جمالُكِ العميقُ كذاك الليل…! (نص سردي)

شارك هذا المقال:

خالد حسين

I

مَشْهدٌ صَبَاحيٌّ:

هو ذا فنجانُ القهوة العَاشِقُ لأنفاسِكِ، شالُكِ المرميُّ بعبثية غريبة على كتفِ الكنبةِ، شالـُكِ الذي يناكدُ عجرفةَ الترتيب في هذا الصَّباح الهادىء.

في هذه “المشهد الصّباحي” أتخيلُ أصيصَ الرّيحان خلفك ينهمكُ، في غضون موسيقى هادئة، بإغواءِ خُصلاتِ النُّور المتسرّبةِ عبر النَّافذة بعطرهِ. من أثلام الجبل القريب يلفّقُ النَّسيمُ قططاً صغيرةً تعابثُ السّتَائر البيضاء المجروحةِ بخيوط من الذهب.

وها أَنْتِ بشعرك الملموم بضربٍ من فَوْضى مغوية، ها أَنْتِ بالقلادةِ الذَّهبية قلباً وفراشةً، بعينيك الوديعتين كطيور السُّنونو الهابطةِ في أوانها، بخفرك المتآلف مع المكان يسطو عليك الصّمتُ كما لو أنّ ليلاً يحتضن قريةً وديعةُ هناك.

يا كثافةَ الرَّغبةِ في عَويلِهَا، يا مواسمَ الحنطةِ، أيتها المصُوغة من إغراءات الظّلال للنّبع، يا شغفَ العشب بفتنةِ النّهار الأولى…! 

 أيتها العَاشقةُ!  

بالقُرْبِ من تلكَ المدن البَعيدةِ والنَّاصِعَةِ، ثمّـة رجلٌ غريبٌ، العابرُ الذي حدّثكَ يوماً عن رائحةِ العشبِ البريّ حيث تتعطّرُ التخومُ في المساءات، عن طفولتهِ وأعشاشِ طيور القطا البسيطةِ التَّكوينِ في تلك البراري المنبسطةِ من أرض “الجزيرة”، عن ليالي الصّيفِ المطعونةِ بنَداءِ النُّجوم، عن أَحْلام الشُّعَراء بمدنٍ من أقحوان…

تذكري أيتها العَاشقةُ حيث تفوحُ من نهديكِ روائحُ اللوز، ومن شفتيك يقطرُ عسلُ التين الجبلي، تذكّري: هذا المسَافرُ الذي أَغْدَقَ حنينَهُ على ضِفَافِ جسدكِ في انعطافةٍ ما، هذا المسافرُ الذي تحتشدُ أشواقُهُ حقول َعبّادِ شمسٍ كما في أرض طفولته، ها هو الآن على جرفٍ ناءٍ يُصغي وحيداً، وحيداً إلى وشيش المطر، وحكايات الشّتاء وألغاز وردة الحبّ في قلبك…   

 II

مَنْ سيصمد إزاء هذه الغواية في شفتيك؟

يترامى الكلامُ غيماتِ حَرير على أصابع الأميرة، جمالُكِ الغريب أيتها الأميرةُ، جمالُكِ العميقُ كهذا الليل، نظرتكِ التي تنقذني من شُرودي الأزلي.

وسطَ هذا الفيض الليلي، الهدوءِ الناضج كفاكهةِ الصّيف أتلقّفُ أصابعَكِ، يفضحني القمرُ الفضيُّ الذي يتدحرجُ على سفوح نهديكِ فيما الشَّمعةُ التي تنتصفُ المسافةُ بيننا على حافّةِ الطاولةِ تذوبُ كعاشقةٍ في صَرخةٍ عميقةٍ لعاشقٍ مسحور.  

ها هي ذي صورتُكِ أيّتها الغَزالةُ، الدروبُ تقودنا إلى سماء تختفي في وهادٍ بعيدةٍ: إنّها النُّعومةُ الثريةُ لذراعك الملساء تصطادني قطاةً بلهاء… في الخارج يغمّسُ الليلُ الأشياءَ في حبرهِ باستلذاذٍ. غبطةُ حُضورِكِ التي تحيطُ بالقَصيدةِ، ابتسامتُكِ ــ الزَّهرةُ التي تكادُ تنبثقُ، والذَّهبُ الخالصُ المتكاثفُ لشعرك يَهَبُ قلبي نعمة الإنارة…

أعشقُ هذا الجموحَ الدّاشر لجسدِكِ، بريقَ النجوم العابث بأظافرك، ذؤابات شعرك الغافية على كتفيك… رجل وامرأة يمتلئان الآن برنينِ الرّغبة صوب الممر الهارب إلى أناقة العدم…!  

III

كما لو كنا وحيدين في مدينةٍ باغتتها العزلة!

يحتشدُ البيتُ بعاشقين؛

رخامٌ في تَنَاسقٍ تامّ، امرأةٌ أنيقةٌ، يحتشدُ قلبها بالنُّجوم، مَسَاحاتٌ من العشب تمتدُّ شساعةً وأنتِ تقرئين قصيدتكِ بإتقان، تقرئينَ القصيدةَ، وترمينني بالعشق منكِ، يتفاقمُ الجرحُ سحيقاً في جسدي.

تزدحمُ الغُرْفةُ بعاشقين، تعبثُ غُزلان القَصِيدةِ بالكلمات، تنمو أَشْجارٌ على حافة البياض، ثمـّة أَقـْمارٌ تضيءُ بحيرةَ قَلْبكِ أيَّتها العاشقة.

يقود الممرُّ عاشقين إلى سرير الأفق، خطواتٌ تمضي بالممرّ إلى فضاءٍ يتّسعُ لشهقتين فحسب، تصرخُ إوزةٌ في اشتداد العاصفةِ، أرياش تتبعثر ويطفو جذعُ رجل في السيل الذي يخترق عزلة المدينة.

طائرا حمام ينهاران في هديلٍ صاخبٍ..

VI

للمجاز مآربُ…!

تتوه الغزالةُ الجبليةُ في المتاهة أكثر وتبطشُ بها عاصفةُ عشقٍ:

“خذني إليكَ وأيقظِ القلب من رمل الصّحراء…خذني إليكْ…ليتنا غيمٌ، تقول الغزالةُ، ليتنا حتّى نلتقي كلما غفا حقلُ الزنابق في قلبي …!”

للعشقِ صباحٌ بنكهةِ شَفَتيها، لقهوتهِ رائحةُ توقظُ الأمكنة من صمتها… زوجُ حمامٍ يؤنسُ شجرة الكينا بحرير الغزل. على ضفاف عينيها ينسى الشّاعر لغته؛ ينسى قلبه في ظلال تلك الرُّموش الطَّويلةِ، تَكْسِرُ الغَزَالةُ ظَمَأَهَا بندى القَصيدةِ: أُحِبُّكْ…! 

في أَعْلَى الجَبَلِ قمرٌ طُفْلٌ مُشَاغِبٌ:

 تغوصُ العَاشقةُ في قراءةِ القَصيدةِ، ينمو الصّمتُ بين أناملها حقولاً من الخزامى، تُغلقُ كتاب الشّعر وتحلم بخيول بيضاء تقتحمُ الأفق، عاشقٌ يختطفها إلى جزيرةٍ على حافّة العَالم. ماذا لو مضيتُ أكثر من “البيت”؟ يغرّد قلبُ العاشقة في ليل القصيدة…!

V

في صباح الرّيحان

على تخوم مدينةٍ جبليةٍ:

يترنّمُ صوتان مكلّلان كثافةً عشقاً…  

——————————————————-

  • اللوحة للفنان زهير حسيب
شارك هذا المقال: