعب القول من هم الكورد حقيقة. التسمية نفسها تعني في الأصل “البدو الرحل”. كان لديهم تاريخ مُتسقٌ ضئيل، وفقط كانت هناك أساطير متعارضة حول أصلهم. لم تكن هناك ممالك كوردية كبيرة، وكان هناك عدد قليل من الأبطال الكورد باستثناء صلاح الدين. كان الكورد مُقسمينَ قبلياً، ودينياً (معظمهم من المسلمين السنة، ولكن كان هناك كورد شيعة ومسيحيون أيضاً)، ولغوياً لأنهم كانوا مبعثرين بين أمم مختلفة. كانت لديهم سمعة أنهم جامحون. كان عالم الأجناس البشرية الألماني متسامحاً حين قال: “في قاع أخلاقياتهم تكمن الحياةُ المضطربة التي عاشوها على أرض كانت الحكومة المنظمة فيها غير معروفة على مدار القرون الثمانية الماضية”. لقد قاتلوا بعضهم البعض، كما قاتلوا السلطة الخارجية سواء أكانت العثمانية أم الفارسية، والشعوب الأخرى. استخدم العثمانيون المسلمين الكورد في مجازرهم ضد الأرمن. في نهاية الحرب، تمكنت القوات البريطانية والهندية التي احتلت المنطقة من الحفاظ على سلام هش. (McDowall, pp. 3–5; Dominian, p. 296; Nassibian, pp. 19–20, 25)
على عكس الدول الناشئة الأخرى، لم يكن لدى كوردستان رعاة أقوياء في باريس، ولم يكن الكورد قد تمكنوا بعد من التحدث بفعالية عن أنفسهم. منشغلين بغاراتهم المعتادة لنهب الماشية وعمليات الخطف وحروب العشائر وقطع الطرق، مع الذبح المتحمس للأرمن أو ببساطة البقاء على قيد الحياة، لم يكونوا قد أبدوا اهتماماً إلى تلك اللحظة حتى في قدر أكبر من الحكم الذاتي داخل الإمبراطورية العثمانية حيث عاشت الأغلبية منهم. قبل الحرب العالمية، كانت المشاعر القومية التي تحركت بين شعوب الشرق الأوسط الأخرى قد أنتجت تجاوباً ضعيفاً بين الكورد. حتى أن المركز الرئيسي للقومية الكوردية المؤلفة من عدد قليل من التجمعات الصغيرة وحفنة من المثقفين كان في القسطنطينية. المتحدث الكوردي الوحيد في باريس عام 1919- رجل جذاب إلى حد ما- عاش هناك لفترة طويلة حتى أطلق عليه لقب الأنيق شريف (شريف باشا). لقد بذل ما بوسعه واضعاً مطالب ببلاد واسعة من شأنها أن تمتد من أرمينيا (إن وجدت) إلى البحر الأبيض المتوسط. الكثير من تلك المنطقة طالب بها الأرمن وبلاد فارس. أيضاً (McDowall, p. 3; Sonyel, pp. 6–8)
كانت بريطانيا القوة الوحيدة التي لديها اهتمام عابر برؤية كوردستان على الخارطة. لم يكن لدى الولايات المتحدة المتعاطفة مع الأرمن أي ود تجاه الكورد. وضع الفرنسيون مطالبة بالانتداب على كوردستان كأداة للمساومة. عندما أكدت بريطانيا استحواذها على سوريا في خريف عام 1919، تخلت فرنسا عن أي ادعاء بالاهتمام. رغم ذلك، استمرت فرنسا في معارضة الانتداب البريطاني على كوردستان. (McDowall, p. 130; Busch, Mudros to Lausanne, p. 178)
كان لويد جورج ومستشاروه بصورة أساسية مهتمين بالحصول على انتدابهم في ميزوبوتاميا وحمايتها، مع وعود المنطقة بوجود مخزونات نفطية هامة، كانوا يفضلون عدم امتلاك قطعة من الأراضي العثمانية في الشمال. سوف يكون لكوردستان فائدة في حماية الحدود الجنوبية لأرمينيا- إذا أصبحت دولة- وبالتالي توفير حاجز آخر بين البلشفية والمصالح البريطانية، كما أنها ستمنع الفرنسيين في سوريا وجنوب الأناضول من مدّ نفوذهم شمالاً. افترض البريطانيون أن كوردستان يمكن أن تدار بتكلفة زهيدة- بإدارة الزعماء المحليين- على نمط الحدود الشمالية للهند. قالوا إن الكورد أنفسهم يريدون الحماية البريطانية. لقد أنفق الكورد العصاة الكثير من الطاقة في عام 1919 في التمرد على قوات الاحتلال البريطانية وقتل العملاء البريطانيين. (McDowall, pp. 120–21; Helmreich, p. 204)
طوال عامي 1919 و1920، أثناء محاولتهم التوصل إلى معاهدة مع تركيا، قام البريطانيون بتمويل مجموعات كوردية مختلفة زعمت أنها قادرة على إدراج الكورد تحت الحماية البريطانية. ذهب الرائد نويل “لورانس الكورد” في مهمة غامضة إلى المناطق الكوردية في صيف عام 1919 لإثارة حركة استقلالية. لقد أغضب فقط القوميين الأتراك وزملاءه. كما اشتكى المستشار السياسي البريطاني في القسطنطينية “لقد أوضحت ذلك بعبارات تكررت لخمس مرات ومن شأنها توضيح الأمور أننا لا نتآمر ضد الأتراك، وأنه لا يمكنني أن أتعهد بأي شيء مهما يكن فيما يتعلق بمستقبل كوردستان”. (McDowall, pp. 121–29)
كان الدعم البريطاني في أحسن الأحوال فاتراً في 1919 وكان مرتبطاً- جزئياً على الأقل- بتولي الولايات المتحدة الانتداب على أرمينيا. بحلول الخريف، كان واضحاً أن الانتداب الأمريكي لن يحدث. كان واضحاً أيضاً أن الأتراك بعيدون عن الهزيمة. كان أتاتورك يبني قواته على عجل في الشرق قرب المناطق الكوردية. أصبح دعم بريطانيا لكوردستان مستقلة فكرة غير جذابة بشكل متزايد من الناحية المالية والعسكرية. بحلول صيف 1919، انخفض عدد القوات البريطانية داخل حدود الإمبراطورية العثمانية إلى 320 ألف رجل فقط. في ميزوبوتاميا، رأت السلطات البريطانية إلحاق جزء من الأراضي الكوردية بالانتداب الجديد في العراق. لم تكن حدود الولايات العثمانية ثابتة أبداً في هذا الجزء من العالم، لذلك يمكن القول أن محافظة الموصل القديمة امتدت شمالاً إلى الهضاب والجبال الكوردية. (McDowall, pp. 120–21, 134–37, 143; Fromkin, Peace to End All Peace, p. 404)
كان الكورد أنفسهم منقسمين كما درجت العادة. هل عليهم أن يثقوا بالأتراك أم البريطانيين؟ أم يحاولوا إصلاح علاقتهم مع الأرمن؟ أم يطلبوا المساعدة من البلاشفة؟
لقد ساعد التهديد اليوناني الكثيرين على اتخاذ قرارهم، على الأقل مؤقتاً. عندما هبطت القوات اليونانية لأول مرة في سميرنا (إزمير) في ربيع عام 1919 ثم ضربت في العمق التركي باتجاه أتاتورك وقواته في صيف عام 1920، رأى الكورد المسلمون- المتدينون كثيراً- أنه صراع بين الإسلام والمسيحية. كان أتاتورك- مهما كانت مشاعره الخاصة- بارعاً بما فيه الكفاية لاستخدام النداء إلى الإسلام عندما اتصل بالزعماء الكورد طالباً دعمهم. شائعات حول أن بريطانيا كانت تخطط للاستيلاء على الأراضي الكوردية الجنوبية دفعت حتى القوميين الكورد إلى رمي بيضهم في سلة أتاتورك. (McDowall, pp. 125–28, 132)
في هذه النقطة، كان اللورد كرزون ولويد جورج متفقين على أمر واحد: الدولة الكوردية المستقلة كانت أمراً مستبعداً حتى لو كان ذلك يعني ترك بعض المناطق الكوردية تحت السيطرة التركية. اعترف لويد جورج بذلك في سان ريمو في أبريل 1920.
