هل الوطن بحاجة إلى ثورة؟

صورة العم أوسمان صبري - نهاية الستينات

شارك هذا المقال:

 

أوسمان صبري 1905 - 1993
أوسمان صبري 1905 – 1993

پيمان قاسم

مدخل البحث

الكثيرُ منّا -عادةً- حين يُعجب بشخصيّة مشهورة، سواء أكانت سياسيّة أم أدبيّة أم فنيّة أم رياضيّة، فهو يتوق إلى معرفة جوانب حياته الخاصّة المجهولة، وينتابه الفضول لفتح الأبواب المغلقة والمواربة لكشف المستور والتعرّف على الشخصيّة عن قُرب أكثر فأكثر، ليتمكّن من دخول بساتين طفولته وصباه والتعرّف على منبع حياته والمنعطفات التي مرّ بها، وقصص عشقه وهيامه وهواياته وأحلامه وأمانيه، وكذلك الدروب والطُرق التي مكّنته من بلوغ تلك الشهرة، حتّى تركَ انطباعاً طيّباً في نفس محبّيه ومعجبيه.
شخصيّة هذا البحث المتواضع هي، الشخصيّة الكرديّة المشهورة المرموقة، السياسي والمكافح والشاعر: أوسمان صبري الملقّب بــ (آبو أوسمان)، أي العم أوسمان، الغني عن التعريف نضاليّاً وأدبيّاً وسياسيّاً، ولكن ارتأينا أن ندخل الحديقة الخلفية لحياته الخاصة، من أبوابها الواسعة، التي يجهلها الكثير من المعجبين به.
ودخولنا حياته الخاصة والتعرّف على ما تحتويه تلك الحديقة الثرّة من كنوزٍ نادرة، كان يستلزم فتح الأبواب عن طريق من هم أقرب الناس إليه مّمن عاشوا معه، عايشوا أفراحه وأتراحه، ولحظات راحته وتعبه، اطمئنانه وقلقه، صلابته وعجزه.
فــ كريمتُهُ هنگور أوسمان صبري ((Hingûr ، وابنه هوشنگ أوسمان صبري (Hoşeng)، وكذلك عدالت شوكت الملقّبة بـ كَوي Kewê (ابنة أخ آبو أوسمان)، والأخ شيخ محمد برمجة (صهره وزوج كَوي) هؤلاء الأشخاص ساعدونا، مشكورين، على تسليمنا مفاتيح تلك الأبواب، وكانوا خير مَن فتحوا لنا مصراعَيها بصدورٍ رحبة وقلوبٍ تتّسم بالتواضع والسّخاء.

 

محتويات البحث:

  • أولاً: تمهيد
  • ثانياً: حوارات
    • ـــ الجزء الأوّل: حوار مع هنگور أوسمان صبري
    • ـــ الجزء الثاني: حوار مع كَوي وشيخ محمد برمجة
    • ـــ الجزء الثالث حوار مع هوشنگ أوسمان صبري
  • ثالثاً: كلمة أخيرة
  • رابعاً: المصادر والمراجع
  • خامساً: الوثائق والصور

 

أولاً: تمهيد

استطاع أن يجعلَ حصانه صديقاً وفيّاً وصاحباً مخلصاً له في صباه، يرافقه وهو يمتطي صهوة الأماني ليجوب به سهوب قريته (نارنجة) بخفّة عاشقٍ للحياة صامتاً صامداً مستنشقاً جمالية الطبيعة الساحرة النضرة والأنهار الدفّاقة بالصفاء والنقاء، ويبسّط دروب المستقبل على تلك السهول الرحبة، ويشمخ بشموخ تلك الجبال المحيطة به.

ولكنّ ذاته الشفّافة لم تَشبع بذلك الجمال كفايةً بسبب المنظومة القيميّة للمجتمع المحيط به، والتي كانت تلجمه وتردعه من دخول معترك الحياة بإرادته من أوسع أبوابها، بل كان يدخلها من خلال الدهاليز العشائريّة الضيّقة الخانقة التي أرشده إليها والده، ليعلّمه، كمعلّمٍ صارم وأبٍ محبٍّ له، أصولَ التعامل مع الآخرين ويُحسن الإصغاء والإنصات إليهم ليكون “رجلاً” بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من قيمٍ نبيلة وينوب عنه في غيابه، وقت الشدائد.

فوجد نفسه فجأةً (رجلاً) يتحمّل أعباء الأسرة والعائلة والعشيرة والقضيّة، طاوياً صفحات طفولته وصباه التي لم يَعشِها كما ينبغي أن يعيشها أيُّ طفلٍ أو شابٍ في مقتبل عمره.

أتقنَ الرماية رغم صغر سنّه، وكان يؤمن بأن من يحدّد هدفه المرسوم بصبرٍ وصدقٍ وإخلاص سينجح في التصويب، ما دام قلبه صادقاً ونقيّاً من شوائب الأنانيّة والغدر، والصدق عنده مرهونٌ بعدم التردّد في إعادة الكَرّة في التصويب مرّاتٍ عدّة لئلا يفقد الأمل في محاولاته الخاسرة الأولى، فالفشل هو أولى عتبات النجاح. حيث صرّح بذلك في مذكّراته:

“حقد الأتراك كان يولّد فيَّ العشقَ والسعي نحو الهدف”(1).

الوطن بالنسبة إليه مرجٌ أخضر يدحرج عليه كل أمانيه المكبوتة في الطفولة والصبا، فكانت قضبان السجن وسِهام الغدّارين، الذين حاولوا أن يبيعوا ذلك المرج بثمنٍ بخس، هي الفدية التي تحمّل دفع ثمنها بكلّ جَسارة.

وكانت الثورة على الظلم لتحرير الوطن هو الهدف الذي صوّب إليه كلّ رماح كفاحه في ميدان المواجهة حتى لو كلّفه ذلك حياته. فالوطن عنده هو الأب الراعي الحنون الذي يرتبط اسمه ونَسبه به مهما بَعُدَ عنه، ذلك الأب الذي حُرِم منه وهو لايزال غُصناً غَضّاً ولم يتسنَّ له أن يمرّغ رأسه في حضنه كفايةً ليشتمّ منه عبق الأمان والحريّة، ولذلك فالسؤال الذي كان يراوده دائماً:

“هل الوطن بحاجة إلى ثورة؟!” (2)

والإجابة على هذا السؤال كانت، بالنسبة إليه، محسومة ولا تحتاج إلى توضيح أو تفسير لأنّه ظلّ متمسّكاً بوطنه ومستعدّاً بكلّ ما أوتيَ من حبٍّ وعزمٍ للتضحية بكلّ الوسائل الماديّة والمعنويّة من أجله، إلى أن اضطرَّ إلى مغادرته متألّماً ليجنِّب ذويه وملّته خطر السلطات التركية الحاقدة، أملاً بعودةٍ مكلّلةٍ برفع راية النصر عالياً له ولأولاده وأحفاده ولكلّ الأوفياء أمثاله، لتحرير هذا الوطن من رجسها لإيمانه بعدالة قضيّته وتمسّكه بها.

غادر البقعة الأخيرة لموطن آبائه وأجداده بقلبٍ عليلٍ في ليلةٍ مجرّدةٍ من الزمن يجرّ ورائه، متثاقلاً، نشيج ألمه لذلك الفراق الاضطراري، غادرها وغشاوة الحزن تملأ عينيه وتلاحقه روائح تلك البقاع النائحة التي أَلِفتْهُ، دون أن يفكّر في الالتفات إليها لئلا يتردّد في المغادرة ويعود أدراجه كي يرتمي في أحضانها ويسرح في حنانها كونها حملته بين ذراعيها، وتلك التلال التي دلّلته وأصعدته على أكتافها، والجداول والأنهار التي أغدقته بعذوبتها فزخرتْ بضحكاته وهو يترك على ضفافها مفردات تيمّنه بها.

غادر الوطن وهو يحمل في جعابه آثار الوجع من غدر الضعفاء المتخاذلين ممّن كانوا يرافقونه، ولكنّه لم يكدْ ينجو من أغلال العدوّ التركي حتى وقع في شباك العدوّ العربي والفرنسي والإنكليزي. فتآلف متجلّداً، ودون أن تَلن عزيمته، مع قضبان السجن وزعيق أبوابه وصرير أقفاله وخرائط سياط السجّانين المنقوشة على جسده والتي اعتبرها وثائق ترشده إلى طريق الانعتاق المعهود، وكلّما تخيّلَ رفع راية كردستان عالياً في سماء الحرية، انهارت جدران سجنه، وجاوزتْ روحه الطليقة المِحن بقلبِ مقدامٍ متسلّحاً بالإيمان والصبر لبلوغ لهدف.

غدا شمعةً مضاءةً تحترق لتنير، لرفاق دربه في السجن، طريقَ الأمل والتفاؤل بابتسامته المتواضعة والسّخيّة ومعنوياته العالية، فكان لهم الأب والأخ والصديق. لم يكتفِ بالنضال السياسي لتحرير رفاقه وأبناء جلدته من أسر اليأس، بل وجد في التحرّر الفكري والثقافي وسيلةً لإثبات وجود ملّته وشعبه وقضيّته، فسخّر نفسه بكلّ رضىً وقناعة ليكون جسراً ثقافيّاً يعبرُ من خلاله كلّ كرديٍّ إلى الضفّة الأخرى للوجود بتعليمه اللغة الكرديّة (قراءةً وكتابةً)، فيزرع في نفس تلامذته عشق الأم (اللغة) كي يرضع من لِبانها حفاظاً على هويّته وانتمائه لئلا تُذريها عواصف أعداء الأمّة الكردية.

وكان أولاده وأفراد أسرته متساوين عنده مع غيرهم من تلامذته في المعزّة والمقدرة، فقد علّم أولاده كيفيّة التحليق في سماء الحريّة ليكونوا قادرين على بناء أعشاشهم الكرديّة أينما حطّوا لإثبات هويّتهم الكرديّة ولا تأخذهم بذلك تلكّؤ أو مساومة أو مهادنة. لذلك آثرنا أن نلتقي بهؤلاء التلامذة المقرّبين في حواراتٍ عبر أثير الشاشات الزرقاء، ونقرّب المسافات الطويلة خلال أسطر هذا البحث لنرسّخ نضال هذه الشخصيّة في ذاكرة أبناء شعبه، ليجسِّدوا قيمه وقيم أمثاله في الكفاح والبسالة والتفاني.

 

ثانياً: حوارات

الجزء الأوّل: هنگور أوسمان صبري Hingûr Osman Sebrî

أوسمان صبري مع ابنته هنكور في صيف عام 1993 قبل وفاته بشهرين
أوسمان صبري مع ابنته هنكور في صيف عام 1993 قبل وفاته بشهرين

المحيط الأُسري هو الأقرب إلى روح الإنسان وتفاصيل حياته الدقيقة، والمرأة، غالباً، ما تكون الأكثر حناناً ورأفةً من الرجل بالنسبة إليه ولا سيما إن كانت ابنة، فتصبح وعاءً يُدلي فيه كلّ ما يعتريه من ألمٍ ومعاناة.
رغم أنّ المرأة كانت غائبة في مذكّرات (آبو أوسمان) والتي كتبها منذ ولادته وتوقّف عند عام 1931، حيث لم يأتِ على ذِكر والدته أو أخواته أو زوجته التي هي ابنة عمّه شكري الذي زوّجه إيّاها وهو لم يقوَ عُودُه بعدْ في السابعة عشر من عمره في خريف عام 1922، وأنجبت له عام 1923 ابناً أسماه ( وَلاتو:Welato ): أي الوطن.

 

أوسمان صبري مع ابنه الصغير هفال وزوجته شادية
أوسمان صبري مع ابنه الصغير هفال وزوجته شادية

شادية رجب دوغوط تزوّجها في عام 1943، بعد وفاة زوجته الأولى، والتي لقّبها بـ (وجه الخير) لتحمّلها قساوة الحياة معه بابتسامتها راضيةً وقانعة، فأنجبت له ثلاثة أبناء هم (هوشنگ، هوشين، هفال: Hoşeng, Hoşîn, Heval)، كما أنجبت له ابنتان أيضاً هما (هنگور، هيفي: Hingûr, Hêvî).

فرغم عدم ذكره للمرأة، وإشارته لنساء أسرته بــ (عائلتي) دون ذِكر الأسماء أو العدد كتقليدٍ للعائلة المُحافِظة بعدم كشف النقاب عن حرم الأسرة (المحرم)؛ إلا أنّه كان يكنّ للمرأة الودَّ والاحترام ولا سيما إنْ كانت تتصف بسمات التضحية والشجاعة ككلّ كرديٍّ يُجلُّ المرأة ويعتبرها عمود البيت وأساسه في غيابه لتحمّل المهام الجِسيمة.

هنگور (Hingûr)، هي الابنة الثالثة من حيث ترتيب الأولاد من زوجته الشركسيّة، ولكنّها الابنة الأولى، عايشت حياة والدها وهواجسه وتجسّدت أمانيه في شخصيتها، ورثتْ من والدها حبّ الوطن: كردستان والإخلاص له والتمسّك به مهما قلّ عنها أوكسجين الأمل في أجواء الحياة الخانقة كي يبقى يخضور الوطنية نديّاً غضّاً في حياتها.
وهي من مواليد (1948) تقيم في أستوكهولم عاصمة مملكة السويد، وأمٌّ لأربعة أولاد، ابنتان: (هيفرون، نرمين، Hîvron, Nermîn) وابنان:( لوند، سيامند Lewend, Sîyamend ).

بالرغم من صقيع ثلوج هذا البلد الذي تقيم فيه وما يلفح روحها من برودة تلك القارة القطبيّة، ورغم قلبها العليل الخفّاق بالحبّ والحنان والذي أرهقته السنون؛ فإنّها تسردُ لنا وبمشاعرٍ جيّاشة محمومة بعضاً من تفاصيل دقيقة بكلّ تأنٍ عن حياة والدها، وهي تدخل مدينة ذاكرتها دون جواز سفر وتجوب أزقّتها وشوارعها لتلملمَ مناقب ومآثر والدها وتضعها في سِلال حنينها، ثم تعود لتعلّقها على جدران متحف الذاكرة الكرديّة، ليتسنّى لكلّ زائرٍ التعرّف عن قرب على هذه الشخصيّة النضاليّة، مع أنّي شعرتُ بأنّها كانت تكابِرُ مقاوِمَةً النحيب بابتسامةٍ وقورة ملؤها الوجع، لتحافظ على الرّصانة التي ينبغي أن تتّصف بها ابنة مكافحٍ كرديٍّ مخضرم.

لم يردعها رادعٌ عن ذِكر الحقائق بكلّ دقّة لتكون تصريحاتها وثيقةً ثرّة للأجيال التي تجهل سيرة هذه الشخصيّة، الذي منح القضيّة ما يمتلك من ثرواته الماديّة التي كانت تمتلكها عائلته وعشيرته (عشيرة مرديس) فضلاً عن ثرواته المعنوية من حبٍّ ووفاءٍ وتضحيّة تفانياّ في سبيل تحرير كردستان.

استطعتُ أن أشيح عن وجه (هنگور) ستار الحزن الذي كانت قد أسدلَتْه عندما عرضتُ عليها فكرة تزويدي بالمعلومات والوثائق والصور، لكتابة بحثٍ عن (أوسمان صبري) كسياسيٍّ كرديٍّ مكافح وشاعرٍ وإنسان؛ رحّبتْ بالفكرة كثيراً، ووجدتْ ضرورةً ماسّة في تسليط الضوء على الشخصيّات الكردية التي ناضلت من أجل تحرير كردستان، ليكون ذلك الضوء شعلةً تقتدي بها الأجيال من جهة، ومن جهة أخرى كي تعود أسماؤهم الغائبة أو المغيّبة لتأخذ حقّها الطبيعي في التأريخ والذاكرة الكرديين، وألّا تتعرّض لتلف النسيان. كما وشجّعتْ بأن تكون هذه الدراسات والأبحاث مكتوبةً بكافة لغات العالم لتعريفهم بأهميّة الكرد وعدالة قضيّتهم ككلّ شعوب العالم التي لها الحقّ في تقرير مصيرها بنفسها.

فجلوسي معها على ضفافِ حوارٍ دفّاق، جعلني أنتعش بجماليّة الحياة وشفافيتها وقيمتها العذبة:

1 – بصفتكِ الابنة الأولى لــ أوسمان صبري، هل لكِ أن تعرّفينا عن قرب بشخصيّة أوسمان صبري السياسي والكاتب والإنسان؟

إنّ استقامة الأخلاق والشعور بالواجب والتمسّك الشديد بمبادئ الحق والعدالة رغم الصعاب، والشجاعة وجرأة الدفاع عن الحقيقة وصراحة الفكر والاستماع لآراء الغير والاعتزاز بالوطن والأرض تعتبر من أبرز خصال والدي أوسمان صبري.

كان ديمقراطيّاً يعمل لأجل أبناء شعبه ولأجل مجتمعٍ كرديٍّ محرّرٍ من الإقطاعيّة والعشائريّة والتعصّب الديني والاستغلال.

لعلّ هذه الصفات ساعدته على تحمّل عبء النضال، وهي أيضاً التي ساقتهُ لترك مزاولة العمل السياسي بالمعنى الحزبي منذ عام 1969 بعد انقسام الحزب (الحزب الديمقراطي الكردستاني) والذي كان أميناً له، إلى أحزاب.
كما وتنعكس صفاته هذه في نتاجاته الأدبيّة، فكتاباته الشعريّة في مجلّة (Bahoz) تزخر بالهيام بالوطن وتنادي بتحرير كردستان، ومقالاته التي نشرها في (Hawar)وسلسلة (Derdê me) تعالج مشاكل المجتمع الكردي، وسلسلة قصصه في كتابه (Çar Leheng) تشير إلى بطولات الكرد دفاعاً عن كردستان وفي سبيل الحرية، وله العديد من الأبحاث اللغويّة، وكان حريصاً على إتقان اللغة الكرديّة التي كتب بها ملا جزيري وأحمد خاني، والمحافظة عليها ككنزٍ ثمين وأداة للتعبير عن الثقافة الكرديّة التي وصلتنا كتراثٍ من الأجداد. وقد ساهم في وضع الأبجديّة اللاتينيّة إلى جانب الأمير جلادت بدرخان واستخدمها في نتاجه الأدبي.

2 – أوسمان صبري عاش في محيطٍ اجتماعيّ متمسّك بالعادات والتقاليد العشائريّة التي تحقّق الترابط بين أفراد العشيرة من منطلق (الواحد في سبيل الكُلّ والكُلّ في سبيل الواحد)، كيف انعكس ذلك على سلوكه وشخصيّته

يقول الوالد في مذكّراته:
” كان عمّي شكري يترأس زعامة العشيرة وكنتُ مرتاحاً جدّاً له، وكنتُ أتمنّى أن أكون مثل والدي وعمّي في كلّ شيء، أقدّم الخدمات للعشيرة، وكان عمّي يحبّني كثيراً وهو مقتنع بأنّني سآخذ مكانه ومكان والدي بين العشيرة، ولكن بعد ذلك حدثت حادثة جعلتني أكره كلّ شيء حتّى الزعامة، بل وأحارب جاهداً ألا أكون مسؤولاً عن العشيرة، وقد حدث هذا التغيير من قِبل (إسماعيل أفندي) أستاذي في المدرسة الإعداديّة، فقد فتح هذا الرجل عينيّ على النظام القديم وأثّر فيَّ تأثيراً كبيراً، وكان يشرح لي بإسهاب عيوب هذا النظام العَفِن الذي كنتُ أنا جزءاً منه، تلك العيوب التي لا تُعد ولا تُحصى، واستطاع أن يغيّر أفكاري خلال وقتٍ قصير بأسلوبٍ ممتع، تلك الأفكار التي كنتُ أراها سابقاً جديرةً بالرجال وأصبحتُ أخجل منها عند سماعها، ولم أكن أرفض النظام القديم فحسب بل كنتُ أحاربه بضراوة، فعندما يدرك المرء في نهاية المطاف أنّه كان مخدوعاً بشيءٍ ما، فإنّه لا يتخلّى عن تلك الأشياء فحسب بل يكرهها ويحاربها، وهذا ما حدث معي عندما اكتشفتُ أنّني خُدعت بالنظام القديم واهتديت إلى الطريق الصحيح وحاربتُ الأفكار الحمقاء بكافة السّبل”.(3)

3 – تزوّجتْ والدة أوسمان صبري بعمه شكري بعد وفاة والده، باعتقادك، أنّه حين تتزوّج الأم من شخص آخر، إلى أيّ مدى يمكن أن يؤثّر وجود عنصرٍ جديد في العائلة على نفسيّة الإنسان وطباعه؟

هذا السؤال يحتاج إلى صفحات للإجابة عنها، أمّا بالنسبة للوالد لا يمكنني التكلّم والشرح عنه بهذا الصدد لأنّ ما أعرفه أنّ والدي كان يحبُّ عمه شكري كثيراً وهو الذي وافق على زواج أمّه به.

4 – الوالد كان شغوفاً بالصيد والفروسيّة في صباه، هل كان يسرد لكم مغامراته عنهما أو عن طفولته القصيرة أو عن دراسته التي لم يستطع إتمامها بسبب زواجه المبكّر؟

يقول والدي:
“عندما توفي أبي في ربيع عام 1915 توفي أستاذي أيضاً لانتشار مرض التيفوئيد في البلاد، ولم ترسل الحكومة أستاذاً للمدرسة لذلك خسرتُ سنتين دراسيتين فالتجأتُ لهواياتي، ركوب الخيل والصيد والرماية وبرعتُ فيهما وكنتُ الأوّل على الجميع حتى أصبحتُ أفتخرُ بنفسي، وفي نهاية عام 1917 حصلتُ على الشهادة الابتدائيّة في قريتي نارنجة وفي عام 1920 حصلتُ على الشهادة الإعدادية من المدرسة الرشاديّة في مدينة كاخته، وتزوّجتُ في خريف عام 1922 وكنتُ في السابعة عشرة من عمري، وبعد سنة من الزواج رُزقتُ بطفلٍ أسميتُه (ولاتو)، ورغم ضعف جسمي وصغر سنّي فقد قطعتُ مرحلة الطفولة ودخلتُ طور الرجال”(4).

5 – عشتِ أنت وأخوتك وأخواتك في بيئة سياسيّة وثقافيّة، ما الذي تتذكّرينه من تلك البيئة ومدى تأثيرها على شخصيتك، وما الحدث الذي بقي عالقاً بذاكرتك ولم تستطيعي نسيانه؟

أنهيتُ العام العاشر من عمري في عام 1958، وبدأتُ أدركُ ما يحصل حولي من أمور، كنّا نسكنُ في منزلٍ صغيرٍ للغاية في منطقة الصالحية (شيخ محي الدين) بدمشق، والمنزل عبارة عن فناءٍ صغير فيه غرفة ومنتفعاتها، وفيه درجٌ يفضي إلى غرفتين صغيرتين في الأعلى، وكنّا أنا وأختي هيفي (Hêvî ) نذهب إلى المدرسة الابتدائيّة، مدرسة (ليلى الأخيليّة) التي كانت مديرتها آنذاك السيّدة (روشن بدرخان)، وكان عددُنا في البيت كبيراً (والدي ووالدتي ونحن الأخوة الخمسة وعمّتي حوريّة وكَوي ابنة عمّي شوكت)، والمنطقة التي نسكنها كانت تضمُّ العرب الشاميين والفلسطينيين، فقد كنّا العائلة الكرديّة الوحيدة في الحيّ.

ورغم صغر مساحة منزلنا وخاصةً غرفة الجلوس، كان يزورنا الكثير من أصدقاء الوالد السياسيين منهم الدكتور نور الدين زازا ذو الوجه الضحوك والصوت الجميل، فقد كان يغنّي لنا أغاني قوميّة وعاطفيّة، وقد احتفلنا أول عيد نوروز في منزل نور الدين زازا عام 1956-1957 وحضرنا الحفل أنا وأخي هوشين إلى جانب حضور باقي الأصدقاء السياسيين في الحزب.

كما لن أنسى أبداً ذلك اليوم المصادف في الثاني عشر من آب من عام 1960، كنّا قد سافرنا أنا وأمي وأخي هوشنگ لزيارة أهل والدتي في مدينة القنيطرة، والتي كان معظم سكانها من الشركس، وقضينا عدّة أيّام هناك، ولدى عودتنا إلى البيت وجدنا سيارة مخابرات مرصوفة إلى جانب الشارع وفيها يجلس السائق فقط، وما أن اقتربنا من باب البيت حتى وجدنا والدي يسوقه شرطيان إلى الخارج، كانت صدفةً غريبة من نوعها حيث وَدّعَنا الوالد بصلابة وسحابة الحزن تمطر وجوهنا، فقد كان يقول بصوتٍ عالٍ ليشّدّ أَزْرَنا:

” لا تخافوا ولا تقلقوا وكونوا أقوياء”(5).

تمتمَ ببضع كلماتٍ مع والدتي ثمّ اختفى عن الأنظار في السيارة التي اقتاده بها الأمن، كانت أول مرةً في حياتي أجِدُ والدي مقبوضاً عليه، اعتُقل والدي وكان (سكرتيراً للپارتي: الحزب الديمقراطي الكردستاني) آنذاك؛ واعتُقل معه رفاقه الدكتور نور الدين زازا (رئيس الپارتي) والأستاذ رشيد حمو (عضو اللجنة المركزيّة) والأستاذ شوكت حنان(عضو اللجنة المركزيّة) أيضاً.

حُوِّل الوالد وأصدقاؤه في حزب الپارتي إلى سجن المزّة العسكري والذي كان يقع على مرتفع جبليٍّ عالٍ جداً، وكنّا نستقلُّ، مضطّرين، سيارةَ أجرة خاصّة لزيارة الوالد وأصدقائه. ومن هناك حوِّل ثانيةً إلى سجن القلعة لقضاء عام ونصف فيه.

في هذه الأثناء وفي نهاية عام 1960 تركنا بيتنا الصغير الذي كان كعلبة كرتونٍ وانتقلنا إلى بيت في حارة الأكراد(6)، وكانت جدّتي (والدة أمي) ووالدتي قد ورثتا من ميراث جدّي (والد أمي) حصّتهما، فاشترينا منزلاً مؤلّفاً من ثلاث غرف لا بأس بمساحته، ولكن كانت بدون أبواب ونوافذ، وحاولت جدّتي تجهيز الغرفة الكبيرة وحصّنت البيت ببابٍ محكم وثلاث نوافذ وهكذا عشنا كلّنا في غرفةٍ واحدة، وبدأت جدّتي بسحب خط الماء والكهرباء بعد أن قضينا شهوراً بلا ماء ولا كهرباء، نشتري الماء ونستعمل لمبة الكاز، ثمّ انتقلنا إلى مدارس في منطقة الكُرد.

وما يتعلّق بزيارة الوالد كان أخوَيَّ هوشنگ وهوشين يزوران الوالد أيام الجُمع، وكانت الوالدة تصطحبنا (أنا وأختي هيفي وابنة عمي كَوي) لنزور والدي أسبوعيّاً كلّ ثلاثاء بعد أن نأخذ الإذن من مديرة المدرسة، والتي كانت كرديّة الأصل، وكانت تسمح لنا بالغياب عن المدرسة ثلاث ساعات من كلّ أسبوع.

وفي زيارتنا للوالد أسبوعيّاً كان يُجهّز كرسي صغير للوالدة لتجلس عليه، وكان يستقبلنا بابتسامةٍ عريضة مرتدياً أجمل ما عنده من ثياب لمقابلتنا، وفي كلّ مرّة كان يردّد الجمل نفسها تقريباً:

“كونوا مطيعين للوالدة، لا تنسوا أن تتكلموا بلغتكم، ادرسوا جيّداً لتؤمّنوا على مستقبلكم”(7).

6 – أتممتم تعليمكم بجدارة رغم الظروف الماديّة السيّئة للعائلة، واهتممتم بالعلم بمستويات عالية، أكان ما أورثكم إيّاه الوالد من ثقافةٍ وحبٍّ للعلم، له الدور في ذلك؟

منذ نعومة أظفاري كنتُ أجدُ بعض الكتب منتشرة هنا وهناك ولا أستطيع أن أقول أنّه كنّا نملك مكتبة، وإنّما كنّا نملك كتباً لا حصر لها وتشمل مواضيع كثيرة لكلّ جوانب ومناحي الحياة في السياسة والفلسفة والمجتمع والدّين واللغة والأدب والمعرفة، وكان من بيننا نحن الأخوة الستّة أخي الكبير هوشنگ وأختي الصغيرة هيفي مولعَين بالمطالعة وقراءة الكتب مثل والدي ولا سيما هوشنگ الذي كان يحمل الكتاب حتى وهو يأكل.

كان والدي يحبُّ العلم والمعرفة جدّاً ويحثّنا على القراءة والمطالعة من كلّ أصنافها. وأحياناً كان يقرأ بعض الكتب، ويطلب منّا قراءة بعض المواضيع الاجتماعيّة الفكرية وحتّى الفلسفيّة بعد أن يكون قد قرأها هو بذاته.
كانت لنا معه جلسات انفراديّة، حيث نتناقش الأوضاع الاجتماعيّة والثقافيّة والفكريّة أمّا عن الأوضاع السياسيّة لم يكن يناقشنا أبداً، وقد كانت النصائح والإرشادات مكثّفة ومتتالية، لأنّه كان على يقينٍ بأنّه وإن تسنّى له بأن يكون معنا اليوم، ولكنّه لن يكون معنا في الغد، فإمّا يكون مطارداً أو منفيّاً أو معتقلاً أو متوفياً.

كنّا نقضي معه أوقاتاً حلوة ولا سيما عندما كان يدرّسنا لغتنا الكرديّة (الكرمانجيّة) ولا يمكنني أن أقول لغة الأم، لأنّ لغة أمّي كانت شركسيّة وكانت تكلّمنا بالشركسيّة لعدم اتقانها العربيّة ولأنّ أكثر أقربائنا كانوا من أهل أمّي، أمّا عن باقي الزوّار فقد كانوا من أصدقاء وطلاب الوالد. بيتنا كان كالمدرسة المصغّرة نستقبل فيها طلاب قبل الظهر ثم يأتي دورنا نحن البنات الثلاثة وطلاب بعض الظهر وأحياناً طلاب كبار السّن في المساء.

رغم تقدّم عمره وتعب جسمه وضعف قوّته التي تلقّاها من أيام السجون والغرف المعتمة، فقد كان سعيداً جدّاً بوجود الطلّاب والرّفاق، وعندما كان يناقش الوضع السياسي العام ووضع حزب الپارتي كان صوته يرتفع رويداً رويداً يتألّم من وضع بعض رفاقه المتخاذلين أو الذين يعملون لصالح السلطة والمخابرات.

7 – ماهي طبيعة العلاقة التي تربط هنگور بوالدها غير علاقة الأبوّة، هل هي علاقة معلّم وتلميذة أم صديق وصديقة؟

أمّا عن طبيعة العلاقة التي تربطني بوالدي فقد كانت جيّدةً جدّاً، كان يقول لي: “أنت تشبهين شخصين عزيزين في حياتي، أولهما أمكِ شادية وثانيهما عمتكِ أمينة” (8).

كان معلّمي الرائع في تعليم اللغة وفي النصائح والإرشادات، حبّه للبنات كان يفوق حبّه للأولاد، الأمر الذي جعلنا غالباً نسعى لنغترف أكثر من دلاله. وكان يحبّ أمّي كثيراً ويحترمها أكثر لأنّها ربّتنا وتعبت علينا في غيابه، ووالدتي كانت تقول لنا: (إن كنتم تريدون أن يرضى عنكم والدكم فادرسوا وتفوّقوا في دراستكم). وهذا الكلام كان موجّهاً إليَّ أكثر منهم، لأنّي كنتُ مقصّرة في دراستي ورسبتُ مرّتين في المرحلة الإعداديّة ومرّة في المرحلة الثانويّة أيضاً.
كانت والدتي هي المثل الأعلى عنده بعد أمّه، ولقّبها بـ (وجه الخير) لأنّها ورغم صعوبة الحياة والمسؤوليات الكبيرة التي كانت تتحمّلها يظلُّ وجهها مبتسماً دائماً، كان يتكلّم عن والدته الشجاعة والقويّة والتي تحمّلت مسؤوليّة العشيرة مع عمّه شكري بعد وفاة والده.

8 – مَن كان الأقرب إليه من بين أولاده ويجدّ متعةً في مجالسته أكثر؟

كان الوالد يجالسنا جميعاً كلّ واحد على انفراد، وكنّا كما ذكرتُ لكِ سابقاً، نحن البنات لنا حظوةً في قلبه، ولكن بدون شكّ كان يفتخر بأخي الكبير هوشنگ، لرفضه السفر إلى أوروپا لإتمام الدراسة، والذي كان حينذاك يدرس الفلسفة وعلم النفس في جامعة دمشق، فأصرّ أن يقف مع الوالد ويسانده في مسيرته النضاليّة، ورغم التعذيب القاسي الذي ذاقه أخي وأمام عين والدي ظلّ هوشنگ صامداً لم ينطق بكلمةٍ واحدة ولم يتخاذل وبقي مرفوع الرأس، الأمر الذي جعل والدي يفتخر به ونحن كذلك، ولكنّه وبعد أن جُرِّد من الجنسيّة السوريّة اضطرّ لمغادرة البلاد إلى ألمانيا للعمل ومساعدة الأهل اقتصاديّاً وتقديم الدعم المادي للأهل والأقارب والمحتاجين، ولم يتردّد في متابعة دراسته وحصل على دبلوم في الصيدلة وفتح صيدليّة في قلب العاصمة برلين منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ورغم أنّه قارب الـ 75 عاماً فإنّه مازال يعمل، ويكمل في الوقت ذاته مسيرة الوالد النضاليّة قدر المستطاع، وهو متزوّج من قريبته الشركسيّة (ناهدة كغدو) ولهما ولدان: (سيدار Sîdar، شادي Şadî).

والدي كان معروفاً بحبّه للأولاد حتى أنّه كان يستضيف أولاد الحيّ من الكرد ويدلّلهم، وقد كتب شعراً عن ابن الجيران واسمه (محمد خير) ولقّبه في القصيدة بــ (محمد شير) وهذه القصيدة موجودة في ديوانه، وكتب عدّة أشعارٍ بمناسبة عيد ميلاد أولادي الأربعة ومناسباتٍ أخرى، أعجز عن وصفِ حبّه للأولاد، فقد كان سخيّاً بحبّه لنا، نحن أولاده الخمسة بالإضافة إلى ابنة عمّنا كَوي، باختصار كان قلبه يفيضُ حناناً وحبّاً.

9 – هل كان الوالد يتدخّل في اختياراتكم للدراسة أو الزواج، هل كان صارماً في التعامل مع أفراد أسرته في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالعائلة كصرامته في القضايا السياسيّة؟

كان والدي مثل أيّ أبٍ يخاف علينا ويفكّر بمستقبلنا في وجوده معنا وأثناء غيابه عنّا في السجن أو المنفى، كانت يُبدي ملاحظاته ويقدّم نصائحه وإرشاداته لنا عند مقابلتنا أو إرسالها في رسالةٍ خاصّةٍ إذا كان الوضع جادّاً، ورأيه طبعاً كان صائباً في كثير من الأحيان، ولكن لم يكن يُجبرنا على شيء أبداً فيما يتعلّق بالدراسة أو الزواج، بل كان يحاول إقناعنا برأيه بوضوح إذا كان الموضوع مصيريّاً ويترك لنا حريّة اتخاذ القرار.

10 – اعتُقل الوالد مرّات عديدة في تركيا وسورية والعراق ولبنان وتعرّض للنفي، وسُجن مع رفيق النضال الدكتور نور الدين زازا وآخرين في سورية؟ فهل كانت ظروف السجن والقهر تصقل عزيمته بعد خروجه أم كانت تؤثّر سلباً على استمراريته في النضال؟

كان والدي يؤمن بما يقوم به من نضال تجاه شعبه ووطنه، وكان قد عاهد نفسه وعمّه شكري بأنّه سيسير على طريق النضال نفسه. ومن أقواله:
” إنّ ثالوث الفقر والسجن والموت يجب أن يكون أمام أعين المناضلين في نضالهم الوطني والتحرري، وإنّ أصعبه وأقساه: الفقر ثمّ يأتي السجن ثمّ الموت، وعلى المناضلين أن يمرّوا بهذا الثالوث بجرأة وصمود”(9).
فقد تحدّى الوالد تلك المراحل كلّها وانتصر عليها، حيث مرَّ بالفقر الشديد رغم أنّه كان ينحدر من عائلة غنيّة ولم يذق طعم الفقر إلا حين اختار طريق النضال، وجابَهَ قساوة السجن بصلابة، ولم يخف من الموت أبداً، حيث قال:
” التضحية هي معيارنا لمستوى الوطنيّة”(10).

كانت معنوياته عالية وقويّةً جدّاً ولم أسمع يوماً أنّه اشتكى، بل على العكس كان فخوراً بما يقدّم ويفعل. لقد تأثّر بمعلّمه (إسماعيل أفندي)، واتّخذ من عمّيه شكري ونوري ومن الشهيد الشيخ سعيد پيران ورفاقه الأشاوس قدوةّ له في البطولة والفداء ولا سيما عند وقوفهم أمام المحكمة وأمام أعواد المشانق بصلابة، كانوا كلّهم أمثلة له في حياته النضاليّة، وقد تركتْ مواقفهم البطوليّة آثاراً عميقة في ذاته ظلّت تلازمه طيلة حياته.

لذا كان صادقاً وصارماً في مبادئه ولا يحيد عنها قيد أنملة، ولا يساوم عليها أو يتراجع عنها مهما كلّفت التضحيات، وقد عاش لأجلها وسخّر حياته لخدمتها وذاق الأَمرّين وسُجن ثماني عشر مرّة ونُفي ثلاث مرّات، ومع ذلك لم يأبه بكلّ ذلك، بل استمرّ في حضِّ رفاقه على النضال والسّير على هذا الدّرب دون كلل أو ملل.

11 – هناك شخصيّات كرديّة كثيرة مرّت بحياة آبو أوسمان صبري ممن شاركوه في النضال السياسي، باعتقادك، أيٍّ من الشخصيّات تركت بصمةً أكثر تأثيراً في حياته؟ ولِمَ؟

سأخبركِ أولاً بالشخصيّات العالميّة التي أُعجب والدي وتأثّر بها:
أوّلهم المهاتما غاندي، روح الهند العظيم الذي حرّر بلاده باللاعنف ودافع عن أدنى طبقات شعبه فقراً.
وثانيهم فلاديمير لينين مفجّر ثورة أكتوبر عام 1905 والذي عمل على تحرير العمال والفلاحين من الظلم، وآخرهم أبراهام لنكولن وكان الوالد يعتبره أهم رئيس أمريكي لأنّه حرّر العبيد.

أمّا بالنسبة لأصدقائه، فقد كان للوالد ثلاث أصدقاء أتذكّرهم جيّداً، كانوا في البداية طلابه يتعلّمون اللغة الكرديّة على يديه كتابةً وقراءة، ومنهم:
الأستاذ (عزّت فلو) كان معلّماً يدرّس المرحلة الابتدائيّة وكان رجلاً وطنيّاً مخلصاً وقد ساعدنا كثيراً في غياب والدي وله معزّة خاصّة عندنا وعند الوالد، والثاني: الأستاذ (راشد جلعو) كان معلّماً أيضاً ثمّ ترقّى في عمله وأصبح مدير مدرسة وبعدها أصبح مفتّشاً تربويّاً على المدارس ومن صفاته الهدوء والطِيبة، كنتُ أسمع ضحكاتهم تملأ حَوْش الدار حين كان هو والأستاذ عزّت يزوران الوالد، والثالث الأستاذ رشيد شيخ الشباب، كان معلماً أيضاً وكان يزور الوالد بين فترة وأخرى، دامت صداقتهم كأخوة أكثر من ثلاثين عاماً، رحمهم الله جميعاً.

12 – يُقال: “كلُّ فتاةٍ بأبيها مُعجبة”، ما مقولة أبيك التي أثّرت في شخصيتك أكثر وجعلتكِ تتّخذينها بساطاً أخضر لحياتك؟

هناك الكثير من الأقوال التي قالها الوالد وردّدها أكثر من مرّة، ومنها:

“مهما كان الإنسان متعلّماً يظلُّ بحاجة إلى التعلّم، ومهما كان ذكيّاً يظلُّ بحاجة إلى المشورة، ومهما كان معتركاً الحياة يظلُّ بحاجة إلى تجربةٍ وخبرة”(11).

تعلّمتُ منه الصدق والتضحية والصبر والإرادة القويّة في الظروف الصعبة وكذلك قول كلمة الحق والصراحة والإصغاء للآخرين ومساعدة الفقراء والمحتاجين، والأهم الالتزام بالمواعيد والوصول إلى الموعد قبله بدقائق. وكنتُ ألتزم بكلّ أقواله ونصائحه التي تعلّمتها منه بقناعة تامّة، ومنها قوله:

“أبغض شيءٍ عندي في الوجود، الكذب الذي يؤدّي إلى فساد الأخلاق وانهيار المجتمع”(12).

13 – الأميرة والأديبة روشن بدرخان ورثتْ من والدها وزوجها الكثير لخدمة القضيّة الكرديّة، ماذا ورثت هنگور أوسمان صبري من والدها لتخطو خطوه في السياسة والأدب؟

أنا إنسانة وطنيّة أحبُّ قوميتي ولغتي جدّاً ولم أرث من الوالد العمل السياسي أو الأدبي، ولكنّي وبقدراتي الضئيلة استطعتُ أن أخدم الجالية الكرديّة في السّويد أثناء عملي كمترجمة في جميع المجالات الاجتماعيّة، وقمتُ بتدريس طلاب وطالبات الكرد اللغة السويديّة عن طريق اللغة الأم ( اللغة الكرديّة)، وعملتُ في بعض المجالات بمساعدة العائلات الكرديّة في حلِّ أمورهم الاجتماعيّة في المدارس ودُور الحضانة. وكنتُ أوّل امرأة كرديّة عملتْ في دور الحضانة في أستوكهولم عام 1978 مع أطفال الكرد والتكلّم معهم بلغتهم الأم ( اللغة الكرديّة).

14 – كانت (كَوي) ابنة أخيه شوكت تعني له الكثير لكونها يتيمة الأب ومحرومة من الأم، وقد تعلّقت واعتنتْ به طيلة السنوات الثماني الأخيرة من حياته، حدّثينا قليلاً عن هذه العلاقة؟

علاقة (كَوي) بوالدي الذي ربّاها كانت علاقة مميّزة، فقد كان يمنحها حناناً خاصّاً تعويضاً لها عن أبيها المتوفّى (أخيه شوكت من أمّه أمينة وعمّه شكري)، وهذا الإحساس المرهف تجاهها ولحرمانها أيضاً من والدتها التي زُوِّجتْ بشخصٍ آخر من خارج العشيرة، وقد كان يناديها دائماً:
( كَوَا مِن، ديا مِن:Kewa min, Dêya min ). أختنا كَوي كانت حنونة جدّاً ضحّت كثيراً من أجل رعاية والدي بعد وفاة أمّي وفي غيابنا، وكانت تنادي والدي بـ: (Bavo) وتنادي أمّي بـ (ماما) وتنادينا بــ(أخي، أختي)، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلُّ على أنّ والدي المُربّي كان يضع نفسه مقام الأب الحقيقي، وعندما اشتدّ المرض بالوالد وبعد وفاته تزوّجت كَوي من شاب من منطقة عفرين اسمه شيخ محمد برمجة ويعيشان الآن حياة سعيدة في كاخته (Kaxte) ولديهما ابنة اسمها سولاف(Sûlav).

15 – أوسمان صبري كان يجلُّ شعبه الكردي وقوميّته الكرديّة ويضحّي لأجلهما، لِماذا تزوّج بامرأة شركسيّة ولم يتزوّج من ملّته

أخبرنا والدي عن سبب زواجه من امرأةٍ شركسيّة غير كرديّة وصوته يرتفع رويداً رويداً، قائلاً: “سألني أحد آباء رفاقنا الأثرياء: آبو، أريد أن أسألك سؤالاً، فقلتُ له تفضّل. قال: أنت تعبتَ وناضلتَ كثيراً لأجل شعبك، فلماذا لم تتزوّج فتاةً من شعبك؟ فقلتُ له: إنّ نظامنا الاجتماعي هو السبب. فقال: كيف؟ فقلتُ له: أنا لا أملك شيئاً فهل تزوّجني ابنتك، فقال: لا”! (13).

تعلّمنا من والدي الكثير، الصدق والتواضع والإخلاص والتضحية والنزاهة وعفّة النفس، لقد كان مثالاً حيّاً ونموذجاً يُقتدى بأخلاقه الحميدة. كنتُ أراه شامخاً عالياً لا يخاف أحداً إلا الله، كان عطوفاً على الفقراء والمساكين، علّمنا هو والوالدة عادة دفع الصدقات لأنّها تدفع البلاء والمصائب عن النفس.

لم تضعف عزيمته كلّ سنوات السجن التي قضاها في تركيا والعراق وسوريا وأفريقيا، ولم تؤثّر فيه سنوات الجوع والحرمان لأنّه عاهد نفسه وكذلك عمّه (شكري) على ألا يأكل إلا من خبز شعبه الفقير، ولم يتنازل عن كرامته ومبادئه قط رغم الإغراءات الماديّة التي عرضها عليه المستعمِرَيْن الفرنسي والإنكليزي، وفضّل الجهاد في سبيل حريّة شعبه، كان يقول:

“عندما آوي إلى فراشي للنوم، فإنّني كالناسك الذي يستغفر ربّه ويتلو صلاته، وأحاسب نفسي، ماذا قدّمتُ هذا اليوم من أجل شعبي”(14).

كانت غرفته التي يجلس وينام فيها كالمتحف الصغير، فبجانب سريره توجد حقيبة جلديّة تحوي كلّ أوراقه ومستلزماته الكتابيّة، وعلى جهاز التلفاز توجد صورة كبيرة للوالدة يصبح ويمسي عليها كلّ يوم، وعلى الجدار المقابل لسريره صور لأولاده وأحفاده.
وقد كتب بضع أبيّات في إطارٍ جميل، وكان يريد أن تُكتب على شاهِدة قبره، ولكن للأسف لم يتمّ ذلك، يقول فيها:

Xwe danînim bo sitem û zorê”
Divê serbilind ez biçim gorrê
Gava bi rûmet çûme goristan
“Hêjaye bibim lawê Kurdistan
(15)

هذه الأبيات القليلة المعلّقة على جدار غرفته تعرّف شخصيته تمام التعريف، بقي شجاعاً مرفوع الرأس لا يهاب الموت ولا يحني رأسه لأحد مهما تجبّر خصمه وازداد قوّة، كان يقول:

“Em leşkerên sondxwarî ne, ji bona Welat”
(16)

كان طوال حياته جنديّاً في ساحة النضال من أجل شعبه ووطنه:

“Bi qelsî kes ne bûye xwedî rûmet û şan”(17).

ومن بعض أقواله الرائعة:

Min jîn navê bindestî, her divê felat”
Canê xwe didim bi comerdî di vê rêya han
“Yan dê bighêmê, yan dimrim bi rûmet û şan
(18).

لقد رحل والدي بعد عمرٍ طويلٍ من النضال تاركاً وراءه إرثاً بطوليّاً لأولاده وأهله وشعبه الذي أخلص له وأفنى عمره في سبيله، رحل والدي جسداً ولكنّه مازال حيّاً بفكره ومبادئه، وسيبقى رمزاً ومنارةً للأجيال القادمة.

16 – خرجتِ من الوطن، بعد زواجك، إلى السويد في وقتٍ مبكّر من حياتك؟ هل كان ابتعادك عن الوالد له تأثير على علاقتكما؟

بعد زواجي غادرتُ الأهل والأصدقاء، ولكنّي لم أشعر بالوحدة في بلاد الغربة، فرسائل والدي الطويلة المفصّلة عن أوضاع البيت والجيران والأحداث السياسيّة؛ كانت سلوىً لي في غربتي ولازلتُ أحتفظُ بها، منها مكتوبة بالعربيّة وأخرى بالكرديّة حتّى أنّني أحتفظ بعدد كبير من الظروف التي أُرسلتْ بها تلك الرسائل، وكان يدلّلني ويدعوني في معظم تلك الرسائل بــ نونو: Nono: Keça min Nono, diya Lewend)).

أشتاقُ إليه كثيراً، ولديَّ في غرفة نومي صورة كبيرة لوالدي وأخرى لوالدتي ألجأ إليهما صباح مساء وأتكلّم معهما طالبةً منهما الرضا الدائم، إنّهما معي دائماً وأفتخر بهما لأنّهما كانا أبوَين مثاليّين يتّصفان بالطِيبة والاستقامة.

17 – هل فكّرتِ أنتِ أو أحد أخوتك في القيام بنشاط كرديٍّ إحياءً لمسيرة كفاح الوالد في المهجر؟ كإنشاء مدرسة لتعليم اللغة الكرديّة في السويد أو إنشاء مجلّة أو موقع إلكتروني يحمل اسم الوالد؟

أنا لم أقم بأي نشاطٍ كرديٍّ لوحدي، واشتركتُ في فترة قصيرة بالجمعيّة النسائيّة الكرديّة في السّويد، ولكن لضيق الوقت ولكثرة مسؤولياتي في تربية الأولاد لوحدي، جعلني أُسخّر كلّ وقتي لهم ومعهم.

أمّا أخوتي، فقد قام أخي الكبير هوشنگ بنشاط كردي بعد أن غادر البلاد متوجّهاً إلى ألمانيا بغية إكمال دراسته ومازال مثابراً على ذلك النشاط السياسي حتى الآن.

18 – قُتِلَ (ولاتو) الابن البِكر لأوسمان صبري عام 1970 في كاخته وهو في السابعة والأربعين من عمره على يد أبناء عمومته، حين كان راغباً في العودة لـ (كردستان تركيا) والعيش في كنف العشيرة، لا شكّ بأنّ ذلك الغدر أثّر كثيراً على الوالد، إلى أيّ حدٍّ انعكست تلك الحادثة على حياته وكتاباته، وهل كتبَ قصيدةً يُرثيه فيها؟

إنّ وفاة أخي (ولاتو) أثّرت فينا جميعاً، ومن المؤكّد أثّرت على الوالد أكثر لأنّه كان ابنه البكر والوحيد من زوجته الأولى، وكان الوالد قد حذّره من عدم السفر والعودة للوطن، ولكنّ (ولاتو) ضاقت به الدنيا وسافر، وبعد أن فُجعنا بنبأ وفاته ، تألّم الوالد كثيراً وكتب قصيدةً حزينة يُنعيه فيها، وللأسف لا أعرف أين اختفت تلك القصيدة، ولكنّه كان قد كتبَ عنه قصيدةً في عيد ميلاده الحادي عشر عام 1934في مدينة حماة السوريّة.

19 – عاصر أوسمان صبري جرائم كثيرة ارتُكِبتْ بحقّ الكرد في الأجزاء الأربعة من كردستان الكبرى، ابتداءً بإعدام الشيخ سعيد پيران ورفاقه لإخماد الثورة في كردستان تركيا والتي كان شاهداً عليها، ومروراً بإعدام القاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد (الدولة الكردية الفتيّة) في ساحة چارچرا (Çar Çira)عام 1947في كردستان إيران من قِبل السلطات الإيرانيّة، وكذلك اغتيال الشخصيّة السياسيّة الكردية عبد الرحمن قاسملو في فيينا عاصمة النمسا من قِبل المخابرات الإيرانيّة، وفاجعة حريق سينما عامودا عام 1960 التي أودت بحياة أكثر من 200 طفل كردي في كردستان سوريا، وحملات الأنفال والمقابر الجماعية وإبادة مدينة حلبجة بالغاز الكيماوي في كردستان العراق من قبل النظام العراقي عام 1988، وغيرها من الجرائم التي استهدفت الشعب الكردي والقضيّة الكرديّة العادلة.
ماذا كانت ردود فعله إزاء كلّ تلك الجرائم ومواقفه وأقواله؟ هل كان يبدي مشاعره علناً أو يكتب شيئاً عنها؟

بدون أيّ شك كانت ردود فعله غاضبة إزاء كلّ تلك الجرائم، وقد كتب بعض المقالات وكذلك الأشعار، ولكن للأسف لا أملك أيّ شيء عندي، وأكثر ما كتبه بقي في البيت في دمشق ولا يمكننا الوصول إلى تلك الكتابات، وأنا بدوري لا أعرف عنها شيئاً للأسف الشديد.

20 – عندما حكمَتْ محكمة الاستقلال التركية عام 1926 على عَمَّي أوسمان صبري (شكري ونوري) بالإعدام، وعليه بالسجن لسنوات مع عدد من رفاقه، لتضحياتهم من أجل القضيّة الكرديّة؛ حينها أوصاه عمّه شكري وصيةً قبل أن يصعد إلى منصّة الإعدام، قائلاً:
“يا بني، الدّنيا مليئةٌ بالرجال، والرجال يتغلّبون على الأعداء، إنْ أردتَ منذ الآن، فإنّك تستطيع أن تزرع في الدنيا أشياء كثيرة، امضِ في طريقك بلا وَجل وستجد دائماً إنّ الله سيساعدك”(19)
فردّ أوسمان على عمّه:
” سأثأر لك وقد أحببتُ الطريق ولن أتخلّى عنه، ولكن لا أعرف إن كنتُ أستطيع أن أقوم بعملٍ بطوليٍّ أم لا”(20).
_ عندما يرسم الإنسان هدفاً في حياته ويعجز عن تحقيقه، فإنّه يوصي أولاده بتحقيقه من بعده، ماذا كانت وصيّة أوسمان صبري لأولاده؟

من وصايا الوالد رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه:

أن نؤمن بالله تعالى، وإذا أردنا أن نعلم بوجوده وقدرته ينبغي أن ننظر إلى أنفسنا. كان يحثّنا على عدم الكذب وقول كلمة الحقّ مهما كانت النتائج، وكان يوصينا بالتكلّم بلغتنا فيقول:
“لغتنا جميلة ورقيقة وغنيّة ولكنّها كحبّات المسبحة المنثورة في عدّة غرفٍ مظلمة لا نستطيع جمعها إلا بنشر النور في هذه الغرف، وهذا النور هو الكيان السياسي المستقل لشعبنا الكردي”(21).

وكان يوصينا بأن نكون أقوياء ولا نهاب أحد ما دمنا نسير على طريق الحق، وأوصانا بالتعليم والتربية، فيقول: “تعلّموا اللغة والتربية الصحيحة وعلّموا أولادكم الاعتماد على النفس وحبّ الوطن واللغة الأم”(22).

لقد ترجم المناضل الشاعر(أوسمان صبري) وصاياه لأولاده في الوفاء للوطن أدباً وشعراً أيضاً، كوصيته لابنه (ولاتو) بمناسبة يوم ميلاده الحادي عشر في مدينة حماة السوريّة عام 1934، وهي موجودة في ديوانه: ((DÎWANA OSMAN SEBRÎ 1998 والقصيدة تتصدّرُ قسم (Dengê zarokan) من الديوان، بعنوان:(Cejnepîroziya Welato )
حيث يبدأها بأبياتٍ مؤثّرة كوالدٍ يناجي فلذّة كبده قائلاً:

Dizanim cejn e, hat îro heval û hogirên te gişk
Direvin himbêza bavan nola berxan û makan pişk
Bi vê va hevde cejnên me kuta bûn holê dûrî hev
Ko bextê reş weka termê rojên me kirine tarîşev
Te îro ne dê ye ne bav, hemî biyan stoxwarî
Tu bê qey ev ne bes bûn ko bû mîvanê te zîvarî
(23)

ثمّ ينتقل ليصبح معلّماً وقدوةً، ناصحاً إيّاه بصرامة لتقوية عزيمته وتذكيره بواجبه القومي تجاه قضيّة أمّته، ودفعه للدفاع عنها وحمايتها من غدر الأعداء دون الرأفة بهم:

Di her all ve dilteng î birînên te bê derman in
Ji bîr meke di rojên teng mêranî zirt û halan in
Tu lawê miletê Kurd î, ji bo te rojeke şayî
Heye di çerxa dinyayê wê gav ewr ê bibin sayî
Mezin be da ko wê rojê ez û tu gurmikan bi hev din
Bi pozên çapliyên devreş newal û deviyan tev din
Neyaran bikujin bê van bi carê tovên wan rakin
Welatê ko xopan bûye ji nû va şên û ava kin
Di xarin aleke rengîn di nav goran bavê min
Dê hîngê bêjim cejna te pîroz be li ser cavê min
Hema 16-1-1934
(24)

الجزء الثاني: كَوي و شيخ محمد برمجة

القسم الأول: كَوي Kewê

النضال السياسي كان يُعتبر الشريان الأبهر لحياة أوسمان صبري، وأوردته كانت تضخُّ حماساً واندفاعاً للدفاع عن القضية الوجوديّة التي كان يؤمن وينادي بها، وهذا التفاني بالنسبة لأوسمان صبري لم يكن يقتصر على التضحية في سبيل الوطن والذّود عنه فحسب، بل إنّه كان يرى بأنّ كلّ مكافحٍ لا بدّ أن يكون إنساناً أولاً قبل أن يكون سياسيّاً ومناضلاً، ولم تكن الحياة الشخصيّة التي كان عاشها سوى مرآةً لتلك القيم والمبادئ التي آمن بها وأفصح عنها لكلِّ من يستشيره فضلاً عن كونها وصايا راسخة لأولاده.

فإيمانه بأهميّة المرأة ودورها في بناء مجتمعٍ سليم كان بادياً من خلال حبّه لأفراد عائلته من النساء بدءاً بزوجته شادية ومروراً ببناته وانتهاءً بابنة أخيه كَوي التي سجّلها على قيوده وخانته.

ولشدّة تعلّقه بزوجته وإجلاله لها فقد بكاها كثيراً عندما توفّت لأنّه افتقدها بعد أن تركته وحيداً من دونها، وكان قد أوصى بأن يُدفن إلى جوارها في مقبرة (خالد النقشبندي)، معبّراً عن ذلك: “ادفنوني إلى جوار وجه الخير”(25). ولكن لم يؤخذ بوصيّته، فقد نقلَ أنصار حزب العمال الكردستاني PKK جثمانه إلى قرية بركفري (Berkevirê) ليُدفنَ في مقبرة شهدائهم في الدرباسيّة بمحافظة الحسكة.

أوسمان صبري مع ابنة أخيه كَوي في بلودان 1976
أوسمان صبري مع ابنة أخيه كَوي في بلودان 1976

ولكن خلال هذا المدّ من حياته النضاليّة، إذا أردنا أن نتعرّف عليه أكثر، فلا بدّ أن نَعبرَ الجسر الإنساني لشخصيّته.
فالطفلة الصغيرة (كَوي Kewê) التي تيتّمتْ قبل أن تبصر نور الحياة وتصرخ صرخة الولادة بأسبوعين، هي ابنة أخيه شوكت من عمّه شكري؛ حيث لفّها بحنانه وعطفه وحبّه الفائض ولم يُشعرها بأنّها أقّل تقديراً من بقيّة أولاده وبناته، وحين عرفت بأنّه ليس والدها قبل أن تبلغ التاسعة من عمرها، ولم يتغيّر شعورها تجاهه لا بل أحبّته وتعلّقت به أكثر لأنّها كانت تحظى بالكثير من اهتمامه تعويضاً لها عن حنان والدها وابتعاد أمّها عنها، كان يناديها دوماً بــ: Kewa min)) وقد أطلق عليها هذا لشدّة حبّه لطائر الحجل (Kew) وكان يناديها أيضاً بـأمّي Dêya min)) لأنّها تشبه أمّه أمينة في الحنان والصلابة والقوّة والمهارة في الطبخ.

 

بإمكاننا أن نعتبر (كَوي) الصندوق الذهبي الذي يحتوي كنوز أوسمان صبري، كونها لم تفارقه حتى لحظة وفاته، التمست أوجاعه وآلامه وساعدته على النهوض روحيّاً وجسديّاً في أكثر الأحيان، وسهرتْ على خدمته وخدمة زوّاره كواجب ابنةٍ تجاه والدها، وجالستهُ بحبٍّ وحنانٍ كبيرين كأنّما تريد أن توفي له الجزء اليسير من عطفه التي أغدقهُ عليها وهي طفلةٌ مدلّلة تضحك بشقاوة وبراءة في حضنه.

من قلب كاخته بــ(سَمسوريْ Semsorê) في كردستان تركيا حيث تستقرّ مع وزوجها شيخ محمد برمجة، التمستُ منها هذا الحوار بحرصٍ وحذرٍ شديدين لئلا أوقظ في داخلها حَجل الشوق الغافي، فتنوحُ ألماً ووجعاً لاستعادتها تلك الذكريات النازفة بعد أن كانت قد اندملت لما يزيد على عقدين من الزمن:

1- كنتِ تعنين لــ (Apo Osman) الكثير، فكنت له الأم الرؤوم والأخت الحنونة والابنة المضحّية فضلاً عن أنّك ابنة أخيه، ولأنّه عوّضك عن حنان الأب فقد كنتِ تنادينه: (Bavo)، لماذا لم يكن يناديك باسمك الحقيقي (عدالت) بل كان يناديك:( كَوا مِن: kewa min)؟

نشأتُ وترعرعتُ في كنف العائلة، أنا (كَوي عثمان صبري) ابنة المناضل والسياسي الكردي والمعرّض للاعتقال والسجن والنّفي؛ عشتُ كبقيّة أفرادها في جوٍّ من الحبّ والتفاهم، وكنتُ أعتزُّ بأبي الذي يبادلني الحبّ نفسه، وكنتُ أقدّمُ له كلّ ما يحتاجه من خدمات له ولضيوفه بكلِّ رحابة صدر، حتّى وصل به الأمر أنّه لم يقبل بأن يلبّي طلباته غيري من أكلٍ وشرب وضيافة لضيوفه، حتى قبل هجرة أولاده ووفاة زوجته شادية رحمها الله.

ولقد عرفتُ بطريق الصدفة بأنّني ابنة أخيه شوكت الذي مات قبل قدومي للحياة بأسبوعين، لقد صعقتني هذه المعلومة الجديدة للوهلة الأولى وأنا لم أبلغ التاسعة من عمري، ولكنّ ذلك لم يُبعدني عنه قيد أنملة بل زادتني حبّاً وتعلّقاً به لأنّه كان لي أباً حقيقيّاً بالإضافة إلى كونه عمّي شقيق والدي.
كان يراني أحملُ صفات والدته القويّة، صاحبة الإرادة الصلبة والطبّاخة الماهرة والمديرة الناجحة للعائلة، لأنّها بالإضافة إلى كونها الأم، فقد كانت تشغل مكان الأب أيضاً بعد وفاة زوجها صبري آغا زعيم عشيرة مرديس وتعرّضِ ابنها(أوسمان) للسجن والاعتقال.

كان يقول لي بأن حنانك يكفي لحيٍّ بأكمله حتى لمدينة، لذلك كان يناديني أمّي (dêya min)، وكان يقول بأن وجهكِ (من الفم حتّى الجبهة) يشبه والدك شوكت، وجدّكِ شكري رحمهما الله.
ولأنّه كان مولعاً بركوب الخيل والصيد وبخاصةً طير الحجل المسمّى بالكُردي (كَو Kew)، فعندما قَدِمتُ إليهم مع عمتي هوريّة، سجّلني على قيوده وخانته باسم (كَوي) نسبةً إلى اسم طائر الحجل الذي يحبّه ويعشقه، كباقي أفراد الشعب الكردي، كردستان الشماليّة بشكلٍ خاص، كما أنّه كانت هناك قصّة معروفة تُروى في بلدة (كاخته) بأنّ رجلاً مات حجلُهُ المفضّل، واسمه محمود وهو صديق عمّي، فأقام مجلس عزاء له لمدّة ثلاثة أيام على عادة أهل المنطقة حين يُقام عزاء لمتوفّىً من أفراد الأسرة.

2 – ما الذي كان يلفت انتباهك أكثر في شخصيته، ويجعلك تُعجبين به كأبٍّ وقدوة؟

أمورٌ كثيرة كانت تلفت انتباهي وتعجبني في شخصيته، منها أنه كان أباً حنوناً ومعلّماً صادقاً في أقواله وأفعاله، ويقول الحق ولو على نفسه، ولا يغتاب أحداً بل يذكر مساوئ وأخطاء رفاقه وجهاً لوجه، وعتيدٌ لا يخشى السجن والاعتقال والموت، كان عطوفاً يحبّ جيرانه ومعارفه وبخاصةً أطفال الحي الذين إذا لمحوه في الشارع ركضوا خلفه منادين له جدّو جدّو، فكان يشتري لهم السكاكر والحلويات ويوزعها عليهم رغم ضيق وضعه المادي.

3 – لا بدّ أنّه كانت له عادات يوميّة يُشغل نفسه بها في أوقات فراغه، فهل كان يتابع الأخبار الإذاعيّة والسياسيّة المتعلّقة بالقضيّة الكرديّة أو يكتب أو يقرأ الكتب؟ ما هي الفترات التي كان يُفضّل فيها القراءة والكتابة؟ وعندما كان يخرج من البيت، ما الأماكن التي كان يفضّل الذهاب إليها؟

كان بيتنا كمنتدىً ثقافي للذين يحبّون السياسة واللغة الكرديّة، ولاسيما الشباب والبنات، فكان هناك دوماً من يأتون إلى البيت للتعرّف عليه والتعلّم منه وأخذ رأيه وطلب المشورة منه، وتكثر النقاشات في أمور السياسة واللغة. فضلاً عن تدريسه اللغة الكرديّة للصغار والكبار حتى قبل وفاته بأقل من أسبوع.

وفي أوقات فراغه كان يُشغلها بقراءة الكتب والمجلات العربيّة والصحف الكرديّة كواجب قومي، ويكتب المقالات والأشعار ليلاً ويدقُّ على الآلة الكاتبة، ويتابع البرامج العلميّة وبرامج الأطفال على التلفاز، فقد كان محبّاً للأطفال، ويرى فيهم الأمل في قيادة المستقبل، لذا كان يكتب لهم أشعاراً تحثُّهم على حبّ الوطن والدفاع عنه.
ولن أنسى ولعه الشديد بسماع الراديو الذي كان يحتضنه كطفلٍ، ويستمع بشكل خاص لإذاعة لندن ومونتيكارلو وصوت إسرائيل. وكلما استطاع الخروج، كان منزل رفاقه المقرّبين هي وجهَتُهُ، كما أنّه يحبّ الذهاب للأسواق للتبضّع بنفسه.

4 – كنتِ الأقرب إليه في سنواته الأخيرة من عمره، وكنتِ سَلواه بعد وفاة زوجته وغياب أولاده عنه، ما الذي كان يُقلقه؟ هل كان يتذمّر من الوضع السياسي الحَرج ويخاف على مستقبل الكرد؟ هل كان يفصح عن أمانيه وآماله؟

كان همّه الوحيد أن تقوم ثورة حقيقيّة في كلّ جزء من أجزاء كردستان وبشكلٍ خاص في الجزء الشمالي منه (Kurdistana Bakur)، فقد كانت فكرة الثورة متأجّجةً عنده ولم تخمد حتّى يوم وفاته.
ولم يكن يفصحُ عمّا بداخله إلا نادراً، ولم يكن يُظهر تذمّره إلا حين يأتي الحديث عن الوضع الكردي بشكلٍ عام، ولا سيما الحالة السياسيّة التي تمر بها الحركة الكرديّة واخفاقاتها وانقساماتها، فقد كان يدعو دائماً إلى المحاباة والوحدة.

5 – لا بدّ أن وفاة زوجته (شادية رجب دوغوط) وابتعاد أولاده عنه الواحد تلو الآخر، قد أثّرا على وضعه النفسي والصحّي، كيف تجلّى ذلك؟
أوسمان صبري وزوجته شادية رجب دوغوط في الستينات
أوسمان صبري وزوجته شادية رجب دوغوط في الستينات

بالطبع نعم، فوفاة زوجته (رحمها الله) أثّر عليه كأيّ زوجٍ يتأثّر برحيل زوجته وشريكة حياته، وبكى وحزن حزناً شديداً عند وفاتها، وغالباً كان يحاول أن يكبت مشاعره ويخفي حزنه بعد وفاتها.
كما تأثّر بابتعاد أولاده الشباب عنه، وبشكل خاص عندما سافر ابنه الأصغر هفال عن طريق المهرّبين من لبنان إلى ألمانيا.
لم أرَهُ يبكي طيلة حياتي إلا ثلاث مرّات، المرّة الأولى عندما تألمتُ من وجع الخاصرة، وأفصح له صهري محمد بكر آغا زوج أختي هيفي (ابنته) بأنّي قد أكون بحاجة لعمليّة جراحيّة، والمرّة الثانية عندما هاجر هفال لألمانيا عبر لبنان، والمرّة الثالثة عندما توفيت زوجته شادية.

6 – تعلّمتِ الخياطة وكذلك مهنة تصفيف الشعر في معهد خاص، هل كان ذلك لمساعدة العائلة في تغطية النفقات اليوميّة لضيق الظروف الماديّة، أم كنت تقومين بذلك على سبيل التسلية والتعلّم؟

تعلمتُ الخياطة وتصفيف الشعر وحياكة الصوف، كنتُ أقضي بها وقت فراغي، وكنتُ أجني من ذلك دخلاً ماديّاً لا بأس به وأصرفه على متطلّباتي الخاصة وأساهم بالباقي في تأدية حاجات البيت، وكان لوالدي أوسمان نصيب كبير من نتاجاتي في الحياكة، فقد صنعتُ له سُتراتٍ صوفيّة عدّة وشالاً وقبّعاتٍ صوفيّة لتَقيَه من البرد.

7 – أَلمْ يكن يفكّر بزيارة كردستان تركيا، موطن آبائه وأجداده ولو لمرّةٍ واحدة، وإن كان بشكلٍ سريّ؟

بعد أن كَبِرَ ومرض لم يكن قادراً على المشي، ولم يفكّر بترك البيت والذهاب إلى أيّ مكان ولا حتّى موطن آبائه وأجداده، ولم يوافق على طلب منظمة العفو الدوليّة بمنحه اللجوء السياسي في أوروبا، لم يكن يرغب بالخروج من سورية عِلماً بأنّه كان ممنوعاً من مغادرة منزله لأكثر من 5 كم، أي كان تحت الإقامة الجبريّة حتى يوم وفاته.

8 – خلال فترة إقامته في حي الأكراد (ركن الدين) في دمشق، هل كانت هناك شخصيّات أو أحزاب كرديّة تتردّد عليه في البيت مؤخّراً، وهل كانت تطلب منه الدعم المعنوي؟ وهل كان على تواصل مع شخصيات كرديّة دمشقيّة؟ أتتذكرين بعضاً من أسمائهم؟

بعد أن ترك والدي (أوسمان صبري) الحزب، لم يَزُرْ أحداً من رفاقه القدامى وبشكل خاص الذين أصبحوا في الصفّ الأوّل في الحزب، أذكر بأنّ المرحوم محمد نيو أبو هفال كان يزوره رغم الاختلاف السياسي الكبير بينهما، وكان عبد الرحمن وانلي أبو جنگيز يترّدد عليه أحياناً لوحده وأحياناً أخرى مع بعض رفاقه. وكان الشاب محي الدين شيخ آلي يزور والدي دائماً، ولم أكن أعرفه بأنّه زعيم حزب سياسي إلا مؤخّراً.

ومن القادة، فلم يزره في البيت إلا عبد الله أوجلان ولمرّةٍ واحدة عام 1988، أمّا المرحوم جلال الطالباني طلب زيارته مراراً ولكنّ أبي رفض استقباله، حتى أنّه أرسل له رسالة شخصيّة طالباً الموافقة على زيارته، لكن والدي أصرّ على عدم استقباله رغم وساطة المرحوم حمرش رشو(الذي زار جلال الطالباني في منزله عام 1990 أو1991 على الأغلب).
والزوّار، بشكلٍ عام، كانوا من غير السياسيين المعروفين في الأحزاب، أغلبهم أناس وطنيّون وشعراء وكتّاب وصحفيون وغيرهم، كانوا يتردّدون لبيتنا لمناقشة بعض المسائل المتعلّقة بالسياسة واللغة أو لتعلِّمها.

كان والدي يحثُّ على التضحية والتفاني في العمل وتقديم مصلحة ونضال الشعب الكردي على المصلحة الشخصيّة. وكانت أغلب الشخصيات الوطنيّة الدمشقيّة تترّدد على بيتنا، وبشكلٍ خاص الأصدقاء الأربعة الدائمين الذين لم يتركوه أبداً ودامت صداقتهم طويلاً:

الأوّل الأستاذ محمد راشد جلعو 48 سنة انتهت صداقته بوفاته في أوائل التسعينات، أمّا الثلاثة الباقين فقد توفّاهم الله بعد وفاة والدي بسنين، فالاثنين الآخرين دامت صداقتهما مع والدي 53 سنة وهما الأستاذ عزت فلو الذي توفّي عام 1997 والأستاذ رشيد شيخ الشباب الذي توفّاه الله عام 2009، ولم تنقطع صداقة العم عزت فلو وابنه مروان وكذلك العم رشيد شيخ الشباب وابنه خليل، حيث دام تردّدهم إلى بيتنا وزيارتهم لنا حتى يوم وفاته، وأمّا الصديق الرابع والأخير صلاح جلعو شقيق الأستاذ محمد راشد جلعو فقد كان يترّدد إلى بيتنا قبل وفاة والدي وبعده.

وكان له رفاق وطَلَبة منهم الدكتور خالد قوطرش وإخوته، والأستاذ عصمت شريف وانلي وجواد الملا، والمهندس حمادة برازي، والمهندس قُصي آل رشي وبهيّة عمر آل رشي ووفاء وانلي ابنة عبد الرحمن وانلي أبو جنگيز لأخذ الدروس، والتاجر الجار أحمد محمود شيخاني، والكاتب الصحفي حسن ظاظا والعم دياب ظاظا وإخوته وأولاده فؤاد وكاميران وجوان، ومحمد سعيد أوسي، وحسن شيخاني ودلاور زنكي، وسيامند إبراهيم، وگسّام درباس أبو سلام وزوجته المُدرِّسة فتحيّة دقّوري، وإبراهيم ظاظا وزوجته أم شفان وعزّت بكر أبو كاوا وفاروق بكر أبو شيار، والدكتور مامد جمو (دكتوراه باللغة الكرديّة من معهد باريس- أرسله آبو أوسمان منحة عام 1985 لتدريس اللغة الكرديّة وزوجته المهندسة زينب إيبو) والمحاميّة سيفي أوزلي وزوجها إحسان التي أرسلها آبو أوسمان أيضاً لتدريس اللغة الكرديّة بمعهد باريس، ومحمد رشيد الذي كان والدي يعطيه دروس اللغة له ولابنته سلوى حتى قبل وفاته بثلاثة أيام،

وكذلك الشاعرة ديا جوان وزوجها سعيد شوزي والشاعر روخاش زيفار، والكاتب الصحفي والشاعر والمترجم العراقي صلاح برواري وزوجته الصحفيّة لمعان إبراهيم، والشاعر عزيز خم جفين، والمساعد في الجيش عكاش جنجي وزوجته جيهان وابنته هيفين لأخذ الدروس أيضاً، وكذلك محمد برزنجي الذي ألّف كتاب تعلّم الكرديّة بمساعدة العم أوسمان صبري، وكثيرون لا أذكر أسماءهم الآن وكثيرون لم نكن نعرفهم حتى بالأسماء يأتون لأخذ دروس اللغة أو للتعرّف على والدي.

وكان الأستاذ عبد الرحمن أحمد أبو گوران (يعمل مديراً ماليّاً لشركة عسكرية بدمشق) يزور والدي ولم يتركنا أبداً قبل وبعد وفاته، حيث كان يأخذ والدي بسيارته ويخرجه للتنزّه في أحياء دمشق وريفها ومصايف الربوة وبلودان وبردى وعين الفيجة وبشكل خاص إطلالة جبل قاسيون،

وكان أبي في مأمنٍ مع الأستاذ عبد الرحمن رغم أنّه محكوم بالإقامة الجبرية، ولكونه مديراً لشركة عسكريّة ولم تكن سيارته تُوقّفُ للتفتيش أمنيّاً في الطريق، فقد كان والدي بحاجة حقّاً للخروج معه للترويح عن نفسه وتصفية ذهنه بين الحين والآخر.

9 – ما الرسالة التي كان يتمنّى أن يوصلها للأجيال الكردية لتتحقّق في المستقبل ولم يستطع إرسالها؟ وما الذي منعه من ذلك؟

كانت رسالته الوحيدة التي كان يحبُّ أن يوصلها للأجيال القادمة وهي حبّ الوطن واللغة الأم والتمسّك بها تعلّماً وتعليماً، وكان دائماً يقول: “اللغة أساس القوميّة” (26). ويقول أيضاً:

“إنّنا لن نتحرّر سياسيّاً إذا لم نتحرّر اجتماعيّاً” (27).

كان يحثُّ على التعلّم والدراسة لكلا الجنسين دون تمييز والاهتمام بالجيل الناشئ وخاصة الأطفال، ولا بدّ من الإصغاء للرأي الآخر ويدعو للاتحاد والوحدة.

القسم الثاني: شيخ محمد برمجة:

أوسمان صبري مع صهره شيخ محمد برمجة
أوسمان صبري مع صهره شيخ محمد برمجة

إنّ حبّ أوسمان صبري للجيران والأهل والأقارب والمعارف والأصدقاء والطَلبة كان سبباً في تركه لمصراعي بيته المتواضع مفتوحاً لكلّ الوطنيين الكرد، وكان سعيداً كلما أتاه ضيف أو صديق أو قريب، فقد كان بيته أشبه بمزارٍ يتوافد إليه كلّ محبّيه. إلا أنّ هؤلاء الوافدين كانت لهم درجاتٍ من الحظوة لديه، مثل شيخ محمد برمجة الذي كان يتردّد إليه بين حينٍ وآخر فيجالسه أملاً في اقتناء تجربة آبو أوسمان وخبرته وهو في عنفوان شبابه، وتزوّج بابنة أخيه كَوي بعد وفاته. فكان لنا أن نطرق باب الحوار معه كونه الأقرب إلى كَوي بعد وفاة (أوسمان صبري):

1 – كنت تعرف (Osman Sabrî) منذ مدّة طويلة وتربطكما علاقة اجتماعيّة قبل أن تتزوّج بابنة أخيه (كَوي) بعد وفاته، كيف كانت علاقتك به: هل كانت علاقة قرابة أم صداقة؟

تعرّفتُ على كَوي منذ عام 1984، عندما كنتُ أخدم الخدمة الإلزاميّة بدمشق من خلال زياراتي الكثيرة للعم أوسمان صبري، كما تعرّفتُ عليه وكان بيننا صداقة ولم نكن أقرباء إلا أنّ والدي كان من رفاق العم أوسمان، عرفتُ العم عثمان قبل أن أراه، حيثُ تعلمتُ من (ألف بائه) الأحرف الكُردية من خلال كُتيبهِ الصغير، واستطعتُ تعلم لغتي الكرديّة الأم قراءةً وكتابةً بمساعدة والدي رحمه الله.

2 – هل كنتما تتناقشان في الأمور السياسيّة أو يسرد لك ظروف اعتقاله في السجون؟ وهل كان يبيّن مثلاً الفرق بين نضال الشعب الكردي في أجزائه الأربعة؟

في الحقيقة لم نكن نتناقش في الأمور السياسيّة إلا نادراً، فكنتُ غالباً مستمعاً لنصائحه وحِكَمِه ولم يجرِ بيننا نقاش عن ظروف اعتقاله أو سجنه.

3 – من خلال مجالستك له هل كان يرتاح لك؟ هل كان يكشف عن هواجسه أم كان مقلّاً في التعبير ويكبتُ ما بداخله؟

نعم، أحسستُ بأنّه كان يرتاح لي، فبعد أن أنهيتُ الخدمة الإلزاميّة وعدتُ لمنزلي بمدينة حلب، كنتُ أتردّد لزيارته كل شهر تقريباً وأحياناً أكثر، فعندما أزوره كان يعاتبني لتأخّري عليه في الزيارة، فكنتُ أقول له: يا عم أنا أنهيتُ الخدمة العسكريّة وأنا الآن أعيش بحلب، كان يجيبني: “أعرف إنّك لست بدمشق وإنّك تعيش بالوطن ولكنّك تتأخر بالمجيء لزيارتي”(28).

وكلّما كنتُ أزوره كان يسألني، هل كتبتَ شيئاً جديداً؟ تعال لنصحّحه، رغم أنّه كان يتألّم أثناء مرضه وكان يتفاجأ بوجودي معه في الغرفة، فيقول لي: “إنّ إعطاء الدروس بالنسبة لي دواءٌ لوجعي ومرضي”(29).

وإذا ما تعب كان يقول لي تعال في فترة الظهيرة أو في وقت متأخر من الليل ربما لا يكون عندنا ضيوف.

4 – ذكرَ آبو أوسمان في مذكّراته جملته الشهيرة: “هل الوطن بحاجة إلى ثورة”. مشجّعاً جميع رفاقه على الثورة ضدّ الظلم وداعياً لتحرير كردستان. برأيك لِمَ خمدتْ نيران الثورة عنده في الفترة الأخيرة؟

بحسب عِلمي وقناعاتي، لم تخمد نيران الثورة لديه أبداً وخاصةً في أواخر عمره، فقد بقيَ مناضلاً وثوريّاً حتى لحظة وفاته.

5 – هل كان راضياً عن نضال الشعب الكردي والحركات السياسيّة؟ هل تعلم عن مواقفه من التغيّرات التي رافقت القضيّة الكرديّة؟

باعتقادي إنّه لم يكن راضياً من الحركة التحرريّة في الأجزاء الأربعة، وكان ينتقد مطالب الحركات والأحزاب الكرديّة بالحكم الذاتي أو دونها، كان يقول: “يجب أن نرفع سقف المطالبة بالاستقلال”(30).

ولكن في السنة الأخيرة من حياته كان متفائلاً من انتصار الحركة التحرريّة الكرديّة في العراق بعد خسارة صدّام حسين الحربَ مع أمريكا في غزوه للكويت، وكذلك في تركيّا بعد كثرة العمليّات الثوريّة ضدّ الجيش والأمن التركي من قِبل حزب العمال الكردستاني (PKK).

6 – نضال الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأربعة ضدّ الظلم والاضطهاد رافقه الكثير من الأخطاء التي ارتكبها السّاسة والقادة الكرد في عدم استغلال الظروف السياسيّة لصالح القضيّة الكرديّة في الشرق الأوسط، ماذا كان رأيه في ذلك؟

كان مع نضال الشعب الكردي في الأجزاء الأربعة ضدّ الظلم والاضطهاد، ولم يكن راضياً عن أغلب الأحزاب الكرديّة لعدم استغلالهم الظروف السياسيّة لصالح القضيّة الكرديّة، وكان يقول:
“سيتحرّر الشعب الكردي ولكن ليس من خلال نضال الأحزاب الكرديّة وإنّما من خلال غباوة الأعداء والظروف الدوليّة”(31).

7 – في مذكّراته التي غطّتْ مرحلةً من حياته بين عامي (1905- 1931) حتى بعد دخوله سوريا ووصوله لمدينة (كوباني Kobanî ) ليلة 26 كانون الأول من عام 1929. (32) وقال فيها:
“إن تخاذلتُ يوماً فهذا يعني أنّني لن أحظى بشرف النضال وسأكون سيّء الحظ”.(33)
لِمَ لمْ يُكمل مذكّراته؟ هل كان يخشى من كشف المخفي من المؤامرات التي كانت تُحاك ضدّ القضيّة الكرديّة من بعض المتخاذلين الكرد أنفسهم؟ أم كان يخشى من أن تكون تلك المذكّرات شاهداً على خياناتهم، ففضّل عدم إتمامها؟

سألتهُ عدّة مرات: آبو لِمَ لا تكتب مذكّراتك؟ فأجابني:
“لا أريد أن أُلطِّخ صفحات نضال شعبي بالسواد، فصفحات نضالنا متّسخة ولا أريد أن أنشر الغسيل قبل وجود محكمة تطلب منّي ذلك، وتقول يا أوسمان، مذكّراتك اتّهامات لبعض رفاقك، أين أدلّتك وبراهين إدانتهم. ويجب عليّ تقديم الأدلّة والبراهين وبنفس الوقت يجب إعطاء فرصة للمتّهمين للدفاع عن أنفسهم، ولأنّه لا وجود لهكذا ظروف ولا لهكذا محكمة، لا أريد أن أنشر مذكّراتي”(34).

كان خائفاً من أن يموت ويموت رفاقه المتّهمون قبل وجود محكمة عادلة تستمع لاتهاماته، وتستمع في الوقت نفسه لدفاعات المتّهمين من رفاقه وتحكم بالعدل. لهذا السبب أوقف مذكّراته وحرق بعضها، ولكن بقي الجزء المنشور وحده دون تلف لوجوده في مكانٍ آخر، وعندما طلب من كَوي مرّةً: أعطني الحقيبة السوداء، فناولتْهُ كَوي حقيبته المليئة بكتاباته وربّما كانت تحتوي بقيّة مذكّراته، فقام بحرق معظم ما في الحقيبة.

8 – القيم والمفاهيم التقليدية القَبليّة والنظام العشائري القديم، كلّ تلك الوسائل استخدمتها الإمبراطوريّة العثمانيّة وحرصَتْ على الإبقاء عليها بين الكرد لتفتيتهم ومنع توحّدهم وليسهل عليها التخلّص منهم وضربهم ببعضهم. برأيك هل هذا هو السبب الذي جعل أوسمان صبري يغيّر رأيه بتلك المفاهيم ويحاربها بقوّة؟

لحسن الحظ أنّ العم أوسمان صبري تعرّف في بداية حياته التعليميّة في المرحلة الابتدائيّة على أستاذ عوقب بسبب آرائه السياسيّة، فنُقِل إلى شرق تركيا إلى قرية نارنجة التي كانت مركز قيادة عشيرة مرديس المعروفة بقوّة زعاماتها ورجالها الشجعان ونظامها العشائري التقليدي، فكانت فرصةً سانحة للأستاذ المنقول من المدينة، بأن يزيد من كرهه ومحاربته للمنظومة الإقطاعيّة والعشائريّة، فتقرّب كثيراً من الطالب أوسمان صبري حيدر ابن زعيم سابق وابن أخ زعيم العشيرة الجديد شكري حيدر؛ فتشرّب أوسمان بأفكار أستاذه الثوريّة والاشتراكيّة التي زرعها في قلبه كتلميذ وكصديقٍ فيما بعد.
فكان ضدّ تلك المفاهيم العشائريّة مع أنّ عمّه كان يهيّئه ليحلّ مكانه كزعيم للعشيرة من بعده.

9 – حاربت العلمانيّة الأتاتوركيّة الثورات الكرديّة ذات الأهداف القوميّة بحجّة أنّ قادتها رجالُ دين، وفي الوقت ذاته كان وما يزال الخطاب الديني الموجّه للكردي في تركيا هو البديل عن القوميّة الكردية، بمعنى: (أيّها الكردي أنت مسلمٌ فقط أمّا أنا فإنّي تركيٌّ ومسلم)، فلا يحقّ للكردي المطالبة بحقوقه القوميّة. ماذا كان موقف أوسمان صبري حيال هذا الموضوع؟

في الحقيقة لا أعلم ماذا كان رأيه، لأنّنا لم نتناقش حول هذا الموضوع.

10 – باعتقادك، ما هو الحلم الكبير الذي كان يحلم به أوسمان صبري المكافح والسياسي والشاعر والإنسان، وكان يرجوه أن يتحقّق قبل أن تصعد روحه إلى السماء؟

كان حلمه الوحيد أن يتحرّر الشعب الكردي من الظلم والعبوديّة وتصبح كردستان دولة ديمقراطيّة حرّة.

11 – كانت مصطلحات: (الوطن، الثورة، النضال، الاستقلال، الهدف، الشرف، الوفاء، التعلّم، التجربة، الخبرة، الصبر، المقاومة، الشجاعة)، هي أكثر ما وردت في مذكّراته وأقواله.
فإنّ وُجِدَ شخصاً ينادي بهذه المصطلحات، فما الصفة المناسبة التي يمكن إطلاقها عليه برأيك؟

كان وطنيّاً، ثوريّاً، مناضلاً، شريفاً، وفيّاً ذو خبرة جيّدة، مقاوماً شجاعاً لا يهاب الاعتقال ولا السجن، ولا يخاف من الموت، كان ومازال اسمه مرتبط بالإخلاص والشرف والشجاعة فلا بدّ أن تُطلق عليه صفات: المناضل المخلص الشريف الشجاع.

 

الجزء الثالث: هوشنگ أوسمان صبري Hoşeng Osman Sebrî

“يقول هلال خلف بوتاني الذي كان الرفيق الأقرب إلى أوسمان صبري: كان أوسمان صبري رجلاً صريحاً، قوي الشخصيّة، جريئاً في مواقفه، واضعاً المصلحة العامة فوق المصالح الشخصيّة، عدواً لدوداً للبگوات والأغوات، وكان أكثرهم حرصاً على القضيّة الكرديّة، وينتقد الشيوعيين لمواقفهم السلبيّة تجاه القضيّة الكرديّة”(35).
والمناضل أوسمان صبري له مواقف من الحكومات الغاصبة لكردستان، والتي كانت واعية لأهميّة كردستان وحجم المنفعة التي يمكن أن تحققها من هذه المصالح المرتبطة بها، ولأنه كان يعي العداوة التي تكنّها تلك الحكومات للشعب الكردي، فقد تبنّى مقولَتَي: “الحق يُؤخَذ ولا يُعطى”، و” ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترد إلا بالقوّة”، قائلاً:

Heke we divê heqê xwe bigrin
zûka destê milet bighînin dar
An na, dengê me nayê bihîstin

ولأنّه لا يمكننا أن نغفل الجانب السياسي من حياة المكافح أوسمان صبري، أردنا أن نُجلِسَ على طاولة الحوار من هم أقرب إليه في السياسة من أفراد عائلته، وأكثر إدراكاً لمواقفه السياسيّة وأسباب اتّخاذه لها، مُعرباً لنا عن قلقه تجاه مستقبل الكرد، واقتراحاته، والوسائل التي كان يمتلكها كحَلٍّ لخلاص الكرد ونيلهم لحريّتهم من الظلم والطغيان والقهر والاستبداد.

فأعدْنا هذا الجليس القادم من بين رَصيفيْ جدار التقسيم الاستعماري (جدار برلين) الذي هدمه الشعب الألماني في برلين عام 1989؛ واستقبلناه عند المحطّة الأولى لحياته، تلك التي شكّلت المنعطف الأوّل في رحلته الزمنيّة، وهو يحمل حقيبةِ هويّته الكرديّة شادّاً عليها بقوّة لئلا تضيع أو تُسلب منه، كونها تحتوي النفائس من تفاصيل ذكرياته وكذلك مواجع وآلام والده، كلّما استوقفه زعيق محطّة الزمن.

أوسمان صبري مع ابنه هوشنك في سجن حلب 1964/7/28
أوسمان صبري مع ابنه هوشنك في سجن حلب 1964/7/28

(هوشنگ Hoşeng) الابن البكر من الزوجة الثانية (شادية)، استطاع بحضوره إلى طاولة بحثنا هذا أن يبسط لنا خريطة حياة والده السياسيّة فتتبّعنا معه، بوعي سياسيٍّ ذو خبرة، آثار ما ورِثَه عن والده من حبٍّ للوطن والأمة والقضيّة، معبّراً عن ذلك الحبّ بالدفاع عنها بطرقه المختلفة رغم بُعده عن الوطن، فكانت لنا معه هذه المنعطفات على تلك الخريطة:

1 – بدايةً، أنت تقيم في ألمانيا منذ ما يقارب 34 عاماً، كيف كان تأثير الفراق عليكما أنت والوالد، ولا سيما وإنّك اضطررتَ للهجرة خارج الوطن بعد أن جُرِّدت من الجنسيّة السوريّة من قِبل سلطات الحكومة السوريّة؟

أنا مقيم في ألمانيا منذ 1 أيار من عام 1970، وكنتُ في سنة 1969 قد أنهيتُ دراستي الجامعيّة في جامعة دمشق (فلسفة وعلم الاجتماع)، وبسبب تجريدي وكافة أفراد العائلة من الجنسيّة السوريّة قررتُ السفر إلى ألمانيا للعمل ومساعدة العائلة ماديّاً، وكذلك مساعدة الوالد الذي كان في حينه متخفّياً في تركيا.

غادرتُ سورية إلى بيروت سرّاً، وسافرتُ بجواز سفرٍ مزوّر إلى اسطنبول حيث قابلتُ الوالد، وهناك تعرّفتُ على شخصيّات كرديّة نَشِطة مثل موسى عنتر ومحمد أمين بوزا رسلان وغيرهم، وقابلتُ الوالد مرّةً ثانية في محطّة قطار اسطنبول لمدّة عشر دقائق، وحملتُ معي توصياته وإرشاداته العامّة والشخصيّة، الفراق لم يكن سهلاً ولكنّ الظروف السياسيّة فرّقتنا لأكثر من مرّة.

2 – جُرِّدتَ من الجنسيّة السوريّة في بداية حياتك واضطررتَ على إثر ذلك للهجرة لإتمام دراستك في الخارج، هل كان سبب التجريد لكونك ابن مناضلٍ كرديٍّ صلبٍ في الدفاع عن قضايا أمتّه، أم لأنّه كان لك نشاطاً سياسياً مُنظّماً مُقلقاً للنظام؟

إنّ التجريد من الجنسيّة لم يكن فقط لأنّني ابن عثمان صبري أو لنشاطي السياسي الحزبي، وإنّما بسبب السياسة الشوفينيّة لحزب البعث في سوريا ومحاربة الوجود الكردي. فمعظم الكُرد الذين جُرّدوا من الجنسيّة السوريّة لم تكن لهم نشاطات سياسيّة.

3 – لأوسمان صبري أعمال أدبيّة وأشعار باللغة الكرديّة نُشِرتْ في مجلّة هاوار وقصص، وغيرها من الأعمال.
(Bahoz )، (Çar Leheng) هل فكّرتم مثلاً بجمع أعماله الأدبية ومقالاته في مجلّد واحد بعنوان: (الأعمال الكاملة لــ أوسمان صبري)؟

لم أفكّر في جمع أعماله الأدبيّة، ولكنّ كثيرون غيري قاموا بهذا العمل، في أوروبا على سبيل المثال حمرش رشو (Hemreş Reşo) وأبوذر هان (Abuzer Han) وغيرهم.

4 – حسب معلوماتي، بأنك كمغترب، كنتَ ومازلتَ تقدّم مساعدات كثيرة للجالية الكرديّة في ألمانيا من المغتربين واللاجئين، هل تجد هذا جزءاً من العمل النضالي الذي أوصاكم إيّاه الوالد في بذل كافة المساعي لمساعدة أبناء أمّتكم؟

في برلين أصبحتُ عضواً في جمعيّة الطلبة الكرد في أوروبا (Komela Xwendekarên Kurd li Ewropa ) والتي تأسّست بجهود الدكتور نور الدّين ظاظا وعصمت شريف وانلي والدكتور أحمد زمچي، وكما بقيتُ لمدّة سنة عضواً في الحزب الديمقراطي الكردستاني- العراق، والآن لستُ مرتبطاً بأيّ حزبٍ ولكنّي أساهم حسب الإمكان وبجهودٍ صادقة في خدمة القضيّة سياسيّاً وأدبيّاً ولغويّاً واجتماعيّاً.

5 – التكهّنات السياسيّة للقضيّة الكرديّة متضاربة حاليّاً وبين مدٍّ وجزر، برأيك، لو كان المرحوم حيّاً الآن كيف كان سيقرأ الوضع السياسي كسياسيٍّ مخضرم، وهل كان سيساهم في حلّ القضيّة الكرديّة كمرجعيّة سياسية أم أنّه كان سيكتفي بموقف المترقّب للأحداث؟

أعتقد أنّ الوالد لو بقي حيّاً (وأنا أيضاً) سوف يؤيّد هذه الإدارة الذاتيّة (رغم كلّ عيوبها وسلبياتها)، لأنّ أعداء الشعب الكردي يريدون إفشال هذه التجربة، فالحكومة السوريّة تتّهمهم بالتعاون مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، والأتراك (أردوغان) يقولون أنّهم إرهابيين، والمعارضة السوريّة تتّهمهم بالتعاون مع السلطة السوريّة، وإنّ فشل هذه التجربة سوف ينعكس سلباً على مجموع الحركة الكرديّة، تذكّري، أنّ المجتمع الدولي الذي اتّهم ياسر عرفات بالإرهاب، أعطاه بعد أعوام جائزة نوبل للسلام، طبعاً مع اختلاف الظروف والأشخاص.

6 – كان الوالد يُبرز نواقص الحركة السياسيّة الكُرديّة ويتألّم لتناحرها، مؤكِّداً بأنّ: “الكُرد قضوا عمرهم في خدمة عدوّهم، ولكنّهم كانوا في اقتتالٍ بين بعضهم. فقد كانوا في كلّ مكان يُداسون بالأقدام وفي كلّ مكان كانوا رجالاً للآخرين”، ويقول بهذا الصدد ولكن دون أن يفقد الأمل، متفائلاً بالخلاص من الظلم والاستبداد:
Kesên camêr û mêrxas di nav me kurdan de qirr bûn
Heçî bêbav û xiniz çiqas bi xwazî pirr bûn
Gava min ev nivîsî, dengek ji banî ve hat
digot: Bêhêvî nebin, gelek nêzîke felat
برأيك، ألم تكن الحركة السياسيّة الكرديّة بحاجة لرأي شخصيّة مخضرمة لتتنبّه لأخطائها وتتداركها، أم أنّها لازالت تتخبّط فيها، وهل ترى بصيص ضوءٍ لمستقبل القضيّة الكرديّة؟

هذا التناحر نراه في كردستان العراق منذ عام 1966وحتى الآن، وفي كردستان سوريا تكاثرت الأحزاب بشكل مرضيٍّ وخطير، وكثيرون من قياداتهم كانت تحت جناح أو رعاية المخابرات السوريّة، عثمان صبري كان صارماً في مواقفه وخاصةً تجاه الحزام العربي ومشروعات النظام في تعريب المنطقة الكرديّة، ولكنّ الأشخاص القياديين في تلك المرحلة كانت تنقصهم روح التضحية والمقاومة، أو كانوا مرتبطين بالنظام.

7 – وضع مؤسّسو البارتي الديمقراطي الكردستاني، والذي كان الوالد واحداً منهم، المنهاجَ السياسي للحزب واتّفقوا على اسم التنظيم وبرنامجه السياسي في 14 حزيران عام 1957؛ ووَردَ بند في البرنامج واعتبروه جزءاً من أهدافهم الرئيسيّة وهو: تحرير وتوحيد كردستان. لم يكن الوالد مقتنعاً بذلك. فالأستاذ عيسى حصّاف يقول: “كان أوصمان صبري صارماً في مواجهة سياسات الحكومة وكان يدعو إلى حمل السلاح في وجه المستوطنات، ولكنّه كان واقعيّاً في سياسته، لم يكن مقتنعاً بإمكانيّة البند الوارد في منهاج الحزب بتحرير وتوحيد كردستان، ولكنّه الوحيد الذي دافع عنه أمام محكمة أمن الدولة، وكان يقول: لا بدّ من مناقشة الموضوعات من كافة الأوجه وإذا اتّفقنا على اتّخاذ قرار ما يجب الدفاع عنه”(36). إنّ رجلاً مثل أوسمان صبري يحملُ هذه الثوابت والمواقف البطوليّة، والحركة الكرديّة أحوج له ولأمثاله، لِمَاذا استُبعدَ من الحزب إذاً؟

عثمان صبري لم يُستبعد من الحزب، ولكنّه قدّم استقالته بعد أن اتّهم القياديين ملا أحمد نيّو وصلاح بدر الدّين ومن معهم في عدم تنفيذ قرار القيادة، التي أقرّت وبضغط من عثمان صبري القيام بحرق محاصيل الأراضي الزراعيّة التي استولت عليها الدولة في منطقة الحزام وأعطتها للفلاحين العرب، وكان هذا القرار يعني اعتقال الكثير وتقديمهم للمحاكم بعد التعذيب وربّما إعدامهم. وهؤلاء القياديين لم يكونوا مستعدّين للتضحية، بعضهم جاء إلى دمشق وطلبوا منّي إقناعه بالعدول عن استقالته، ولكنّه قال لي: “هؤلاء الجبناء لم ينفّذوا قرار الحرق، لا أريد أن أراهم بعد الآن”(37).

8 – شكّل الوالد التيار اليساري الكردي في سورية في (15 آب) من عام 1965 وأصبح سكرتيراً له، ما الضرورة التي دفعته إلى ذلك؟

إنّ سبب انشقاق الحزب ظهر بعد استلام حزب البعث السلطة في عام 1963 وطرح مشروع الحزام العربي، كان على الحركة الكرديّة أن تقاوم هذا المشروع وكانت السلطة تحاول اقتلاع الفلاحين الكرد من قراهم وإسكانهم في المناطق الداخليّة (بدايةً تمّ طرد الفلاحين من قرية علي فرو).

السبب الأوّل هو: هل الكرد في سورية هم شعب، أصحاب أرض، أم أقليّة هاجرت إلى سوريا، جماعة اليمين – التي كنّا نسميهم حينذاك – لم يستعملوا كلمة (الشعب الكردي) في أدبيّاتهم خوفاً من النظام.
أمّا السبب الثاني فهو يعود إلى خلافاتٍ شخصيّة بين القياديين، والنظام حاول واستطاع شقّ الحركة الكرديّة وتحوّل الانشقاق بعد ذلك إلى انشقاقات وقف النظام وراء معظمها.

9 – في ظل سنوات الهجرة التي اغتربتَ فيها وأنت في (منفاك الاختياري)، هل كنت تتذكّر هاجساً خمّنه الوالد بخصوص مستقبل الحركة الكرديّة وقد تحقّق الآن، وماذا كان ذلك الهاجس؟

كان الوالد واثقاً من أنّ الشعب الكردي سوف يصل إلى حريته واستقلاله وخاصة بعد ضرب مدينة حلبچة بالكيماوي وانهيار المعسكر الشيوعي، وكان يقول:
“سوف يأتي وقتٌ تقوم فيه كردستان حتى لو وقف نصف الكرد ضدّ ذلك”(38).

10 – من المعروف عن الوالد أنّه كان رجلاً مبدئيّاً في الدفاع عن قضيّة شعبه الكردي ولا يقبل المساومة على الإطلاق، هل كان يمتلك مقابل ذلك مرونةً سياسّيّة أيضاً، كون السياسة تحتاج إلى أخذٍ وردٍّ في كلّ مرحلة؟

أعتقد أنّ عثمان صبري كان كثير التواضع والمرونة وأوردُ لكِ مثالين:

الأوّل: كان عثمان صبري ضدّ النظام العشائري السائد في كردستان، ويقول أنّه سيّء ومتخلّف ولكن هذا لا يعني أنّ كافة الأغوات والملّاكين سيّئون ومتخلّفون، وكانت له علاقات شخصيّة معهم أمثال المرحوم حسن حاجو، والمرحوم قدري جميل باشا، والمرحوم جلادت بدرخان وعائلته.

والثاني: في أواخر صيف عام 1966أرسل أمين الحافظ (رئيس الجمهوريّة السوريّة آنذاك) اثنين من ضبّاطه الكبار برفقة أحد مثقّفي حيّ الأكراد (فائز كم نقش) وقالوا للوالد: إنّ رئيس الجمهوريّة يخاف من انقلابٍ عليه، وهو يطلب المئات من الشباب الكرد لحمايته في دمشق. فقال الوالد:

“نحن مستعدّون للمساعدة بشرط أن يقوم رئيس الجمهوريّة بإلغاء الحزام العربي وإرجاع الجنسيّات السوريّة وأراضيهم للكرد، والسماح لنا بفتح مدارس لتعليم اللغة الكرديّة”(39).

فقال له الضابط: إنّ رئيس الجمهوريّة لا يمكنه تحقيق هذه الشروط، فردّ عليه الوالد:

“ونحن لسنا مستعدّين للتضحية بشبابنا من أجله” (40).

11 – يُقال: “الولدُ سرُّ أبيه” ماذا وَرِثَ هوشنگ من والده أوسمان صبري؟

أستطيع أن أقول بأنّني أحاول محاكاته في سلوكه وأخلاقياته، ورغم صعوبة ذلك، فقد ورثتُ منه الصراحة والاستقامة وعدم المساومة وديمقراطيته في التعامل مع أفراد أسرته (زوجة وستة أولاد وبنات)، كان يستطيع أن يُعبّئ معنويّات الرفاق وحتّى الذين تخاذلوا منهم.

12 – كان الوالد ناصحاً لأخيك المرحوم (ولاتو) حتى أنّه كتب قصيدةً ينصحه فيها وهو في عُمر 11 سنة بمناسبة ذكرى ميلاده، هل كان يُسدي لك نصائح خاصّة أيضاً لتقوية خبرتك السياسيّة؟ وهل كنت ترافقه في كلّ حدثٍ وموقف؟

كنتُ غالباً برفقة الوالد واستمتع بها غالباً، وبعد نجاح البكالوريا وذهابي إليه في بيروت، حصلتُ على منحة دراسيّة وكان عليّ أن أفارقه، ولكنّي تنازلتُ عن المنحة لأحد رفاق الوالد الشباب وبقيتُ معه. وفي أواخر عام 1964 عُدنا سرّاً إلى سوريا، وفي الشهر الخامس من عام 1965 عرفت المخابرات محل سكننا في حلب (أعتقد عن طريق الصدفة) واعتقلتُ مع كلّ من أتى إلينا وكانوا أربعة من قياديي الحزب، بعد تحقيق ثلاثة أسابيع نقلونا إلى سجن حلب المدني وفي أواخر السنة أطلقوا سراحنا.

13 – حبّذا لو تكرّمت وقدّمت للقارئ الكريم السجل التاريخي لسنوات سجن ونفي أوسمان صبري، ومكان الاعتقال والمدّة الزمنيّة في كلّ مرّة؟

أخذتُ معظم التواريخ من كتاب محمد ملا أحمد والذي بعنوان (المناضل الكردي الكبير عثمان صبري) الصادر بالعربيّة والكرديّة.

  • ففي 24/6/1926 تم اعتقاله مع عمّيه شكري ونوري، وحُكم على العَمّين بالإعدام من قِبل محكمة الاستقلال التركيّة، ونال عثمان ست سنوات في سجن دنزلي (Denîzlî) غرب تركيا وأُطلق سراحه بعد 23 شهراً،
  • وفي عام 1929 اعتُقلَ مع 26 من أغوات ورؤساء العشائر، ومن حُسن حظّهم أنّ مدير التحقيق خاطر بحياته لمساعدتهم ولولا ذلك لشُنقوا جميعاً.
  • وفي 1929 يلجأ إلى سورية (في ظلّ الانتداب الفرنسي)، في البداية يُعامل بكلّ احترام، وعندما لا يقبل شروطهم ينفوه إلى مدينة الرقّة.
  • وفي عام 1930 وبعد فشل ثورة آگري يذهب إلى كردستان العراق ويبقى في بارزان عدّة أشهر، وفي طريق العودة تعتقله السلطات الإنكليزية في سجن الموصل ثمّ في سُجنَ في بغداد وبعدها تسلّمه للفرنسيين.
  • وعام 1932- 1935 طردته السلطات الفرنسيّة إلى الأردن، والإنكليز رفضوا بقاءه في الأردن واضطرّ للسفر إلى فلسطين (القدس) تحت اسمٍ مستعار وبقيَ هناك حوالي ثلاث سنين.
  • وفي أواخر عام 1935 تنفيه فرنسا مع ابنه ولاتو إلى جزيرة مدغشقر ويظلُّ هناك أكثر من عام.
  • وفي عام 1938 يعود إلى دمشق ويؤسّس نادي (يكيتيا خورتان) وبعده (نادي كردستان)،
  • وبعد عام 1949 يُعتقل لفترة قصيرة (أعتقد في سجن المزّة)، ولستُ متأكداً من هذه النقطة،
  • وفي 14/6/1957 أسّس الپارتي كلٌّ من: عثمان صبري، حميد درويش، رشيد حمو، شوكت حنان، محمد علي خوجة، وخليل محمد، وبعدها ينضم الدكتور نور الدين ظاظا إلى القيادة.
  • 12/8/1960 تمّ اعتقال معظم قياديي الپارتي (أكثر من 28 شخصاً) وقُدِّمَ معظمهم للمحكمة العسكريّة، وحُكِم على كافة القياديين بين سنة ونصف وسنتان بعد دورة تعذيبيّة في سجن المزّة.
  • وفي 21/5/1964 تمّ اعتقالنا في حلب، وبقيَ عناصر المخابرات في البيت، واعتُقل بقيّة القياديين في مدينة حلب منهم رشيد حمو، كمال عبدي، عبد الله ملا علي وآخرين.
  • وفي أواخر عام 1966 اعتُقل الوالد في المزّة مع الكثير من السياسيين السوريين.
  • وبعد حرب حزيران 1967 تضطر السلطة إلى الإفراج عنهم جميعاً، وعندما أراد الوالد الخروج قال له مدير السجن: سوف تبقى يوماً إضافيّاً لأنّك (كرديّ)! وهكذا بقي الوالد السجين السياسي الوحيد في سجن المزّة لمدة يوم.
  • وفي عام 1969 حكمت عليه محكمة عسكريّة برئاسة المقدّم مصطفى طلاس بسنتين، وقبل تنفيذ الحكم انتقل سرّاً إلى كردستان تركيا لمدّة سنتين، ولمّا عاد إلى سورية بقيَ عامي 1972و 1973 في السجن المدني.
14 – كنت تزور الوالد مع أخيك هوشين في أيام الجُمع في سجن المزّة العسكري وسجن القلعة بدمشق، هل يمكنك أن تضعنا في أجواء تلك الزيارات: إدارة السجن، كيفيّة التعامل مع زوّار السجين، معنويات الوالد، لقاءكما به وجهاً لوجه أم من راء القضبان؟ وما كان يدور بينكم من حديثٍ خلال تلك الزيارة القصيرة.

في سجن المزّة كانت المعاملة قاسية، وفي قلعة دمشق كانت المعاملة عاديّة، وكانت معنوياته عالية ولا مثيل لها بين السجناء.

15 – منظمة العفو الدوليّة عرضَتْ على أوسمان صبري إعطائه اللجوء السياسي، ورفضها بحزم، متى كان ذلك العَرض، وما دواع الرفض برأيك؟

منظمة العفو الدوليّة (فرع السويد)عرضت على الوالد اللجوء السياسي في السويد، ولكنّه رفض ذلك وقال:” أريد أن أبقى مع شعبي”(41).

ولكنّ رئيس المنظّمة ساعدني في الحصول على اللجوء السياسي في ألمانيا بعد خمس سنوات.

16 – سؤالي هذا يتضمّن شقّين:
– الشقّ الأوّل: في 11/10/2019 يصادف الذكرى (26) لوفاة الوالد، طيّب الله ثراه، ماذا كنت تتمنّى أن تحقّقه للوالد والمسافات منعتك من ذلك؟ وماذا باعتقادك كان الوالد يتمنّى أن يحقّقه لكم، والقدر كان غالباً ومانعاً من بلوغه لذلك الهدف؟

بعد مغادرة سوريا عام 1970 استطعتُ لأول مرّة بعد عشرين عاماً، وتحديداً عام 1990زيارة سورية بعد رفع قرار (خطر على أمن الدولة) ومنذ وجودي في ألمانيا قمتُ بمساعدة الأهل ماديّاً وحتى الآن.

– الشقّ الثاني، يتعلّق بوفاته ودفنه: تكفّلَ أنصار حزب العمال الكردستاني (PKK) بدفن الوالد في مقبرة شهدائهم في قرية بركفري (Berkevirê) في الدرباسيّة بمحافظة الحسكة، رغم أنّه كان قد أوصى بأن يُدفن بجوار زوجته شادية في مقبرة خالد النقشبندي في حي الأكراد بدمشق، لماذا لم تُؤخذ بوصيته ونُقِلَ جثمانه إلى بركفري؟ حبّذا لو تتحدّث عن حيثيات دفنه بالتفصيل.
أوسمان صبري مع ابنه هوشنك 1993/3/24
أوسمان صبري مع ابنه هوشنك 1993/3/24

عندما عرفتُ بأنّ الوالد مريض جدّاً وعلى فراش الموت، وصلتُ إلى دمشق في 10/10/1993، وقتها أخبرتني أختي كَوي (Kewê) بأنّ الوالد اتّفق مع رفاق الـ PKK بدفن جنازته، ولم أسمع أيّ شيء عن رغبته بدفنه بجوار والدتي، وهذا ما حصل.

كان عمر أوسي، أحد مسؤولي الـ PKK في دمشق مكلّفاً بهذه المهمّة (42)، وعندما تحدّثنا عن كتابة ورقة النعي، قلت له أريد طباعتها باسم: (المناضل الكردي عثمان صبري)، لكنّه أحضر ورقة النعي باسم: (المناضل عثمان صبري الكردي)، وهذا ما أزعجني جدّاً، وعندما سألته عن السبب، قال بأنّ المخابرات أو الشعبة السياسيّة أرادت ذلك.

 

وبعد عودتي من الدّفن رأيتُ عمر أوسي وسألته، بإلحاح، عن مصاريف الدّفن بما فيها استئجار الباصات وغيرها، وبعد حساب التكاليف دفعتُ له مئة ألف ليرة سوريّة، ولمّا سألني عن السبب قلتُ له: (كان والدي، ولا أقبل المساعدة من أحد).

وبعد 26 سنة، أرى بأنّ رفاق الــ PKK رغم صعوبة وحساسيّة وضعهم في سوريا حينذاك، قاموا بواجبهم قدر استطاعتهم.

17 – دكتور هوشنگ، سأمنحك منبراً مفتوحاً خلال هذا البحث كابنٍ لمناضلٍ كرديٍّ فذّ، لتقول فيه ما تريد، لك الكلمة.

أعتقد بأنّ شعبنا تجاوز مرحلة الخطر والتصفية، وسوف يحصل على حقوقه وحتّى على دولته (بفضل غباء الأعداء)، وسبب تفاؤلي هو تغيّر الوضع السياسي بعد سقوط المعسكر الشيوعي، كما أنّ الدول المقسِّمة لكردستان أصابها التصدّع، وأصبح وجود كردستان قضيّة دوليّة ومهمّة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

وخلال هذه الحوارات لا بدّ لنا من القيام باستراحة مسافر، لنشتمُّ عبق كلّ زهرة ووردة، ونتظلّل بكل شجرة من أشجار الوطنيّة التي مررنا بها ونحن نجوب حديقة أوسمان صبري الغنّاء التي تكشف لنا سيرة حياته كمكافحٍ سياسيٍّ وأديبٍ ولغويّ وشاعر مثقّف، وخسارة الشعب الكردي لمثل هذه الشخصيّة؛ فكان لنا أن نرتشف غيضَ أشعارٍ وأقوالٍ ورسائلٍ من فيض نهره الأدبيّ العذب، كالقصيدة التي وردت في ديوانه:

Bahoz
Feleka Bêbext
Feleka bêbext şikand darê min
Nema kes rûnişt li ber arê min
Ji du hezar sal heya bi îro
Azadî nema di nav warê min
Ji hev perçe bû Kurdistana gewr
ket nava destê çar neyarê min
Kirine guneh bi Kurdî peyvîn
Wan dive rakin ziman, zarê min
(43)

وكذلك من أجمل قصائده التي كتبها في سنواته الأخيرة والتي لم تُنشر في أيّ كتاب، كان قد بعثها لابنته هنگور في رسالة في عام 1985، والتي إن دلّت على شيء فهي تدلُّ على يأسه من الحياة لإحساسه بأنّ قِواه قد ضَعفَتْ، ، والقصيدة بعنوان:

Gulan naxwazim
,Bira, dibînî ez gîhame dawiya jînê
.Nema dikarim bi dûrkevim ji nav nivînê
,Her roj serê min gêj dibe dora xwe nabînim
.Piştî çendakî dê bimirim, ger têyî şînê
,Nebî di gel xwe baqê gulan tînî ji bo min
.Mirî nikarin destkewtî bin tucar ji bînê
,Bihayê gulan ger bidî mirovên belengaz
.Dê bêjim sipas, vaye te dest da ser birînê
,Gulên tu bînî diçilmisin dihelisin zû
.Tiştê tu bidî belengazan l’pêş xwe dibînî
Apo 5-11-1985
(44)

 

ثالثاً: كلمة أخيرة

(آبو أوسمان) كان قد لُقّبَ بهذا اللقب الذي أشار إليه المؤرّخ الدكتور اسماعيل محمد حصّاف، حيث قال: “إنّ سبب تسمية أوسمان APO يعود إلى نقمته على الزعامة الكرديّة التقليديّة وكراهيته لألقابها (آغا، بگ، باشا)….،
حيث درجت زوجة المرحوم جلادت بدرخان في فترة نشوء علاقته مع البدرخانيين على مخاطبته بكلمة (APO) لمعرفتها بكراهيته لألقاب الزعامة الكرديّة المستعملة بين الكرد”(45).

فهذا الوطنيّ الذي سخّر حياته للقضيّة تاركاً ملذّات الحياة ومِتعها، فقد تزعّم، بجسده الهزيل وعزيمته الحديدية، دفّةَ سفينة النضال مشرِّعاً راية كردستان على صارية الصمود، ومجابهاً العواصف الهائجة التي اعترضته للوصول إلى شواطئ الحريّة وليغرس تلك الراية على أرضها دون أن يتوانى أو يضعف في تضييع بوصلة الطريق المنشود.

غدا هذا الرجل جمرةً لاهبة يخشاها السلطات التركيّة والعربيّة والقوى الاستعمارية الإنكليزيّة والفرنسيّة، فكانت كلٌّ منها تحاول إخمادها بالسجون والمنافي، كونه يحمل المشروع التحرري لوطنه وشعبه، فنشاطه السياسي كان يؤرق مخططاتهم ومطامعهم الاستعماريّة.

والإرث النضالي الذي تركه أوسمان صبري سيظلّ في ذاكرة الأجيال، ويبقى سراجاً يهتدي به أبناء أمّته في الليالي الحالكة. كما أنّ كفاحه في ساحات المواجهة أو في ليالي السجون الباردة وعتمتها الموحشة، قد أفرزت أقوالاً وحِكماً نبيلة من خلاصة تجاربه النضالية، لأنّه أخذ على عاتقه عبء قضيّة أمّةٍ إيماناً منه بأنّ شعبه يستحقّ الحريّة التي يسعى إليها لما عاناه من قهرٍ وظلمٍ وطغيانٍ.

فاستطاع أن يعبّر عن حقيقة تلك المعاناة، بوضوحٍ وصراحة وبما أوتي من حزمٍ وتحدٍّ، بشكلٍ مباشر دون تكلّفٍ أو تزييف، قائلاً:

” كلّما ازداد حقدي للطغمة الحاكمة ازداد حبّي للشعب والوطن والسّير في طريق النضال”(46).

أوسمان صبري
أوسمان صبري

رابعاً: المصادر والمراجع

(1) ترجمة: هورامي يزدي ـ مذكرات أوسمان صبري، الصفحة 8. (لا يوجد ذِكرٍ لاسم دار النشر أو لسنة الطباعة، ربّما لأسباب أمنيّة).
(2) المصدر السابق ذاته، الصفحة 3.
(3) حوار مع هنگور أوسمان صبري، عبر خدمات التواصل الاجتماعي.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) حي الأكراد هو الحي المعرّب إلى العربيّة بــ حي ركن الدين.
(7) حوار مع هنگور
(8) المصدر السابق نفسه
(9) المصدر السابق نفسه
(10) المصدر السابق نفسه
(11) المصدر السابق ذاته
(12) المصدر السابق ذاته
(13) المصدر السابق ذاته
(14) المصدر السابق ذاته
(15) المصدر السابق ذاته
(16) المصدر السابق ذاته
(17) المصدر السابق ذاته
(18) المصدر السابق ذاته
(19) ترجمة: هورامي يزدي ـــ مذكرات أوسمان صبري، الصفحة 37
(20) ترجمة: هورامي يزدي ـــ مذكرات أوسمان صبري، الصفحة37
(21) حوار مع هنگور
(22) المصدر السابق نفسه
(23) Dîwana Osman Sebrî – Berhevkirin: A.Balî, Weşanên Apecê, Weşan no:136 – Çapa yekem: Stockholm,1998.
(24) المصدر السابق ذاته
(25) حوار مع كوي عبر خدمات التواصل الاجتماعي.
(26) المصدر السابق ذاته
(27) المصدر السابق ذاته
(28) حوار مع شيخ محمد برمجة عبر خدمات التواصل الاجتماعي
(29) المصدر السابق ذاته
(30) المصدر السابق ذاته
(31) المصدر السابق ذاته
(32) ترجمة: هورامي يزدي- مذكرات أوسمان صبري، الصفحة 78.
(33) المصدر ذاته، الصفحة 8
(34) حوار مع شيخ محمد برمجة
(35) أ. د. إسماعيل محمد حصّاف، تأريخ كردستان سوريا المعاصر 1947-1962 الجزء الثاني، (مقابلة مع هلال خلف بوتاني، هولير 2/10/2009)، الصفحة153.
(36) أ. د. إسماعيل محمد حصّاف، تأريخ كردستان سوريا المعاصر 1947-1962 الجزء الثاني، مقابلة مع عيسى حصّاف، هولير، 20 أيّار 2013. الصفحة 15.
(37) حوار مع هوشنگ أوسمان صبري، عبر خدمات التواصل الاجتماعي
(38) المصدر السابق ذاته
(39) المصدر السابق ذاته
(40) المصدر السابق ذاته
(41) المصدر السابق ذاته
(42) عمر أوسي (عضو في البرلمان السوري حاليّاً).
(43) Osman Sebrî –dîwana Bahoz- rûpela 48.
(44) رسائل أوسمان صبري لابنته هنگور.
(45) أ. د. إسماعيل محمد حصّاف، تأريخ كردستان سوريا المعاصر 1947-1962 الجزء الثاني، ص153
(46) ترجمة: هورامي يزدي- مذكرات أوسمان صبري- الصفحة 8
**************************************************
تمّ نشر البحث بعد اطّلاع عائلة أوسمان صبري عليه،(ممّن ذُكِرتْ أسماؤهم فيه). *************************************************

 

خامساً: الوثائق والصور

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شارك هذا المقال: