كيڤورك خاتون وانيس
منذ إسقاط جدار برلين، الذي شكّل رمزاً لمرحلة الحرب الباردة، ومع نشوب كل نزاع دولي أو حرب في أي منطقة في العالم يتردد هذا الشعار للتذكير بعالم القطبية الثنائية الذي دام قرابة نصف قرن؛ من حيث كونه أكثر سلماً وتوازناً وإنسانية من المرحلة الحالية أو عالم القطب الواحد؛ وبالتالي التوق إلى تلك المرحلة أو التحسر عليها وتمني عودة ذلك القطب “الإنساني”!
بمجرد سماع هذا الشعار يتبادر إلى الذهن القيام بإجراء مقارنة بين المرحلتين من خلال سرد الحروب والنزاعات والصراعات والمواقف التي شهدتها كل مرحلة وبالتالي تحديد الأفضل بينهما!
لكن قبل إضاعة الجهد والوقت في هذه المقارنة، أليس من الأجدى البحث أولاً في السياسات الخارجية لذلك القطب “الإنساني” ومواقفه من قضايا الشعوب المستضعفة (رغم أهمية مؤشر السياسة الداخلية لهذا القطب إلا أن المجال لا يتسع لسردها)، لكي نتمكن على ضوئها من تحديد ماهية مرحلة الحرب الباردة، والحكم عليها فيما إذا كانت صراعاً من أجل عالم أكثر إنسانية بين قطبين أحدهما خيّر والآخر شرير، أم صراعاً من أجل توسيع مناطق النفوذ وكسب الحلفاء وبالتالي تحقيق المصالح، بين قوتين جديدتين برزتا بعد الحرب العالمية الثانية كأكبر قوتين على الساحة الدولية!
لذلك دعونا نستعرض بشكل موجز أهم الأحداث التي جرت خلال تلك الفترة ونرى مواقف القطب “الإنساني” منها؛ لا أعتقد بجدوى القيام بنفس المراجعة لأفعال القطب “المتوحش”، كونها موصوفة للتو بالوحشية!
يُعتبر حصار برلين الذي دام حوالى 15 شهراً (1947- 1948) أولى أزمات الحرب الباردة؛ حيث ضرب القطب “الإنساني” طوقاً برياً على سكان برلين الغربية (التي كانت تقع جغرافياً ضمن ألمانيا الشرقية المتمتعة بـ “رحمة” القطب “الإنساني”) وقطع عنهم كل وسائل العيش، ما اضطر دول الحلفاء (القطب المتوحش) إلى بناء جسر جوّي لنقل الأغذية والأدوية إلى الناس في برلين الغربية! فهل من المعقول والمقبول إنسانياً أن يتم معاقبة عشرات الالاف من سكان المدينة بهذا الشكل الوحشي بسبب خلافات سياسية بين القوى المتصارعة وأن يكون القطب “الإنساني” هو من يقوم بذلك؟!
مع استسلام اليابان في 1945 وبعد مرور حوالى 5 سنوات على الاتفاق بين القوى العظمى على تقسيم كوريا (التي كانت تحت الاحتلال الياباني اثناء الحرب العالمية الثانية)، قامت كوريا الشمالية في 1950 امتثالاً لأوامر القطب “الإنساني” بغزو كوريا الجنوبية وإشعال حرب اشتركت فيها كل القوى العظمى ودامت 3 سنوات سقط خلالها أكثر من مليون قتيل من جميع الأطراف وعدد لا يحصى من الجرحى بالإضافة إلى دمار شامل للبنية التحتية للبلدين!
ألم يكن القطب “الإنساني” هو نفسه من غزا هنغاريا 1956 وقضى على انتفاضتها الشعبية وتسبب في مقتل الآلاف وتهجير ربع مليون هنغاري عدا آلاف المفقودين والجرحى والمعتقلين؟
وفي 1968 اجتاح القطب “الإنساني” براغ من أربعة محاور ودهس بدباباته أزهار ربيعها واجهض جنين “الاشتراكية ذات الوجه الإنساني” الذي كان قد بدأ بالتشكّل!
أليس غزو القطب “الإنساني” لأفغانستان 1979 هو أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع حرب أهلية طاحنة دامت حوالى عشرة سنوات راح ضحيتها عشرات الآلاف؟!
القائمة تطول سواء تلك المتعلقة بالتدخلات المباشرة أو تلك المتعلقة بالمواقف من الصراعات الدولية أو النزاعات الإقليمية.
حتى على صعيد المساعدات الإنسانية لضحايا الحروب والصراعات، لا تذكر المصادر شيئاً عن مساهمة هذا القطب في تقديم خدمات إنسانية ميدانية، لا في مواقع النزوح المؤقتة ولا على صعيد استضافة اللاجئين المتضررين من الحرب ولا في السماح لشعبه وشعوب الدول التي كانت تدور في فلكه بإنشاء هيئات إنسانية مستقلة!
أما الحلم الذي لا يزال يراود مخيلة الكثيرين بعالم أكثر “انسانية” وذلك بالعودة إلى عالم القطبية الثنائية لكن هذه المرة عبر التنين الصيني فهو لا يقل وهماً وانخداعاً بهذا القطب المأمول عن الصورة المرسومة للقطب “الإنساني” في مرحلة الحرب الباردة.
فهل يمكن أن ننسى “إنسانية” الصين التي طبقتها عبر “الثورة الثقافية” 1966، والتي لم تكن في الحقيقة سوى مجرد صراع دموي على السلطة ذهب ضحيتها الملايين من القتلى والجرحى والمعتقلين.
ألم تكن الصين هي الداعم الأساسي (عسكرياً وسياسياً) لمنظمة الخمير الحمر وزعيمها بول بوت التي كانت تحكم كمبوديا، والمسؤولة عن موت حوالى 3 مليون إنسان واعتقال وتعذيب الآلاف في كمبوديا في الفترة 1975- 1979.
أما تعامل القطب المنتظر (الصين) مع المظاهرات الطلابية التي شهدتها ساحة تيان أنمين (1989) في قلب العاصمة بكين، فهي أنصع مثال على “إنسانية” هذا القطب الذي لم يتردد في استخدام كل الوسائل العسكرية والأمنية في قمعها!
إذن، هل كان صراع القطب “الإنساني” مع القطب “المتوحش” صراعاً من أجل عالم أكثر إنسانية ودفاعاً عن الشعوب أم صراع نفوذ وكسب حلفاء حتى لو كان على حساب أنصاره في هذه الدولة أو تلك؟
في ضوء هذه المعطيات، ماذا لو كان القطب الآخر هو الذي انهار، هل كان أنصار القطب “الإنساني” المنتصر سيدخلون الجنة التي وعدهم بها على الأرض؟ كيف كانت ستصبح الحياة الاقتصادية والسياسية في أوروبا الغربية لو انتصر القطب “الإنساني” ؟ هل كان مصير هولندا وبلجيكا على سبيل المثال سيختلف عن مصير بلغاريا ورومانيا ؟
ألم يكن تحرر شعوب أوروبا الشرقية والبلقان (أكثر من 17 دولة في القارة الاوروبية) من السجن الكبير الذي وضعها فيه القطب “الإنساني” لمدة نصف قرن، كافياً لا سقاط القناع عن كل الشعارات الزائفة والخداعة؟
هذا لا يعني بأن القطب المنتصر الحالي قد جلب الجنة إلى الأرض أو حققّها، لكنه على الأقل لم يبشر بها، ولم يقلص مساحتها حتى على المستوى الداخلي والدليل أن أغلب الذين كانوا يعادون ويشتمون هذا المعسكر يهاجرون إليه ويستمتعون بنعيمه السياسي والاقتصادي.
لا يمكن لأي تحالف مهما بلغ من القوة العسكرية والكتلة البشرية أن يشكل قطباً إنسانياً إلا إذا كانت كرامة المواطن وحريته مصانة في الدول المكونة للتحالف، إذ ليس من المعقول أن يكون مدافعاً عن حقوق شعوب بلدان أخرى وبنفس الوقت يقوم بقمع شعبه!
هكذا فأن فشل حركة القطب الثالث (حركة عدم الانحياز) في لعب أي دور إنساني في صراع أو نزاع أو حرب، يعود إلى حقيقة أن معظم أعضائه (160 دولة!!) محكومة من قبل أنظمة استبدادية كانت متحالفة أو تابعة بشكل أو بأخر لإحدى القوتين العظمتين، هذا بالإضافة إلى أن فكرة تأسيس الحركة كانت كرد فعل على حقبة الاستعمار القديم، وأن غاية مؤسسيها (تيتو، عبدالناصر، لال نهرو) لم تكن الدفاع عن الشعوب المضطهدة بقدر كونها بحثاً عن زعامة دولية بعد أن حققوا زعامة إقليمية!
أخيراُ ثمة مفارقة محزنة ومحيرة في ذات الوقت، وهي أن أغلب أنصار هذا الشعار، أي الذي يحنون إلى مرحلة الحرب الباردة، هم الأكثر تضرراً على الصعيد الشخصي من تلك القطبية، فقد دفع الكثير منهم زهرة شبابه في سجون ومعتقلات الأنظمة التي كانت حليفة و ربيبة ذلك القطب “الإنساني” الذي يتبنون شعاراته ويناصرونه!