الإسلام السياسي بين الكورد

شارك هذا المقال:

 

ميشيل ليزنبرغ

ترجمة: مصطفى إسماعيل

 

1-المقدمة

إن ثيمة الإسلام ليس بارزة جداً أو رائجة عندما يتعلق الأمر بالكتابات عن الكورد. إذ تميل التحليلات السياسية للقومية الكوردية على سبيل التحديد إلى التقليل من شأن الجوانب الدينية- التي يشترك فيها الكورد عموماً مع الإسلام السياسي- بين العوامل الإثنية الكوردية مثل اللغة التي تميز الكورد.1
إضافة إلى ذلك، يميل القوميون الكورد للمجادلة بأن الكورد قد تحولوا إلى الإسلام بالإكراه، وأن الديانة “الحقيقية” أو “الأصل” للكورد هي الديانة الهندو-إيرانية الثنوية الزرادشتية. هذه الديانة- كما يُزعم أيضاً- تستمر في طوائف مثل الإيزيدية وأهل الحق أو الكاكائية ويتم تصويرها على أنها أكثر كوردية جوهرياً من الإسلام السني الذي يلتزم به الكورد.
وبالمثل، فإن الباحثين الأجانب غالباً ما يولون أهمية خاصة لطوائف غير تقليدية أكثر غرابة ومفعمة بالحياة في كوردستان، ما أدى إلى قدر غير متناسب من الاهتمام المكرس لمجموعات مثل الإيزيديين وأهل الحق والعلويين، ناهيك عن الجماعات المسيحية واليهودية التي تعيش (أو كانت تعيش) في المنطقة.
لا يعني هذا انتقاد مثل هذه البحوث القيمة والمثيرة للاهتمام، ولكن فقط لتوضيح أن الكثير من معتقدات وممارسات الكورد- الذين تعد الغالبية العظمى منهم مسلمين سنة تقليديين- لا تزال أرضاً بكر نسبياً.
إضافة إلى ذلك، بقدر ما تم إيلاء الاهتمام للإسلام السني بين الكورد، فإنه تم في الغالب التركيز على الطرق الصوفية ممثلة بالطرق الصوفية المحلية أو الطرق الصوفية عامة. أبعد من ذلك، تمت دراسة هذه الطرق من المجموعتين النقشبندية والقادرية، إلى حد كبير في السياقات الريفية. 2 ولكن الواقع أن غالبية الكورد لا ينتمون في الوقت الحاضر إلى الشبكات الصوفية، وأنهم مدينيون تماماً وليسوا متريفين نتيجة لكل من عمليتي التمدين القسرية والطوعية.
شهدت تركيا هجرة عمالية هائلة بدأت في الخمسينيات، وحركة عمالية عبر وطنية مهمة بنفس القدر انطلاقاً من الستينيات فصاعداً، في التسعينيات، أدى تدمير الآلاف من القرى الكوردية من قبل الجيش التركي إلى دفع ملايين الكورد الحاملين للجنسية التركية إلى المدن. لم يتم بعد تقييم العواقب الاجتماعية لهذا التمدين القسري السريع والفوضوي، لكن من المحتمل أن تكون دراماتيكية. في العراق، تم تدمير أكثر من 4000 قرية كوردية وآشورية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث تم نقل سكانها إلى بلدات من المجمعات السكانية، أو في بعض الحالات تمت إبادتهم. هذه الأحداث العنيفة قد حجبت إلى حد ما حقيقة أن العراق ككل كان في الغالب حضرياً في أواخر سبعينيات القرن الماضي مع تأخر المناطق الكوردية قليلاً (Marr 1985: 285).
إلى جانب هذه التطورات الديموغرافية، كان هناك تحول آخر بالغ الأهمية في وسائل وقنوات الاتصال الجماهيري. إذ حصلت أعداد متزايدة من الناس على التعليم، وارتفعت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة بشكل مطرد (في العراق على الأقل حتى عام 1990) وأصبحت نتاجات الطباعة وبخاصة الإذاعة متاحة على نطاق أوسع. هذه العوامل على وجه التحديد- كما سأناقش أدناه- هي التي أدت إلى تغييرات جذرية في خاصية الدين ودوره في الحياة العامة والخاصة في أوساط الكورد.
كانت هذه التأثيرات- فضلاً عن ذلك- مختلفة إلى حد ما في تركيا والعراق، والتي سأركز انتباهي عليها هنا.
ترجع الاختلافات في جزء منها إلى الطبيعة السياسية المختلفة للدولتين الحديثتين في تركيا والعراق، وكذلك في جزء منها إلى الاختلافات المهمة فيما يسمى عادة “المجال العام” في هذين البلدين المعنيين، وهذا المجال هو الميدان أو الميادين التي يجري فيها نقاش سياسي واجتماعي وثقافي وأخلاقي.

الجماعات الدينية المغايرة وعلاقتها بالإسلام “السائد”

قبل البدء في موضوع الإسلام السني المعاصر بين الكورد، أود أن أناقش بإيجاز المجموعات المدعية أنها غير إسلامية أو ابتداعية ما قبل إسلامية في كوردستان. الواقع أن هذه الجماعات لها خلفية لا يمكن إنكارها في التقاليد الإسلامية (الشعبية)، ولا يمكن فهمها على نحو وافٍ بمعزل عن هذه الخلفية. إن الادعاءات المتعلقة بأصولهم المزعومة مما قبل الإسلام أو تميزهم الكوردي الصرف قد يكون لها استخدامات لأغراض قومية، ولكن في النقاشات الأكاديمية تكون مضللة على نحو جدي إن لم تكن مضللة بشكل مطلق.
كما قيل، فإن أكثر الجماعات التي تعد مألوفة وتم دراستها على نطاق واسع من بين الجماعات غير التقليدية/ الابتداعية في كوردستان هم الإيزيدية الذين لديهم مركزهم الديني في لالش في كوردستان العراق، والكاكائية أو أهل الحق في كردستان الإيرانية والعراقية، والعلويون في تركيا. المجموعة الوحيدة من بين هؤلاء التي تعد حصراً كوردية هم الإيزيديين. كثير من العلويين- إن لم يكن معظمهم- هم من الأتراك عرقياً، ولدى طوائف أهل الحق العديد من الأشياع التركمان والفرس وحتى العرب بدرجة أقل.
كان هناك تفاعل معقد بين عوامل دينية ولغوية في تحديد الالتزام الإثني لهذه الجماعات، وخاصة في مواجهة النزعات القومية المتصاعدة المتنافسة والتي تحاول ضمهم على النحو الذي سيتم مناقشته أدناه.
غالبًا ما تتخذ النقاشات حول الانتماء الإثني- ومن هنا الادعاءات المتعلقة بالولاءات السياسية- لهذه الجماعات شكل نقاشات حول أصولها الحقيقية، وهي مسألة قد شجعها إلى حد ما الانهماكات المعرفية الغربية اللغوية والأنثروبولوجية، خاصة تقليد القرن التاسع عشر حول اللغويات التاريخية والمقارنة وعلم الدين المقارن. غالباً ما تتمحور هذه النقاشات حول مسألة ما إذا كان دين أو لغة بعض الجماعات الكوردية يكشف عن الأس ما قبل الإسلامي أو الكوردي الابتدائي لها. هذه النقاشات حول الأصول والركائز هي قطعاً عوامل مهمة في السياقات المعاصرة للولاء العرقي والسياسي، لكنها في المقام الأول تدعو إلى شرعية ثقافية وسياسية، ويجب ألا يُخلطَ بينها وبين المرويات من التقاليد والممارسات الدينية الفعلية.
بين القوميين الكورد إذن، وبدرجة أقل بين الأكاديميين، هناك دون أدنى شك ميلٌ للتغاضي عن الخلفية الشعبية الإسلامية التي تتمتع بها كل جماعة من هذه الجماعات أو التقليل من شأنها أو إنكارها. الواقع على أي حال، أن كل هذه الجماعات تظهر تشابهات تنظيمية وعقائدية وحتى مصطلحية مع أنواع مختلفة من الإسلام الشعبي.
لا يمكن بأي حال تجاهل هذه المزايا باعتبارها مجرد تراكمات لاحقة أو تحريف في الديانات غير الإسلامية في الأصل. برزت هذه الجماعات تنظيمياً وعقائدياً وتطورت على خلفية الاتجاهات المحلية من الإسلام الشعبي، وخاصة الصوفية. لا شك، أنها دمجت مواد مذهبية وطقوس مما قبل الإسلام، لكن لا يمكن اعتبار هذه المواد جوهرها أو أصلها الحقيقي. إنه لمن المعتاد بالنسبة لتقاليد دينية جديدة أن تدمج وتحسن وتعيد تفسير العناصر القائمة للتقاليد الدينية والثقافية المحيطة بها. أيا كان أصلها إذن، فإن هذه المعتقدات والممارسات الدينية هي ما هي عليه اليوم بسبب ترسخها في العقائد والطقوس والتشكيلات الدينية الإسلامية الشعبية.
هناك قدر جيد من الأدلة التاريخية على هذه الروابط الصوفية أو الشعبية الإسلامية. لا يمكنني مناقشة هذا الادعاء بالتفصيل هنا، لكن بعض الملاحظات ستفي بالغرض. أقلّه حتى القرن السادس عشر، كان الإيزيديون يُعتبرون نظاماً صوفياً عادياً. قد تبدو عقائدهم وممارساتهم مريبة للبعض، ولكنها ليست غير إسلامية أساساً أو في الأصل. يصبح هذا واضحاً بجلاء من كتيب ضد الإيزيديين كتبه المدافع والمناظر السني الشهير من القرن الرابع عشر أحمد بن تيمية (توفي عام 1328 م)، والذي- كما سيظهر أدناه- هو أيضاً مصدر إلهام للإسلاميين الحاليين: الشخصيات والحركات “الأصولية”. لا ينتقد ابن تيمية إلى حد كبير الإيزيديين (أو العدوية كما يسميهم) بسبب أي مواد إيمان غير إسلامية مثل ثنوية الزرادشتية أو عبادة الشيطان، ولكن فقط بسبب التجسيد (التسبيح) ووحدة الوجود، أو بشكل أكثر دقة لالتزامهم بعقيدة “وحدة الوجود”، التي نشأت في عمل الصوفي المسلم الشهير بنفس القدر ابن عربي (المتوفى 1240 م) وفي الطريقة الصوفية.
إنه ينتقدهم بشدة أيضاً لتبجيلهم المُغالي لـ يزيد- الخليفة الأموي السادس- ولعائلة الشيخ عدي، مؤسس الطائفة الإيزيدية (الذي كان هو نفسه إلى حد كبير صوفياً من لبنان). يدين ابن تيمية الممارسات الإيزيدية من حيث “البدع” و “الغلو” التي كانت تستخدم في الاتجاهات التحريفية داخل الإسلام، ولا يلوح بمصطلحات من قبيل الزندقة كتهديد لهم بعدّهم غير مؤمنين، وهي مصطلحات كانت تستخدم بوضوح ضد الديانات غير الإسلامية مثل المانوية والزرادشتية. بعبارات أخرى، لا يعتبر ابن تيمية الإيزيديين سوى طائفة صوفية ضالة، وينتقدهم على هذا الأساس.
تنطبق نقاط مشابهة على الطوائف الابتداعية الأخرى التي يزعم أن لها طابع أو أصل غير مسلم. وفقًا للوثائق العثمانية، كانت الكاكائية أو أهل الحق لا تزال تعتبر طرق صوفية عادية، وبالتالي فهي تنتمي تماماً إلى المجتمع الإسلامي أو الأمة، أقله حتى القرن السادس عشر. (Van Bruinessen 2000: 283)
وبالمثل، فإن العلويين في تركيا تعرضوا للاضطهاد بوحشية في القرن السادس عشر من قبل السلطان العثماني سليم العابس، ليس بسبب أي ثنوية غير إسلامية أو إيمان بالتناسخ، ولكن بسبب احتمال أنهم يشكلون بالفعل طابوراً خامساً للحركة الشيعية الصفوية الضالة بقيادة الشاه إسماعيل، مؤسس الإمبراطورية الصفوية الإيرانية. خلال معظم القرون التالية، زعمت السلطات العثمانية بأن العلويين لم يكونوا موجودين كمجموعة منفصلة، وصنفتهم- على أي حال- كـ بكتاشيين، أي كأعضاء في طريقة صوفية أخرى، قد تكون ممارساتها على الأقل بدعاً مثل غيرهم من الطوائف الأخرى، ولكن كانت سياسياً غير مشبوهة. لفترة طويلة إذن، كان العلويون يعتبرون مسلمين خلص وبسيطين من قبل السلطات، وربما من قبل جيرانهم السنة أيضاً.
يمكن تقديم نقاط مماثلة بشأن معتقدات هذه الجماعات. لقد جادل بعض العلماء بأن بعض الجوانب غير المتجانسة الأكثر وضوحاً لدى هذه الجماعات الدينية، مثل الثنوية الإيزيدية المزعومة وإيمان الكاكائية بالتناسخ ليست من بقايا أس ديني ما قبل إسلامي، بل هي ابتداع عقائدي لأزمنة أكثر حداثة رغم وجود مثل هذا الأس في المعتقدات والممارسات الشعبية (الهندو-إيرانية جزئياً). (Lescot 1938: 43; Van Bruinessen 2000: 249-50)
وبالتالي فإن ممارسات عبادة الشيطان المزعومة لدى الإيزيديين تظهر قرابة أقل مع الثنوية الصارمة للتقاليد الدينية السابقة للإسلام والهندو-إيرانية للزرادشتية- التي تعترف بمبدأ الشر على قدم المساواة مع إله الخير – لكن الإيزيدية تقترب أكثر من الرؤية الصوفية الإسلامية للشيطان أو إبليس. في هذه الرؤية (الإيزيدية)، ليس الشيطان هو مبدأ الشر، لكنه في الواقع أفضل أتباع الله. المشكلة تعود إلى أنه برفضه الركوع لآدم إنما يرفض الأمر الإلهي، ولكنه يطيع الإرادة الإلهية التي تحرم على مخلوقات الله عبادة غير الله. بعبارات أخرى، فإن الشيطان قد صور على أنه التوحيد الأكثر صرامة لجميع مخلوقات الله، وهذه بالضبط مأساته لأنه لن يستعيد مكانه الشرعي بجوار الله حتى نهاية الزمن (Awn 1983).
قصارى القول، قد تكون بعض “الأسس” الدينية ما قبل إسلامية المزعومة لهذه الجماعات في الواقع تفسيرات شعبية إسلامية أو إعادة تفسير لمواد موجودة.

2- تركيا

بالانتقال إلى صيغ الإسلام السني الأكثر تقليدية، يبدو أن تغييرات كبيرة قد حدثت في الثقافة الدينية بين الكورد في كل من تركيا والعراق. وكان لذلك تداخلات معقدة مع الهوية الإثنية الكوردية. تقليدياً، اعتبرت الحدود الإثنية الدينية أكثر أهمية من الحدود اللغوية، ورغم كون معظم الكورد من المسلمين السنة، فلقد تم تمييزهم إلى حد ما عن جيرانهم الأتراك والعرب من الجانبين الديني واللغوي. أولاً، كانوا (الكورد) ينتمون إلى المذهب الشافعي أو المدرسة الشرعية الشافعية بدلاً من المذهب الحنفي لدى جيرانهم الأتراك والعرب. ثانياً، كانوا (الكورد) عموماً أكثر ميلاً إلى الأشكال الصوفية المنظمة للإسلام التي تمارس في التعاليم والطرق الصوفية، وبشكل خاص في الطريقتين النقشبندية والقادرية. في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت الطرق الصوفية هي الحاضنة الرئيسية للتنظيم الاجتماعي والتحشيد، وكان قادتهم أصحاب الكاريزما/ الشيوخ في المقام الأول هم قادة التمردات الكوردية المبكرة. كان الشيوخ في وضع جيد يؤهلهم للعمل بشكل خاص كوسطاء في النزاعات، وبالتالي للعمل كرموز أو قادة في الحركات القومية الكوردية الأوسع، لأنهم كانوا في وضع يسمح لهم بالتغلب على الانقسامات القبلية التي ازدادت أهمية منذ أن ألغت السلطات العثمانية الإمارات الكوردية المحلية في منتصف القرن التاسع عشر. أشهر هؤلاء الزعماء القوميين الدينيين هو الشيخ سعيد من بالو الذي تزعم ثورة كبيرة لكن غير ناجحة، شارك في تنظيمها مع القوميين الكورد العلمانيين والمدينيين في عام 1925. لم ينجح قادة هذه الثورة في التغلب بالكامل على الخلافات القبلية والطائفية: فعلى الرغم من أنها كانت ذات طابع قومي في المقام الأول، فقد تم حشد المشاركين وفقاً لتعبيرات دينية (سنية). نتيجة لذلك، فإن الكورد العلويين في المنطقة، والقبائل الأخرى التي كانت من بين ضحايا القبائل السنية التي شكلت في العقود السابقة قوات الحميدية أو القوات غير النظامية للسلطان، إما امتنعوا عن المشاركة في التمرد أو عارضوه بشكل فعال. 3
في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، اتخذت الحكومة الكمالية العلمانية القوية في الجمهورية التركية المؤسسة حديثاً تدابير صارمة ضد تطلعات القوميين الكورد والزعماء الدينيين أمثال مشايخ الصوفية. لقد انتهجت حملة علمانية راديكالية وعنيفة في كثير من الأحيان، مستوحاة من فكرة العلمانية الفرنسية باعتبارها تشتمل على حظر كامل للدين في المجال العام، وكان ذلك أيضاً رغبة مستوحاة من التجربة الفرنسية في نمط الحكم شديد المركزية. في الوقت نفسه الذي تم فيه إعلان اللغة الكردية لغة محظورة، تم أيضاً حظر جميع المدارس الدينية والمحاكم الشرعية والمراقد والتكايا الصوفية. استمر البعض منها على أساس سري، لكن الطرق الصوفية فقدت الكثير من دورها التقليدي في المجتمع الكوردي. كان الهدف من هذا النهج هو فرض رقابة صارمة من الدولة على الدين أكثر من القضاء على الدين، والحيلولة دون أي شخص ومحاولة استخدام الدين كأداة للتعبئة السياسية.
على الرغم من أن سياسة علمنة الدولة كانت قد خفت حدتها بالفعل بعد الحرب العالمية الثانية حين دخلت تركيا مرحلة التعددية الحزبية، إلا أن سياسة علمنة الدولة قد تم تعديلها في تركيا بشكل جذري في أعقاب الانقلاب العسكري لعام 1980. فمن أجل مواجهة الاستقطاب السابق بين اليمين واليسار، أمر الجنرالات الآن بإعادة أسلمة المجتمع من الأعلى. تم بناء المساجد بوتيرة أكبر، وتم إدخال التعليم الديني الإلزامي في المناهج الدراسية. تظهر الأهمية التي ربطها الحكام الجدد بهذه السياسات في حقيقة أن مديرية الشؤون الدينية كانت تتمتع في وقت ما بميزانية أعلى في إنفاقها من ميزانية وزارة التعليم. 4
تزامنت سياسة إعادة الأسلمة هذه مع ثورة نيو ليبرالية (وشكلت بالفعل جزءاً منها)، والتي بدأها قادة الانقلاب ونفذت في المجتمع التركي بأسره خلال حكم رئيس الوزراء (الرئيس لاحقاً) تورغوت أوزال. اشتملت هذه الثورة- من بين أمور أخرى- على تدمير النقابات العمالية الأكثر تطرفاً، وتطوير طبقة وسطى مدينية جديدة كانت إسلامية بوضوح في أخلاقيتها كما كانت استهلاكية في التطلعات. جسد حزب الرفاه الإسلامي الذي يتزعمه نجم الدين أربكان هذا التطلع الجديد، لكنه لم يكن على أي حال التشكيل السياسي الوحيد الذي يفعل ذلك. الكثير من افتراضات حزب الرفاه الثقافية والأخلاقية كانت واضحة أيضاً في حزب أوزال (الوطن الأم) والعديد من الأحزاب الرئيسية الأخرى. الجدير بالذكر أن هذه التطورات أثرت على الكورد والأتراك معاً (يجب أن نتذكر أن أوزال كان من أصل كوردي، وقد قال ذلك مراراً على الملأ).
في مخاطبتهم الشعبوية للجماهير، انتقد قادة حزب الرفاه التباهي الفج بمزايا الثراء لدى محدثي النعمة، لكن برامج الحزب الاجتماعية والسياسية ركزت على تحسين الأخلاق والطباع الحميدة أكثر من إعادة توزيع الثروة والأملاك. لذلك ألقى زعيم الرفاه أربكان خطابه حول “التنظيم الاقتصادي العادل”، ملقياً باللائمة في محنة الفقراء في تركيا على المجموعة الاقتصادية الدولية، ولا سيما اعتماد تركيا الشديد على البنك الدولي ومديونيتها لصندوق النقد الدولي، ولكن نظراً لرؤيته المحافظة في نهاية المطاف، لم يدعو إلى إصلاح اقتصادي جذري أو إعادة توزيع الثروة. 5 هذا يعني أن حزب الرفاه هو إلى حد كبير حزب من الطبقة الوسطى الدنيا ومن سكان المدن الذين استقروا فيها حديثاً، وتعكس أيديولوجية الحزب آمالهم وتطلعاتهم في تحسين الاقتصاد والحراك الاجتماعي الصاعد، فضلاً عن اهتمامهم بالأخلاق والشرف.

المجال العام والكورد

شهد أوائل عقد التسعينيات عملية تحرير معتبرة للاقتصاد وإلى حد ما للمجال السياسي. كان لظهور قنوات البث الخاصة إلى جانب وسائل البث المملوكة للدولة نتائج مهمة بشكل خاص. في الوقت نفسه، كان هناك انفراج طفيف في الحظر المفروض على إنتاج وبيع المجلات والكتب وأشرطة الكاسيت الكوردية. أدت هذه التدابير إلى زيادة في تنوع وتغير في الخصائص والأصوات في المجال العام: بخلاف الاستقطاب السياسي الأكثر صرامة بين الجماعات اليسارية واليمينية الذي ميز عقدي الستينيات والسبعينيات، كان هذا العقد أكثر انفتاحاً على القومية (التركية والكوردية)، وكذلك على الأصوات الدينية التي ظهرت أو عادت إلى الظهور، سواء أكانت من الطائفة السنية أو العلوية. ساهم الوجود المتصاعد للأصوات الدينية في وسائل الإعلام المخصخصة في إضعاف قبضة الدوغما الكمالية القاضية بحظر الدين تماماً من الحياة العامة، كما زاد من فسحة التعبير عن الدين باعتباره مستقلاً عن الدولة، وبالتالي كقناة للمعارضة السياسية.
حمل التصاعد المطرد لحزب الرفاه الإسلامي في أوائل التسعينيات- والذي وعد ببديل للتنظيم الكمالي، وبالتالي للقومية التركية المتزمتة والعلمانية الراديكالية التي ميزت الجمهورية التركية- استمالة محتملة للناخبين الكورد. كان حزب الرفاه في منظوره الاقتصادي والاجتماعي حزباً رئيسياً عموماً، ولكن في عام 1994 كان ينظر إليه على أنه معارض وتصالحي بما فيه الكفاية بالنسبة للكورد (الذين ناشدوا باسم الأخوة الإسلامية ومفهومها الغامض للعدالة الاجتماعية الذي تم التعبير عنها بمفهوم نظام عادل أو adil düzen) ما أدى إلى استقطاب التصويت الكوردي الهائل في المحافظات الشرقية (Duran 1998). لكن هذا التزايد المفاجئ في التصويت للإسلاميين كانت أقل دلالة على أسلمة مفاجئة للمجتمع الكوردي في تركيا- رغم أنها كانت في جزء منها كذلك- بل أكثر من ذلك عرضاً واسع النطاق للتصويت الاستراتيجي بين الكورد. كانت أصوات حزب الرفاه ستذهب إلى الحزب الديمقراطي المؤيد للكورد إلى حد كبير، لو لم يُمنع هذا الحزب من المشاركة في الانتخابات في الأشهر السابقة. كنتيجة لحظر الحزب الديمقراطي، رأى الكثير من الكورد في جنوب شرق البلاد في حزب الرفاه بديلاً “معارضاً” جيداً، رغم أن الحزب في المناطق الغربية من تركيا كان له مكانته بين الأحزاب الرئيسية. لكن هذا “التحول الإسلامي” (لدى الناخب الكوردي) لم يكن ذا طابع ثابت.
منذ وصول حزب الرفاه إلى السلطة عام 1996، تضاءل الحماس الكوردي لسياساته ووعوده كثيراً. في الانتخابات المحلية لعام 1998، وفي الانتخابات البرلمانية لعام 1999 خسر حزب الرفاه الكثير من أصواته السابقة، بينما تمكن حزب الديمقراطية للشعب HADEP خلفُ الحزب الديمقراطي DEP- الذي لم يتم حظره هذه المرة- من الحصول على نسبة كبيرة (وفي بعض الأماكن الأغلبية المطلقة) من الأصوات في الشرق الكوردي، رغم أنه فشل في اجتياز الحاجز الدستوري أي 10٪ من الأصوات على مستوى البلاد، وبالتالي لم ينجح في ضمان التمثيل في البرلمان الوطني. 6
إن التحضر السريع والتحول النيو ليبرالي في كل من المجال العام والاقتصاد بشكل عام قد أثرا بالمستوى نفسه على المجتمع العلوي. بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين، بدا أن العلوية- التي لم تكن عقيدة دينية موحدة بل كانت عبارة عن مجموعة من التقاليد الدينية الريفية والمتناقلة إلى حد كبير شفاهياً- في طريقها إلى التقلص. في السياق الحضري الجديد، كان من شبه مستحيل الحفاظ على الروابط الدينية مع الزعماء الدينيين الريفيين التقليديين أو مواصلة ممارسة الطقوس العلوية، وعلى وجه التحديد طقس العبادة العلوي الـ “جيم”. لكن بحلول أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت التصريحات العامة بالظهور والتي طالب فيها العلويون بالاعتراف بهم كطائفة مختلفة ومشروعة. جزئياً، شكل هذا الظهور العلني الجديد للعلوية ردة فعل على فرض الإسلام السني كدين للدولة في أعقاب انقلاب عام 1980. حافظت الحركة العلوية الناشئة على علاقات مترددة إن لم تكن متناقضة مع الدولة والحركتين القوميتين التركية والكوردية.
تقريباً وبالتزامن مع هذه التطورات ولكن بشكل مستقل عنها، أظهر حزب العمال الكوردستاني منذ عام 1990 وما بعده إشارات على اكتساب الزخم كحركة جماهيرية. من أجل زيادة جاذبيته الشعبية، ومن أجل مواجهة الاتهامات الدعائية التركية التي تقدمه كمجموعة من “الملحدين الماركسيين” و “الإرهابيين الأرمن (المسيحيين)”، بدأ الحزب بالتأكيد على مؤهلاته الإسلامية السنية. لكن هذه الحركة الشعبية قادت إلى تجدد أو تزايد العداوات مع قسم من الكورد العلويين. بالنسبة لعدد كبير من العلويين، فإن مصطلح “كوردي” يعني كوردي سني بحكم التعريف، لذا ليس العلويون كورداً ولا يمكن أن يكونوا كورداً. كان التشديد الأقوى على الدين السني للكورد عموماً مرتبطاً بتنفير العلويين الكورد. اختار الدعائيون الأتراك بشغف فكرة أن العلوية كانت في الأساس فرعاً شعبياً تركياً من الإسلام، ما يعني ضمناً أن مفهوم “الكورد العلويين” كان ينطوي على شيئ من التناقض في الاصطلاح. كان هذا تحدياً خطيراً للقوميين الكورد في تركيا، وخاصة بالنسبة لحزب العمال الكوردستاني الذي قام بجهد دعائي كبير ومرّكز في المجلات والتظاهرات (خاصة في المنفى الأوروبي)، وبشكل متزايد في بث القناة التلفزيونية الفضائية الكوردية MEDTV. هذا الجهد الدعائي جادل بأن العلوية كانت أصلاً وحقاً ديانة كوردية. 7 وفي الوقت نفسه، كثف الحزب حرب الكريلا في ديرسم- معقل الكورد العلويين- بهدف التسبب في القمع المكثف من قبل قوات الأمن التركية التي من شأنها زيادة الوعي القومي الكوردي للسكان المحليين. (Leezenberg)
بمعزل عن هذه الأحداث بشكلٍ كبير، أدى الظهور المتزايد للعلويين (الذين كان يُنظر إليهم عادةً كيساريين) في المجال العام إلى زيادة التوترات مع الدوائر التي كانت أكثر على يمين الطيف السياسي والتي رأت نفسها مدافعة عن “الأرثوذكسي” الذي هو الإسلام السني. أدى تصاعد التوترات إلى العديد من المواجهات العنيفة، كان أسوأها صيتاً وأكثرها دموية هو الهجوم العمد على فندق يستضيف مؤتمراً علوياً في سيواس في يوليو 1993 وأحداث الشغب في أحياء غازي عثمان باشا الفقيرة في إسطنبول في مارس 1995. جزئياً، تزامنت التوترات بين السكان العلويين والإسلام السني المسيس مع الانقسام التركي-الكوردي. كان سكان غازي عثمان باشا يتألفون إلى حد كبير من الكورد العلويين من منطقة تونجلي/ ديرسم. لكن الأهم من ذلك، أن أحداث الشغب عكست عدم ثقة عامة علوية بالدولة، وكراهية لـ “الفاشيين” المرتبطين بها. مع بعض المسوغات، اعتبر العلويون أن قوى الأمن مرتبطة بقوة باليمين المتطرف (وخاصة حزب الحركة القومية MHP، والقومية التركية والإسلام السني أو الإسلام السياسي).

إلا أنه، لا توجد في الوقت الحالي حركة سياسية علوية موحدة، وهناك بدرجة أكبر خلاف بشأن الانتماء السياسي والإثني للكورد العلويين. وقد أدت السياسات النيو ليبرالية المتبعة من قبل الحكومات المتعاقبة- في تركيا كما في أي مكان آخر- إلى عدم تسييس مطرد بين الطبقات الأكثر فقراً. لم تتمكن لا الأحزاب اليسارية التقليدية ولا حزب الديمقراطية للشعب HADEP المؤيد للكورد من حشد أعداد كبيرة من الناخبين العلويين أو الكورد في المراكز المدينية في غرب تركيا. على أي حال، لا يسمح القانون التركي بإنشاء أحزاب تستند على خصوصيات طائفية مثل العلوية أو أحزاب قائمة على أسس عرقية، سواء أكانت كوردية أو غيرها.
في الوقت الحاضر، فإن العلويين بعيدون عن تشكيل حركة اجتماعية أو سياسية موحدة كما كان الحال دائماً. الإثنية الكوردية ليست سوى واحدة من عديد خطوط الانقسام بين العلويين، إن لم تكن أبرزها. بزوال كل من الأحزاب اليسارية الرئيسية والراديكالية، ومع فشل التمرد المسلح الكوردي، يتم تقديم مجموعة من الخيارات الجديدة للكورد العلويين. يبدو أن العلويين في الوقت الحاضر يتحركون أكثر نحو المركز السياسي، وبعيداً عن السياسات اليسارية التقليدية. بدلاً من ذلك، يشاركون بشكل متزايد في العديد من جمعيات الفولكلور- والتي عادة ما تكون غير مسيسة نسبياً- رغم كونها في منافسة حامية مع بعضها البعض (Vorhoff 1999). ظهرت العديد من الاتحادات العلوية خلال عقد التسعينيات، ووقفت على مسافات مختلفة من الدولة التركية. وبالمثل، أنشأ الديرسميون منظمات تهدف إلى جمع وتعزيز التقاليد الثقافية في منطقتهم الأصلية والمحافظة عليها. يبدو أن ظهور “جمعيات ديرسم” كان أساساً نتيجة التدمير العنيف لثقافتهم التقليدية من قبل الجيش التركي.
هذه الأنشطة كانت مسترشدة بإحساس طارئ بأهمية الحفاظ على العادات المحلية التي كانت على وشك أن تختفي إلى الأبد، ولكنها استرشدت بدرجة أقل بكثير من الناحية السياسية، ناهيك عن المطالب الإقليمية.  إذن، لم يكن تصاعد المبادرات الكوردية العلوية في أواخر التسعينيات حركة عرقية أو طائفية بقدر ما كانت حركة فولكلورية (التراث الشعبي) ومناطقية.
لقد تم وصف هذا الشكل الجديد من العلوية القائم على الإلمام بالقراءة والكتابة والاتصال الجماهيري بأنه تطور جدلياً بعيداً عن المواجهة مع أشكال “كتابية” للإسلام (مدرسية وشرعية وعقائدية). 8 لكن مثل هذه المزاعم تقلل من شأن التغييرات الضخمة التي حدثت في “الكتابية الرئيسية” كذلك. إن تطور هذه التشكيلات الجديدة من العلوية يعكس الميول في العالم الإسلامي ككل.
في تركيا، لم تعد الأصوات الدينية في المجال العام سلعة محتكرة من قبل الزعماء والمؤسسات الدينية التقليدية. بشكل متزايد، ينضم الأشخاص ذوو التعليم العالي (والدولة) إلى النقاش. بالنسبة لهؤلاء المثقفين الجدد، فإن مثل هذه المؤسسات الهامة سابقاً مثل المدارس الدينية والمدارس الشرعية الشافعية والحنفية والطرق الصوفية والشخصيات الدينية العلوية قد فقدت الكثير من أهميتها. كثير من الناس الذين يتحدثون علناً ويكتبون في مثل هذه المسائل قد تلقوا تعليماً حكومياً بل وعلمانياً غالباً. في وقت سابق، كان يمكن استخدام الإسلام كقناة أو أداة للفصل. في الوقت الراهن، فإن الإسلام يعمل غالباً كعامل للاندماج والمصالحة، وخاصة بين الأتراك والكورد. 9
بإيجاز، إن ظهور أو إعادة ظهور الإسلام على الساحة السياسية التركية منذ أواخر الثمانينات فصاعداً إنما حدث في مشهد ثقافي واجتماعي واقتصادي أعيد تشكيله بشكل جذري. لا يبدو أن الأشكال الجديدة من الإسلام تعلق أهمية كبيرة على الفروق التقليدية بين المدارس الفقهية والطرق الصوفية، لكنها تميل إلى التأكيد بقوة أكبر من ذي قبل على العداء بين السنة والعلويين. أبعد من ذلك، هي أقل ملاءمة للتعبئة السياسية بين الكورد تحديداً وحصرياً.

3- العراق

لقد سلكت الحياة الدينية بين الكورد في العراق مساراً مختلفاً إلى حد ما. خلال العقود الماضية، كان الإسلام السني ربما جزءاً أقل وضوحاً أو بروزاً في الحياة العامة في العراق مقارنة -بالتأكيد- مع القومية العربية والكوردية، والشيوعية و “الاشتراكية العربية”، أو حتى بالمقارنة مع الإسلام الشيعي، لكنه لم يكن غائباً.
لم يعرف العراق مطلقاً نوعاً من المحاولات الجذرية للعلمنة التي اتبعت في تركيا الجمهورية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. لم يتم إغلاق المدارس الدينية وحجرات الدراويش رغم أنه جرى إصلاح التعليم الذي تموله الدولة ليتخذ منحى علماني وقومي واشتراكي من فترة الانتداب فصاعداً.
إلى يومنا هذا، تقام طقوس الذكر الصوفية كل أسبوع حتى في المدن. من الواضح أنها مكروهة من الكورد من الطبقة العليا. حتى في المرحلة الأكثر اشتراكية (أو الاشتراكية ظاهرياً) في أواخر الستينيات والسبعينيات، لم تحاول حكومة البعث أبداً استعداء الجماعات الدينية من هذا النوع. ورغم تموضعه العلماني والتحديثي، فقد حاول البعث في كثير من الأحيان أن يضمن إلى حد ما إكراه الجماعات والقادة الإسلاميين على الولاء السياسي، وهذا ينطبق بقوة أكبر على السنة أكثر من الجماعات الشيعية.
أحد الأسباب التي جعلت الإسلام السني لا يشكل أبداً قناة رئيسية للمعارضة السياسية في العراق كما كان عليه الحال على سبيل المثال في سوريا أو مصر هو الحقيقة الديموغرافية البسيطة المتمثلة في أن العرب السنة يشكلون أقلية عددية في البلاد. 10
بشكل عام، في الخمسينيات والستينيات، كان الإسلام كمصدر للتعبئة- سواء كان سنياً أو شيعياً- في تراجع. كانت السياسة العراقية في الخمسينيات والستينيات تهيمن عليها بشكل كبير- ليس عسكرياً- الأيديولوجيات العلمانية المتنافسة للقوميتين الكوردية والعربية والإيديولوجية الشيوعية.
كانت الفعاليات الإسلامية السنية- والتي كان أهمها الفرع العراقي لجماعة الإخوان المسلمين- محدودة النطاق وغير مهمة من الناحية السياسية. كان الإخوان المسلمون العراقيون يرأسهم محمد الصواف (1912-1992)، وبشكل أهم العلامة الكوردي الشيخ أمجد الزهاوي. 11 في العراق، كان جلياً أن جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن تحشد على قدم المساواة في أوساط الكورد والعرب. لا يُعرف الكثير عن تاريخ هذا الفرع الإخواني، بصرف النظر عن حقيقة أنه لم يكن لديه الكثير من الأتباع كما يبدو. 12
على ما يبدو فإن جماعة الإخوان المسلمين العراقية كانت تتمتع باستقلالية نسبياً عن الفرع المصري. حتى الستينيات من القرن الماضي، كان يبدو منفتحاً نسبياً، حتى أنه كان يضم الشيعة أيضاً. يبدو أن هذا الانفتاح أدى إلى الانشقاق (والذي كبحه الصواف بصعوبة) وربما إلى عمليات مغادرة الأعضاء للجماعة.
في أواخر الخمسينيات- وفقاً لبعض المصادر- فقدت الجماعة الكثير من الأتباع القلة، حين ظهر أو زُعم أن الجماعة مخترقة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. يقال إن الصواف غادر العراق متوجهاً إلى المملكة العربية السعودية في عام 1959 ولم يعد أبداً. اعتباراً من أواخر الستينيات، أصبح الأمر أكثر سرية، وكان للجماعة عضوية مغلقة (al-Azami 1997a: 134-5; 140n46). رغم وجوده في المنفى، إلا أن الصواف ظل يُنظرُ إليه من قبل كثيرين كزعيم شرعي وإن لم يكن زعيماً تنظيمياً لجماعة الإخوان المسلمين العراقية.
الأهم من ذلك ربما، أن جماعة الإخوان المسلمين لم تتخذ موقفاً معارضاً من أي من الحكومات العراقية المتعاقبة، والتي هيمن عليها العرب من الحزام السني. في أواخر عام 1964، زُعم أن الرئيس العراقي آنذاك عبد السلام عارف قد تدخل لدى الحكومة المصرية من أجل المفكر الإخواني سيد قطب، ودعاه إلى الاستقرار في العراق (Algar 2000). لكن قطب بقي في مصر، ثم تم اعتقاله مرة أخرى وشنق في أغسطس 1966.
يقال إن نظام البعث من جهته قد تسامح مع أنشطة الإخوان المسلمين وربما شجعهم مقابل ولائهم للنظام وامتناعهم عن أي أنشطة سياسية. حين وصوله إلى السلطة في عام 1968، قام نظام البعث الجديد بتعيين العضو في جماعة الإخوان المسلمين عبد الكريم زيدان وزيراً في الحكومة. إن المعلومات المتعلقة بالتطور اللاحق للعلاقات بين الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين العراقية غير كافية للغاية، لكن باستثناء بعض الحوادث المنعزلة، لا يبدو أنها اتخذت طابع المواجهة العنيفة.
نظراً لرفضها الجهاد المسلح، حتى الشخصيات الأكثر معارضة في جماعة الإخوان المسلمين العراقية المعاصرة لا ترفض مطلقاً مد يدها لإمكانية الحوار مع الحكومة العراقية (al-Azami 1997b: 163). وأفيد أن الحكومة البعثية قد فوضت في واخر التسعينيات السيطرة الاجتماعية (والسياسية) على بعض الأحياء الشعبية في جنوب بغداد لمجموعات من الإخوان المسلمين. لكونهم سنة وموالين للنظام نسبياً، ربما ساعدهم ذلك في إبقاء الشرائح الشيعية الكبيرة والمضطربة من سكان المدن في وضع مستنكف.
قصارى القول، باستثناء المواجهات الدموية مع الشيعة العراقيين في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كانت النزاعات الاجتماعية والسياسية في العراق قد جرى التعبير عنها عادة من حيث الطبقة والعرق والقومية، وليس من حيث الفئات الدينية. قبل تناول التغييرات الجذرية على هذه الجبهة، والتي حدثت اعتباراً من الثمانينات، أود أن ألخص بإيجاز التطورات بين مجموعات الأقليات الدينية غير التقليدية في كوردستان العراق.

الإيزيدية والكاكائية في العراق البعثي

كانت التطورات بين المجموعات البدعية/ الابتداعية التي تعيش بين كورد العراق مختلفة إلى حد ما عن تلك الموجودة لدى العلويين في تركيا. رغم أن المدينية في العراق لم تكن أقل ضخامة، وربما مُدّمَرة أكثر منه في تركيا، إلا أن لها تأثيرات مختلفة تماماً على الشبكات الاجتماعية القائمة مثل العشائر والنظم الدينية.
في تركيا، كان تدمير مثل هذه المكامن المستقلة للقوة والتنظيم عنصراً لا يتجزأ من السياسات المحلية الكمالية حتى الحرب العالمية الثانية. في المقابل، لم تكن الحكومات العراقية المتعاقبة- بما في ذلك الحكومة البعثية التي حكمت العراق منذ عام 1968- تعارض هذه العلاقات والشبكات بشكل واضح، لكنها حاولت غالباً استغلالها لتحقيق غاياتها الخاصة. من أوائل الثمانينات وما بعدها، تم تعزيزها بشكل فعال في كوردستان العراق. إذ جندت حكومة البعث (أو حتى خلقت) زعماء العشائر للعمل كزعماء شبه عسكريين، وأيضاً كوسطاء لتوزيع المواد الغذائية والسلع والخدمات في معسكرات إعادة التوطين أو المجمعات السكنية التي تم ترحيل الآلاف من الكورد القرويين إليها (Leezenberg 1997b: 49-50). وهكذا كان يمكن للزعماء العشائريين والدينيين المحافظة على قدر من التأثير مع الحكومة المركزية أو حتى تعزيزها، لكن هذا الموقف كوسطاء كان يتطلب أحياناً موازنة دقيقة نوعاً ما.
حافظت جماعات الأقلية مثل الإيزيديين والشبك والكاكائيين على موقف إثني غامض، وكان بعضهم أقل التزاماً بالحركة القومية الكوردية. في الثمانينيات، صعدت الحكومة العراقية الضغط على هذه الجماعات، إما بإعلانها ببساطة أنها عربية، أو عن طريق إجبارهم- ولا سيما في إحصاء عام 1987- على تحديد أصلهم الإثني بأنه إما عربي (مما يعني الولاء السياسي للنظام) أو كوردي (والذي قد يؤدي وفي عدة مناسبات إلى إدانة النظام لهم بعدّهم “معارضين”).
في هذه الفترة، أصبحت مسألة ما إذا كان أعضاء هذه الجماعات “حقيقة” من الكورد أم العرب سؤالاً مركزياً لكل من الحكومة وأعضاء الجماعة وزعاماتها. حقيقة أن الكثير من الكاكائيين متعددو اللغات (يتحدثون الكوردية السورانية، العربية، التركمانية و/ أو تشكيلة من الهورامية) ما جعل مسألة هويتهم القومية “الحقيقية” عسيرة أكثر. 13
تنافس الادعاءات حول الولاء العرقي والسياسي أدى إلى انقسامات مختلفة في هذه الجماعات. لقد عانى أعضاؤها أيضاً على أيدي الحكومة- بخاصة في عام 1988- عندما تم تدمير الكثير من قراهم وتم ترحيل سكانها. (Leezenberg 1997a).
لم تخف حدة التنافس على خطب الولاء السياسي والعرقي في أعقاب انتفاضة عام 1991، لكنها انتقلت إلى الأحزاب الكوردية المحلية، وبشكل متزايد إلى المنظمات التركية والتركمانية .14
لقد انتهت سنوات الثمانينيات الأكثر تدميراً، لكن الموقف العرقي والسياسي لهذه الجماعات لا يزال ملتبساً وغير مستقر كما دائماً. رغم أنه لا يزال غير واضح كيف أثرت التطورات الأخيرة في التسعينيات على هذه الجماعات وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، إلا أن هناك مؤشرات على أن زعامات هذه الجماعات تمكنوا من المحافظة على مواقعهم أو حتى تعزيزها كوسطاء إما مع الحكومة في بغداد أو مع الحزب الكوردي المحلي المسيطر. (Leezenberg 1997a; أو راجع Jabar 2000 من أجل النمط العام لإعادة إنتاج القبلية في العراق في التسعينيات)
هناك أيضاً تقارير متفرقة تفيد بأنه مع ظهور الإسلام السياسي في المنطقة، كان الإيزيديون هدفاً لانتقادات وهجمات العناصر الإسلاميين، لكن من الصعب تقديم تقييم موثوق به لهذه المزاعم.

الإسلام السياسي في كوردستان العراق

بالنسبة للمراقبين الخارجيين، يبدو أن أحد التطورات الأكثر أهمية ومفاجئة في كوردستان العراق بعد انتفاضة 1991 ضد نظام صدام حسين هو الظهور المفاجئ لحركة إسلامية نشطة ومؤثرة. سرعان ما بدأت المنظمات الخيرية الإسلامية الأجنبية بالانخراط في برامج رعاية اجتماعية هامة ذات طابع إسلامي والتي كانت ظاهرة للعيان من خلال الانتشار السريع للمساجد التي شيدت حديثاً في المدن والريف على حد سواء. 15 ولكن ظهرت أيضًاً منظمات إسلامية محلية للمرة الأولى تقريباً ودون سابق إنذار. لم ينسجم ظهورها بشكل جيد مع الادعاء المسموع كثيراً والذي كُرر بحماس من قبل القوميين الكورد العلمانيين بأن الكورد كانوا تقليدياً أقل تشدداً في مراقبة الممارسات والواجبات الدينية من جيرانهم العرب. 16
أهم هذه المنظمات الإسلامية هي الحركة الإسلامية في كوردستان العراق بقيادة الملا عثمان بن عبد العزيز من حلبجة. في السنوات اللاحقة، اكتسبت المنظمات الإسلامية، ولا سيما الرابطة الإسلامية وهي منظمة رعاية اجتماعية إسلامية وحزب سياسي تابع لها “الاتحاد الإسلامي” مكانة بارزة. 17 سأحصر انتباهي هنا على الحركة الإسلامية. وأبعد من ذلك- نظراً لعدم وجود معلومات مفصلة وموثوقة- فإن السرد الحالي ليس أكثر من مخطط أولي.
في الدوائر القومية المُعلمَنة وبين عمال الإغاثة الأجانب (كثير منهم ينتسبون إلى منظمات خيرية مسيحية)، تلقت الحركة الإسلامية تغطية صحافية سلبية إلى حد ما. لقد اتُهمت بالعديد من الاغتيالات والتهديدات التي يتعرض لها أعضاء الأحزاب المنافسة وضد النساء العلمانيات، وحتى شن حملات تفجير ضد صالونات تصفيف الشعر للسيدات.
ولكن مهما كانت حقيقة هذه الاتهامات، فإن الأساليب العنيفة ومحاولة الأحزاب السياسية للتأثير على كل جانب من الحياة العامة والخاصة للسكان ليست جديدة بأي حال على كورد العراق الذين عانوا تحت حكم حزب البعث الشمولي لعقود، والذين عانوا كذلك من أساليب ومحاولات عنيفة للسيطرة على الحياة العامة من قبل الأحزاب الكوردية المحلية الأخرى في التسعينيات.
لكن الجديد هنا هو الخطاب الإسلامي بالتحديد الذي تم فيه التعبير عن نشاطات الحركة الجديدة. إضافة إلى ذلك، يبدو الأمر مختلفاً تماماً من ناحية السمات والتنظيم عن الحركات الإسلامية في تركيا المجاورة. على عكس حزب الرفاه مثلاً، فإن الحركة الإسلامية في كوردستان تعلن كفاحاً مسلحاً أو جهاداً ضد النظام العراقي والأعداء الآخرين. إنها حركة كريلا أكثر منها حزباً سياسياً مدنياً، وواضح أنها تجند معظم المقاتلين القبليين النشطين في الكادر الحركي، وربما أيضاً الشباب من الطبقات الحضرية المعدمة.
إن تفسير صعود الإسلام السياسي في كوردستان العراق المعطى من السكان المحليين المتعلمين هو أنه في أعقاب اضطرابات حرب الخليج وما تلاها، التفت الكثير من الكورد إلى الدين كمصدر للعزاء والأمن. وبالتالي سيكون الإسلام السياسي تعبيراً عن الإحباط من الحركة القومية الكوردية، وعن الكرب إزاء الظروف الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة منذ حرب الخليج عام 1991 والانتفاضة اللاحقة ضد النظام العراقي. 18 لكن هذا التفسير الشعبي يقدم بالكاد فهماً للطابع النشط وأحياناً العنفي للإسلام السياسي وجِدته الأساسية.
إضافة إلى ذلك، فإن الأنشطة الإسلامية في المنطقة قديمة، وهي تسبق الاقتتال وفساد القيادة الكوردية القومية في التسعينيات. إن الاعتداءات الإسلامية الأولى التي أنا على إطلاع عليها قد حدثت في السليمانية حوالي عام 1983 عندما شن المسلمون المحافظون حملة لقذف الأسيد على السيقان المكشوفة للنساء المتحضرات اللائي كن يرتدين التنانير التي اعتبرها الإسلاميون قصيرة للغاية. هذا النوع من الفعل الإسلاموي ليس بأي معنى إعادة تأكيد للقيم والممارسات الإسلامية التقليدية: الاعتداءات بالأسيد ليست وسيلة إسلامية تقليدية للعقاب أو القتال. 19
الحركات الإسلامية الجديدة ليست امتداداً مباشراً للطرق الصوفية القديمة أيضاً. لكن يبدو أن أصولها الفكرية والتنظيمية تكمن في التطورات الأخيرة في العالم الإسلامي ككل. كذلك، كانت الحركة الإسلامية تُتهم بانتظام بتلقي التمويل من المملكة العربية السعودية وإيران، وبالتالي فهي عُدَّتْ مجرد فزاعة تابعة للسعودية وإيران، ولكن لا ينبغي اعتبارها مجرد عميل لهاتين الدولتين (بين الدولتين- جدير بالذكر- هناك تنافس مرير على تزعم المشهد الإسلامي الدولي). في الواقع، هناك أدلة تشير إلى أن الحركة الإسلامية تعتمد أقلّه على الشبكات غير الرسمية نسبياً والشبكات الأقل اعتماداً على الدولة أكثر من اعتمادها على الرعاية المباشرة للدولة. أهم هذه الشبكات هي شبكات الإخوان المسلمين والمنظمات الباكستانية كالجماعة الإسلامية، كما سوف أناقش أدناه.
يبدو أن الزعماء الدينيين السنة في الشمال الكوردي لم يكونوا على خلاف مع نظام البعث. كما لوحظ، فإن الإسلام السني وخاصةً من النوع الذي وعظ فيه ومارسه الإخوان المسلمون كان على ما يبدو مصدراً للتوفيق وليس المواجهة مع نظام بغداد. من هنا، ليس مستغرباً أن القائد المستقبلي للحركة الإسلامية في كوردستان العراق الملا عثمان عبد العزيز- والذي كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين العراقية- لم يتخذ موقفاً معارضاً بشدة تجاه النظام العراقي حتى أواخر الثمانينات. في الفترة نفسها، كان أخوه ووريثه لقيادة الحركة الإسلامية في كوردستان العراق الملا علي في صفوف البيشمركة، ولكن بيشمركة الاتحاد الوطني الكوردستاني العلماني القومي بدلاً عن أي منظمة إسلامية.
في الخمسينيات، انتقل الأخوان من قريتهما حسناوا إلى بلدة حلبجة القريبة، حيث أصبحا إمامين في مسجد عثمان باشا. بعد ذلك، افتتحوا مدرسة دينية في حي كاني عاشقان. وفقاً لبعض المصادر، تلقى الملا عثمان تعليمه في جامعة الأزهر الإسلامية الشهيرة في القاهرة، لكن متحدثين باسم الحركة الإسلامية ينفون ذلك. مهما كانت حقيقة ذلك، فقد كانت له صلات وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين وحافظ عليها، وبخاصة- على ما يبدو- من خلال الجهود الخيرة لزعيمها العراقي الصواف (al-Azami 1997b: 162).
هناك ادعاءات متضاربة بشأن تاريخ تأسيس الحركة الإسلامية. تتحدث بعض المصادر عن عام 1978، وبعضها عن عام 1986 أو عام 1987، بينما يجادل آخرون بأن الحركة لم تبرز كحزب مكتمل إلا بعد حرب الخليج عام 1991. قد يكون هناك قدر من الحقيقة في كل هذه الادعاءات: إذ أنها تشير إلى التشكيل والتحول التدريجيين لجماعة دينية حضرية منظمة تتمحور حول الملا عثمان إلى حزب سياسي، وهي عملية يبدو أنها لم تكن قد انتهت تماماً بحلول انتخابات 1992 في إقليم كوردستان.
مهما يكن، فإن الأفكار والحركات الإسلامية في العراق وأماكن أخرى قد تلقت دفعاً قوياً مع الثورة الإسلامية الناجحة في إيران عام 1979. حتى خلال وقت مبكر من الثمانينيات، أفادت تقارير عن أن بعض الزعماء المسلمين المحافظين في منطقتي السليمانية وحلبجة قد قاموا بأنشطة أوسع وصريحة ضد القوميين الكورد والكوادر الشيوعية أكثر من معارضتهم للحكومة.
حدثت نقطة التحول- على الأقل فيما يتعلق بالحركة الإسلامية الناشئة- في عام 1987. ففي شهر مايو من ذلك العام دعا الملا عثمان إلى الجهاد ضد النظام العراقي كردة فعل على التدمير والهجمات الكيميائية على القرى الكوردية في المنطقة. هذه العمليات التي تم تصعيدها بعد تعيين علي حسن المجيد ابن عم صدام مسؤولاً في حزب البعث عن إدارة شؤون الشمال أجبرت الكثير من الناس من الريف المحيط على النزوح إلى مدينة حلبجة. ثم اندلعت تظاهرات أو ثورة كاملة ضد نظام صدام حسين في بعض أجزاء المدينة. حجم هذه الاحتجاجات إلى حد ما غير واضح، كما الحال بالنسبة إلى مدى عفويتها ومدى الاستجابة لدعوة الملا عثمان للجهاد، لكن رد فعل النظام كان سريعاً وعنيفاً. أمر المجيد رداً على التظاهرات بتدمير حي كاني عاشقان بأكمله في حلبجة حيث وقعت التظاهرات وحيث توجد مدرسة الملا عثمان 20 وتم اعتقال عدد غير معروف من المتظاهرين.
فر الملا عثمان مع شقيقه الملا علي وعدد من الأتباع إلى إيران، وهي خطوة مُنِحتْ فيما بعد معنى ديني: فقد صورها ممثلو الحزب كهجرة من النوع الذي قام به النبي محمد حين غادر مكة إلى المدينة المنورة في 622 م.
ولكن المحفز الأقوى لظهور حركة معارضة إسلامية بين الكورد هو الهجوم الكيميائي سيء الصيت للنظام العراقي على مدينة حلبجة ذاتها في مارس 1988. 21 هذا الهجوم- الذي لقي فيه حوالي 5000 مدني كوردي حتفهم- نشر على نطاق واسع بسبب تقارير الصحفيين الأجانب الذين كان قد جلبهم الجيش الإيراني. حفز الهجوم جيلاً كاملاً من الكورد على الحراك من جديد. في الأوساط الكوردية الأكثر علمانية وقومية، تم اعتبار الهجوم كتعبير عن الطابع العنصري أو الفاشي لنظام البعث، أما في الأوساط الدينية الأكثر ورعاً- على النقيض من ذلك- تم تفسيره على أنه فعل كفر من قبل نظام قومي علماني.
بتعبير آخر، أعطيت الأحداث الكارثية لعام 1988 أهمية دينية، وحشدت عدداً كبيراً من الكورد الأكثر تشدداً (وربما الأكثر هدوءاً نسبياً)، كما يتضح من السير الذاتية لبعض رواد الحركات الإسلامية. يبدو أن عدداً من النشطاء الكورد قد حولوا ولاءهم من الاتحاد الوطني الكوردستاني إلى الحركة الإسلامية، ربما نتيجة لدور الاتحاد الوطني الكوردستاني الغامض والقاتل في الاحتلال الإيراني لحلبجة، الأمر الذي استفز العراقيين لقصف المدينة.
كل من الدعوة إلى الجهاد في عام 1987 والهجوم على حلبجة عام 1988 كان سبباً للانفصال عن تنظيم الإخوان المسلمين، الشبكة الدولية الرئيسية التي كان ينتمي إليها الملا عثمان. أولاً، رفض الإخوان المسلمون الأساليب العنيفة مثل الكفاح المسلح ضد الحكومات الوطنية، وثانياً، شعر الإسلاميون الكورد بخيبة أمل مريرة بسبب تقصير فروع الإخوان المسلمين العربية في إدانة هجوم حلبجة.
استمر الملا عثمان كعضو في جماعة الإخوان المسلمين العراقية، لكنه سلك على نحو متزايد طريقه الخاص.
في المنفى الإيراني، حظي التنظيم الوليد بفرصة كافية لتنظيم شعبه، لكن يبدو أنه استلهم بقدر أكبر من تجربة الإسلاميين في باكستان وأفغانستان على الأقل. في باكستان، يبدو أن أقرب حلفاء الحركة الإسلامية هي الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو علاء المودودي وجماعة العلماء الإسلامية برئاسة مولانا فضل الرحمن. 22 في أفغانستان، يبدو أن الحركة الإسلامية قد حافظت على روابط وثيقة مع برهان الدين رباني الذي ينتمي أيضاً إلى شبكة الجماعة الإسلامية. لقد عارضوا بشدة أساليب طالبان المناهضة للشيعة. 23 يبدو أن قسماً كبيراً من كوادر الحركة قد تلقى تعليمه في مراكز التعليم الإسلامي في باكستان مثل جامعة السند والجامعات الإسلامية في بيشاور وإسلام أباد.
كما يبدو فقد تم تأسيس هذه الروابط في المقام الأول من خلال شبكات الإخوان المسلمين، وخاصة من خلال الصواف (الذين كان على ما يبدو يعيش في المملكة العربية السعودية منذ مغادرته العراق)، ولكن أيضاً من خلال جماعات الجهاد الأكثر نشاطاً التي انخرطت في قتال الاحتلال الروسي لأفغانستان.
كانت بيشاور خصوصاً محوراً للأنشطة الإسلامية في أفغانستان القريبة. كان الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية الباكستانية هما المركزان التنظيميان المحليان لهذه الأنشطة. كان هناك العديد من العرب في هذه المنطقة، الذين يسمون “الأفغان” في بلدانهم الأصلية (أو الأفغان العرب). (Rubin 1997; Roy 1998; Kepel 2000)
يبدو أن مصدراً مهماً لإلهام الحركة الإسلامية مفهوم الجهاد هو الفلسطيني عبد الله عزام. كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين والذي قُتل في أفغانستان عام 1989، وكان شخصية رئيسية في الأنشطة العربية-الأفغانية.
تظهر الأفكار والاقتباسات من كتابات عزام على نحو متكرر في بعض تصريحات المتحدثين بلسان الحركات الإسلامية الكوردية، إلى جانب تصريحات سعيد حوا، أحد قادة فرع الإخوان المسلمين في سوريا. 24
تفيد تقارير أن هناك عدد كبير من المقاتلين المخضرمين من الحرب الأفغانية بين مقاتلي الحركة الإسلامية الكوردية. وحافظ العديد من أعضاء الحركة الإسلامية في كوردستان العراق على اتصالات شخصية وثيقة مع عبد الله عزام. بتعبير آخر، جعلت الثمانينيات من القرن الماضي الحركة الإسلامية أقرب إلى ما يسمى بالجماعات السلفية الجهادية أو “الجهاد الأصولي” في العالم الإسلامي، أي الجماعات الناشطة التي ترتبط في الغالب بالحرب الأفغانية، والتي تنأى بنفسها عن كل من المملكة العربية السعودية والإخوان المسلمين. كان عزام منظراً رئيسياً لهذه الجماعات، مع دعوته لمزيد من الكفاح النشط ضد الغزاة الأجانب للأراضي الإسلامية (Kepel 2000).
مصدر الإلهام الأقدم للجماعات الجهادية هو ابن تيمية نفسه المذكور أعلاه والذي حارب بشدة بالقلم والسيف الاحتلال المغولي للأراضي الإسلامية. تختلف الحركة الإسلامية- في تفسيرها للجهاد على أنه كفاح مسلح- عن جماعة الإخوان المسلمين المعاصرة عموماً وعن الرابطة في كوردستان العراق (الرابطة الإسلامية) التي لا تملك جناحاً مسلحاً وتؤكد على الوسائل السلمية مثل التعليم والأخلاق العامة، والتي يبدو أنها تقوم بالتحشيد بين المجموعات المدينية المتعلمة أكثر.
ربما يُلاحظ بالنسبة للحركة السلفية الجهادية المعاصرة حين يتعلق الأمر بالعلاقات السياسية الدولية أن الحركة الإسلامية في كوردستان ليست معادية بقوة أو عقائدياً للولايات المتحدة الأمريكية. يقال أن الحركة تعرضت لانتقادات كثيرة من الجماعات الصديقة بسبب هذا الموقف. على هذا الأساس، يبدو أن الحركة الإسلامية سوف تكون مؤشراً- إن لم يكن رمزياً- على التصدع الخطير بين الحركات الإسلامية التي سببتها أزمة الخليج عام 1990 وحرب الخليج التي تلت ذلك والتي شنها تحالفُ دولٍ ضد العراق (من أجل بعض التحليلات المبكرة انظر Piscatori (ed.) 1991).
ما أثار استياء الحركة هو إعلان داعميهم التقليديين الدولة الوهابية السعودية والإخوان المسلمين تأييدهم لصدام حسين. لم يكن ممكناً بطبيعة الحال أن تقف الحركة الإسلامية الكوردية- التي دعت إلى الجهاد ضد النظام العراقي- جنباً إلى جنب مع هذا النهج، لذلك تم التخفيف من الروابط التنظيمية مع جماعة الإخوان المسلمين.
أعلن ممثلو الحركة الإسلامية في كوردستان العراق مراراً أنهم لن يتفاوضوا مع النظام العراقي، وكانوا يدّعون أن حركتهم تهدف إلى الإطاحة بنظام البعث واستبداله بدولة إسلامية، لكن عملياً لا يبدو أنها قامت بالكثير من الأنشطة العسكرية ضد العراق سواء قبل أو بعد انتفاضة 1991. في التسعينيات، كانت الحركة في الكثير من الأحيان متورطة في نزاعات محلية مع الأحزاب الكوردية الأخرى، وخاصة (ولكن ليس على سبيل الحصر) الاتحاد الوطني الكوردستاني، الذي اتهمته الحركة بأنه “شيوعي”.
سرعان ما ملأت الحركة الإسلامية الفراغ الذي خلفته ما تبقى من الدولة العراقية بعد انتفاضة عام 1991. لقد فعلت الكثير على المستوى الشعبي في المناطق الحضرية الفقيرة، والتي كان هناك ميلٌ إلى تجاهلها من قبل الأحزاب الكوردية الأخرى والوكالات الإنسانية الدولية على حد سواء. بحلول انتخابات عام 1992، أصبحت الحركة ثالث أكبر حزب سياسي في كوردستان العراق بعد الحزبين الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، حيث حصلت الحركة على حوالي 5 ٪ من أصوات الناخبين.
يُظهرُ التحليل الدقيق لنتائج الانتخابات أن الحركة الإسلامية في كوردستان العراق كانت قوية بشكل خاص في منطقة رانيه حيث يوجد مقرها الرئيسي، وفي المراكز الحضرية في أربيل والسليمانية وبالطبع في حلبجة ركيزة الملا عثمان (هنا، حصلت الحركة على عدد أصوات مماثل لتلك التي لـ الاتحاد الوطني والديمقراطي الكوردستاني). أضف إلى ذلك، كانت القاعدة الانتخابية للحركة مدنية بشكل ساحق.
مُلفتٌ للنظر أن الحركة الإسلامية حصلت على أقل من 2٪ من الأصوات في منطقة بادينان الشمالية والتي تعد أقل تحضراً وغالباً ما تعتبر أكثر قبلية وأقل “تحديثاً” من المناطق الواقعة جنوباً. لكن ربما يكون هذا “التخلف” المزعوم هو السبب في عدم إغراء الحركة الإسلامية في الشمال. بادينان معقل تقليدي للحزب الديمقراطي الكوردستاني، وظلت الهياكل القبلية والطرق الصوفية فيها قوية نسبياً. فيما بعد كانت الرابطة الإسلامية وليست الحركة الإسلامية هي التي حققت اختراقات في هذا المجال، ولكن مرة أخرى وبشكل كبير، في المناطق الحضرية مثل دهوك. 25
في ديسمبر 1993، ومرة أخرى من مايو إلى أغسطس 1994، انخرطت الحركة الإسلامية في مواجهات دموية مع الاتحاد الوطني الكوردستاني، حيث قد زعم أن كلا الجانبين ارتكبا انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ضد المقاتلين الأسرى (Amnesty International 1995).  وقد نفى المتحدثون باسم الحركة الإسلامية- شأنهم في ذلك شأن أطراف أخرى- عادة ارتكابهم أي من هذه الجرائم. 26 في أواخر عام 1995، تم التوصل إلى تسوية بين الطرفين بموجب وساطة إيرانية. في أبريل 1997، وقعت جولات جديدة من الاقتتال بين الاتحاد الوطني الكوردستاني والحركة الإسلامية على طول الحدود الإيرانية. في 16 مايو، تم التوقيع على هدنة، أفيد أنها كانت بضغط إيراني قوي. منذ أوائل التسعينيات، يبدو أن الحركة الإسلامية فقدت بعض جمهورها المديني، ويعزى ذلك جزئياً إلى وسائلها العنفية. في الانتخابات البلدية التي جرت في مارس 2000 في منطقة نفوذ الاتحاد الوطني الكوردستاني، كان حزب الاتحاد الإسلامي وليس الحركة الإسلامية هو الذي حصل على نسبة كبيرة من الأصوات.
في المجمل، تلقت الجماعات الإسلامية حوالي 30٪ من الأصوات في منطقة السليمانية. ولكن منطقة حلبجة هي في الوقت الحاضر منطقة نفوذ للحركة الإسلامية، وقد فرضت الحركة الحدود الشرعية في هذه المنطقة في عام 1997 وهي الحاكم بلا منازع هنا.
في يونيو 2001، حدث انشقاق كبير في صفوف الحركة الإسلامية لكردستان العراق عندما انشق علي بابير (الذي زُعم أن إيران قد اقترحت عليه سابقاً تشكيل تنظيم إسلامي خاص به) وشكل جماعته الخاصة باسم “الرابطة الإسلامية لكوردستان” (كوملي إسلامي كردستان) التي تركز أنشطتها في منطقتها الأساسية رانيه. أما الفرع الآخر في الحركة الإسلامية فلقد تابع باسم “الحركة الإسلامية المتحدة لكوردستان”.
وفقاً لبعض المصادر، قام الملا كريكار (أحد المقاتلين في أفغانستان وقائد حرب العصابات السابق في الحركة الإسلامية) بالإضافة إلى محمد البرزنجي بتشكيل حزب إسلامي ثالث منشق في مدينة السليمانية، أسمي “مجموعة المركز”. إنه لمن السابق لأوانه وضع أي تنبؤات حول مستقبل هذه الجماعات الإسلامية المعنية.
لا يُعرف الكثير عن عقائد أو ديناميكيات المُناصرة في منطقة حلبجة. لكن ممثلي الحركة الإسلامية غالباً ما يبذلون قصارى جهدهم للنأي بأنفسهم عن الحركات الوهابية مع كرههم القوي للشيعة والصوفية وتبجيل القديسين. لا يبدو أن هكذا ملاحظات هي مجرد واجهة للتنصل من إضفاء الشرعية على الروابط القائمة مع إيران. وبالمثل، في منطقة حلبجة، لا يبدو أن الحركة الإسلامية تعارض بشدة القبائل المحلية والطرق الصوفية. بالعكس، يرتبط بعض قادة الحركة من خلال التزاوج مع أحفاد الشيخ المعروف عثمان من بلدة طويلة، ويبدو أن الحركة تواصل الوساطة في النزاعات القبلية التي جعلت الملا عثمان زعيماً محترماً محلياً.

4- الخلاصة

ما الذي- إذن- يجب أن نفهمه من ظهور الإسلام السياسي بين الكورد في تركيا والعراق؟ ينبغي على المرء أن يحذر من التعاطي ببساطة عموماً مع “انبعاث الإسلام”: رغم أن هناك عوامل مشتركة بين البلدين (مثل التمدن السريع، زوال الشيوعية والمذاهب السياسية العلمانية الأخرى، والإصلاحات النيو ليبرالية للاقتصاد، ناهيك عن الصراع المسلح المطوّل بين القوميين الكورد والحكومات المعنية)، وكان لذلك تأثيرات مختلفة.
لدى تركيا أكثر من العراق فضاء عام، أو ربما فضاء عام مبني بطريقة مختلفة تماماً: في التسعينيات، تم خلق مساحة أكبر لسياسات الأحزاب المدنية وقنوات الاتصال الجماهيرية المخصخصة والعمل الخيري المحلي. وبالتالي، فإن الإسلام السياسي في تركيا هو مدني إلى حد كبير، سيما إذا ما تجاهلنا حالة حزب الله الكوردي سيئ الصيت، وهذا الحزب عبارة عن منظمة ظل، يبدو أنه ظل يُقابل بالتسامح إلى حد كبير، إن لم يكن مدعوماً بالفعل من قبل الأجهزة الأمنية التركية (Dorronsoro 1996, 1999: 129-31).
سمحت التطورات في السياسة الحزبية وإعادة تشكيل المشهد الإعلامي في التسعينيات بسماع أصوات متعددة. فيما لم يشهد العراق البعثي- على العكس ومع احتكاره الطويل الأمد لجميع مؤسسات المجتمع المدني والاتصال الجماهيري- ظهور مؤسسات راسخة للمجتمع المدني.
بالنظر إلى أساليب البعث الصارمة في التعامل مع أي شكل من أشكال المعارضة السياسية، كان من الطبيعي إن لم يكن محتماً، أن تظهر حركة إسلامية كوردية معارضة كتنظيم حرب عصابات. بعد انتفاضة عام 1991، خلق انهيار جهاز الدولة القوي، والفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تلت ذلك، والتآكل التدريجي للقومية الكردية كقوة تحشيد مجالاً للمنظمات الإسلامية مثل الحركة الإسلامية لكوردستان العراق و الرابطة الإسلامية لاكتساب النفوذ الاجتماعي والسياسي.
في تعارض مع الطابع التعددي نسبياً للفضاء العام والفضاء السياسي في تركيا، كانت لغة التهديد واستخدام العمل المسلح والأساليب العنيفة هي استراتيجيات سياسية أكثر تميزاً وفعالية في كوردستان العراق، وكذلك روابط المحسوبية والروابط القبلية.
لقد شهد العراق إعادة إنتاج وتعزيز آليات المحسوبية وخاصة في مواجهة التراجع الجذري للنظام الرعائي للدولة منذ أواخر الثمانينات وما بعدها. جميع الأحزاب الكوردية تقريباً في العراق تميل، أو قد نزعت إلى احتكار النقاش العام أو على الأقل استمالة مصادر المعارضة المحتملة. يبدو هذا كتركة من التقاليد اللينينية التي تعرف الحزب والدولة، والتي تخبر أيضاً عن ممارسة حزب البعث السياسية، ولكن لا تصدر عنها.
يبدو أن الشبكات الإسلامية في العراق شخصية وليس عقائدية بحتة. حيث الاختلافات الأيديولوجية- مثل تلك المتعلقة بحرب الخليج أو الموقف من الولايات المتحدة- لا يمكن تجاهلها ولكنها تحظى بأهمية ثانوية.
لدى تركيا مجال عام ومتنوع للغاية ومخصخص إلى حد كبير، يتم فيه التعاطي مع جميع أنواع النقاشات والتنافسات بوسائل غير عنيفة. كما أن لديها شبكاتها الإسلامية المستقلة ذاتياً، والتي لا ترتبط إلى حد كبير بشبكات الإخوان المسلمين.
كانت هناك ولا يزال بعضُ التواصل بين الجماعات الإسلامية المختلفة. كانت أفغانستان أحد الأسباب التي وحدت النشطاء المسلمين السنة. كانت الشيشان سبباً آخر في الآونة الأخيرة. لكن هذه الأسباب المنعزلة والرمزية إلى حد كبير لا تسمح لنا بالتحدث عن حركة أممية سنية موحدة.
بالنسبة للقسم الأكبر من التنظيمات الإسلامية فإنها تعمل في إطار وطني، وتكتسب العديد من السمات التي لدى الأحزاب الأخرى في البلدان المعنية. قد يكون لديها طابع محلي قوي. انظر إلى الحركة الإسلامية لكوردستان العراق التي يبدو أنها تراجعت في معقلها التقليدي- منطقة حلبجة- بعد نجاحاتها السابقة في المنطقة بأسرها.

ملاحظة:
هذا البحث هو ورقة أعدت في الأصل من أجل المؤتمر الدولي “كوردستان: الدولة غير المرغوب فيها” والذي جرت أعماله في الفترة 29 و31 مارس 2001 في جامعة ياغيلونيا في مدينة كراكوف البولندية، ونظم من قبل الجمعية البولندية-الكوردية.

ميشيل ليزنبرغ: باحث وأستاذ جامعي هولندي. درس فقه اللغة الكلاسيكية والفلسفة واللغويات في كلية الفلسفة بجامعة أمستردام ونال فيها شهادة الدكتوراة عام 1995 وهو حالياً أستاذ الفلسفة في جامعة أمستردام. كان مراقباً انتخابياً من بين آخرين غيره لأول انتخابات برلمانية تجري في إقليم كوردستان العراق في 1992. وقد أقام لسنوات في إقليم كوردستان أجرى خلالها الكثير من الأبحاث الميدانية عن الكورد. وهو إضافة إلى ذلك متخصص في الإسلام.

هوامش:
1-ولكن هناك بعض الدراسات حول التفاعل المعقد بين العوامل القومية والدينية، وخاصة Van Bruinessen (1992: ch. 4, 5; 2000).
2-أشهر هذه الدراسات وأكثرها تفصيلاً، بالطبع، هي Van Bruinessen (1992), esp. ch. 4.
3-انظر Van Bruinessen (1992: ch. 5; 2000; 143-158) من أجل المزيد من التفاصيل عن حول الأبعاد القومية والدينية لتمرد الشيخ سعيد.
4-لمعرفة المزيد عن المديرية، راجع Shankland (1999: 28ff.) الذي يشكك في المطالبة بالميزانية.
5-قارن مع Shankland (1999: 209-14) للترجمات من كراس أربكان لعام 1994 الذي يحمل نفس العنوان.
6-الواقع لم ينتقل الناخبون فقط، بل أيضاً انتقل أعضاء الحزب ذهاباً وإياباً بين الأحزاب بحرية نسبية. هناك العديد من السياسيين الكورد على الصعيدين المحلي والوطني الذين نقلوا ولاءهم من حزب الرفاه إلى حزب الديمقراطية للشعوب في انتخابات 1998 و1999.
7- تحولت بروباغاندا حزب العمال الكوردستاني في السنوات التالية إلى خطاب متعدد الثقافات أكثر توفيقية، والذي أكد على التنوع الغني لتراث “ميزبوتاميا”.
8-أبرزها من قبل M. van Bruinessen في محاضرته الافتتاحية لعام 2000 “المسلمون والأقليات، والحداثة: تحول الجماعات الدينية غير التقليدية في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا” والذي نُشر جزئياً في نشرة ISIM رقم 7.
9-Dorronsoro (1999) وCizre-Sakallioglu (1998) كذلك التأكيد على حقيقة أنه مع زوال الطرق الصوفية، فقد الدين الكثير من بروزه كمحفز أو قناة تنظيمية للحركات العرقية أو القومية الكوردية.
10-على المرء أن يحذر من التحليلات الاختزالية التي لا تزال سائدة على نطاق واسع للمجتمع العراقي والتي تسلم بأن الانقسامات العرقية بين السنة والشيعة وبين الكورد والعرب هي غير مبهمة وصلبة ومحددة كلياً.
11-ظهر أحد أقارب الزهاوي، ويدعى فاضل محمد صلاح الزهاوي على رأس القائمة الانتخابية للحركة الإسلامية لعام 1992، لكن كمرشح مستقل.
12-أدين بالكثير من المعلومات القليلة المتوفرة لدي حول تطور الإسلام السياسي السني في العراق لمقابلات مع شخصيات عراقية مجهولة مطلعة. راجع al-Azami 1997a, b; Karikar 1997.
13-مثلت هذه الخلافات حول الولاء الإثني للكاكائية برز أيضاً من الناحية اللاهوتية. إذ جادلت مصادر حكومية بأن الكاكائية عربٌ كونهم من نسل الإمام الشيعي والعربي علي. ورد المتخصصون الدينيون والقوميون الكورد من الكاكائية بأن قادتهم كانوا قد تقمصوا ذلك وليسوا أحفاداً مباشرين لعلي، وبالتالي يمكن أن يكونوا كورداً.
14- وبالتالي، فجميع الغلاة أو الجماعات الشيعية غير التقليدية زُعم فجأة أنها تركية “حقاً”، كجزء من الادعاء غير المعقول بأن العراق أحصى حوالي 2,5 مليون تركماني. حصل أعضاء هذه الجماعات على حصص غذائية ومساعدة مالية من قبل منظمات الرعاية الاجتماعية التركية شريطة أن يوقعوا إعلاناً بأنهم أتراك. من الواضح أن كل هذه الإجراءات كانت جزءاً من حملة لمواجهة المطالب القومية الكوردية في المنطقة.
15-ينبغي إضافة أن العديد من المنظمات الخيرية المسيحية الأوروبية والأمريكية العاملة في المنطقة كانت منخرطة في التبشير على حد سواء.
16-هناك أسباب للشك في صحة هذه المطالبات أيضا لفترات سابقة. لذا يستشهد Batatu (1981: 582) بأرقام من تعداد 1947، حيث يسرد أن ما مجموعه 4828 مؤسسة دينية حضرية و769 مؤسسة دينية ريفية. تقع غالبية المؤسسات الحضرية في المناطق الشيعية، ولكن يبدو أن الغالبية العظمى من المؤسسات الريفية (714) كانت في المنطقة التي يقطنها الكورد. التدين المنظم للكورد في الريف تفوق بذلك على كل من سكان الريفين السني والشيعي.
17-يبدو أن الرابطة مثلها مثل قيادة الحركة الإسلامية لكوردستان العراق هي فرع من فروع الإخوان المسلمين في العراق. أهدافها مماثلة لأهداف الحركة الإسلامية، لكنها تريد الوصول إليها من خلال التعليم والرعاية الاجتماعية بدلاً من الأساليب العنيفة.
18-راجع Leezenberg (1997b) لتوصيف عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة حتى أوائل عام 1996.
19-أظن أن هذه الاعتداءات هي مستوردة من أصل جنوب آسيوي (ربما باكستاني)، حيث أصبح إلقاء الأسيد على وجوه الأعداء (وخاصة النساء) ممارسة شائعة هناك للأسف، ولكن علي أن أقر أن ليس لدي معرفة كافية عن هذه الأمور.
20-انظر إلى المستند رقم 7 في مجموعة Middle East Watch لوثائق البعث والتي تم الاستيلاء عليها في انتفاضة 1991، Bureaucracy of Repression (1993).
21-راجع Leezenberg (قيد الإعداد) من أجل تفاصيل أكثر.
22-مثير للاهتمام أن جماعة العلماء يبدو أنها حافظت على روابط وثيقة مع نظام بغداد، حيث تلقت منه تمويلاً خلال الحرب العراقية الإيرانية بسبب موقف الجماعة المعادي بشدة للشيعة وبالتالي لإيران (Ahmad 1991: 168).
23-أعرب متحدث باسم الحركة الإسلامية عن رفضه لإنشاء حسينية شيعية في مدينة السليمانية السنية القوية، وقد اعتبر حزبه ذلك استفزازاً من الاتحاد الوطني الكوردستاني بناءً على طلب من إيران، لكنه قال إن حزبه لن يسمح لنفسه بالانجرار إلى الاستفزازات لاتخاذ إجراء ضد الخطوة.
24-ليس واضحاً إلى أي مدى طوّر الملا عثمان وجهات نظره حول الجهاد بشكل مستقل عن هؤلاء المؤلفين، كما يزعم بعض الناطقين باسم الحركة الإسلامية.
25-تأسست جامعة في دهوك عام 1992، وفي وقت لاحق تم افتتاح كلية الشريعة ، ممولة من المملكة العربية السعودية. غالباً ما يُزعم أن الرابطة الإسلامية تقوم بالتحشيد خاصة بين طلاب الشريعة هؤلاء.
26-مقابلات، كوردستان العراق، أغسطس 1994.

 

المصادر:
-M. Ahmad 1991 The Politics of War: Islamic Fundamentalism in Pakistan. In Piscatori (ed.)
-Amnesty International 1995 Iraq: Human Rights Abuses in Iraqi Kurdistan. London: Amnesty International (Report MDE 14/01/95)
-P. Awn 1983 Satan’s Tragedy and Redemption: Iblis in Sufi Psychology. Leiden: Brill
-T.H. al-Azami 1997a The Emergence of the Contemporary Islamic Revival in Iraq. Middle East Affairs Journal 3: 123-141
-T.H. al-Azami 1997b The Islamic Party and the Political Future of Iraq: An Interview with Dr. Osama Takriti. Middle East Affairs Journal 3: 155-164
-H. Batatu 1981 Iraq’s Underground Shi‘a Movements: Characteristics, Causes and Prospects. Middle East Journal 35: 578- …
-M.v. Bruinessen 1992 Agha, Shaykh, and State: The Social and Political Structures of Kurdistan. London: Zed Press
-M.v. Bruinessen 2000 Mollahs, Sufis, and Heretics: The role of religion in Kurdish society. Istanbul: Isis Press
-R. Çakir 1999 Islamisme radical en Turquie, hier et aujourd’hui. Les annales de l’autre Islam 6: 343-352
-G. Dorronsoro 1996 Les mouvements Islamistes au Kurdistan. L’Etat du monde 1996 : 102-104
-G. Dorronsoro 1999 L’Islam kurde dans le sud-est de la Turquie. Les annales de l’autre Islam 6: 115-134.
-B. Duran 1998 Approaching the Kurdish question via Adil Düzen: an Islamist formula of the Welfare Party for ethnic coexistence. Journal of Muslim Minority Affairs 18: 111128.
-Ibn Taymiyya 1906/1323 Risâlat al-‘adawiyya [Letter on ‘Adawism]. In Madjmû‘at alrasâ’il al-kubra, vol.1: 262-317. Cairo
-F.A. Jabar 2000 Shaykhs and Ideologues: Detribalization and Retribalization in Iraq, 19681998. Middle East Report 215: 28-31
-Sh.F. Karikar 1997 A Comprehensive Analysis of the Kurdish Cause. Nida’ ul-Islam (http:///www.Islam.org.au), September-October 1997
-G. Kepel 2000 Jihâd: Expansion et déclin de l’Islamisme. Paris: Seuil
-M. Leezenberg 1997a Between Assimilation and Deportation: History of the Shabak and the Kakais in Northern Iraq. In B. Kellner-Heinkele a.o. (eds.) Syncretistic Religious Communities in the Near East. Leiden: Brill
-M. Leezenberg 1997b Irakisch-Kurdistan seit dem zweiten Golfkrieg. In C. Borck a.o. (eds.) Kurdologie 1: Ethnizität, Nationalismus, Religion und Politik in Kurdistan. Münster: LIT Verlag
-M. Leezenberg (to appear) Kurdish Alevis and the Kurdish Nationalist Movement in the 1990s. In P.White & J. Jongerden (eds.) Turkey’s Alevi Enigma.
-Leezenberg (in prep.) Genocide and Responsibility: The Chemical Attack against Halabja and the Iran-Iraq War. Paper originally presented at the international conference Halabja 1998: 10. -Jahrestag der Giftgas-Angriffe auf Kurdistan-Irak, Berlin, March 1998-
-R. Lescot 1938 Enquête sur les Yezidis de Syrie et du Djebel Sindjâr. Damascus: Institut Français
-Ph. Marr 1985 The Modern History of Iraq. Boulder CA: Westview
-J. Piscatori (ed.) 1991 Islamic Fundamentalisms and the Gulf Crisis. n.pl.: American Academy of Arts and Sciences
-O. Roy 1994 The Failure of Political Islam. (transl. by C. Volk) Cambridge MA: Harvard University Press
-O. Roy 1998 Sunnitische Internationale aus dem Niemandsland. Le monde diplomatique (German edition), October 1998
-B. Rubin 1997 Arab Islamists in Afghanistan. In J.L. Esposito (ed.) Political Islam. Boulder/London: Lynne Rienner
-Ü.C. Sakallioglu 1998 Kurdish nationalism from an Islamist perspective: the discourses of Turkish Islamist writers. Journal of Muslim Minority Affairs 18: 73-90.
-D. Shankland 1999 Islam and Society in Turkey. London: Eothen Press
-K. Vorhoff 1999 Alevism, or can Islam be secular? Les annales de l’autre Islam, no. 6: 135-151
-L. Yalçin-Heckmann 1991 Ethnic Islam and nationalism among the Kurds in Turkey. In: R. Tapper (ed.) Islam in modern Turkey: Religion, politics and literature in a secular state. London: I.B. Tauris.

شارك هذا المقال: