فرضت الثورة السورية، التي دخلت عامها الخامس، مفاهيم وتجارب جديدة على المجتمع السوري، الذي عاش بعيداً عن التغيرات الراديكالية لعقود من الزمن، بعضها – على ما يبدو – كان مدفوناً في اللاشعور الجمعي لدى مكونات سوريا، بحكم فشل النظام في توحيد هذه المكونات توحيداً فعلياً، كالتغني بالهويات العرقية والطائفية، وبعضها الآخر، طرأ بحكم ظروف الاقتتال، الذي فرضه النظام أيضاً على كامل الجغرافيا السورية منذ سنوات، وما رافقها من إجبار ملايين السوريين على ترك منازلهم، في رحلات نزوح ولجوء، باحثين عن “الخلاص الفردي” في أغلب الأحيان.
في السنة الخامسة من عمر الثورة السورية، بات اللجوء واقعاً قائماً لا يمكن نكرانه، وواقع الحال يؤكد وصول مئات الآلاف من السوريين إلى البلدان الأوربية.
وبالرغم من اعتقاد البعض أنه “من السابق لأوانه، أن يتحدث السوري عن تجربة اللجوء، وملوحة البحار لازالت عالقة بروحه”، كالباحث والكاتب السوري (محسن سيدا) اللاجئ في الدانمارك حالياً، إلاّ أن ثمّة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، ولا بد من مناقشتها. فمثلاً، ماذا بعد اللجوء؟، وما الذي يمكن أن ينتج عن هذه التجربة المفروضة على السوريين في المستقبل القريب أو البعيد النسبي؟.
خلاص فردي
يعتقد الكثيرون، أن إحدى أهم دوافع لجوء السوريين إلى أوربا، يمكن أن تتحول إلى واحدة من أبرز نتائج هذه التجربة.
فعليّاً، لا يمكننا الاعتقاد بأن اللاجئ حين قرر خوض هذه التجربة، كان يفكر بهدف أبعد من خلاصه الفردي، أو عائلته بالمفهوم الضيق في أحسن تقدير، وهو الرأي الذي يؤيده الكاتب والروائي السوري (جان دوست)، المقيم في ألمانيا حالياً، إذ يعتبر أن “لجوء السوريين كأفراد إلى أوربا لا شك خلاص فردي لكل لاجئ، فهو ينجو من الموت تحت الركام، وينقذ عائلته من الخوف، من القتل، ويؤّمن لهم سبل العيش الكريم”، ويمضي بالقول “الأمان هو أكبر مكسب للقادمين إلى أوربا ثم تأتي المعيشة”.
إذاً، النتيجة الأولى التي تتحصل من هذه التجربة – اللجوء – هي تحقق الخلاص الفردي، ببعده الجسدي – المادي، لكن “الآثار النفسية لا يمكن الاستهانة بها، فاللاجئون يعانون من نوبات الحنين إلى الوطن، مما يؤثر على مزاجهم العام، ويؤخر تأقلمهم مع الواقع الجديد” باعتقاد (جان دوست).
كذلك الأمر، يؤكد (محسن سيدا) على نفس الفكرة – الخلاص الفردي – كأولى نتائج اللجوء، لكنه بنظره خلاص منقوص “افتراضي”، تشوبه الشوائب والمنغصات، إذ يرى أن “انزلاق الثورة السورية إلى حرب عبثية دفعت غالبية السوريين إلى الهجرة والبحث عن الخلاص الفردي في ظل غياب المشاريع الوطنية. فالسوريون اليوم يعيشون (وطناً) افتراضياً، كما عايشوا في الأمس حكاماً وحكومات افتراضية”، ويضيف “خرج السوريون في بداية ثورتهم السلمية يحلمون (بإقامة) وطن يتساوى فيه الجميع، واليوم، يحلم السوري في الحصول على )الإقامة)، في بلد يحميه من القصف و الدمار !. تواضعت أحلام السوري في الغربة التي تلاحقه كظله. عانى (الاغتراب) الروحي في ظل أنظمة الإستبداد، واليوم يعاني الغربة و(الاعتراب) معاً في المهجر” .
اللاجئ الناجح
آراء كثيرة من النخب السورية المثقفة، تعتقد بإمكانية أن تسفر تجربة اللجوء، عن نجاحات على الصعيد الفردي، قد تنسحب انعكاساتها على الشأن والوضع السوري بشكل أوسع، فالمجتمع ليس – بنظرهم – إلاّ مجموعة من الأفراد، ونجاحه وتطوره، هو نتاج مجموع نجاحات هؤلاء الأفراد، والمسألة بحاجة إلى بذل جهد من قبل اللاجئ، كي يطور من ذاته، ويعود قادراً على العطاء والنجاح، بعد التخلص من الفكرة السلبية لللاجئ “المتلقي” فحسب.
الحقوقي والكاتب (مصطفى اسماعيل) اللاجئ حاليّاً في الدانمارك، والذي تمكن خلال عام تقريباً، أن يحجز لنفسه مكاناً في هيئة تحرير صحيفة دانماركية، يقول: “تنهمك الغالبية الساحقة من اللاجئين القادمين من سوريا بالوضع الشخصي أو الأسري، بينما قلة لا تذكر تنهمك بالمجال العام وتحاول عدم الاستسلام لسيكولوجية اللاجىء”، ويردف “تتيح بلدان اللجوء الأوروبية، كمؤسسات ومجتمعات محلية، عديد الفرص أمام الكفاءات و الطاقات القادمة, لكن قلة فقط تحاول استثمار هذا المعطى الجديد، الذي لم يكن متاحاً في البلد الأم، بإمكان المثقف والنخب عموماً هنا البناء في الجانب الفردي المتعلق بتطوير أدواته / أدواتهم, ويمكنه/ هم البناء في الجانب العام عبر الإسهام الفاعل في الأطر والمبادرات المفتوحة”.
إذاً، والحال هذا، الأمر متعلق باللاجئ نفسه، فهو القادر أن يجعل من تجربة اللجوء انطلاقة جديدة، أو أن يجعل منها قوقعة يمضي فيها ما تبقى من عمره، وهذا الخيار واضح وجلي بالنسبة للنخب السورية التي وصلت أوربا أكثر من غيرهم باعتقاد (اسماعيل) الذي يرى أن “غالبية السوريين (من المكونات كافة)، في الدانمارك على سبيل المثال، منهمكون في تحسين أوضاعهم العائلية, وغالبيتهم (من خلال الملاحظة الشخصية في ظل غياب الإحصاءات) غير مهتمين بتعلم اللغة، التي تشكل العقبة الأهم أمام الانطلاق في فضاءات هذا البلد، فيما أقلية لديها هاجس الانخراط في فعل نوعي هادف في المستوى الفردي أو العام”.
والنظرة المتفائلة، تميل إلى أن تجربة اللجوء، ستسفر عن نجاحات، وستكون الاستمرارية “للاجئ الناجح”، القادر على تخطي عوائق الجغرافيا، بحيث يعكس نجاحاته في بلدان اللجوء على وطنه سوريا، إذ يعتقد الباحث (محسن سيدا)، أنه في أوربا “النخب الثقافية ستنمّي وتغني تجاربها، وستعيد النظر في آلهتها الفكرية والثقافية”، ويؤكد أن هذه النتائج الإيجابية للجوء ستنعكس على الوطن السوري لأن الثقافة والفكر لا يعترفان بالمسافات، معتبراً أن “الازدهار الفكري والثقافي بحاجة إلى فضاءات الحرية، فالوجود الجغرافي لا يحول أمام التواصل الفكري والثقافي” .
ماذا عن الوطن سوريا؟
مهما كانت نظرتنا متفائلة حول إمكانية أن تسفر تجربة اللجوء عن نجاحات على الصعيد الفردي، إلاّ أن ثمة واقعاً لا يمكن نكرانه، وأرقاماً لا يمكن تجاهلها، ووطناً خسر خيرة أبنائه.
الدكتور مسلم طالاس، لاجئ في تركيا، ومدرس الاقتصاد بجامعة ماردين التركية، يقيّم نتائج تجربة اللجوء السورية بنظرة أوسع، فيقول: “أعتقد أن الهحرة، بغض النظر عن الأسباب والدوافع، أفرغت سوريا من رأسمالها البشري بالدرجة الأولى، مثلاً هناك احصائية تقول أن ما يقارب 50% من الأطباء قد غادروا البلد، ومثلهم بقية الكفاءات العلمية والمهنية التي تم بناؤها على مدى سنوات وبمليارات الدولارات”، ويعتبر أنه في المستقبل “المعاناة الأساسية ستكون من نقص الكوادر، وطبعاً سينعكس ذلك على المجتمع اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. سنحتاج لما لا يقل عن 15 سنة لكي نعوض هذا النزيف البشري، ناهيك عن الكثير من المشاكل الاجتماعية، مثل تفكك العائلة والعنوسة ….الخ”.
في حين يعتقد الكاتب والصحفي السوري (فاروق حجي مصطفى)، اللاجئ في مدينة عنتاب التركية حالياً، أن من تبقى من السوريين بإمكانهم سد النقص الذي تركته تجربة اللجوء، واستنزافها للنخب والكوادر، كما أنه لا يرى في اللجوء إلى أوربا خلاصاً.
يقول حجي مصطفى: “بدا لي، أن أموراً كثيرة لم تتغير مع اللاجئ، حتى أنه ممتعض من هذه الخطوة، وبدا لنا نحن الذين لم نختر اللجوء، أنه لم يتغير الوضع بالنسبة لنا أيضاً، فما زال بإمكاننا أن نملأ ما تركه اللاجئون من فراغ”، ويردف: “بيد أنّ المؤسف على مستوى اللاجئ، ومن يعتبر نفسه في الداخل أو على تخومه، أنّ السوريين في حيرة، ولا يعرفون ماذا يفعلون، لا اللجوء يحقق لهم السعادة، ولا الحرب تنتهي، وتفتح لهم فرص الحياة من جديد”.
غالبية النخب الثقافية السورية، متفقة على النتائج السلبية التي ستترتب على تجربة اللجوء إلى أوربا، على صعيد الوطن السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن قسماً كبيراً من هؤلاء لن يعود حتماً.
الكاتب (جان دوست)، يعرب عن تشاؤمه بخصوص آثار هذه التجربة على الصعيد السوري، معتبراً أنه “بالنسبة لسوريا كوطن، لا بد أنه نزيف مؤلم، فالهجرة أصبحت كابوساً مرعباً، ولا جدال في أن نسبة العائدين بعد الحرب، ستكون قليلة جداً، مقارنة بنسبة الذي سيبقون، وهذا ما سيؤثر على واقع البلاد الاقتصادي والخدمي ومن كل النواحي، لأن غالبية من هاجر، هم من جيل الشباب والكفاءات والأيدي العاملة القادرة على إحداث قفزة نوعية في مجال الاقتصاد”، ويوافقه الباحث (محسن سيدا) بالرأي، إذ يوصّف الحالة السورية بعد تجربة اللجوء بأن “سوريا خسرت أهم كنوزها البشرية قبل أن تخسر مدنها و بلداتها. سوريا تعيش اليوم كارثة حقيقة بكل المعايير . وإذا ماعاد السوريون يوماً إلى رشدهم فمن السهولة بمكان إعادة اعمار سوريا، لكن ما من أحد يضمن عودة الكوادر العلمية إليها”.
خلاصة القول، أن تجربة لجوء السوريين إلى أوربا هي تجربة فُرضت على المجتمع السوري، ولم تأت باختيار السوريين، كما الحرب المفروضة عليهم للسنة الخامسة من قبل نظامٍ قابل المطالب السلمية المحقة بأعتى أنواع الأسلحة.
ولأنها تجربة غير مسبوقة، ليس من السهل التكهن بنتائجها المستقبلية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، لكن التعويل هنا، على أصالة الشعب السوي، والتاريخ المشترك بحلوه ومرّه لمكوناته، فهي الأمور التي ستحدد بقاء المفاهيم المعروفة حالياً فيما يخص سوريا في المستقبل، فيما إذا استمر نزيف اللجوء بالوتيرة الحالية، في ظل غياب أفق قريب للحل.
* نشرت هذه المقالة على جزئين في جريدة “كلنا سوريون” خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2015