هو نفسه (لويد جورج) حاول معرفة ماهية مشاعر الكورد. بعد استقصاءات في القسطنطينية وبغداد وأماكن أخرى، وجد أنه من المستحيل العثور على أي تمثيل كوردي. لم يظهر أي كوردي يمثل أي شيء أكثر من عشيرته الخاصة. من ناحية أخرى، يبدو أن الكورد شعروا أنهم لا يستطيعون المحافظة على وجودهم دون دعم قوة عظمى، لكن إذا لم تضطلع فرنسا أو بريطانيا العظمى بالمهمة – وكان لويد جورج لا يأمل ذلك- فقد بدا لهم أنه من الأفضل تركهم تحت حماية الأتراك. لقد اعتاد البلد (كوردستان) على الحكم التركي وكان من الصعب فصله عن تركيا ما لم يتم اكتشاف حامٍ بديل.
في شروط السلام التي صيغت لتركيا، تم ترك وضع كوردستان معلقاً في الهواء: ربما الحكم الذاتي داخل تركيا أو دولة تحت الانتداب أو الاستقلال الكامل. كما أن حدود كوردستان لم تكن محسومة ليتم تسويتها بواسطة بعثة تقصي الحقائق. (تأكد البريطانيون من أن الأراضي التي يريدونها كانت موجودة تماماً داخل دولة العراق الجديدة). كان هناك وعد باهت: ربما، إذا أمكن للكورد إقناع عصبة الأمم بأنهم مستعدون للاستقلال، وأرادوا ذلك حقيقة، فقد يلتحقون ذات يوم بأقرانهم في العراق كدولة مستقلة. (Helmreich, pp. 301–2; Temperley, vol. 6, pp. 90–91; McDowall, pp. 450–51)
عندما تم تسريب هذه التفاصيل والشروط الأخرى في ربيع عام 1920 بعد مؤتمر سان ريمو، كانت ردة الفعل بين الأتراك متوقعة تماماً. “لقد تم تلقيها من جميع الأطراف” أبلغَ مبعوث كرزون إلى أتاتورك “مع صيحات مضحكة باعثة على السخرية، وتم رفع وتيرة الاستعدادات العسكرية على الفور. في أنقرة، رفض البرلمان القومي الشروط وحكومة السلطان. تيارٌ من القوميين الأتراك انسل بعيداً عن القسطنطينية وشق طريقه إلى الداخل التركي حيث قوات أتاتورك. أرسل المفوضون الساميون للحلفاء تحذيرات قوية من أن الرأي العام التركي- المتأجج بالفعل- لن يقبل خسارة سميرنا (إزمير)، حيث كان اليونانيون يحفرون خنادقهم. لقد خشي اللورد كرزون من ذلك. كما كتب إلى لويد جورج “أنا آخر رجل يتمنى أن يسدي معروفاً للأتراك، لكني أريد أن احصل على السلام في آسيا الصغرى، ولكن مع اليونانيين في سميرنا، وكتائب اليونانيين تنفذ أوامر فينيزيلوس (رئيس الوزراء اليوناني) ويزحفون باتجاه آسيا الصغرى، أعرف أن هذا مستحيل”. (Rawlinson, pp. 295–96; Busch, Mudros to Lausanne, p. 207; Smith, p. 122; M. Kent, Moguls and Mandarins, p. 100)
مع تدهور الوضع، قرر الحلفاء- أو بالأحرى البريطانيون- خطوة كانت في نهاية المطاف قاتلة لموقفهم في تركيا. فينيزيلوس الذي كان يخشى أن تسقط حكومته ما لم يتمكن من عرض بعض النجاحات، والتي كانت قواته تعاني في سميرنا في ظل هجمات قومية تركية متكررة، حصل على موافقة لويد جورج أخيراً في يونيو 1920 للتحرك إلى العمق التركي. كنوع من المنفعة المتبادلة، أرسل فينيزيلوس قوات لدعم قوى الاحتلال في القسطنطينية. قدم المجلس الأعلى للحلفاء- الذي كان لا يزال قائماً- تغطية هزيلة من الشرعية للقوات اليونانية التي كانت ترد ببساطة- نيابة عن الحلفاء- على الهجمات التركية. كتب المفوض السامي البريطاني في القسطنطينية بغضب إلى كرزون: “المجلس الأعلى مستعد لاستئناف الحرب العامة. هم على استعداد لارتكاب العنف ضد مبادئهم المعلنة. هم على استعداد لإدامة سفك الدماء إلى ما لا نهاية في الشرق الأدنى، ومن أجل ماذا؟ من أجل إبقاء فينيزيلوس في السلطة في اليونان لبضع سنوات بشكل مخالف لطبيعة الأشياء”. وافقه كرزون تماماً: “يعتقد فينيزيلوس أن رجاله سوف يكنسون الأتراك إلى الجبال. أنا أشك في أن الأمر سيكون كذلك “. (Dockrill and Goold, p. 210)
وهكذا بدأت المرحلة الأخيرة من إحلال السلام في تركيا بالحرب. تحركت القوات اليونانية إلى جبهة واسعة خارج سميرنا، حتى الوديان على حافة هضبة الأناضول. تراجع القوميون الأتراك إلى الداخل. في أوروبا، أزاح جيش يوناني آخر قوة تركية ضعيفة وغير منظمة في تراقيا. أعرب فينيزيلوس عن ثقته الكبيرة إلى هنري ويلسون (الرئيس الأمريكي)، وتنبأ بانهيار قوات أتاتورك وانتشار القوة اليونانية في الداخل، إلى القسطنطينية، وربما إلى بونتوس/ بنطس (القسم الشرقي من المنطقة التركية على البحر الأسود، حيث تقع اليوم مدن طرابزون وسينوب وأماسيا) على البحر الأسود. بشكل شخصي، عاش رئيس الوزراء اليوناني لحظات من الهلع، لكن في هذه المرحلة لم يكن أمامه خيار سوى الذهاب قدماً. (Smith, p. 127; Callwell, vol. 2, pp. 213, 248–49)
بحلول أغسطس 1920 كان اليونانيون على بعد 250 ميلًا في الداخل التركي. في الشهر نفسه، وقع الحلفاء وداماد فريد ممثلاً عن حكومة السلطان العثماني معاهدة سلام في قاعة عرض بمعمل للخزف في سيفر في ضواحي باريس: لم تكن قطعة جميلة، ولكن كان من السهل تحطيمها. حذر المستشارون العسكريون للحلفاء من أن الأمر سيحتاج إلى ما لا يقل عن 27 كتيبة لتنفيذ الشروط، ولم يكن لديهم هذا القدر من الكتائب. في تركيا، كان هناك يوم حداد وطني. كانت صفحات الجرائد مؤطرة بالسواد، وكانت المتاجر مغلقة والصلوات قد تليت طيلة اليوم. قاتل أتاتورك. في هذه الأثناء كانت معظم القوى القومية التركية تحت سيطرته وفي الشمال كان هو والبلاشفة يقضون على جمهوريات القوقاز المزعجة. (Dockrill and Goold, p. 210; Sonyel, p. 82)
في أيلول / سبتمبر 1920، أي بعد أقل من شهر من وعد معاهدة سيفر بإقامة أرمينيا مستقلة تضم جزءاً من تركيا، هاجمت قوات أتاتورك أرمينيا من الجنوب. على الرغم من بذلهم قصارى جهودهم وغارات قوتهم الجوية الصغيرة المكونة من ثلاث طائرات، فقد تم إجبار الأرمن على التراجع تدريجياً. عندما حاول الشاعر الأرمني أهارونيان الذي كان يتحدث عن بلاده في باريس رؤية اللورد كرزون في لندن، تم تجاهله برسالة من الأخير. كتب كرزون: “ما نريد أن نراه الآن هو دليل ملموس على وجود بعض القدرات البناءة والإدارية في الداخل، بدلاً من سياسة خارجية بحتة قوامها البروباغاندا والتسول”. في 17 نوفمبر، وقعت الحكومة الأرمنية هدنة مع تركيا لم تترك للأرمن سوى قطعة صغيرة من البلاد كانت ما تزال حرة. بعد خمسة أيام وصلت رسالة من الرئيس ويلسون. طُلبَ منه بموجب معاهدة سيفر رسم حدود أرمينيا. قرر ويلسون أن تحصل أرمينيا على 42 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التركية. (Walker, pp. 315–6)
مع تخلي العالم عن أمته وسحقها بين عدوين، قال رئيس الوزراء الأرمني إنه “لم يبقى أمام الأرمن ما يفعلونه سوى اختيار أهون شرين”. (Walker, p. 315)
في شهر ديسمبر، أصبحت أرمينيا جمهورية سوفيتية. وكان المفوض البلشفي لشؤون القوميات جوزيف ستالين فاعلاً في إخضاعها. في شهر مارس التالي، أكدت معاهدة موسكو بين تركيا والاتحاد السوفيتي عودة ولايتي قارص وآردهان التركيتين إلى تركيا (كان ستالين هو المفاوض عن البلاشفة). استمرت تلك الحدود إلى يومنا هذا.
انتهت كوردستان أيضاً. فمع حلول مارس 1921 تراجع الحلفاء عن الوعود الغامضة في معاهدة سيفر. فيما يتعلق بالقلق على كوردستان، قال الحلفاء إنهم مستعدون لتعديل المعاهدة “بشعورٍ يتوافق مع حقائق الوضع الموجود”. (Temperley, vol. 6, p. 91)
كانت “الحقائق الموجودة” هي أن أتاتورك أدان المعاهدة كاملة. لقد نجح في الاحتفاظ بجزء من الأراضي الأرمنية داخل تركيا، وكان على وشك التوقيع على معاهدة تعطي ما تبقى من الأراضي الأرمنية للاتحاد السوفيتي. كان يمكن للقوميين الكورد الاحتجاج، لكن لم يعد الحلفاء مهتمين بدولة كوردية مستقلة.
بقي القليل جداً من بنود معاهدة سيفر بعد اتفاقية لوزان في 1923. حيث لم يرد أي ذكر لأرمينيا أو كوردستان المستقلة، ورغم أن كرزون حاول إضافة بنود إلى المعاهدة الجديدة من شأنها توفير الحماية للأقليات إلا أن الأتراك رفضوا بدعوى حق السيادة. كانت حدود تركيا الآن تضم جميع المناطق الناطقة باللغة التركية تقريباً، بدءاً من تراقيا الشرقية وصولاً إلى سوريا. ظلت المضائق تركية ولكن مع توافق دولي على استخدامها. تم حذف الاستسلام القديم المهين. كما نصت اتفاقية لوزان على النقل الإلزامي للسكان حسب المناطق فيما يتعلق بتوزع السكان المسلمين والمسيحيين. كان معظم اليونانيين قد غادروا تركيا بالفعل. حذر كرزون من أن العائلات المسلمة من جزيرة كريت- التي تم إسكانها على حدود ألبانيا قد تم اقتلاعها الآن وإلقاؤها بالقوة في تركيا- إنما هو “حل سيئ للغاية ووحشي”، “حيث سيدفع العالم ثمن ذلك باهظاً لمائة عام قادمة”. كانت الاستثناءات الوحيدة من النقل الإلزامي للسكان- باتفاق خاص- هم الأتراك في تراقيا الغربية واليونانيين المقيمين في القسطنطينية وفي بضعة جزر صغيرة. لقد بقيت المجتمعات منهكة بفعل عدد كبير من القوانين التافهة، واستخدمت كأكباش فداء مناسبة كلما تدهورت العلاقات بين اليونان وتركيا، الأمر الذي حدث في الستينيات في قبرص وفي صيف عام 1999 في كوسوفو. (Dockrill and Goold, p. 239; C. A. Macartney, National States, p. 444; Pope and Pope, pp. 116–18)
النزاع الوحيد الذي لم يتم تسويته في اتفاقية لوزان كان حول الموصل في شمال العراق. ادعى الوفد التركي- مجادلاً على غرار ما اعتادت الحكومات التركية منذ ذلك الحين على استخدامه- أن كورد المنطقة كانوا في الحقيقة أتراكاً. في خاتمة المطاف، قال كبير المفاوضين الأتراك منتصراً أن هذا وارد في الموسوعة البريطانية. كان كرزون- المصمم على التمسك بالموصل من أجل نفطها لا من أجل كوردها- يذوي: “لقد كان ملكية حصرية للوفد التركي اكتشافه لأول مرة في التاريخ أن الكورد كانوا في الأصل أتراكاً. لم يكتشف أحد ذلك من قبل”. (Kinross, p. 407)
كان طرح قضية الموصل متزامناً مع نهاية المؤتمر. وافق الطرفان في النهاية على إحالتها إلى عصبة الأمم التي منحتها أخيراً للعراق في عام 1925.
تم ترك الكرد تحت حكم حكومات مختلفة- أتاتورك في تركيا، ورضا شاه في بلاد فارس، وفيصل في العراق- لم يكن لأي منها أدنى تسامح مع الحكم الذاتي الكوردي. في العراق، تلاعب البريطانيون لفترة من الزمن مع فكرة إدارة منفصلة للمناطق الكوردية، مدركين أن الكورد لا يحبون أن يكونوا تحت الحكم العربي. في النهاية، فضل البريطانيون عدم القيام بأي شيء. نال العراق استقلاله في 1932 دون إيلاء أي اعتبار خاص للكورد. في تركيا، أسقط أتاتورك والقوميون الأتراك تأكيداتهم السابقة على أن المسلمين جميعاً معاً، وانتقلوا إلى إقامة دولة تركية علمانية ما أثار هلع الكثير من الكورد. كانت لغة التعليم والحكومة هي التركية. الواقع أنه بين عامي 1923 و1991 تم إهمال اللغة الكوردية بداية ثم حظرها لاحقاً. في عام 1927، أكد وزير الخارجية التركي للسفير البريطاني أن الكورد معرضون لمصير “الهنود الحمر”، وإذا ما أبدوا أي نزوع في التحول إلى قوميين فإن تركيا ستطردهم كما فعلت مع الأرمن والإغريق. (McDowall, pp. 171–78; Mansel, p. 421)
لم يقبل الكورد أبداً مصيرهم بشكل هادئ، ونمت القومية الكوردية- التي كانت قوة واهية زمن انعقاد مؤتمر باريس للسلام- قوية على مر السنين تحت الاضطهاد. أصبحت الوعود التي قطعت في باريس واتفاقية سيفر الأولى جزءاً من الذكريات والآمال الكوردية. في صيف 1919، قام زعيم أول انتفاضة من سلسلة انتفاضات في الأراضي الكوردية بربط القرآن بذراعه. وقد كتبت وعود الحلفاء في صفحة فارغة، بما في ذلك واحدة من النقاط الأربع عشرة التي وضعها ويلسون والتي تحدثت عن التنمية المستقلة للقوميات غير التركية. (McDowall, p. 158)
عاد عصمت (إينونو) من لوزان ليُستقبلَ استقبال الأبطال، ولا تزال اتفاقية لوزان تعتبر أكبر نصر دبلوماسي لتركيا الحديثة. في خريف عام 1923، غادرت آخر ما بقي من القوات الأجنبية القسطنطينية. وكان السلطان قد غادر في العام السابق، حيث تم تهريبه من قصره في سيارة إسعاف عسكرية بريطانية ونقلته سفينة حربية بريطانية إلى مالطا. توفي السلطان في المنفى في سان ريمو، فقيراً ووحيداً، وأصبح ابن عمه- وهو فنان رقيق- خليفة لعام ونيف حتى ألغى أتاتورك الخلافة أيضاً. تم إرسال ما تبقى من العائلة المالكة إلى المنفى، حيث بددوا تدريجياً الأموال الضئيلة التي بقيت لهم. حفنة منهم عادت إلى تركيا. تدير أميرة أحد الفنادق، ويعمل أمير في أرشيفات قصر توبكابي.
توفي كرزون في 1925 منهكاً من سنوات من العمل الشاق. توفي أتاتورك في 1938 بتليف الكبد، وخلفه عصمت (إينونو) رئيساً. في عام 1993- في الذكرى السبعين لاتفاقية لوزان- وضع ابن عصمت (أردال إينونو) وحفيد كرزون إكليلاً من الزهر على قبر أتاتورك. (Sonyel, p. 225; Pope and Pope, pp. 22–23; Gilmour, p. 567)

المصادر:
1- Adelson, R. Mark Sykes: Portrait of an Amateur. London, 1967.
2-Busch, B. C. Mudros to Lausanne: Britain’s Frontier in West Asia, 1918–1923. Albany, 1976.
3- Callwell, C. E. Field Marshal Sir Henry Wilson: His Life and Diaries, 2 vols. London, 1927.
4- Callimachi, A.-M. Yesterday Was Mine. New York, London and Toronto, 1949.
5- Dominian, L. The Frontiers of Language and Nationality in Europe. New York, 1917.
6- Dockrill, M. L., and J. D. Goold. Peace Without Promise: Britain and the Peace Conferences, 1919–1923. Hamden, Connecticut, 1981.
7- Fromkin, D. A Peace to End All Peace: The Fall of the Ottoman Empire and the Creation of the Modern Middle East. New York, 1989.
8- Gelfand, L. E. The Inquiry. New Haven, Connecticut, 1963.
9- Helmreich, P. C. From Paris to Sèvres: The Partition of the Ottoman Empire at the Peace Conference of 1919–20. Columbus, Ohio, 1974.
10-Kinross, P. B. Ataturk: A Biography of Mustafa Kemal, Father of Modern Turkey. London, 1964.
11- Macartney, C. A. Hungary and Her Successors: The Treaty of Trianon and Its Consequences 1919–1937. London and New York, 1937.
12- Macartney, C. A. National States and National Minorities. New York, 1934.
13- Mansel, P. Constantinople: City of the World’s Desire, 1453–1924. New York, 1995.
14- McDowall, D. A Modern History of the Kurds. London and New York, 1996.
15- Nassibian, A. Britain and the Armenian Question, 1915–1923. New York, 1984.
16- Rawlinson, A. Adventures in the Near East 1918–1922: In Three Parts. London and New York, 1924.
17- Sonyel, S. R. Turkish Diplomacy 1918–1923: Mustafa Kemal and the Turkish National Movement. London and Beverly Hills, 1975.
18- Suny, R. G. Looking Toward Ararat: Armenia in Modern History. Bloomington and Indianapolis, 1993.
19- Smith, M. L. Ionian Vision: Greece in Asia Minor, 1919–1922. New York, 1973.
20- Walker, C. J. Armenia: The Survival of a Nation. London, 1990.

شارك هذا المقال: