أغنية “لو ولاتو” بين مشو بكبور  وحسنازي والسياق التاريخي لها

شارك هذا المقال:

محسن سيدا

صدر عن دار ” سرسرا ” الكردية  كتاب  للدكتور محمد زينو  يتناول فيه عرضاً و معالجة سيرة أغنية ” لو ولاتو ” المنتشرة في جبل الكرد ويعرض نماذج منها لمغنين أدوا هذه الأغنية   وحسب  اجتهاد الكاتب فإن المغني  الشعبي الكبير حسنازي (1885- 1989م) هو مؤلفها وأول من غناها عام 1925م .  تحكي الأغنية  مأساة الكرد بعد انتكاسة  ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925  و القمع الوحشي الذي طالهم بعد القضاء على ثورتهم و إعدام قائدها   الشيخ سعيد بيران  على يد  الكماليين  .

تشكل  أغنية  ” لو ولاتو ”  ، بصرف النظر عمن الَفها ، تحولا  أو نقلة في مسار الأغنية الكردية الكلاسيكية ، إذ يتجلى فيها الخطاب القومي بشكل واضح وتستمد من قاموس  المتنورين الكرد بعض المفردات المستجدة  في خطاب  الغناء  الدنكبيزي وعلى سبيل المثال لا الحصر ،  مفردتي الشعب والوطن ، كما    تعد من بواكير  الأغنية الكردية السياسية  في مناطق الكرد في سورية وهي في الوقت ذاته إحدى  أشكال التعبير للتعاطف الكردي السوري  مع ثورة الشيخ سعيد  ، حين كان تقسيم بلادهم مازال حديثاً.  من هنا  ، فإن معرفة  هوية مؤلف الإغنية  لا تقلل من قيمتها الآنفة الذكر ، بل تفتح الآفاق لفهم السياق التاريخي لظهور أغان قومية في فترة مبكرة في تاريخ الكرد السوريين  .     شاء الكاتب محمد زينو أن يعنون كتابه بـ  ” ملحمة الشيخ سعيد  بيران ، ” لو ولاتو ”  وهنا  لست بوارد مناقشة الكاتب  فيما إذا كانت   الأغنية تستوفي شروط الملاحم أم لا . بل إن ما أود تناوله هنا  هو مناقشة الحجج والأدلة التي ساقها لـ ( يثبت ) أن الفنان الراحل حسن نازي هو مؤلف  الأغنية .

   يقول المؤلف أنه  تتبع  جذور الأغنية و تأكد من أن المغني المعروف  حسن نازي  من قرية ” نازا ” ألفها  في شتاء عام 1925 م (ص 9) ، بعيد انتكاسة ثورة الشيخ سعيد بيران .ويضيف الكاتب أنه بعد فشل الثورة،  لجأ قسم كبير من الكرد الى مناطق الكرد في سورية ( بن خط ) هرباً من المظالم التي ارتكبتها الدولة التركية بحق الكرد، كما لجأ قسم كبير، من هؤلاء اللاجئين ،   إلى منطقة عفرين  وعاشوا في كنف الآغاوات  والميسورين بسبب فقرهم وسوء أحوالهم  لذلك  فغير مستبعد(ص10) ان بعضاً منهم تحدث عن أخبار الثورة و المظالم التي حلت بهم.   و من المعروف ، يضيف الكاتب  ، أن عشائر كثيرة  في عفرين لها امتدادات في مناطق كردية في الشمال مثل : باطمان رها و سرحد وبقيت العلاقات مستمرة حتى بعد رسم الحدود بفترة . وفي إحدى ليالي الشتاء عام 1925 م  حوًل المغني حسن نازي أحداث الانتفاضة إلى أغنية (ص11-12) .  إن ما أورده الكاتب، أعلاه ،   لا يدخل في باب  الادلة والبراهين  التي يمكن من خلالها التاكيد على أن المغني الراحل حسن نازي هو مؤلف الأغنية إذ ليست هناك إحالات ولا إشارة إلى مصادر معينة،و يفهم  من سرد الكاتب أن  وجود اللاجئين في منطقة عفرين كان له التاثير في تحويل أحداث الثورة إلى أغنية  لكنه لا يذكر عائلة واحدة من تلك العوائل التي التقى بها الراحل حسن نازي ،  وبالتالي من حق المتلقي التشكيك بهذه الرواية غير الموثقة  والمبنية على الافتراض .  . يقول الكاتب أنه أثبت أن المغني حسن نازي أدى الأغنية عام 1925م  لكنه  لا يقدم أي أدلة على اثباته  وإذا افترضنا  أن أبناء أو أحفاد الراحل حسن نازي هم من أخبروه بأن الأغنية لحس نازي  فيمكن أخذ شهادة الأحفاد في الحسبان لكن لا يعتد بها كدليل قطعي لحسم مسألة بحثية مختلف عليها .  .  ،  يقول الكاتب  أن بعض الأصدقاء من كوباني أخبروه أن الأغنية  تنسب إلى المغني الشعبي مشو بكبور  ولأنً  هذه  الرواية  تفتقر إلى الأدلة  ، حسب المؤلف ، لذلك  سيرجئ الخوض فيها ريثما تنجلي بعض الحقائق (35) .  من المفترض أن الكاتب حسم هوية مؤلف الاغنية  استنادا إلى روايته ، وبالتالي حسم الموضوع ،  أما قوله أنه سينتظر جلاء بعض الحقائق حول نسبة الاغنية إلى  مشو بكبور  فهذا يدل على عدم ارتياح الكاتب نفسه الى الرواية التي  اعتمدها ، صحيح ، أن الكاتب  استانس بآراء الكاتبين  حسن بلال و مصطفى رشيد  حول الأغنية ، فشهادة الكاتبين الواردة في الكتاب تشير إلى  انتشار الأغنية في منطقة عفرين  وليس إلى أنها تنتمي إلى منطقة عفرين أو أن مؤلفها المغني حسنازي . كان من الممكن للكاتب أن يجري دراسة للغة الأغنية ولحنها ومقارنتها بالأغاني التراثية في منطقتي كوباني وعفرين لأن   البحث في  جذور الغناء التقليدي يغري الباحث  بالخوض في  مسائل عدة متعلقة بالتراث الغنائي  الكردي التقليدي  في سورية  ، منها على سبيل المثال  ، العلاقات بين  مغني السهل  في كوباني  مع مغني جبل الكرد  ، وقد خصت الباحثة النمساوية  بربارة ستراولي  في كتابها  ” سهولنا الواسعة ” فصلا عن العلاقات بين مغني  أورفا و جبل الكرد ،  أيضا ،  دور السلطة الإجتماعية أوالقبلية في غياب أو تغييب بعض الأغاني ، الأمر الذي يفسر لنا انتشار بعض الأغاني  في منطقة ما وإهمالها  في موطنها الأصلي .  إن أغنية  ” لو ولاتو ”  ، كما نوهنا في البداية ، تعبر عن نزوع قومي واضح  فالخطاب فيها موجه للشعب الكردي وليس للقبيلة الذي كان المغني الشعبي ، غالباً ،  ناطقاً باسمها   و الغناء  الـ ” دنكبيزي ”  ” مرتبط في أساسه بالاقطاع الكردي ،  ومن هنا لا بد من البحث عن مؤثرات ومصادر أخرى أكثر قوة وتاثيراً  في إحداث تغيير في وعي المغني الشعبي وما ذكره الكاتب  من لقاءات مفترضة بين اللاجئين الكرد وحسنازي غير كافية     لصياغة أغنية قومية في وقت مبكر نسبيا ، و لم يكن مقنعا ، من وجهة نظري  على أقل تقدير ، ولا بد من وجود مؤثرات  أخرى حملته لصياغة أغنية مستجدة على الأدبيات الغنائية الكلاسيكية .

مشو بكبور والسياق التاريخي للأغنية:

إن عرضاً سريعاً لسيرة المغني مشو بكبور والبيئة التي عاشها   واللقاءات التي جمعته مع نخبة من المتنورين الكرد قد يدفع الباحث لترشيحه  أن  يكون هو مؤلف الأغنية وليس الفنان حسنازي  الذي يماثله أهمية ومكانة في الغناء التقليدي . .  .كان الراحل مشو بكبور  مغنيا في ديوان غالب بك، زعيم  الإيالات الحميدية في سروج  و انتقل  من قريته ” عتمانك  ” لأسباب  اجتماعية الى قرية كانيا عربان ( عربينار ) ليصبح  مغنياً  في ديوان الأخوين بوزان بك ومصطفى بك  اللذين ساهما في تاسيس جمعية خويبون القومية عام 1927. ومنذ تاريخه ، على أقل تقدير ، توثقت صلات أبناء شاهين بك مع الأمير جلادت الذي كان يتردد بين الحين والآخر إلى قرية ” مكتلة ” إحدى ضواحي كوباني في الوقت الحالي و من المفيد التذكير هنا أن الأميرجلادت  سجَل على قيود قرية ” مكتلة ”  لنيل الجنسية السورية . وفي كتابه  عن جمعية خويبون ، ذكر الباحث  روهات آلاكوم  أن قائد ثورة ارارات  الجنرال احسان نوري باشا حلً ضيفا على مصطفى بك (حرجو) ويذكر حادثة  طريفة  مفادها أن مصطفى بك رزق بإبنة  أثناء استضافته لاحسان نوري باشا فسمى ابنته باسم يشار تيمناً باسم زوجة احسان نوري باشا   .  في نهاية عام 1929 اجتاز الراحل أوسمان صبري  الحدود السورية – التركية  و استقر في قرية “كانيا عربان ”   وفي فترة بقائه  في القرية كان يرتاد إلى  مضافة القرية برعاية الوجيه مجحان آغا ، ولقد أخبرني الراحل ملا إبراهيم(1925 – 2015م)  الذي كان زميلا  في المدرسة لـ ولات  نجل أوسمان صبري ،  ( 1925 – 2014م ) أن مجلة هاوار كانت تصل إلى أحد أبناء  مجحان آغا وهو  المرحوم مدرس ، ومن قرية كانيا عربان  أرسل أوسمان صبري إحدى قصائده إلى  مجلة هاوار ، العدد الثاني عام 1932م   .و في العدد السابع للعام 1932م  نشرت  المجلة بقلم  هركول أزيزان ( جلادت بدرخان  ) خبرا عن زيارة المغنيين مشوبكبور و خدو هنداوي ( والد المغني الراحل باقي خدو )  إلى مكتب مجلة هاوار ونشرت المجلة نماذج من الشعر الشعبي  لمشو بكبور  ينتقد في إحدى أشعاره إهمال  الآباء  تعليم أبنائهم . إن وجود مشو في ديوان أبناء شاهين بك منحه فرصة التعرف على الوسط السياسي والثقافي لجمعية خويبون ، ناهيك إلى كونه أحد مريدي الشيخ محي الدين ، وهو أحد شيوخ الطريقة النقشبندية في كوباني . .  ، وبالإضافة إلى الأخوين كاميران وجلادت بدرخان  كان للشاعرين قدري جان  وجكرخوين زيارات إلى قرية ” مكتله ” و حثً الأخير في  مذكراته   الكرد على عدم الاكتراث لبعض الأغاني التي دونت بأياد رجعية ، من وجهة نظر الشاعر ، وفيها مديح لذواتهم (ص150) ويسترسل الشاعر فيكتب أن  مشو وهو مغني مصطفى بك ، كان يغني أغنية عن ثورة شيخ سعيد من تأليف مصطفى بك ( حرجو) ، وتقول كلمات الأغنية أن فتيات الكرد قصصن جدائلهن وأرسلن لقادة الكرد الموجودين تحت الخط * واستغثن : أين أنتم يا ابناء شاهين بك و بدرخان بك . (150)  . هنا لست بوارد مناقشة  الموقف الايديولوجي للشاعر الكبير  من البنى الاجتماعية التقليدية للمجتمع الكردي  ، ولا أقدم هنا رواية الشاعرجكرخوين  كدليل قطعي على أن مشو هو أول من غناها   ولكن في نفس الوقت لا يمكن إهمالها والقفز عليها . في عام 2012 أجريت لقاء مسجلاً  مع الراحل  ملا إبراهيم وهو رجل دين متنور ، معروف في كوباني  ،   و كان عضواً في البارتي و أكد لي في هذا اللقاء  ( اللقاء متوفر على منصة اليوتيوب ) أن مشو بكبور غنى هذه الأغنية  بعد أن أملى عليه مصطفى بك كلماتها . في مورد عرض الكاتب لنماذج  من الأغنية  لفنانين  من عفرين  يعرض مقاطع للفنان الراحل بافي صلاح( عبد الرحمن عمر 1952- 2014م )  و يقول الكاتب  أن بافي صلاح كان يؤدي الأغنية على طريقة مشو .  السؤال  هنا هو ، ممن أخذ بافي صلاح هذه الأغنية ؟ فإمكانية اللقاء بين مشو وبافي صلاح غير واردة بتاتا لأن الأخير كان طفلا في عامه الرابع  عندما توفي مشو بكبور عام 1956م .   فممن نقل بافي صلاح أغنية  ” لو ولاتو ”  إذاً ؟ في هذا السياق ذكر لي الصديق العازف والملحن أحمدي جب أن بافي صلاح أخبره أنه تعلم هذه الأغنية من والدته والتي بدورها نقلتها عن مشو بكبور .  وجدير بالذكر أن حسنازي أيضا التقى بمشو في إحدى مقاهي كوباني  وبحضور أعيان المدينة  حسب رواية ابنه عبد القادر في لقاء مسجل لصالح تلفزيون  كردسات  ( اللقاء  متوفر على منصة اليوتيوب )  .  

إن أغنية  ” لو ولاتو ” القومية ليست الوحيدة التي غناها مشو بكبور  ،    فغنى أيضاً   لاستقلال كردستان  في أغنيته الإيقاعية  الحماسية (اعملوا واسرعوا لنيل الاستقلال )  المسجلة  لدى الشركة الشرقية للأسطوانات  ، سودوا ، وهي شركة وطنية  ، كانت مركزها حلب ، سجلت لمشاهير المغنين من الكرد والعرب ، كـ( سعيد آغا جزيري )  و (سلامة الأغواني )  إن  التحول في مضمون  خطاب الدنكبيز   من الغناء باسم القبيلة وللقبيلة إلى الغناء باسم الشعب كان  ثمرة من ثمار العلاقة بين الزعامات القبلية  والمتنورين الكرد والتي تكللت بتأسيس جمعية خويبون القومية .  ترى هل هي محض  مصادفة  ظهور أغان قومية  مسجلة على الاسطوانات في فترة الثلاثينات  من القرن المنصرم لمغنين مقربين من  أعضاء خويبون  أمثال سعيد آغا جزيري  صاحب أغنية ( أو ملكي كردان تف خير  او بيره )  والتي أجبرت السلطات التركية للتدخل لدى سلطة الانتداب لمنع وسحب اسطوانات سعيد آغا *.  و مشو  بكبور  الذي دعا الكرد إلى نيل الاستقلال ؟ وفي مكالمة هاتفية 3 آب 2023 ،  جرت بيني و بين  نجل المغني مشو بكبور الأستاذ فاضل باكير( 1938- ….) الذي ألَف كتابا عن حياة والده  ،  أكد لي  أن الأغنية لوالده وقرأ علي مقطع من الأغنية . ثمة نقاط عديدة ، أثارها الكاتب ، ويمكن مناقشتها  ، وعلى سبيل المثال  قول الكاتب أن الأغنية وصلت من جبل الكرد الى  المغنيين شاكرو  وفاروق  (؟ ) و لكن من خلال الاستماع إلى الأغنيتين  ( شاكرو و معروف ) نجد اختلافا  بين مضمون ولحن أغنية  ” لو ولاتو ”  والأغنيتين المذكورتين  فالأخيرتان تعبران  عن   رأي التيار الديني المشارك في الثورة  ، بينما  تعبر( أغنية لو ولاتو) عن رأي التيار القومي الذي لجأ قسم منهم إلى ( بنيا خطي )    

 في الختام  لا بد  من تقديم الشكر للكاتب محمد زينو على الجهد الذي بذله في تدوين  أغنية ” لو ولاتو ” التي بقيت متداولة بفضل حناجر مغني  جبل الكرد ( عفرين ) .

  • انظر مقال الكاتب والروائي وليد حاج عبد القادر بعنوان : سعيد آغا جزيري واحد من عمالقة الأغنية الكردية في القرن الماضي.
شارك هذا المقال: