إعداد وترجمة: محسن سيدا
توطئة :
يعدّ ملّا محمود بازيدي* من كبار المثقفين الكرد في القرن التاسع عشر و تكمن أهمية البازيدي في نقاط عدة لعل أبرزها ما قدمه من نتاج مغاير للمدونات الكردية التي خرجت من رحم “الحجرات الكردية “. إنّ الدارس لنتاجه يتلمس فيه نزوعا واضحا لنقل اللغة الكردية من لغة الشعر إلى لغة النثر، فأقحم اللغة الكردية في ميادين جديدة كالترجمة و القضايا الاجتماعية ، وموضوعات أخرى. شخصية البازيدي لها أبعاد وجوانب متعددة لا يمكن فصلها عن حضور المدينة الكردية في الحدث الثقافي الكردي في القرن التاسع عشر . . فنتاجه في المجمل أقرب للثقافة المدنية ، مقارنة بتراث التكايا والحجرات . ناهيك عن خطابه التنويري المتأثر بالسجالات الفكرية الدائرة بين النخب العثمانية في “عصر التنظيمات”.
إن التعاون الذي جرى بين البازيدي والقنصل الروسي في أرضروم، البولوني الكسندر جابا أثمر عن العديد من المقالات و الرسائل والكتب باللغة الكردية إلى جانب حفظ العديد من المخطوطات الكردية . و من بين الأعمال الهامة التي تركها لنا البازيدي كتابه ” جامع المقالات والحكايا بالكرمانجية ” (1) الذي يضم بين دفتيه مقالات عديدة عن أدباء الكرد وشعرائهم و أربعين حكاية شعبية ، دونها بصيغتها الشعبية ، ووضع لها أرقاماً متسلسلة كعناوين لكل حكاية . يتخذ البازيدي من حكاياته منصة لنقد المؤسسات التقليدية لبنى المجتمع الكردي . كمؤسستي المشيخة والآغاتية . إلا أنه نأى بنفسه عن نقد الدولة ومؤسساتها المترهلة ،و عندما بدأ السلطان عبد المجيد باصلاحاته أيّد تلك الإصلاحات وأشاد بها وأوضح في رسالته ” عادات الكرد وتقاليدهم ” كيف أن إصلاحات ” عبد المجيد خان دام عدله ” وضعت حداً لعسف و تعديات الآغاوات الكرد بحق الأهالي.
وإذا كان من السابق لأوانه القول أن جميع حكايات البازيدي وقائع تاريخية جرت في أزمنة مختلفة
كما ذهب إليه معدّ الكتاب الكاتب زيا آفجي، إلا أنه مما لا شك فيه أن بعض هذه الحكايات هي مرويات تاريخية. فالوثائق والأدلة التاريخية التي تظهر بين الحين والآخر تفنّد الرأي القائل بأن حكايات بازيدي لا تمت إلى الواقع بصلة وقد أصدر الباحث سنان هاكان دراسة موثقة عن الحكاية التاسعة والتي تتناول غدر الأمير إبراهيم خان حاكم هكاري بالأمير شيخي بك حاكم مدينة مكس والاستيلاء على ممتلكاته ومقتنياته.(2)
من الحكايات الشعبية التي دونها البازيدي الحكاية التاسعة والعشرون والتي تتناول الواقعة التاريخية التي جرت في سهل سروج عام 1844 – 1845 م والتي عرفت في الوثائق العثمانية بـ (المسألة البرازية )(3) ، إذ انتفض الأكراد البرازية في وجه الدولة العثمانية بعد صدور القانون الخاص بالمجندين في الجيش في 6 ديسمبر عام 1843م .، والذي سبقه تحديث النظامين الضريبي والمالي . وقبل أن نعرض ترجمة الحكاية التي صاغها المخيال الشعبي ودونها البازيدي كما تلقاها من أفواه الناس ،لا بد من توضيح بعض النقاط في ضوء الوثائق الصادرة عن المجلس الأعلى للأحكام العدلية بخصوص عصيان الأكراد البرازية في سهل سروج . تعرّف الوثيقة زعيم الانتفاضة بـ (…….. كرعو بن مسكو كتخدا (4) قبيلة كتكانلو ) كما تبين دور كرعو و أخيه في العصيان إذ تقول : إن كرعو “ (…… توجه إلى زعماء ورؤساء عشيرتي البرازي وكيتكانلو ليشكو إليهم سَوْق العسكر والتنكيل بهم ……. ) كما حث كرعو القبيلة البرازية ( …… الوقوف صفاً واحداً في وجه الجيش الهمايوني ….) و تضيف الوثيقة ذاتها أن كرعو (…..واصل تحريضه اليومي للعشيرة المذكورة …) هذه المعلومات الواردة في الوثيقة تتوافق مع الرواية الشعبية المحلية عن اجتماع الأكراد البرازية في قرية سكران التابعة لسروج حالياً (5)، أما عن أسباب و مبررات الدولة العثمانية لقتالها للقبيلة البرازية حسب ما جاءت في الوثيقة فهي امتناع العشيرة (…. منذ وقت طويل عن أداء تكاليفها المالية ، ورفض تنفيذ الإرادات السنية بشأنها كافة ..) . في حكاية البازيدي و بعض روايات ” مغنو الحكايات ” ثمة صراع بين القبيلة البرازية و قبيلة عنزة العربية ، لكن ما جاء في الوثائق لا تعّزز هذه الرواية ، بل يستخلص من الوثائق أن العلاقات كانت جيدة بين القبيلتين و إلا كيف يجازف كرعو بحياة فرسانه و يحاول الاحتماء بقبيلة عنزة ؟ تتحدث الوثيقة في هذا الصدد عن فرار كرعو (…… مصطحباً معه حوالي خمسين أسرة من ذويه ومقرّبيه واللجوء إلى عشيرة عنزة التي تقيم في الجانب الآخر من الفرات …… و لكن عربان العنزة رفضوا طلبه خوفاً من أن توجه إليهم القوة العسكرية في حال قبولهم له ……. )
يتضح من دراسة الوثائق المتعلقة بعصيان البرازية أن نامق باشا ،الوارد اسمه في حكاية البازيدي، هو قائمقام أورفة ولم يكن والياً لحلب، أما والي حلب في هذه الفترة فقد كان وجيهي باشا الذي حاول إلى جانب أسعد باشا جباية التكاليف والقبض على كرعو فأرسل حملة ( …….. من العساكر النظامية وغير النظامية مجهزة بأعداد وافرة من المدافع والذخائر ، لكن دون اية نتيجة …..) جاء في الوثيقة أن كرعو و فرسانه توجهوا الى سروج ، (…. فعلم بذلك القائمقام المشار اليه فاصطحب معه العساكر في ليلة السادس والعشرين من ربيع الثاني متوجها صوب المكان الذي فيه الخائن فوصل في ساعات الصباح وهمّ الخائن و معه شقيقه حمي و من معهما بالقتال والمجابهة لكن القاثمقام المشار اليه بفطنته وشجاعته تمكن من حمي ميتاً والخائن المذكور حياً ….. ) هذه المعلومات تؤكد أن المعركة التي يصفها البازيدي في حكايته جرت أحداثها بتاريخ 3 ايار عام 1845م وتروي الروايات الشفهية أن كرعو أعدم في حلب (6)
مهما كانت الدوافع و النتائج لهذه الحركة الاحتجاجية الشعبية ، ورغم كل الصفات السيئة التي ألصقتها الدولة العثمانية بزعيم الحركة ” كرعو ” فإن المخيال الشعبي و على لسان ” مغنو الحكايات ” أضفى بعداً أسطورياً عليه ، فهو “رجل من الغيب ” كما تقول الأغنية الكردية و هو ” قلعة السهل ” في سهل لا قلاع ولا حصون فيه .بعد إعدام كرعو أطلقت أسر عديدة ، من مختلف عشائر السهل، اسم كرعو على مواليدهم ،تيمناً باسمه، وهذا له دلالة اجتماعية في مجتمع فيه حتى الاسماء أحياناً ، تتخذ أبعاداً عشائرية.
من خلال المقارنة بين حكاية البازيدي و ما جاء في الوثائق من معلومات تتضح أهمية التراث الشفاهي بشكل عام و التراث الغنائي بشكل خاص كمصدر من مصادر التاريخ الكردي. وفي الختام لا بد من القول أن البازيدي تناول هذه الحركة من منظور قيم الفروسية وكامتداد لحركات الفتوة التي ظهرت في التاريخ الاسلامي. أما السياق التاريخي لهذه الحركة فيأتي في إطار محاولات الدولة العثمانية توطين مفاهيم الحداثة، وصدامها بالبنى التقليدية للمجتمعات التي عاشت طوال قرون وفق نظمها وتقاليدها، فعصيان البرازية تزامن مع حركات أحتجاجية أخرى شهدتها الدولة العثمانية للأسباب ذاتها.
الحكاية التاسعة والعشرون
ملا محمود بازيدي
في وقت ليس ببعيد، وقريباً من هذه الديار، في سهل البشيرية ، كان ثمة رجل من عشائر البادية، ينتمي إلى الطائفة البرازية من الكرمانج، يدعى سيسو، كان على درجة عالية من الفطنة والذكاء ، وكان له ولدان، الكبير يدعى كرهي والصغير أحمي. لم يكن لهما نظير في الرشد والشجاعة والمروءة والفروسية. كان كرهي في العشرين من عمره ، أما أحمي فقد كان في التاسعة عشرة من عمره. لقد ذاع صيت الأخوين بين الناس خلال فترة وجيزة ، فما أغارا على جمع إلا وتشتت شملهم ولحقت بهم الهزيمة. كانا يهاجمان منفردين على العرب من قبيلتي العنزة والشّمّر ويغنمان الإبل والمواشي ويصدان مائة فارس منهم ويلحقان بهم الهزيمة. لشدة شجاعتهما وبراعتهما في القتال يخال المرء أنهما من سلالة الجن. خلاصة القول، فقد طبقت شهرتهما الآفاق. وبدأ الناس يحتمون بهما ويلجؤون إليهما من النواحي المجاورة ، وبلغ عدد البيوت التي استجارت بهما قرابة مائة بيت، وبات اسم الأخوين على كل لسان. كما كانا يغيران على القبائل العربية والكردية ويغنمان منها المواشي والأنعام .
جهّز أيوب آغا المللي حملة قوامها سبعمائة فارس وشنّ هجوماً عليهم ، لكنّهما تمكّنا من صدّ الهجوم بمائة فارس وألحقوا الهزيمة بقوات آغا المللي.
إن هزيمة الأخير مست هيبة آغاوات العشائر وجعلتها في الحضيض وبدأ آغاوات الطائفة البرازية القدامى يضمرون الحقد للأخوين ويتحيّنون الفرص للانقضاض عليهما، ولكن كانت محاولاتهم تبوء بالفشل. بالإضافة إلى التحاق الناس بهما ، بدأ الفارون من الجندية في تلك الأطراف أيضاً يلجؤون إليهما ويجدون عندهما ملاذا آمناً. بدأ الأكراد في تلك النواحي يكنّون لهما العداء إلا أنهم لا يتجرؤون على مواجهتهما .
عندما بدأت قرعة الجيش في أورفة ، فرّ منها عدد من الجنود والتحقوا بالأخوين. أرسل نامق باشا ، والي حلب، كتابا تحذيرياً إلى”اسكان باشي” أيوب آغا المللي يأمره فيه بإعادة الفارين.وردّاً على كتاب نامق كتب أيوب آغا عريضة يؤكد فيها صحة خبر وجود الفارين في تلك النواحي ، إلا أنه أوضح في رده أن أخوين من الأكراد البرازية قد ظهرا في المنطقة وشقّا عصا الطاعة وبغيا ولا يكترثان لكلام أحد، ولا نقدر على مواجهتهما وإلقاء القبض عليهما إلا بدعم ومساندة الجيوش النظامية والمدافع. جهز نامق باشا جيشاً نظامياً مدعماً بأربعة مدافع وعسكروا في أسفل أورفة ( جنوب أورفة ـ المترجم).
أرسل نامق باشا إنذاراً للأخوين والجنود الفارين بالاستسلام وإلا سيعلن الحرب عليهم . رفض الأخوان الإذعان لإنذار الوالي نامق باشا واستعدا للقتال، إذ قاما بترحيل بيوتهم إلى جبل حصين وبقيا مع خمسين فارس من النخبة لمواجهة قوات نامق باشا. في صبيحة اليوم التالي ، أعد نامق باشا طابوراً من الجيش النظامي مدعوماً بقرابة ألفي فارس من فرسان القبائل الكردية كالمرديسية والمللية والبرازية. نزل الأخوان منفردين من الجبل وشنّا هجوماً واقتحما طابور الأكراد ، كانت القوات النظامية تراقب المعركة وترى كيف أن الأخوين ينقضّان انقضاض الذئب على القطيع.وتمكنا من تشتيت صفوف فرسان القبائل وقتلا ما يربو على أربعين فارساً بعيداً عن المبالغة.
لقد أصيب كرهي برصاصة في جبينه فهوى صريعاً من على حصانه . وعندما رأى أحمي أن أخاه قتل ، ترجّل من فرسه وارتمى على جثته، فألقى القبض عليه وزج به في السجن ثم أعدم في إحدى ساحات حلب .. وبعدها تمكّنت القوات من مصادرة ممتلكاتهما كما تم إلقاء القبض على الفارين الذين احتموا بهما. وأنشدت شقيقات الأخوين الأغاني عليهما حزناً ورثاءً. ومازال الناس إلى يومنا هذا في أطراف أورفة وسهل البشيرية يتغنون بمروءة الفارسين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ـ حسب وثيقة عثمانية ، اطلعني عليها الصديق غياث حسين، كان البايزيدي قد جاوز العقد السابع من العمر عام 1860 م ، وقد شكك الباحث جودت هشيار أن يكون تاريخ وفاته عام 1860م و هذه الوثيقة تؤكد شكوكه بالإضافة الى وجود مخطوطات متأخرة بخط البازيدي.
1 ـ جامعيا رساله يان وحكايه تان ب زماني كورمانجي ، مه له مه حموودي بازيدي، ئاماده كار زيا ئا فجي . منشورات ” ليس ” دياربكر، الطبعة الأولى ، 2010م . طبع الكتاب للمرة الأولى في بطرسبرغ عام 1860م على يد القنصل الروسي بأرضروم الكسندر جابا
2 ـ انظر مقدمة معدّ الكتاب زيا آفجي ص 21.
3 ـ الجمل الموضوعة بين قوسين والمتعلقة بالعصيان وكرعو مقتبسة من الوثيقة I.MVL. 66/1261ـ
4 ـ كتخدا : منصب عثماني ، وهو النائب ، وصلاحياته يضيق ويتسع حسب رغبة الوالي .
5 ـ أشكر الصديق المصوّر زكريا مصطفى الذي أرسل لي مشكوراً أغنية ” دلالي عكيتان ” والتي تتناول عصيان الكرد البرازية ، كما أشكر الصديق الكاتب والمترجم أحمد حسن الذي نبهني إلى وجود قصة حم و كرع في كتاب ” جامع الحكايات ” .
6 ـ يستخلص من حكاية البازيدي أن الإعدام حصل في مدينة حلب، بغض النظر عن الخطأ الذي وقع فيه البازيدي ، وهذا ما أكده الأديب والشاعر حسين محمد علي في كتابه “كوباني مملكة الماء والغرانيق” أن الإعدام تم في حلب و في آقيول على وجه التحديد، وفي اتصال خاص مع الاستاذ الفاضل حسين محمد علي بخصوص هذا الموضوع، أكد لي أنه أخذ هذه المعلومة من أحد المسنين و هو السيد حسن فرواتي.