المدارس الكردية وأهميتها من أجل الثقافة والهوية الكردية

شارك هذا المقال:

ميشيل ليزينبيرك[1]

ترجمة وسام حسن العيسى

قد تبدو المدارس الدينية، أو المدارس القرآنية، في كردستان أثراً من الماضي؛ حيث تم حظرها رسمياً في تركيا منذ العشرينيات من القرن الماضي وأصبحت مندثرة في أماكن أخرى مع ظهور نماذج التعليم الحديثة الممولة من الدولة (ومن قبل القطاع الخاص مؤخراً) في التعليم الابتدائي والعالي. ومع ذلك، لعبت المدارس الدينية دوراً هاماً في الحياة الثقافية في أرض كردستان وربما ساهمت في جعل الثقافة الكردية على ما هي عليه اليوم.

من الواضح أن التعليم في المدارس الدينية كان يتألف أساساً من تعلم الدين الإسلامي واللغة العربية، بدءاً من حفظ القرآن ومبادئ الإيمان،  انتقالاً إلى تفاصيل قواعد اللغة العربية ودراسة الحديث وتفسير القرآن – أي علوم العربية (وهي العلوم الشرعية والبلاغة   في اللغة العربية)؛ ولكن في بداية العصور الحديثة تطور التعليم في المدارس الدينية في كردستان الشمالية ليكتسب طابعاً كردياً خاصاً.

في أماكن أخرى، يشير مصطلح “مدرسة” عادة إلى مؤسسات تعليمية معينة عالية المستوى ، ولكن في المنطقة التي يسكنها الأكراد، فغالباً ما يشير إلى مؤسسات التعلم الديني بشكل عام. في كردستان العراق، يبدو أن مصطلح “حجرة” (والذي يشير حرفياً إلى غرفة التعليم المجاورة لمسجد ما) يستخدم بشكل أكثر تواتراً من مصطلح “مدرسة”. ويبقى معظم تاريخ المدارس الدينية في المدن والقرى الكردية بحاجة إلى الكتابة، أما ما يتعلق بتاريخ المدارس الدينية في الريف فإن الأمر ما زال أكثر غموضاً.

أوليا چلبي

ومع ذلك هناك العديد من المصادر المهمة حول تاريخ المدارس الدينية. من بين أقدم هذه المصادر نجد السياحتنامة (كتاب الرحلات) للكاتب الرحالة أوليا چلبي (المتوفى عام 1682) في القرن السابع عشر. لقد ترك هذا العمل الضخم لنا معلومات لا تقدر بثمن حول الحياة الثقافية والفكرية وحول اللغات المحكية في بداية عصر الإمبراطورية الحديثة- وحول الكثير من الحكايات الطويلة المبالغ فيها والتي غالباً ما تكون ذات طابع مبتذل. أمضى أوليا أيضاً فترة طويلة في بلاط الأمراء المحليين في كردستان، وفي المدن أو البلدات التي يسكنها الأكراد بشكل رئيسي مثل دياربكر وبدليس وآميدي/عمادية، حيث قدم معلومات مثيرة وغالباً دقيقة حول المدارس الدينية المحلية واللهجات المحكية، وما إلى ذلك. لسوء الحظ، يبدو أنه لم يقم برحلات أبعد إلى المناطق التي يسكنها الأكراد جنوباً أو شرقاً، وإلا لكان من المثير أن نهتم بقراءة ملاحظات أوليا في بلاط أردلان في مدينة سنه/سنندج في الإمبراطورية القاجارية المجاورة، على سبيل المثال.

ما يثير الاهتمام هو أن أوليا يذكر استعمال اللغتين العربية والفارسية فقط في المدارس الدينية الكردية الحضرية التي قام بزيارتها.

يدون أوليا بعض التعليقات القصيرة حول الشعراء الناطقين باللغة الكردية في بلاط آميدي/عمادية، وبخلاف ذلك، يبدو أنه ينظر إلى اللغة الكردية في المقام الأول، إن لم يكن حصراً، كلغة محكية.

خاني ومصادر أخرى

بعد فترة زيارات أوليا، نرى على الفور علامات على تحول هام في حياة المدارس الدينية الكردية: من أواخر القرن السابع عشر فصاعداً، لدينا أدلة على استخدام الكردية (الشمالية) ليس فقط كوسيلة للتعليم الشفهي والمكتوب، ولكن أيضاً كلغة مكتوبة للتعبير الشعري وحتى كموضوع لتعلم اللغة.

يوجد بين رواد الشعر الكردي المكتوب مؤلفون مرتبطون بالمدرسة الدينية مثل ملايى جزيري، الذي كان مرتبطًا بـ المدرسة الحمراء (مَدْرَسَيا صُور) الشهيرة في جزيرة بوهتان.

لكن الأهم من ذلك بكثير، هي كتابات أحمدى خاني، الذي أشار بشكل صريح إلى أن استخدامه للغة الكردية المكتوبة في إعداد منهاج المدرسة الدينية كان ابتكاراً إن لم يعتبر بدعة. قام خاني بتأليف “نوبهارا بچوكان” (باكورة الثمار من أجل الصغار) من أجل تلاميذ الكرد المبتدئين في المدرسة الدينية. قام فيه بإعداد معجم منظوم  صغير بالعربية والكردية، و”عقيدا إيمانى” (عقيدة الإيمان)، وهو بيان مختصر في الإيمان. قام خاني بكتابة العملين بشكل موزون و مقفى، وذلك بلا شك بهدف تسهيل التعلم الحفظي.

أما تحفة خاني فهي -بالطبع- القصيدة الرومانسية الطويلة “مم و زين” التي تدور قصتها حول عاشقين سيئي الحظ لم يحصلا على إذن بالزواج ويصابان بالنحول تدريجياً نتيجة لذلك. على الرغم من أن هذا العمل يُقرأ اليوم في المقام الأول باعتباره قصة رمزية سياسية لمصير الأكراد، إلا أنه يبدو أنه كُتب في الأصل خصيصاً لجمهور المدرسة الدينية. ويبدو أيضاً أنها كانت تُقرأ على نطاق واسع في مدارس شمال كردستان: فقد نجا عدد كبير من مخطوطات هذه القصيدة، وجميعها تقريباً عبارة عن مجلدات بسيطة ومتواضعة وتفتقر إلى الزخارف والمنمنمات المتقنة – والمكلفة – التي تميز المخطوطات التي تم تأليفها من أجل الأمراء المحليين أو كتبت بأمر منهم، ناهيك عن السلاطين.

وأخيراً، فإن العديد من الأعمال باللغة الكردية التي تتناول قواعد اللغة – وتغطي جزئياً جوانب قواعد اللغة الكردية – والتي يرجع تاريخها على الأرجح إلى القرن الثامن عشر، قد نجت، وفي الواقع، استمر استخدامها في المدارس الدينية الكردية. يشير كل هذا إلى أنه ينبغي البحث عن أصول الثقافة الأدبية الكردية في المدارس الدينية في الريف وليس في المراكز الحضرية أو في البلاطات الأميرية؛ وأن الجمهور الأصلي لهذا الأدب الكردي كان يتألف من تلاميذ المدارس الدينية والمتصوفة وليس الأمراء أو سكان المدن. وأخيراً، وما يثير الاهتمام، أن هذا التطور خاص بكردستان الشمالية. وفي المناطق الواقعة إلى الجنوب، يبدو أن اللغة العربية ظلت لغة التعليم الأساسية، إن لم تكن الحصرية، في الحجرات الدينية.

لماذا نُسيت المدارس الدينية؟

هناك سببان رئيسيان لعدم حصول الحياة الأدبية والثقافية والفكرية الغنية للمدارس الدينية الكردية على الاهتمام الذي تستحقه. أولاً، بالطبع، كان هناك قمع لجميع المدارس الدينية في جمهورية تركيا الحديثة. وفي عام 1925، أدى قانون توحيد التعليم إلى إغلاق جميع المدارس الدينية في البلاد. ومع ذلك، استمرت العديد من المدارس الدينية في العمل سراً، خاصة في المحافظات الكردية، ولعبت هذه المدارس دوراً حاسماً ليس فقط في الحفاظ على التراث الأدبي الكردي، ولكن أيضاً في إنشاء وإعادة إنتاج معيار لغوي مكتوب.

سبب آخر لإهمال حياة المدرسة الدينية الكردية هو حقيقة أن القوميين الأكراد العلمانيين لم يكونوا مهتمين بشكل كبير بالثقافة الدينية التي سبقت ثقافتهم الوطنية؛ وبناء على ذلك، على سبيل المثال، فإن العديد من القراءات الحديثة لكتاب أحمدى خاني “مم وزين” تميل إلى التقليل من أهمية أبعادها الدينية والصوفية أو تجاهلها.

ولحسن الحظ، فإن الأمور تتغير. لدينا بعض الأوصاف الحديثة لحياة المدرسة الدينية في كردستان الشمالية من خلال كتاب ألفه صدر الدين أوزتوبراك Sadreddin Öztoprak باللغة التركية وكتاب باللغة الكردية ألفه زين العابدين زنار، بالإضافة إلى مذكرات للكاتب الشهير محمد سعيد رمضان البوطي باللغة العربية بعنوان (هذا  والدي)، حيث تقدم نظرة ثاقبة على المدارس الدينية الكردية قبل الحظر في عشرينيات القرن الماضي في تركيا. من اللافت للنظر أن تعليقات هؤلاء المؤلفين على منهاج المدرسة الدينية، أو ريزrêz، تشير باستمرار إلى أن الأعمال المذكورة أعلاه كانت تستخدم على نطاق واسع في المدارس الدينية الريفية في جميع أنحاء كردستان الشمالية.

مسارات البحث المستقبلي

السؤال المطروح هو ما إذا كان بإمكاننا ملاحظة تطورات مماثلة في أماكن أخرى في كردستان. ويبدو أن صعود السورانية، أو الكردية الوسطى، في القرن التاسع عشر لم يكن مرتبطا بشكل حاسم بالمدارس الدينية مثل صعود الكرمانجية، أو الكردية الشمالية. وبالمثل، أخبرني المؤرخ محمد هورامي، الذي ألف من بين آخرين كتاباً عن الحياة الثقافية والفكرية في منطقة هورامان، أنه لم يكن على علم بوجود أي أعمال للمدرسة الدينية مكتوبة باللغة العامية الهورامية، وذلك في المدارس الدينية المحلية. وأن اللغتين العربية والفارسية كانتا مستعملتين بدلاً من الهورامية في التعليم بالمدرسة الدينية.

ولكن في الآونة الأخيرة، التقيت بالعديد من علماء الدين الأكراد المقيمين في إيران، والذين أكدوا لي أن مؤلفات باللغة الهورامية بمثل هذا الشكل يمكن العثور عليها بالفعل في المكتبات في طهران. في الوقت الحاضر، لا أعرف شيئاً أكثر عن هذه المؤلفات؛ ومن الواضح أن الرأي الحاسم حول هذه الأمور  لم يعلن حتى الآن .

ومهما كانت الاكتشافات المستقبلية التي تنتظرنا، فإن أهمية حياة المدرسة الدينية في خلق لغة وأدب كردي حديث -ناهيك عن صياغة الهوية الثقافية- لا يمكن المبالغة فيها.

ميشيل ليزنبرك يدرّس في قسم الفلسفة في جامعة أمستردام. لقد درس كمحاضر زائر في العديد من الأماكن، بينها إينالكو/سوربون INALCO/Sorbonne في باريس وجامعة ياغيلونيان في كراكوف Jagiellonian . صدر له العديد من المقالات عن الكرد .


[1]  تمت الترجمة من اللغة الإنكليزية، العنوان الأصلي للمقال:

Michiel Leezenberg (2023), Kurdish Medreses and Their Importance for Kurdish Culture and Identity, In Kurdistan Chronicle

https://kurdistanchronicle.com/b/2655?fbclid=IwAR3Ofibi_MHiKLC3RBt3CLAWVEE4YK_YddTgKBdk9aZJ6c8rTQBXsLbfrYE
شارك هذا المقال: