نيكول أندرسون[1]
ترجمة: خالد حسين
قد يُثير الاقترانُ هنا؛ “التقويض والأخلاق” deconstruction and Ethics زوجاً من الأسئلة للقرّاء غير المتآلفين مع عمل دريدا. ولذلك هل يحقّق الحرف “و” علاقةً أساسيةً بين الكلمتين على كلا الجانبين، ومن ثمَّ فربما يلمّحُ ذلك إلى أنَّ التقويضَ أخلاقيٌّ أو يمكن قراءتُهُ بصورةٍ أخلاقيةٍ. أو هل يحملُ الحرف “و” النقيضَ بين الكلمتين، في إشارةٍ إلى أنَّ التقويضَ يتعارضُ مع الأخلاق، وبذلك فهو غيرُ أخلاقيٍّ أو عدميٍّ؟ وعلى الأغلبِ، في التلقي التاريخيِّ للأخلاقيِّ في عمل دريدا، ناقشَ الدّارسون أَمْرين: إخلاقية التَّقويض (أو تمكنُ قراءته على نحوٍ أخلاقيٍّ) أو أنّه غيرُ أخلاقيٍّ أو عدميّ. ولكنْ كما سنرى، فإنَّ عمل دريدا ليس هكذا أبيضَ وأسودَ. كما أنَّ الإيحاءَ بأنَّ عملَ دريدا لا يخرج عن كونه أخلاقيّاً أو غير أخلاقيّ (بالمعنى الميتافيزيقي) هو إغفالٌ لغايةِ التقويض. إنّ تَعَارُضَ الأخلاقيِّ مع اللاأخلاقيِّ أمرٌ يُطيل ما يقوّضُهُ دريدا: أي التضادات الثنائيّة binary oppositions التي يجري عبرها توصيفُ الميتافيزيقا. وسيعرضُ هذا الفصل باقتضابٍ هذا التلقي التاريخيّ وذلك قبل المجادلةِ بأنَّ التقويضَ يقتضي تحرُّكاً متناقضاً؛ وهو ما يخوّلُ تحدّياً متزامناً في آن واحد، ومن غير رفض، لبناءِ الخيار الثنائي واتخاذ القرار اللذين كانا من سماتِ الأخلاقياتِ الميتافيزيقيّة. وسيُخْتَتم هذا الفصلُ بشرح الطبيعةِ الإيجابية لهذه المفارقة في، ومن خلال، مناقشة دريدا للمسؤوليّة واللامسؤوليّة. ولتسهيلِ إدراكنا لهذهِ الخطوةِ المتناقضةِ، دعونا نشرعُ بمناقشة المهمّة التي تؤدّيها الأخلاقُ بوصفها مفهوماً ميتافيزيقياً.
1: الأخلاق: مفهوم ميتافيزيقي
إنَّ الأخلاقَ Ethics اسمٌ مجرّد، ولذلك لا يُنطقُ بحرف كبير “E” بصورةٍ عامّةٍ، مثلما هي الحالُ في عنوان هذا الفصل. ومع ذلك، فإنَّ الحرفَ الكبير في هذا الصّدد يَسْعَى لنقل الوظيفةِ المهمّةِ التي تؤدّيها الأسماء في بناء الميتافيزيقا الغربية بصورةٍ بصريةٍ، علاوة على إبراز الأخلاق الميتافيزيقيّة في الثقافةِ الغربيةِ. ومنذ أفلاطون وأرسطو، عُولجت الميتافيزيقيا بأشكالٍ عديدةٍ وجرى تعريفُها أو انتقادُها بطرائق مختلفة وفقاً للموضوعاتِ الفلسفيةِ المتعدّدة التي تشتمل عليها: الخلود، الإله (علم اللاهوت)؛ الكينونة (علم الوجود)؛ الواقع (علم الكونيات)؛ الكائنات (الأنثروبولوجيا الفلسفية)؛ الفضيلة والحقيقة (الأخلاق)، وهكذا دواليك. وقد جرت محاولاتٌ لتحديدِ الميتافيزيقا إذ أَطلق عليها أرسطو “علم” “المبادئ والأسباب الأولية” (Aristotle 1998: 982b, 9). ويتصوّر إيمانويل كانط الميتافيزيقا على أنّها استقصاءٌ عقلانيٌّ لمبدأ العقل (Kant 1934: 28)، بينما يزعم مارتن هايدغر أن الميتافيزيقا هي “استكشافٌ فيما وراء الكائناتِ أو يتجاوزها، إذ تتغيّا استعادتها بهذا الشَّكل وبصفةٍ عامةٍ من أجل إدراكنا” (Heidegger 1993: 106). أما الفلاسفة والمدافعون الأقرب عهداً فيجادلونَ عن الميتافيزيقا بأنّها تهتمُّ بـ”البنية الأساسية لـ الواقع بوصفه كُلّاً”(Lowe 2002: 2-3). وبعدم تجاهل خصوصياتها، فإنَّ هذه التَّحديدات المتباينة تُشكّلُ روايةً مشتركةً للميتافيزيقا بوصفِهَا تلك التي تؤسِّسُ لمسائل عن الإله، الكينونة، الواقع، الفضيلة، الأخلاق، والحقيقة، وما شابه ذلك، في مبادئ مطلقة وأساسية. إنّ الأسماء (بالإضافة إلى التضادات الثنائية) هي إحدى الوسائل التي يمكن عبرها تكوين الأسس أو المبادئ الجوهرية، وهذا التكوين يعمل بالطريقة الآتية: لكون الأسماء هي أشياء، أمكنة، أشخاص، أفكار مجرّدة، حيوانات وموضوعات، فهي بصورةٍ عامّةٍ قابلة لتحديد الموقع locatable في الفضاء والزمن. ولأنها قابلة للتحديد، بدورها، فهذا يعني أن تصوراتنا عن الفضاء والزمن جرت صياغتهما وفق غائية “السّبب والنتيجة”، الأمر الذي يشير إلى أنَّ الزَّمن لا يُدرك ويُختبر فحسب بالانتقال عبر طريقة خطيّة: ماضٍ، حاضرٍ، مستقبلٍ، ولكنه يمكّن كذلك من الشعور بالذات وبالآخرين والأشياء، الأفكار، الأشياء، الأمكنة (أي الأسماء) بوصفها متّحدةً ومستقرةً عبر الفضاء والزمان (بصورةٍ كليّة). وهذه التّجربة [للشيء] المتماسك والمستقرّ هي ما يسمّيها دريدا بـ”حضور الحاضر” the presence of the present. ولتحديده بطريقة أخرى، فإنَّ “حضور الحاضر” هو الموقعيّة located-ness ؛ الآنيّة now– ness؛ أو “حضور شيء ما” في لحظةٍ راهنةٍ من الزّمن والفكر. ونظراً إلى أنَّ الأسماءnouns ، التي تصفُ الميتافيزيقا، تكثّفُ “حضورَ الحاضر”، وكذلك بالنَّظر إلى أنَّ الأخلاق هي اسمnoun فهي جوهرٌ ميتافيزيقيٌّ بكلِّ معنى الكلمة.
غير أنُّه ثمّة أكثر من صيغةٍ واحدةٍ للأخلاق الميتافيزيقية، فهناك في الواقع رواياتٌ متباينة: بدءاً من أخلاق العقود، الأخلاق المسيحيّة، أخلاق الواجب، النفعانية إلى الأخلاق النَّسويّة، لكنَّ ما تشتركُ فيه هذه الصيغُ جميعاً، أو ما يجعلها كلها ميتافيزيقية، هو أنَّها تركّز جميعاً على تنظيم السُّلوك من خلال تحديد مجموعةٍ من المبادئ الشمولية (Diprose 1994: 18). ويعتمد التمكُّنُ من امتلاك تركيز مشترك على الافتراض الشّائع “بأنَّ الأشخاص موجودون بوصفهم عقولاً شفافةً ــ ذاتياً، معزولةً وعقلانيةً، كما أنّ الاختلافات المتجسّدة بين الأشخاص غير جوهرية” (Diprose 1994: 18)، و”أنّ الفرد يأتي سابقاً على العلاقات مع الآخرين”(Diprose 1994: 102). وهكذا، حتّى تكونَ أخلاقياً؛ فهذا يتطلَّب أنْ تكونَ الذَّاتsubject حاضرةً لذاتها، أي ليستْ فحسب على وعي بذاتها، ولكن بوصفها نتيجةً عقلانيةً كذلك، ومن ثمَّ مستقلة ذاتياً. ومن هنا؛ فعمل دريدا يطعن في هذه الافتراضاتِ. وعلى الرّغم من أنَّ الأخلاقيَّ كان محطَّ اهتمام أعمال دريدا منذ المبكّرة منها، مثل “علم الكتابة” Of Grammatology و”العنف والميتافيزيقا” Violence and Metaphysics، غير أنَّه لم يناقشْ بشكلٍ صريحٍ “الأخلاق” (بوصفها مفهوماً ميتافيزيقياً) في أيّ شكل مطّرد. وعِوَضاً عَنْ ذَلِكَ، سَلَكَ مقاربةً مختلفةً من خلال إثارة مشكلة الأخلاق الميتافيزيقية بشكل ضمنيٍّ في وعبر معالجته التقويضية لمفهوماتٍ مثل “المسؤولية” responsibility، “العدالة” justice،”القانون” “law و”الضيافة”، في جملةِ كتبٍ ومقالاتٍ مثل هبة الموتGift of Death، عن الضيافة، وداعاً: إيمانويل ليفيناسHospitality, Adieu: to Emmanuel Levinas Of، سياسات الصداقةPolitics of Friendship ، “العنف والميتافيزيقيا” Violence and Metaphysics، و”قوة القانون”Force of Law. ومن خلال هذه “المعالجات” التقويضيّة، يمكن لدريدا أنْ يتجنَّبَ تقديمَ مبدأٍ أخلاقيٍّ أو نموذجٍ للعيشِ به أو لتنظيم السُّلوك. وهو لا يقدّمُ أطروحةً أخلاقيةً أو فلسفيةً، لأنَّ القيامَ بذلك سوف يديم ماهية الأخلاق، وما التقويضُ سوى أنّهُ ليس بـ: مفهومٍ ميتافيزيقيٍّ. وهذا لا يعني أن التقويضَ إما أخلاقيّ، أو أنّه يتعارضُ بذاته، ويمكن أنْ يكونَ متعارضاً، مع الأخلاق، ومن ثمَّ فهو غير أخلاقيٍّ أو عدميٍّ. فالتقويضُ ليس بأخلاقيّ أو غير أخلاقيّ فهو ليس، كما يجادل دريدا، “منهجاً، نقداً، تحليلاً، فعلاً أو عمليةً”(LJ: 4). إنَّ معارضةَ الأخلاقيّ مع اللاأخلاقيّ من شأنها أن تؤدّي إلى استمرار المعارضة الثنائية التي تأسست عليها الميتافيزيقا. ولهذا السبب فالتقويض deconstructionفي هذا الفصل منطوقٌ بحرف صغير “d”: وذلك في محاولةٍ لتفادي تحويلهِ إلى اسم علمٍ مع كلِّ المعضلات المترتّبة على ذلك. وبعبارةٍ أخرى، فالتقويضُ ليس “شيئاً”؛ وليس اسماً، يميّزه بوصفه ممتلكاً لطبيعةٍ جوهريةٍ. ومن هنا يَصْعُبُ تحديد التقويض لكونه لا يوجد تقويض “واحد” فحسب، مستقرّ وميتافيزيقيّ: وعوضاً عن ذلك، كما يُعْلمنا دريدا، ليس هناك سوى “تقويضاتٍ deconstructions في صيغة الجمع”(Derrida in Papadakis 1989: 73)، بمعنى أنَّ التقويض” جمعيٌّ غيرُ قابل للاختزالirreducibly plural” (FL: 56)، فهو مختلفٌ من سياقٍ إلى آخرَ و”يأخذ خصوصيةَ كلِّ سياق بالحسبان”(Derrida in Papadakis 1989: 73). هكذا، وبخصوص دريدا فـ”التقويض/[d]econstruction يَحْدُثُ، فهو حَدَثٌ لا يترقّب التداولَ أو الوعيَ أو تنظيمَ الموضوع، أو حتى الحداثةَ. إنّه يقوّضُ نَفْسَ ــ ـهُ it- self. فهو يُمْكِنُ أن يُقْوّضَ (LJ: 4). وَهَذَا، تَبَعَاً لدريدا، يَعْنِي:
أنَّ حركاتِ التقويض لا تحطّمُ البُنى من الخارج. فهي غير ممكنةٍ ومؤثّرةٍ، ولا يمكنها أنْ تكتسبَ غايةً دقيقةً، إلا من خلالِ الإقامةِ في تلكَ البُنى. والإقامة فيها بطريقة محدّدة، لكون المرء يقيمُ دائماً، والأكثر عندما لا يرتابُ في ذلك. وتأدية العملية بالضرورة من الدّاخل، باقتراض كلِّ الموارد الاستراتيجية والاقتصادية للتخريب في البنية القديمة، والاقتراض بنيوياً، أيْ من غير أن تكونَ قادرةً عَلَى عَزْلِ عَنَاصِرِهَا ومكوّناتِهَا، ومن ثمَّ فإنَّ مغامرةَ التقويض باستمرار وبطريقةٍ معينةٍ تقعُ فريسةً لعملها. (OG: 24).
وبالنّظر إلى توصيف دريدا هنا، فإنَّ آثار التقويض لـ، وعلى، الأخلاق تكون كاشفة. وإذا كان التقويضُ بوصفه “تعدديةً غيرَ قابلةٍ للاختزالِ” يقيمُ في بُنَى (ميتافيزيقية، فلسفية، وما إلى ذلك)، فإن تلك البُنَى تكونُ باستمرار في عمليةٍ تقويضيةٍ لذواتها، ومن ثمَّ فإنَّ بنياتها مبنيةٌ بوساطةِ شيء “آخر“: من خلال غير ــ البنية ([والكلمة الأخيرة] ليست عكس البنية مثلما هي الحال في de–struction [تدمير، تهدُّم]، ولكن يمكن تحديدها بصفتها غيريةalterity، تغايريةheteronomy أو آخريةotherness ). وهذا يعني أنَّ الميتافيزيقا ليست حضوراً محضاً يحيل إلى أساسٍ أو أصلٍ نقيٍّ، ولكنَّها تنطوي على/أو موسومةٌ بشيء آخر: غيرية و”آخرية”، الشيء الذي يشوّش الحضور والأسس الميتافيزيقية وتحديداتها. ويُظهرُ التقويضُ أنَّ البُنى المتاحة من خلال، أو تأتي إلى الكينونة بسبب من، غير ــ البنى non-structures (الغيرية، التغايرية، الآخرية)[2]. وبطريقةٍ مماثلةٍ، فإنَّ الأخلاقَ مبنيةٌ من خلال غيرـــ الأخلاقيّ non-ethical، ومن ثمَّ تحتوي على الآخرية otherness التي تَعِيْقُ حضورها. وهكذا، فإنَّ الأخلاقَ تقوّضُ نفسها. وبكلماتٍ أُخَر، ومثلما يوضِّحُ دريدا، ثمة “انفتاحُ غيرِ ـ الأخلاقيٍّ على الأخلاق” (OG: 140) الأمر الذي يَعْني أنَّ الأخلاقَ أخلاقٌ فحسب لأنَّ هناك ما هو غيرُــ أخلاقيّ. ومرة أُخرى، [فالقول] مثل غير ــ البنية، غير ــ الأخلاقي لا يعني التعارض مع الأخلاق، بل على الأصحِّ يمكن وصفُ غير ــ الأخلاقيّ non-ethical بكونه آخريةً otherness an غير قابلةٍ للإحصاء والتوقّع والاختزال (وبهذا لا أقصدُ أنَّ “الآخرَ” مجهولٌ كليّاً، فلو كان الأمرُ كذلك؛ فلنْ يكونَ قابلاً للتعرُّف عليه) (Anderson 2012). لكن هذا يعني تماماً أنه رَغْمَ أنَّ غَيْرَ ــ الأخلاقيِّ ليس متعارضاً مع الأخلاقيّ، إلا أنه يتضمّن إمكانيةَ جلب العنف والدّمار اللذين يمكن أن يحصلَا لي أو لكَ، لأنَّنَا تحديداً لا يمكنُ أن نتوقعَ الآخر ونتنبَّأ به وماذا قد يُحْضِرُ أو كيفَ يُمْكِنُ أنْ يَسْتَجيبَ لنا (AEL: 111–12; Bennington 2000: 43).
2: تعقيبات على التقويض
هنا ولأنَّ دريدا يصوغُ الأخلاقَ بوصفهَا مشيّدةً في ومن خلال غير ــ الأخلاق، فقد ناقشَ العَديدُ من نقّادِ التقويض بأنَّ العَلاقَةَ بين التَّقْويضِ والأخْلاق علاقةٌ سلبيةٌ. ويمضي الانتقادُ بصورةٍ عامّةٍ وفق التالي: نظراً لأنَّ التقويضَ يُظْهِرُ أنَّ الأخلاقَ تتوقّف على شيءٍ “آخر” غير الأُسُسِ الميتافيزيقية والحقائق والضّرورات الأسَاسيّة، فإنَّ المعْنَى والحقيقةَ يُصْبَحَان مَشروطين ومُؤطّرين سياقياًcontextualised إلى حَدِّ أنْ يَغْدُوَ الفعلُ، المعنى والتَّفسيرُ الأخلاقيُّ من غير تحديدٍ تماماً. وهكذا فما يترتّبُ على ذلك هو النّفي[الإنكار] ومن ثمَّ تدمير السُّلطة، المؤسَّسات، البُنى أو المَعْنَى في حَدّ ذَاتِهِ (أيْ العَدَميةnihilism). وإذن؛ فالنقادُ يجادلون بأن التقويضَ ليس معنوياً أو إيجابياً ومثمراً أخلاقياً، ومن ثمَّ فهو عَدَمِيٌّ وغيرُ محدّدٍ. ومن ناحية أخرى، فقد جادل النُّقاد بالقول: نظراً لأنَّ التقويضَ تعدُّديٌّ، غيرُ قابلٍ للاختزال، فإنَّ الأمر ينتهي به إلى تحويلٍ جماليٍّ وسياقيٍّ للغةِ والعمل من خلال إنهاكِ القوّةِ الأخْلاقية والعَقْلانية للمعنى والتواصُل. وعلى الرُّغم مِنْ أنَّ الأكاديمين الحديثين قد انتقدوا دريدا لأسباب مماثلة، غيرَ أنَّ مَثَالَيْنِ مَشْهُوْرَيْنِ ومُؤثّرينِ من هذا الانتقادِ في صِيْغَةٍ مُتواصلةٍ موجودان في كتاب يورغن هابرماس Jürgen Habermas الخطاب الفلسفي للحداثة (1987) [3]، وفي مقالة جون سيرل John Searle “تكرار الاختلافات“(1977)، فهذه الأخيرةُ هي ردٌّ على ورقة دريدا الموسومة بـ “توقيع، حدث، سياق”(1977)، لكنَّ دريدا، بدورِهِ، يردُّ عليها [أيْ مقالة سيرل] في شكلِ كِتَابٍ بعنوان Limited Inc (1997).
3: منعطف أخلاقي
لو لم يكن التقويض “مَنْهَجَاً، نقداً، تحليلاً، فعلاً أو عمليّة”(LJ: 4)، ومن ثمَّ لا يعملُ ولا يمكنُ له أن يقدّم نظريةً أخلاقيةً، لأنه يقيم تحديداً في البُنَى الميتافيزيقيّة من الدَّاخلِ بحيثُ يجري الكشفُ عن البنيةِ نفسها عن كونها مشيدةً في ومن خلال غيرـــ البنية، فعندئذ كيف يجري تقويضُ الأخلاق على وجه الّدقة؟ أيْ، كيف يُعِيقُ التَّقويضُ تقليدَ الأخلاق لو لم يكنْ التقويضُ بنيةً ميتافيزيقيةً؟
وبالنَّظر إلى هَذَا، هَلْ يُمْكِنُ قراءةُ التقويض على أنّه أَخْلاقيٌّ؟ وفي ردٍّ على انتقاد التقويضِ بوصفهِ عدميّاً ولا أخلاقيَّ، انبرى عَدَدٌ من الأكاديميين في أواخر الثمانينيات وخلال التسعينيات للدِّفاع عن تقويضيّة دريدا، بذريعةِ أنه يمكنُ قراءةُ التقويض على أنّهُ أخْلاقيٌّ. وقد تميزتْ هذه المرحلةُ بما قد يُسمّى بـ”المنعطفِ الأخلاقيِّ” في التلقي الأنجلو ــ أمريكي لعمل دريدا (ورغم ذلك فهذا “المنعطفُ الأخلاقيُّ” لم يُلْحَظْ تمييزُهُ في عمل دريدا، إذ، وكما سَبقتِ الإشارةُ إلى ذلكَ، كانتِ الأخلاقُ محطَّ اهتمام دريدا منذ كتبهِ الأُولى).
وتمكن المحاججةُ بأنَّ ما يميّز هذا “المنعطف الأخلاقيّ” هو أنَّ الأكاديمينن يعتمدون بصورةٍ رئيسيةٍ على ارتباط دريدا بأَخْلاقياتِ إيمانويل ليڤيناس، ومن ثمّ قراءة دريدا تقريباً من خلالها وبشكل حصريٍّ. ولتلخيص موقف ليڤيناس الأخلاقي بتكثيفٍ: يحدِّد ليڤيناس أخلاقياتِهِ بأنها دعوةٌ إلى التَّساؤل عن تلقائيتي من خلال حضور الآخر … فغرابة الآخر، وعدم قابلية اختزالهِ للأنا، ولأفكاري وممتلكاتي، قد يجري إنجازه على وجه التَّحديد بوصفه دعوةً إلى التساؤل عن تلقائيتي، بوصفها أخلاقاً (Levinas 1996: 43). وبخصوص ليڤيناس، تتقدّمُ هذه الأخلاق وتحلُّ محلَّ الإدراك التقليدي للأَخْلاقِ الميتافيزيقيّةِ. وبكلماتٍ أُخَر، كما أوضحَ دريدا الأمر، يرغبُ ليڤيناس أنَّ يتداركَ استخفافَ الإغريق بالآخر عَلَى وَجْهِ الحصْر مِنْ خِلَالِ البَحْثِ عَنِ الآخَر في “العَلاقةِ الأَخْلاقيّةِ”، بوصفها “علاقةً غيَرْ عَنِيْفَةٍ … بالآخَر، … [وهي] مُؤَهّلةٌ لافْتِتَاحِ فضاءِ التَّعالي transcendence وتَحْريْرِ الميتافيزيقا “(WD: 83). أيْ أنّ ليڤيناس يهيبُ بالأخلاقياتِ (التي تتحدّدُ بكونها اللحظة التي يضعُ فيها الآخرُ نفسه، الأناthe ego ، موضع التساؤل) لتحريرنا من الميتافيزيقا اليونانية (WD: 83)، التي لا تزالُ تَتَغَلْغَلُ في الفَلْسَفَةِ والثَّقافةِ حتّى يومنا هذا. ومع ذلك، تَبَعَاً لدريدا، لا يستطيعُ ليڤيناس أن يَفْلَحَ في إنْجَازِ الانفتاح “اللاعنفيّ نحو ما بعد الخطاب الفلسفي” بينما يواصلُ استخدام لغة الميتافيزيقيا (WD: 110). والسبيلُ الوحيدُ الذي يُمكن به ليفيناس للقيام بذلك هو باستخدام ما يرفضه: أي اللغة الفلسفية الموروثة من اللوغوس الإغريقي[4].
وكنتيجةٍ مترتّبةٍ على ارتباطه بليڤيناس، أدركَ العديدُ من المختصّين المنافحين عن دريدا بمواجهةِ هجوم العدميّة nihilism فِكْرَةَ دريدا عن “الآخَر” (كاختلافٍ) من خلال أَخْلَاقِيَاتِ ليڤيناس عَنِ الآخَر. ومن هنا، فقد نَجَمَ عن ذلك وجهتا نظرٍ سائدتان: فمن ناحيةٍ، ثمةَ أولئكَ المختصونَ، مثل سيمون كريتشليSimon Critchley (1992, rpt 1999)) ودروسيلا كرونل Drucilla Cornell (1992) اللذين لم يحاولا قطُّ اختزال تقويضية دريدا لأخلاقيات ليڤيناس، ولكنْ في هذه العملية كذلك جرى تَمَثُّلُ فكرة دريدا عن الآخر في العلاقة اللاعنفية لليڤيناس بـ … الآخر (WD: 83). ومن ناحيةٍ أُخرى، هناكَ عددٌ من الدّارسين (على سبيل المثال، جيفري بينينگتونGeoffrey Bennington وروبرت بيرنسكونيRobert Bernasconi، من بين آخرين)، الذين أدركوا أهمية ليڤيناس وأخلاقياته لتفكير دريدا، وفي الوقت نَفْسهِ، اعترفوا كذلك بتشدُّد دريدا بخصوص أخلاقيات ليڤيناس مع الآخر. وأَحَدُ الاختلافاتِ بينَ ليڤيناس ودريدا التي يتجلَّى في وعَبْرَ تشدُّدِ الأخير، يتمثّلُ بأنّ الأخلاقَ بالنِّسْبَةِ لدريدا غَالِبَاً مَا تكونُ عنيفةٌ بالفعل، ومن ثمَّ فإنَّ الآخَرَ، كما سبقت الإشارةُ، من المحتمل أنْ يجلبَ الأسوأَ: العُنْفَ والدَّمارَ ليْ أو لكَ (WD: 111-12). وهكذا، فدريدا لا يُمْكِنُ أن يكونَ مُتَمَثِّلَاً كُلّيّاً لموقفِ لِيْڤِيْنَاس الأخلاقيِّ، كما يجادلُ بعضُ الدّارسين[5]. ويمكنُ إيجادُ شعور أعمق بتغايره عن ليڤيناس وذلك في مناقشة دريدا للمسؤولية في كتابه هبة الموتGift of Death ، إذ سنتحّول إليه عما قريبٍ. وهَكَذَا في ومن خلال هذه المناقشةِ قَدْ نَشْرَعُ بإدْرَاكِ أنَّهُ عَلَى الرّغم من التَّحدي الذي يَطْرَحُهُ التَّقويضُ على الأَخْلَاقِ الميتافيزيقيّةِ، فإنَّ التقويضَ لا يَضَعُ نَفْسَهُ كنظامٍ أو نظريةٍ أخلاقيةٍ بديلةٍ، في الحقيقةِ، “ليس ثمّة فلسفةٌ ولا فلسفةُ الفَلسفةِ التي يمكن أن تُسَمّي التّقويضَ بحيث يُمْكِنُ أنْ تَسْتَنْتِجَ مِنْ نَفْسِهَا “مكوّناً أخلاقياً”. ومع ذلك، فإن دريدا يَزْعُمُ أنَّ:
هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ التَّجربة التَّقوْيْضِيّة ليستْ مسؤوليةً، أو حتى مسؤوليةً ـــ أخلاقيّةً سياسيّةً، أو أنها لا تمارسُ أو تنشرُ أيَّ مسؤوليةٍ بنفسها. وبمساءلةِ الفَلْسَفَةِ حول معالجتِهِا للأخلاقِ، السياسةِ، ومفهوم المسؤوليةِ، فالتقويضُ يُطَالِبُ بنفسه، ألا أتحدّث عن مفهوم أسمى للمسؤوليّةِ … ولكنْ عن الضُّرورةِ، التي أَعْتَقِدُ أنَّها أكثرُ تَصَلُّباً [اسْتَعْصَاءً] للاستجابةِ والمسؤوليةِ. ومن غير هذه الضرورة، وفق رؤيتي، مَا مِنْ سُؤالٍ أَخْلَاقيٍّ ـ سِيَاسيٍّ لَدَيْهِ أيُّ فرصةٍ ليجري الانفتاحُ عليه أو إيقاظُهُ اليوم ON: 364)).
وهكذا لأنَّ التقويضَ قادرٌ على طَرْحِ أسئلةٍ على الأخلاقِ، السّياسةِ والمسؤوليةِ وَمَا إِلى ذَلكَ، فإنّهُ لا “ينشرُ” المسؤوليّةَ “بحدِّ ذاته” فحسبُ، بلْ مِنَ المحتملِ استمدادُ مفهومٍ جديدٍ من التقويضِ للأفعالِ الأخلاقيةِ، كما في القسم الآتي الذي سَوْفَ يجري تَوْضيحُهُ الآن.
4: الـ(لا) مسؤولية Ir)responsibility )
وكما جَرَى ذُكْرُهُ في الفقرةِ الافتتاحيةِ من هذا الفَصْلِ، يَقْتَضِي التَّقويضُ حَرْكةً مُتَنَاقضةً؛ الأُوْلَى تُتِيْحُ تَحَدّيَاً مُتزامناً، مِنْ غَيْرِ رَفْضٍ، لِخَاصِيّةِ صُنْعِ ــ الاخْتِيَارِ الثُنَائيِّ واتخاذِ ــ القَرَارِ للأخَلَاقِ الميتافيزيقيّةِ والمَسْؤوليّةِ. وَهَذَا التَّنَاقُضُ أكثرُ جَلَاءً في كتابِ دريدا “هبة الموت“. ويجادل دريدا في هذا الكتاب بأنَّ الفضيلةَ والأخلاق تتكوّنان بصورةٍ متناقضة عن طريق ِ”[شخضٍ] غيرِ مَسْؤولٍ”. ومع ذلك، فهذا التناقضُ الأخلاقيُّ العامُّ قَدْ جَرَى تَوْضيْحُهُ في ومن خِلالِ التَّناقُض الفرديِّ الذي يواجهه إبراهيم في السَّرديةِ التّوراتيّةِ: حيثُ يأمرُ الإله إبراهيمَ التضحيةَ بابنهِ إسحاق على جبلِ الْمُورِيّة، كذبيحةٍ مُحْرَقَةٍ (تكوين 22: 1-19)[6]. هنا يُواجهُ إبراهيم خَياراً أو قَراراً مُرَوّعَاً: فإمَّا أنْ يَفِيَ بمسؤوليتهِ تجاه الفَردsingular، أَيْ الإله في هذهِ الحالةِ، أَوْ أنْ يمتثلَ للقوانين الأخلاقيّةِ العامّةِ لمجتمعِهِ، ويفيَ بمسؤوليتهِ نحو الآخَرين كافّةً (إسحاق، سَارة، أصدقائِهِ، أسرتِهِ ومجتمعِهِ). ومنْ خِلَالِ المُفْرَدِ أو التَّفرُّدِsingularity، يشيرُ دريدا ليس إلى الإله فحسبُ، ولكنْ إلى مَا هو غيرُ قابلٍ للاختزالِ، والتَّكرارِ، إلى اللاـ المتجانس والاستثنائيِّ (شخص أو حدث آخر، على سبيل المثال). ويُقرّرُ إبراهيمُ الحفاظَ على مسؤوليتِهِ نَحْوَ الإله (الوحيد المطلق والآخر الفريد) والتضحيةَ بإسحاق، بيد أنّه في هذهِ العَمَليةِ يخونُ ولا يمتثلُ بصورة ٍحتميةٍ للقوانين العامةِ الجامعةِ/ المبادئ الأخلاقيّةِ لمجتمعِهِ وثقافتِهِ، أيْ واجبِهِ نحو الآخَرين المعروفِيْن (الأسرة) وغير المعْروفين (المجتمع الأكبر).
ومن خلال هذه السّردية التّوراتية، يُمْكِنُ لدريدا أن يُبرهِنَ أنّهُ عَبْرَ التصرَّف من غيرِ مسؤوليّةٍ، بالمعنى التقليدي، إزاء الآخرين كافّةً (قوانين مجتمعِهِ وأخلاقياته) فإنَّ إبراهيم يكونُ مسؤولاً حِيَالَ الإله، حِيَالَ الفرديّ. ويدعو دريدا هذهِ المسؤوليّةَ إزاءَ الآخَر الفَريدِ أو الحَدَثِ بـ”المسؤولية المطلقة” (عَلَى عَكْسِ المفْهُوم العَام أو الميتافيزيقيِّ للمسؤوليّةِ). كذلك يصفُ دريدا “المسؤولية المطلقة” بأنّها استثنائية، بوصفها شيئاً ما “ليس قابلاً للتصوّر” و”لا قابلاً للتفكير فيه”، تحديداً؛ لكونهِ يشتملُ على الآخَرِ في “فَرَادَتِهِ وتفرُّدِهِ المُطْلقِ”، ومن ثمَّ في غير إنابةٍ وتكرارٍ، [حيث] الصَّمتُ والسّريّةُ “(GD: 61)، في حين أنَّ المسؤوليّةَ العَامَّةَ (أو كونية الأخلاق والقوانين) هي كذلك تحديداً؛ لأنّها تَتَطلّبُ الإنابةَ والتَّكرارَ، وَمِنْ ثمَّ قابليةِ الإجراءِ والتكافؤِ مَعَ الآخَرين كافّةً.
وبالنَّظر إلى هَذا المُعْطَى، فإنَّ المسؤوليةَ المُطْلَقةَ “ليستْ مَسْؤوليةً، على الأقلِّ ليستْ مسؤوليةً عامةً أو مسؤوليةً بشكلٍ عامٍّ”، و”لذلكَ يَنْبَغِي أنْ تَكُوْنَ غَيرَ مسؤولةٍ لكي تكونَ مسؤولةً على نحوٍ مُطْلَقٍ” (GD: 61). وبتعبيرٍ آخر، لكي تكونَ مسؤولاً نحو الـ(آ)خر[7]an/the other، يجب أن يكونَ المرءُ غيرَ مسؤولٍ حيالَ الآخرين كافّةً (الأخلاق). ومن الأهميّةِ بمكان أنَّ ما يلمّحُ إليه هذا الأمرُ هو أنَّ اللامسؤولَ ليسَ في تعارضٍ أو تناقضٍ مع الأخلاقِ والمسؤوليّةِ (تماماً كما هي حالُ غير ــ البُنَى وغيرــ الأخلاقيّ اللذين ليسا متعارضين مع البنى الميتافيزيقيّة والأخلاق، على الترتيب). ويَسْتَحْوِذُ دريدا على مُفَارقاتِ المسؤوليّةِ هَذِهِ في فِقْرَةٍ مَشْهُوْرَةٍ من هبةِ الموت:
كذلك ثمّة آخرون، عددٌ لا حَصْرَ لَهُ مِنْهُمْ، عددٌ غيرُ قابلٍ للحَصْرِ مِنَ الآخرين، الذين يَنبغي أنْ ألتزمَ بالمسؤوليةِ ذاتها حِيَالَهُمْ، مَسْؤوليّةٌ عَامَّةٌ وكونيّةٌ (ذلكَ ما يُسمّيه كيركيگارد Kierkegaard بالنَّظام الأخلاقيِّ). ولا يمكنني الاستجابةُ للنِّداء، الطَّلبِ، الالتزامِ، أو حتّى حُبُّ آخرٍ مِنْ غَيْرِ التَّضحيّةِ بالآخَر المختلف، وآخر الآخرين. كلُّ(واحد) آخَر هو مختلفٌ (تماماً)[8] Every other .(one) is every (bit)other فكلُّ شَخْصٍ آخَرَ هو المختلف كليّاً أو تماماً. … وَحَالمَا أَدْخُلُ في عَلاقةٍ مع الآخَرِ، بتَحْديقةٍ، نَظْرةٍ، طَلبٍ، حُبٍّ، أمرٍ، أو نِدَاءٍ من الآخَرِ. أَعْرِفُ أنَّهُ لا يُمْكنُني الاستجابةُ إلا مِنْ خِلَالِ التّضحيةِ بالأَخْلاقِ، أَيْ مِنْ خِلَالِ التَّضْحِيةِ بِكلِّ مَا يَلْزُمُني للاسْتجابةِ، بالطَّريقةِ ذَاتِها، في البُرْهَةِ ذَاِتهَا، للآخرين كافةً (GD: 68).
وَوَفْقَاً لدريدا، فإنَّ المفارقةَ تَكْمِنُ بوجودِ وَاجِبَيْنِ متساويين، لأنَّ الواجبَ مطلقٌ: أحدهما لتفرُّدِ أي “شخصٍ” أو آخر، وثانيهما لواجبِ وجودِ المسؤول إزاء “كلِّ آخر”(بوجهٍ عام، وكذا القانون). وحقيقةُ أنَّ دريدا يجادلُ بوجودِ واجبينِ مُتَسَاويْيَن وحَتْمِيَيَنِ تُشِيْرُ إلى أنَّ التّقويضَ ليسَ بِشَأنِ رَفْضِ الأخْلاقِ الكونيّةِ أو الميتافيزيقيّةِ. وفي الواقع، فما يُوضّحُهُ دريدا هو أنَّ الواجبين المتساويين والضُّروريين، اللذين يَتَطَلّبانِ منا الاستجابةَ لهما، يُنْتِجَانِ تَوَتُّراً: المفارقة والمأزق aporia لم يجر حَلُّهُما من خِلَالٍ قَرارٍ بَسِيْطٍ أو اختيارٍ بينَ أَمْرَيْنِ اثنين، أَيْ المأزق aporia الذي يكشف عن عدم القدرة على اتخاذ القرار من الدَّاخل، والعنف المتأصِّل في، كلِّ خيارٍ أو قَرارٍ. وعدم القدرة على الحسم هذا يُشكّلُ المسؤوليّةَ بوصفها ضرورةً. وبكلماتٍ أُخرى، هذا هو المأزق الذي يسمّيه دريدا بـ”الأخلاق على أنه” اللامسؤولية “irresponsibilization، لأنه “تناقضٌ غيرُ قابلٍ للحلِّ وغيرُ معقولٍ بين المسؤولية بصورةٍ عامّةٍ والمسؤوليةِ مطلقاً “(GD: 61).
5: اختتام
وعبر مفهومِ ” اللامسؤولية” هذا، يَكْشِفُ التَّقْويْضُ عَنِ العُنْفِ المُحتملِ لكلِّ قرارٍ أَخْلاقيٍّ. وفي التناقُض المتسم بالمفارقة بين “المسؤوليّةِ بصورةٍ عامّةٍ والمسؤوليّة المطلقةِ”ـ أيٍ في نَوْعَي الواجب المتساويين، لأنهما حتميين بصورةٍ مطلقة ــ ينبغي علينا أن نُقَرِّرَ، وفي التَّحديدِ (مهما كانَ هَذَا القرارُ غير مؤكدٍ أو ملتبسٍ أو غير قابلٍ للحسمِ) وبذلك إما أن نقومَ بالعُنف إزاء الآخرين أو حِيَالَ شخصٍ آخرَ أو كليهما في الوقتِ ذاتِهِ. وبالنِّسبةِ لدريدا، فنحن كافّةً نتموقع في “اقتصاد العنف”، وَهَذَا يَعْنِي أنَّهُ ليس ثمة البتة أخلاقٌ أو مسؤوليةُ غيرــ عنيفةٍ، كما سوف يرغبُ ليڤيناس(WD: 313, n.21). وهنا فإنَّ دريدا غَيْرُ قابلٍ للإدماج بشكلٍ جذريٍّ في أخلاقياتِ ليڤيناس. ورغمَ ذلكَ، ففي ومن خلالِ اشتباكِهِ مَعَ فكرةِ ليڤيناس عَن الأخلاقِ المحدَّدةِ بوصفها “دعوةً إلى التَّساؤل”عَنِّي من قبل الآخر، أُتيحَ لدريدا، بوساطة أفكاره عن “المسؤولية المطلقة” و”اللامسؤولية”، أن يقوّضَ الأخلاقَ التي تمنحُ الأولويةَ للذات على الآخر. وهَذَا لا يَعْني أنَّ دريدا أو التقويضَ يَنْبِذُ الأخلاقَ الميتافيزيقيّةَ، كما أنَّه لا يعني أن القَرارَ والاسْتِجَابةَ لا يُمْكِنُ اتخاذهما أو لا يَتَطَلّبانِ أيَّ تفكيرٍ عَلَى الإطْلاق. وفي الوَاقعِ أَنَّ القَرَارَ والاستجابةَ في نِهَايةِ المَطَافِ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُوْنَا مَحْسُوْبَيْنِ مُسْبَقَاً وكذا مَبْنِيَيْنِ مُقدَّماً (وكذلكَ إلزَاميتُهما وكونيتُهما وقابليتُهما للإجراءِ بمرورِ الزَّمن وفي السّياقاتِ كافّةً). إن الاضطّرارَ إلى اتخاذِ قَرارٍ يَعْنِي، أيضاً، وجوبَ المساءلةِ، أو يكونُ المرءُ مَسْؤولاً بِصُوْرَةٍ مُطْلَقةٍ، عن كيفيةِ الاسْتِجَابةِ وَلِمَنْ، وذلكَ بطريقةٍ لا تخوّلُ بها الأخلاقياتُ الإلزامية.
وعلى هذا المنوالِ يكونُ التَّقْويضُ غير سلبيٍّ كليّاً من حيث إّنّهُ لا يفتح الطَريق للآخر فحسب ــ بوصفه اختلافاً قادماً غير قابلٍ للتَّبْسِيْطِ ــ وَلكنّهُ يَسْمَحُ وفق ذلكَ بعلاقةٍ أخلاقيّةِ أكثرَ دقةً، أوْ في الوَاقعِ بِعَلَاقةٍ “مَسْؤُوْلَةٍ بصورةٍ مطلقةٍ” مع الاختلافِ، الآخَر، ومع نفسِهِ. وبعبارةٍ دريدا، فالتقويضُ هو “نَعَمٌ للآخَر، فلا أقلَّ مِنْ نَعَمٍ للآخَر” (AEL: 35).
مصادر الدّراسة ومراجعها حسب ورودها في المتن مع تواريخ النشر:
Aristotle. 1985. The Politics. C. Lord (trans.). Chicago: University of Chicago Press.
1998ـــــــــــــــــ.The Metaphysics. H. Lawson-Tancred (trans.). Harmondsworth: Penguin.
Kant, I. 1934. Critique of Pure Reason. J. M. D. Meiklejohn (trans.). London: J. M. Dent & Sons.
Heidegger, M. 1993. Basic Writings, D. Farrell Krell (ed.). London and New York: Routledge.
Lowe, E. J. 2002. A Survey of Metaphysics. Oxford: Oxford University Press.
Diprose, R. 1994. The Bodies of Women: Ethics, Embodiment and Sexual Difference. London and New York: Routledge.
Derrida, J. 1986c. “Letter to a Japanese Friend”, in D. Wood and R. Bernasconi (eds), D. Wood and A. Benjamin (trans.), Derrida and Différance. Evanston, IL: Northwestern University Press, 3–6. ]LJ.[
Papadakis, A., Cook, C. and Benjamin, A. (eds) 1989. Deconstruction: Omnibus
Volume. New York: Rizzoli Publications.
Derrida, J. 1992a. “Force of Law: The ‘Mystical Foundation of Authority’”, M. Quaintance (trans.), in Deconstruction and the Possibility of Justice. D. Cornell, M. Rosenfeld and D. Gray Carlson (eds). New York: Routledge, 3–67. (FL).
______1976. Of Grammatology. G. Spivak (trans.). Baltimore: Johns Hopkins University Press. Originally published in French as De la Grammatologie (Paris: Les Editions de Minuit, 1967). (OG).
______999. Adieu: To Emmanuel Levinas. W. Hamacher and D. E. Wellbery. (AEL).
Bennington, G. 2000. Interrupting Derrida. London and New York: Routledge Press.
Levinas, E. 1996. Totality and Infinity. A. Lingis (trans.). Pittsburgh: Duquesne
University Press.
Derrida, J. 2002d. “Privilege: Justificatory Title and Opening Remarks,” in Who’s Afraid of Philosophy: The Right to Philosophy vol. I, J. Plug (trans.). Stanford: Stanford University Press. Partial translation of Du Droit a La Philosophie (Paris: Galilee). (WP).
_____1995. On the Name. D. Wood and J. P. Leavey, Jr, I. McLeod, and T. Dutoit (trans.). Stanford, CA: Stanford University Press. (ON).
_____2007a. The Gift of Death (2nd edn) D. Wills (trans.). Chicago: University of
Chicago Press. (GD).
[1] ـــ نيكول أندرسون عميد مشارك لكلية الآداب في جامعة ماكواريMacquarie ، سيدني. وهي المؤسس المشارك ورئيس تحرير مجلة Derrida Today (مطبعة جامعة إدنبرة) ، ومديرة مؤتمر Derrida Today نصف السنوي. ومؤلفة كتاب دريدا: الأخلاق تحت المحوDerrida: Ethics Under Erasure /2012 . نشرت العديد من المقالات حول دريدا والتفكيك، الفلسفة القارية، ما بعد الإنسانية، الحيوانات، الأخلاق، السياسة الحيوية والنظرية الثقافية والسينمائية. والبحث يشكل السابع من كتاب: (Jacques Derrida Key Concepts) Edited by Claire Colebrook, Routledge, First published 2015
[2] ـــ حالة كون الآخر أو المختلف أو الآخرية.
[3] ـــ إنَّ المطالب الملحة للجمع بين القوى السياسية والفلسفية بمواجهة حرب “الغرب” مع العراق في عام 2002 أدت إلى تقارب بين دريدا وهابرماس (انظر هابرماس ودريدا 2003)، لكنَّ ذلك لا يحجب الواقع والاختلافات الفلسفية الخطيرة بينهما، ولا نقد هابرماس لدريدا في الثمانينيات ( المؤلفة).
[4] ـــ لوغوس (بالإغريقية: Λούος) و(بالإنگليزية: Logos)، والكلمة من أشدّ الكلمات أهمية وأكثرها التباساً وغموضاً في الممارسات الفكرية الدينية والفلسفية، إذ تنطوي في سياقات شتّى على دلالات متعددة: الخطاب، اللغة، العقل الكلي، المنطق، كلمة الإله. (ويكيبيديا بتصرف).
[5] ـــ تتواصل المناظرة والمجادلة حول علاقة دريدا ــ ليفيناس في القرن الحادي والعشرين مع كتابات حول هذه المسألة بقلم Anderson (2012)، Dooley (2001)، Grebowicz (2005)،Hägglund (2008)، Plant= =(2003)، جملة أسماء فحسب على سبيل المثال. بينما تواصلت الكتابات العامة عن الأخلاق لدى دارسين بارزين مثل Geoffrey Bennington (2000)، Hent de Vries (2001)، John Llewellyn (2002)، J. Hillis Miller (2009)، و Michael Naas (2008).(المؤلفة).
[6] ــ الكتاب المقدس، العهد القديم، الشرق الأوسط، ط4، 1994: سفر التكوين 22: 1، 2 :[ وبعد هذهِ الأحداثِ امتحنَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!» قَالَ: «نعم، ها أنا». َقَالَ: «خُذِ إسحق ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ مُوريّة، وَأَصْعِدْهُ مُحْرَقَةً عَلَى جبلٍ أدُلُّكَ عليه»].
[7] ـــ بهذا النقش يمكن اشتمال النكرة والمعرفة في صيغةٍ واحدةٍ.
[8] ــ يمكن تقديم احتمالين (أو أكثر) للترجمة لـ Every other (one) is every (bit)other، الأول: [ كل (واحد) آخر هو آخر(تماماً)]، والثاني أنّ كلمة (آخر other) تنطوي على معنى المختلف، الغير وعليه الاحتمال الثاني للترجمة هو: [كل آخر هو مختلف تماماً]. وأعتقد أن المترجم الإنكليزي دافيد ويلّسDavid Wills. أضاف مفردتي((one) و(bit) ليقرأ احتمالات المعنى المختلفة في عبارة دريدا العويصة وغير القابلة للترجمة أصلاً [tout autre est tout autre]. والعبارة هي عنوان للفصل الرابع من كتاب “هبة الموت”[1995[The Gift of Death]. ويمكن تقريب دلالة العبارة بالقول: كل آخر، مهما يكن هذا الآخر (كائن، حجر، شجرة، عوالم …إلخ)؛ فإنَّهُ مختلفٌ عني وينطوي على الغيرية والاختلاف والتباين ولا يمكن بحالٍ التكهُّن به وبسلوكه وتصرفاته فهو سرٌّ وصمتٌ كما يقول دريدا.