تجاوز الماضي في رواندا: الطريق إلى المصالحة

شارك هذا المقال:

الكاتب: ليندا توتمان

ترجمة: كيڤورك خاتون وانيس

كان يوماً مشمساً عندما وصل القتلة.  ببضع ضربات من مناجلهم، قتلوا عائلة جاكلين. قد أمطرت في اليوم السابق محولة التربة السبخة الحمراء إلى مستنقع موحل.  لكن عندما باشرت الفتاة في حلب الأبقار، كانت السماء شبه صافية. اجهدت نفسها للحفاظ على توازن الإبريق المليء بحليب ثمين وهي تجري في الممرات الضيقة. كانت سيقان الذرة قد طالت في ذلك الشهر، وستعلم لاحقاً أن الأوراق العريضة للنباتات قد أخفت بعض صديقاتها عن المهاجمين.  لكن الذرة لم تستطع مساعدة عائلتها.

عندما عادت مع إبريق الحليب الممتلئ، وجدتهم جثثاً هامدة؛ لم يتمكنوا من النجاة.

بعد أربع وعشرون عاماً، تجلس جاكلين على أريكة في منزلها الصغير، الذي تعيش فيه مع زوجها وأطفالها الثلاث، والمكّون من ثلاث غرف، واحدة للنوم والثانية للمعيشة والثالثة للطبخ، بسقف معدني مموج يحمي رؤوسهم وأرضية حجرية، هنا في منطقة بورغسيرا (Burgesera )، على بعد ساعة من العاصمة كيغالي (Kigali )، حيث كانت تعيش مع أهلها أيضاً.

تقول جاكلين عن ذلك الصباح من أبريل 1994: ” اعتقدت حينها بأنني سأقُتل أيضاً “. لا تستطع العثور على كلمات لوصف تفاصيل ما شعرت به في ذلك اليوم.  حينها ركضتْ مذعورة إلى الكنيسة الكاثوليكية، حيث تجمع العديد من التوتسي في حالة ذعر.  وجدتْ عمها هناك. لقد كان محظوظاً أيضاً.  سويةً شقّوا طريقهم إلى دولة بوروندي؛ مشوا لمدة أربعة أيام، واختبأوا خلف الشجيرات ، وشربوا الماء من البرك، وأكلوا البذور التي جمعوها خلال المسير.  ثم تكمل: “عندما وصلنا إلى بوروندي ، لم نعد أناساً كغيرنا من البشر”.  تتوزع حزم نخل الرافية الملونة على المنضدة أمامها؛ مركزة على عملها وهي تنسج الألياف الجافة لتحولها إلى أغطية ملونة ستبيعها للزوار في ساحة القرية الصغيرة .  مبيو (Mbyo) هو اسم القرية – اسم مشهور خارج حدود رواندا.

 تدين القرية بشهرتها إلى حقيقة لم تكن قابلة للتصديق عندما تأسست لأول مرة: في مبيو يعيش الهوتو والتوتسي، الجناة وعائلات الضحايا من أمثال جاكلين بجوار بعضهم البعض. جاءت الفكرة الثورية للقرية من كاهن شاب، هو نفسه أحد التوتسي  الناجيين. “كيف يمكن أن نكون سعداء مرة أخرى في هذا البلد؟” سأل نفسه، فعرف: الغفران هو الجواب الوحيد.  وبركبتين مرتعشتين، ذهب إلى السجن ليلتقي بالرجال الذين قتلوا أفراداً من عائلته. وكانوا من الهوتو الذين حكمت عليهم الحكومة الجديدة في هذه الأثناء بالسجن لمدد طويلة. عندما يعود بالذاكرة إلى تلك اللحظات، يتذكر صرخات السجناء ترن في أذنيه:

: “لماذا لا يزال على قيد الحياة”  صرخوا.

“إنه من التوتسي! يجب أن نقتله “.

 “أنا لست هنا لأتهمك بأي شيء” قال الكاهن.

“دعه يتكلم،” وافقوا.

“بإمكاننا دائما قتله بعد ذلك.”

هذا الرجل هو الأسقف ديوغراتياس غاشاغازا.  يسمي نفسه المطران ديو. أراد تغيير أولئك الرجال.  كان يقوم بزيارة السجن كل أسبوعين ويتحدث مع الرجال عن جرائمهم وعن الله وعن إيمانه ويقرأ معهم الإنجيل. يقول: “نظرت إليهم كبشر وليس كحيوانات”. “لقد تعلموا أن يثقوا بي.”  تساءل القس في ذلك الوقت، ماذا يحدث للجناة عند إطلاق سراحهم من السجن؟ هل ستهيج فيهم الكراهية مرة أخرى؟

لقد أراد خلق مكان يستطيع فيه الهوتو والتوتسي مد يد السلام  لبعضهم البعض.  مكان للمصالحة.  اليوم، يقود جولة في القرية التي تعيش فيها جاكلين. تعيش هنا الآن 54 عائلة، من التوتسي والهوتو. هناك مدرسة، يلعب الأطفال معاً، وفي المساء، يجلسون جميعاً معاً ويغنون الأغاني الشعبية الرواندية.  تنمو الذرة والقمح مرة أخرى في حقول القرية.  كل شيء يبدو آمناً  ربما آمن للغاية.  هادئ بشكل مخيف.  إذا سألت القرويين عما إذا كانوا من التوتسي أو الهوتو ، فإن الإجابة تأتي بسرعة، وأوتوماتيكية على الأغلب: “نحن روانديون”.  ويقولون إن كونهم من التوتسي أو الهوتو لم يعد مهماً.

يقول ديو بأنه عندما تأسست القرية قبل 15 عاماً، لم يكن بإمكان السكان الجلوس معاً فعدم الثقة والخوف كانا مسيطرين للغاية على كلا الطرفين.  كثُر منهم فقدوا كل شيء خلال الإبادة الجماعية.  بالتعاون مع الأخصائيين النفسيين، دعم ديو كل من  العائلات التي قُتل أقاربهم خلال الإبادة، وكذلك الجناة العائدين من السجن. أعادوا معاً بناء المنازل في قرية مبيو.  يقول ديو إن العمل معاً لإنشاء شيء ما كان أمراً مهماً.. في عطلة نهاية الأسبوع ، يعقد السكان نقاشات فعالة. هناك فريق كرة قدم حيث يلعب الصغار والكبار ، وجميعهم يعملون في الحقول معًا. لكن الأمر الأهم هو أنهم يكسرون حاجز الصمت.  يردف قائلاً: “بدون معرفة لا يمكن أن يكون هناك مغفرة”.

ألتقت جاكلين أيضاً بالرجل الذي قتل عائلتها، بعد عشر سنوات من الواقعة.  إنه قاتل، فكرتْ عندما وقف الرجل أمامها.  إنه من الهوتو الذين يكرهون كل التوتسي. هل سينتهز هذه الفرصة ليقتلها؟ قال لها الكاهن سامحيه، لأنه سيأتي اليوم الذي ستُمنح أيضاً المغفرة لخطاياك في السماء. سقط الرجل على ركبتيه أمامها، ضاغطاً وجهه في التراب.  لقد كانت خائفة.  لكنها قالت: “نعم ، أنا أسامحك.”   تقول اليوم: “يجب أن تستمر الحياة”. “المصالحة سيرورة”.

إنها تتكلم بحرية الآن؛ انها ليست المرة الأولى التي تحكي قصتها للغرباء. غالباً ما يتم تقديم  قرية ميبو كنموذج مشروع أمام الصحفيين والباحثين الأجانب، الذين يأتون إلى هنا  لمراقبة تطور عملية المصالحة والتعايش بين الهوتو  والتوتسي.  نحن نفهم بعضنا البعض” ، هكذا يردون عندما يُسألون كيف تمكنوا من فعل المستحيل كل يوم: العيش بجانب الجناة ومعهم.

وقف فريدريك، واحد من جناة كثر، أيضاً أمام محكمة محلية طالباً العفو. إنه رجل صغير الحجم يسكن على بعد بضعة منازل من مسكن جاكلين.  يتحدث بنبرة رتيبة عن اليوم الذي خرج فيه مع آخرين من الهوتو المتطرفين.  كيف أغلقوا الطرق لمنع التوتسي من الفرار.  كيف قتل الناس.  يقول: “كنت أنفّذ الأوامر”. “لو كنت رفضت، لقتلوني أنا أيضاً.” أمضى فريدريك ثماني سنوات في  السجن لكنه لا يستطيع أن ينسى ماضيه. غالبًا ما يبدأ  قلبه بالخفقان، عندما يفكر في تلك الأيام من أبريل 1994. لا يستطيع العودة بالزمن إلى الوراء ؛ يعلم ذلك تماماً. لكنه يستطيع أن يعيش – من أجل المصالحة.  من أجل رواندا جديدة.

لقد أصبحت رواندا، بعد قرابة ربع قرن، دولة نموذجية في أفريقيا.  إنها بلد جميل؛ تلال خضراء تلامس الأفق، وطرق نظيفة خالية من القمامة.  دعم الرئيس بول كاغامي عملية تطوير اقتصاد البلاد، وهو ملتزم أيضاً بالمصالحة – التزاماّ يدفع بعض الناس إلى الشعور بأنه يفرض أجندة  “ديكتاتورية المصالحة “.  يحكم  كاغامي البلاد بطريقة حازمة للغاية؛ رواندا بعيدة عن الديمقراطية. لا تزال بعض عائلات الضحايا لا تعرف كيف مات أقاربهم أو من هم الجناة.  يعلم الأسقف ديو أنه حتى بعد 24 عاماً من الإبادة الجماعية، لا يزال أمامه عمل يقوم به.

اليوم، جاكلين وفريدريك جاران.  يثقان ببعضهما البعض.  يلعب أطفال جاكلين أحياناً في حديقة منزل فريدريك.  عندما تفشل بقرتها أحياناً في إنتاج الحليب، يمكنها أن تطلب منه المساعدة.  انتخبت القرية فريدريك رئيساً لها، عمدة مبيو.  هو الذي يتكلم نيابة عن الجميع اليوم؛  يتوسّط في النزاعات ويحاول إيجاد حلول للمشاكل. ويتأكد من أن الجروح القديمة لن تفتح مرة أخرى.

أسئلة متعلقة ومعلقة (المترجم):

قد يبدو هذا الحل للكثيرين رومانسياً وبعيداً كل البعد عن الواقع والمنطق ويساوي بين الجلاد والضحية، لكن ماهي البدائل؟

 الثأر والانتقام؟

هل تذكر لنا كتب التاريخ حالة نجح فيها العنف في حل الصراعات التاريخية بين أبناء البلد الواحد أو الجغرافيا المشتركة؟ ألا يحوّل  العنف الضحايا  إلى قتلة، كونهم يثأرون من أبرياء لا علاقة لهم بالجناة الحقيقيين إلا لكونهم من نفس القوم أو الدين!؟

اللجوء القوى العظمى كوسطاء حل؟

هل لدى التاريخ ما يخبرنا عن حالات نجحت أو سعت فيه القوى العظمى بشكل صادق إلى حل أي نوع من هذه  الصراعات؟ أم أنها تدير الأزمة وفقاً لمصالحها مع هذا الطرف أو ذاك؟

ألا تصلح هذه التجربة حلاً للقضايا والصراعات الطويلة الأجل في الشرق الأوسط كالقضية الأرمنية، والكردية، والفلسطينية خاصة وأنها جرّبت كلا الحليّن المذكورين أعلاه؟!

أخيراً وليس أخراً، كل الاحترام والتقدير لمؤسسة روبرت بوش الألمانية  (داعمة هذا المشروع)، وكل المؤسسات الخيرية التي تحاول التخفيف من آلام الناس ومعاناتهم في مناطق الصراعات والنزاعات وتقديم الدعم في شتى المجالات غير أبهين بالمخاطر!

شارك هذا المقال: