لا شك أن للنقود وظائف مصيرية في المجتمع. ومن أجل ادراكها تخيلوا لحظة أنها ليست موجودة. ماذا سيحدث للتجمعات البشرية التي ستضطر للمقايضة التي لا تنفع إلا في مجتمع الاكتفاء الذاتي, الذي ينتج من أجل اشباع حاجاته المباشرة ويبادل ما يفيض عنه. في مجتمعنا القائم في جوهره على التبادل كيف يمكن أن يتصرف فلاح يريد أن يبيع بقرته لشراء البذور والملابس والأغذية من أجل عائلته ومزرعته؟ هل سيقبل منتجو البذور والملابس والأغذية أصلاً بالبقرة مقابل منتجاتهم وكيف سيقتسمون البقرة بدون أن يقتلوها؟ على الأرجح سيعود الفلاح لمزرعته دون بذور وملابس وأغذية وستجوع عائلته وتعرى وستبور مزرعته وربما تموت البقرة ايضا. وهذا سيحدث للاقتصاد ككل إن غابت النقود, أي أنه سيدمر.
تفصل النقود البيع عن الشراء مخزنة قيمة العمل البشري(أقصد بالعمل البشري أي نشاط بدني أو ذهني يقوم به الناس) في شكل قابل للاستخدام في أية لحظة. أي أن منتج سلعة ما ليس مضطرا أن يشتري سلعة في اللحظة التي يبيع سلعته كما هو حال المقايضة. تقوم النقود بتخزين قيمة السلعة المباعة إلى أن يجد صاحبها أنه حان الوقت لاستخدامها. فالفلاح, بوجود النقود, عندما يبي كامل محصوله, ليس مضطرا أن يشتري مقابله كامل قيمتها ملابس وأغذية وبذور ليس محتاجا لاستخدامها مباشرة أو قد لا يحتاجها أبدا, وتحمل تكاليف تخزين أو تلف ما لا يستخدمه مباشرة منها.
تحتاج عملية تخزين قيمة العمل البشري مثل أي شيء آخر إلى مخزن لا يتسبب في افسادها أي نقصانها أو فقدانها. واي مخزن لا تتوفر فيه شروط التخزين الجيد لا بد أن يتجنبه الناس ويسحبوا مخزوناتهم منه. وكذلك الامر بالنسبة للنقود يجب أن تكون هناك من قبل الناس بأنها تخزن قيمة عملهم وإلا فإنهم لن يقبلوا باستخدامها أو سيحاولون تجنبها قدر الامكان في حال غياب البدائل. هذه الثقة هي جوهر النقود وبدونها لن تكون هناك نقود. وتطورت أشكال النقود عبر التاريخ مع تطور مصدر الثقة.
النقود الاولى التي اخترعتها البشرية كانت النقود السلعية التي تحمل قيمة في ذاتها. أي أنها بحد ذاتها لها قيمة وبالتالي يمكن أن يقبلها أي شخص على أساس ذلك. مثلا الذهب له بحد ذاته قيمة شبه ثابته كان الناس يقبلون به كنقد على أساس ذلك. لكن لأسباب عملية تتعلق بسهولة الحمل والنقل والامان, تحول الناس إلى النقود الورقية القابلة للتحويل إلى ذهب, التي هي دين على المصدر يسدد ذهبا, وفيها انتقل جزء كبير من الثقة إلى مُصدِرِ تلك الورقة القابلة للتحويل (التي اصدرها الصاغة ومن ثم المصارف الخاصة ولاحقا الدولة من خلال البنك المركزي) وبقي جزء يتعلق بأن الذهب سيأتي في النهاية. على مسار طويل ومتعرج ومليء بالتفاصيل . في عام 1971 ألغى الرئيس الامريكي آخر حالة ربط بين الذهب وقيمة العملة وبدأت مرحلة من مستويات متعددة من التعويم (أي تحديد قيمة العملة على أساس العرض والطلب). في التعويم تحولت كامل الثقة بالنقد إلى الثقة بالدولة المصدرة واستقراراها السياسي ونموها الاقتصادي. أي أن قيمة العملة (قيمة العمل المخزن فيها) أصبحت خاضعا للعرض والطلب عليها في الأسواق المحلية والدولية. وأصبحت العملة دينا لا يسترد بل يمكن تحويله لشخص آخر. أي أن أي شخص يقبل أن يبيع أي شيء بعملة الدولة فإنه يقرض تلك الدولة مقدار تلك الورقة النقدية طوال فترة احتفاظه بها.
لقد أصبحنا أمام نوع من العقد النقدي (على غرار العقد الاجتماعي) بين الدولة والمجتمع, بحيث يقبل الأفراد التداول بعملة الدولة, أي اقراضها بمقدار ما يمتلكون منها, على أن يستفيدوا من الخدمات التي تتيحها كمخزن للقيمة والتداول لاحقا, شريطة ضمان الدولة استقرار قيمة العملة أي الثقة بقيمتها. وذلك الضمان متعلق بحسن الأداء الاقتصادي والسياسي للدولة. ذلك الأداء الاقتصادي والسياسي يمكن أن يضعف الثقة بقيمة العملة ومن ثم يدفع الناس للتهرب منها وبالتالي انخفاض قيمتها إن كان سيئا. ويمكن للأداء السياسي والاقتصادي الجيد أن يعزز الثقة بالعملة ومن ثم يزيد من طلب الناس عليها ورفع قيمتها أو الحفاظ عليها.
يمكن أن نترجم الأمر إلى كلام اقتصادي ونقدي أكثر تخصصا ونقول إن قيمة العملة (سعر صرفها) يتوقف على العرض والطلب عليها. وإذا أردنا أن نعرف مصادر العرض والطلب يمكن أن نلجأ إلى شكل معدل من المعادلة الكمية للنقود بغرض التوضيح والحصول على أرقام تأشيرية, وليس لحساب أرقام دقيقة تماما باعتبار أن المعادلة عليها الكثير من الانتقادات.
كمية النقود في الاقتصاد * سرعة دورانها = مستوى الأسعار * حجم الناتج المحلي (الدخل القومي)
ما يهمنا هنا هو مستوى الأسعار, وعادة ما يقاس بالرقم القياسي لأسعار المستهلك. وباعتبار أنه يمكننا هنا أن نعتبر العملات الاجنبية أيضا سلعا مع بعض التحفظ, يمكن أن نعتبر أن سعر الدولار بالليرة السورية هو أيضا مقياس لمستوى الأسعار. وهذا السعر هو ما نحن مهتمين بتعقبه.
إن ثبتنا العوامل الأخرى , سرعة الدوران وحجم الناتج المحلي, فإن ارتفاع الكتلة النقدية أي عرض النقود, (التي تطبعها الدولة أساسا وتضخها في السوق), سيرفع مستوى الأسعار وانخفاضها أي انخفاض عرض النقود سيخفض مستوى الأسعار, وهو على عكس سعر الصرف تماما, حيث ينخفض سعر الصرف في الحالة الأولى ويرتفع في الثانية. كذلك لو ثبتنا الكتلة النقدية وسرعة الدوران فإن ارتفاع الناتج المحلي (الذي ينتج عن النمو الاقتصادي ونجاح السياسات الاقتصادية للدولة) يعني ارتفاع الطلب على النقود ومن ثم انخفاض مستوى الأسعار (يرفع سعر الصرف) وانخفاض الناتج المحلي يعني انخفاض الطلب على النقود ومن ثم ارتفاع مستوى الأسعار (يخفض سعر الصرف). بالنسبة لسرعة دوران النقود (التي تعني عدد المرات التي تنتقل فيها وحدة النقد من يد ليد في وحدة الزمن) فإنها تتأثر بعدة عوامل لكنها ترتبط بدرجة كبيرة بموضوع الحالة النفسية والثقة عند الناس بالوضع الاقتصادي والسياسي للدولة وتوقعاتهم للمستقبل, وكلما انخفضت الثقة وساءت التوقعات حول المستقبل زادت سرعة الدوران لأن الناس لن يقبلوا بالاحتفاظ بالعملة لفترة طويلة لعدم الثقة بقيمتها ومستقبلها. والعكس صحيح إن كانت التوقعات ايجابية ومتفائلة فإن الناس سيحتفظون بالعملة لفترات أطول. وزيادة سرعة الدوران تعني زيادة العرض من العملة وانخفاض الطلب عليها ومن ثم ارتفاع الأسعار (انخفاض سعر الصرف), وانخفاض سرعة الدوران يعني العكس أي خفض العرض وزيادة الطلب وانخفاض الأسعار(ارتفاع سعر الصرف). يضاف إلى ما تقدم أنه كلما كان صافي الصادرات (الصادرات – المستوردات) في الاقتصاد كبيرا يعني زيادة الطلب على العملة وارتفاع سعر الصرف وانخفاض صافي الصادرات يعني انخفاض سعر الصرف.
لنحاول أن نستخدم هذه المعادلة من أجل تحليل ما حدث في سوريا. ونأخذ الجدول التالي بالأرقام التقريبية:
البند |
2010 |
ما بين عامي 2017-2018 |
الناتج المحلي الاجمالي |
60 مليار دولار |
12 مليار دولار |
الكتلة النقدية (تقدير) |
2 تريليون |
6 تريليون |
الصادرات |
12 مليار دولار |
1 مليار |
الاحتياطي من العملات الصعبة لدى البنك المركزي |
20 مليار |
250-700 مليون دولار |
لو استخدمنا المعادلة السابقة وأرقام الجدول لحساب سرعة التداول عام 2010 , مع اعتبار سعر الدولار 50 ليرة مؤشرا لمستوى الأسعار, فإنها:
سرعة التداول = (مستوى الاسعار * الناتج المحلي) / كتلة النقود = (50*60)/2 = 1500
ولنفترض أن سرعة التداول بقيت ثابته لغاية الآن ،كم يجب أن يكون مستوى الأسعار (ومن ثم سعر الدولار)؟
مستوى الأسعار= ( كتلة النقود * سرعة التداول)/ الناتج المحلي = (6*1500)/12 = 750
هذا يعني أنه بموجب الافتراضات والشروط التي وضعناها أعلاه ما كان سعره 50 في عام 2010 يجب أن يكون سعره الآن (أي بشروط 2017-2018) حوالي 750 ليرة. وهذا يعني أن الدولار حيث كان سعره حوالي 50 عام 2010 يجب أن يكون بسعر 750 ليرة بشروط 2017-2018. علاوة على ذلك تراجعت الصادرات من 12 مليار إلى 1 مليار. كيف حافظت الليرة على مستوى ما بين 400-500 للدولار لفترة طويلة نسبيا؟ ولماذا بدأت الهبوط منذ أوائل هذا العام وتسارع الهبوط منذ أواخر الصيف الماضي ومن ثم وصلت إلى حدود الـ1000 خلال الشهر الماضي؟
نعتقد أنه حتى قبل حوالي سنة من الآن كانت الليرة مدعومة بطلب مصطنع حققته عدة مصادر: الاول هو الاحتياطيات التي كانت موجودة في البنك المركزي التي قدرت بـحوالي 20 مليار دولار واستنزفت إلى ما يقارب 250 مليون دولار. فقد أصر البنك المركزي على مستوى سعر معين ويقوم بشراء الليرة السورية من السوق ويبيع الدولار, كما هو وفي حالات جلسات التدخل. وهذا خلق طلبا مصطنعا على الليرة ساهم في الحفاظ على سعر صرفها (يجب الانتباه إلى أن تدفق العملات الاجنبية من البنك المركزي أو المصادر الأخرى على السوق يعني رفع الطلب على العملة المحلية) . الثاني هي أموال مساعدات تدفقت على الحكومة من أطراف مواليه لها, وخصوصا أيران. حيث أن هناك تصريحات تنسب لعلي خامنئي بأن أيران تضخ في سوريا سنويا 8 مليار دولار. وهناك مصادر أخرى قدرت حجم ضخ الأموال الايرانية بـ 6 مليار دولار سنويا. المصدر الثالث للأموال هو الأموال التي دفعت لمختلف الفصائل والمجموعات الخارجة على النظام وهي مبالغ ليست قليلة رغم عدم وجود أرقام عنها. والمصدر الرابع هو أموال الامم المتحدة والمنظمات الانسانية. كل هذه الأموال حولت إلى الليرة السورية وشكلت طلبا مصطنعا ساهم في الحفاظ على قيمتها أعلى من مستوى حالة الاقتصاد الحقيقي وتوازنه مع الاقتصاد النقدي. ونقصد بالطلب المصطنع طلب غير مرتبط بالفعاليات الاقتصادية.
إذاً ما الذي حدث خلال السنة الماضية؟ خلال السنة الماضية ازدادت شدة العقوبات الدولية وبدأت تظهر آثارها على الاقتصاد الايراني وخصوصا القدرة على تصدير النفط ومن ثم قدرتها على تمويل حلفائها. وتراجعت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام, وهذا يعني أن مصدرا هاما للدعم ( للطلب على العملة السورية أي عرض العملة الاجنبية تراجع). لاحقا تواترت أخبار عن مصادرة النظام لأموال رجال اعمال قريبين منه وكان هذا سببا في محاولة الكثيرين من اصحاب رؤوس الأموال تحويل أموالهم من الليرة السورية إلى العملات الأجنبية وتهريبها وهذا ما فاقهم العرض منها. بعد ذلك حدثت الأزمة اللبنانية التي قيدت مصدرا هاما للعملة الصعبة لسوريا, حيث تقبع مليارات الدولارات للسوريين المقربين من النظام في تلك البنوك كان يتم الاعتماد على تلك الأموال عند شح الدولار المحلي.
فيما يتعلق بالتوقعات فإنه هناك مصدرين أساسين للتوقعات السلبية: الاول هو ظهور علامات على جدية امكانية تمرير قانون سيزر في الولايات المتحدة والذي ينطوي على عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على النظام, وشكل ذلك مصدر قلق كبير حول المستقبل الاقتصادي والسياسي لسوريا. المصدر الثاني للتوقعات السلبية هو صدور الموازنة العامة للسنة القادمة 2020 والتي يبلغ حجمها 4 تريليون ليرة والتي تنطوي على عجز بحدود 1.4 تريليون ليرة سيمول من خلال البنك المركزي. أي أن البنك المركزي سيجبر على ضخ عملة جديدة في الاقتصاد تقترب من ذلك المقدار, ومن ستتضخم الكتلة النقدية (عرضها) أكثر وأكثر , وهذا ما يضعف ثقة الناس بها يدفعهم لمحاولة التخلص منها.
إن وضعنا عوامل انقطاع الدعم الخارجي بجانب التوقعات السلبية, وفي ضوء الضعف الاقتصادي والاختلالات الهيكلية فيه والحرب, فإنه من الطبيعي أن تظهر صدمة هبوط حادة في الليرة السورية. ويمكن أن يستمر الاتجاه الهبوطي لفترة طويلة لأنه من المتوقع في المستقبل أن يتزايد عرض الليرة وتراجع الطلب عليها بسبب سوء السياسات الحكومية ونتائج الحرب واستمرار الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد. والنقطة الهامة جدا, والتي هي الجذر الأساسي لفلسفة المشكلة, هي أن الدولة السورية لا تدرك معنى احترام العقد النقدي أصلاً.