جويس بلو
1 – مقدمة:
الأدب الكردي أوسع مما هو معروف عنه بشكل عام. اللغة الكردية هي اللغة المشتركة بين الكرد الذين تتراوح أعدادهم بين 25 و 30 مليون كردي، يعيش معظمهم في منطقة على شكل هلال يقع في الجزء الشمالي من منطقة الشرق الأوسط. سياسياَ، لم تكن هذه الأرض الشاسعة موحدة قط. ففي الحرب العالمية الأولى كانت مقسمة بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية. كما أن دول الحلفاء، بالرغم من وعودهم بإنشاء دولة كردستان المستقلة بعد الحرب، قسّموا الأراضي الكردية بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، ومن ثم وجد الكرد أنفسهم مقسمين، مواطنين لدول تسيطر عليها مجموعات عرقية (الترك والفرس والعرب)، لها مواقف عدائية تجاه الكرد بشكل عام. كما يوجد الكرد خارج الأراضي الكردية؛ ففي الدول التي انبثقت عن الاتحاد السوفياتي سابقا يعيش مليون كردي، و يعيش 800 ألف في شمال شرق إيران في إقليم خراسان، كما يعيش 100 ألف كردي في لبنان، وكذلك تعيش أعداد كبيرة من الكرد في المدن الرئيسة في الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك كله أنه، في العقود الثلاثة الأخيرة، تشكلت جالية كردية مؤلفة من حوالي 850 ألفاً في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وحتى أستراليا.
تنتمي اللغة الكردية إلى مجموعة اللغات الهندو-أوربية، وتشكل اللهجات الكردية، المنتشرة على مساحات واسعة، مجموعة متجانسة مميزة من اللغات الإيرانية الأخرى؛ مثل الفارسية والبلوشية والباشتو ولهجات بحر قزوين، ولم تكن هذه اللهجات موحدة، ودرجة الاختلاف بينها تتناسب مع البعد الجغرافي الذي يفرقها على امتداد أراض جبلية شاسعة لم تكن موحدة سياسيا. فلهجات المجموعة الجنوبية، وتسمى بشكل عام الكرمانجية (باديناني في العراق)، محكية من قبل أكبر مجموعة من الكرد، وتتضمن كرد تركيا وسوريا والاتحاد السوفياتي السابق وبعض أكراد العراق وإيران. المجموعة الوسطى من اللهجات في شمال شرق العراق تسمى السورانية، بالإضافة إلى لهجات كردستان إيران المجاورة مثل موكري وكردي وسيني، أما المجموعة الجنوبية فتتضمن اللهجات المتنوعة في الأقاليم الإيرانية في عيلام وكرمانشاه ولورستان.
على الرغم من أن الأمية كانت منتشرة في كردستان حتى خمسينيات القرن العشرين، فقد كان هناك دائما نخبة من المفكرين، إذ لاحظ هذا الشيء كلٌّ من الأمير شرف خان البدليسي (-1561- 1604) في كتابه “شرف نامه”، وكذلك الرحالة أوليا چلبي. فقد كتبت هذه النخبة المثقفة باللغة الفارسية والعربية (اللغات المسيطرة في المنطقة آنذاك). ففي القرن الثالث عشر كتب ابن الأثير (ت:1233)[1]، المؤرخ وكاتب السيرة ذو الأصول الكردية، كتابه “الكامل” باللغة العربية، و كذلك كتب ابن خلكان[2] (ت.1282) وأبو الفداء[3] (ت.1331) باللغة العربية، وكتبت الشخصية العثمانية إدريس حاكم بدليس (ت.1520) كتاب”الجِنان الثماني”باللغة الفارسية، وهو كتاب يسرد حياة السلاطين العثمانيين الثماني الأوائل، وكذلك كتب شرف خان البدليسي كتابه “شرف نامه” بالفارسية.
لا تزال هذه الظاهرة مستمرة إلى وقتنا الحاضر؛ فعلى سبيل المثال أحمد شوقي (1932-1868) اكتسب لقب “أمير الشعراء”؛ لأنه كان رمزا للشعراء العرب في عصره، كذلك بلند الحيدري (1926-1996)،بالإضافة إلى ثلاثة شعراء موهوبين، أوجدوا مدرسة عراقية للأدب كان لها تأثير حاسم في كامل الحركة الأدبية العربية. يثير سليم بركات (المولود عام1951) الذي يُعدُّ من قبل أقرانه أحد أبرع مبدعي النثر العربي، يثير في أعماله طفولتَه والحياة اليومية للمجتمع الكردي (وهو يكتب باللغة العربية). وكذلك يكتب يشار كمال (المولود عام1922)[4] أشهر كاتب تركي من بين كتّاب جيله باللغة التركية؛ فأعماله التي تُرجِمت إلى أكثر من عشرين لغة تحيي تقليد الأسطورة، وتُعرَفُ أعماله من حيث إنها تولي اهتماما بالفلكلور الكردي، ومن جانب آخر اشتُهر علي محمد الأفغاني (م.1925) من خلال كتابه “زوج السيدة آهو” المكتوب بالفارسية، وأعيدت طباعته أكثر من عشر مرات منذ الطبعة الأولى عام 1961.
بدايات الأدب الكردي غير واضحة؛ إذ إننا نفتقد ليس فقط إلى معرفة شيء عن الثقافة الكردية قبل الإسلام فحسب، وإنما لا توجد أيضاً طريقة لمعرفة عدد المجلدات التي دُمِّرَت في أثناء فوضى الصراع اللامتناهي الذي حدث، ولا يزال يحدث، على الأراضي الكردية. أولى النصوص الكردية التي وصلت إلينا مكتوبة بالألفبائية العربية-الفارسية، ولمدة طويلة كان هذا الأدب يُقرأ من قبل سكان المدن، أما أدب الأكثرية من الكرد-الفلاحين والبدو المستقرين والرحل- كان يُنقَل شفاهاَ، وحتى المعلومات القليلة التي نملكها عن حياة الشعراء تبدو متناقضة.
أول العلماء الغربيين الذين كتبوا عن الأدب الكردي هو القنصل الروسي في أرض روم، ألكساندر أوجوست جابا (Alexandre-Augute Jaba)، الذي أحبّ الكرد وثقافتهم؛ فقد كان محظوظا إذ التقى بالشخصية الكردية المثقفة الملا محمد بايزيدي، الذي قدم له مساعدة قيمة. ففي كتابهRecueil de notices et récits Kourdes servant `a la connaissance de la langue، de la literature et des tribus du Kourdistan كرّس جابا مقدمة للحديث عن “شعراء وكتاب كردستان الذين كتبوا باللغة الكردية”، وكذلك كتب سِيَرا مختصرة للشعراء التالية اسمائهم: علي حرير(Ali Hariri)،وملاي جزيري (Malâyê Jezri)، وفقي طيرا(Faqiyê Teyrân)،وملاي باتي (Malâyê Bâte)،وأحمدي خاني (Ahmedê Xâni)،وإسماعيل بايزيدي (Esmâ’il Bâyazidi)،وشريف خان (Sharif Xân)، ومراد خان (Morâd Xân).
طُبِعَت النسخة الأولى من “مجلس المثقفين الكرد” (Anjumani Adibâni Kord) عام 1920، فقد كان مؤلفه أميرالاي أمين فَيْزي بك (1923-1860) مفكرا وضابطا بارعاً، وشاعراً يكتب بالكردية والتركية والفارسية. بعد ذلك بعشرين عاماً نشر كمال بابير (علي بابير آغا 1975-1887) كتابه “باقة من شعراء زماني” (Guldestey Shu’eray haw’esrim) (السليمانية 1939)، إلا أن أكثر أهمية من ذلك كانت دراسة المؤرخ رفيق حلمي(1898-1960-) المعنونة بــ “الشعر والأدب الكردي”، و كذلك نشر علاء الدين سجّادي (Alâ-al-Din Sajjadâiأو Seccadî) (-1910- 1985) كتابه Mêzhuy Adabi Kordi في بغداد سنة 1956؛ ففي هذا الكتاب يَذكُر المؤلف 296 شاعراً، قضوا نحبهم، وهم من كردستان العراق وإيران كتبوا باللهجة السورانية، غير أنه لا يذكر كتّاب النثر أو المؤلفين الآخرين من مناطق كردستان الأخرى، سواء كانوا متوفين أم مَنْ هم على قيد الحياة، فهذا يعطينا فكرة عن مدى غنى الأدب الكردي، على الرغم من أننا لا نستطيع إلا أن نقدم وصفا مختصرا (انظرKurdo 1983; Uzun 1995)
2 – بواكير الأدب الكردي:
ظهرت الأعمال الأدبية الكردية المميزة في وقت كانت فيه الإمبراطوريتان العثمانية والصفوية الفارسية في طور التشكل، بينما أخفقت العائلات الكردية الحاكمة في تأسيس دولتهم، فأصبحت كردستان محل جشع جيرانها الأقوياء، الذين تقاتلوا للسيطرة عليها، مخلِّفين الدمار جراء هذا الصراع.
بالرغم من ذلك، تمكن ملاحظة أنه حتى الأعمال الأولى لهذا النتاج الشعري الذي وصل إلينا تظهر إتقانا في استخدام التقنيات الأدبية، ما يوحي أن هذا الشعر لم يكن جديدا، بل كان مستندا إلى تقليد قديم، لا تزال أعماله الأولى غير معروفة لنا. أدى تأسيس عائلات حاكمة كردية إلى استقرار سياسي سمح بدوره بتأسيس المدن حيث ازدهرت الثقافة والأدب، وتبنى هؤلاء الأمراء إيجاد تأسيس المدارس والكليات والإشراف على عملها وتوفير الدراسة لمن يحتاجها، فكانت الكتاتيب (مدارس القرآن) الملحقة بالجوامع مؤسسات التعليم الأساسية في كردستان حتى الحرب العالمية الثانية. فقد تمكن الأمراء الكرد من خلال هذه المدارس من تعزيز وتطوير تقليد أدبي كردي مكتوب مستندين إلى أعراف وتقاليد مشتركة، وعلى هذا تمكن كل جيل من الشعراء الكرد التعلم ممن سبقوهم،فأصبحت اللغة الكردية لغة أدبية عن طريق الشعر، بينما ظهرت النصوص النثرية لاحقا. استمدَّ الشعراء أشكالاً أساسية من الشعر العربي-الفارسي مكتسبين خزانا من الأجناس الأدبية والتقنيات الأسلوبية. وفي تتبع أصول الشعر الكردي،زعم بعض الباحثين أن أول شاعر كردي هو بابا طاهر،وهو يسمى أحيانا الهمذاني أو اللوري (انظر Sejjâdi 1956، ص. 170)، يستند أساس هذا الجدال إلى أصول هذا الشاعر الصوفي الذي ولد في همذان، التي يُظن أنها كانت ضمن الأراضي الكردية، بينما يعتقد باحثون متخصصون آخرون من أمثال جابا وقناتي كردو(Qanatê Kurdo)(1909 -1985–) أن علي ترموكي (Ali Tarmuki أو Termâxi) أو علي حريري هو أول شاعر كردي (انظر Kurdo 1985، ص. 14-57). غير أن أشهر الشعراء في الفترة الكلاسيكية هو الشيخ أحمد نيشاني (-1570-1640) الذي يعرف باسم ملاي جزيري؛ فقد كان مثل الكثير من المثقفين الكرد يتقن العربية والفارسية والتركية. يتضمن “ديوانه”Divân أكثر من ألفي بيت شعر،فلا تزال “قصائده” و”غزلياته” معروفة بين الناس، وتدرس في المدارس (مدارس القرآن) في كردستان. (انظر Hartmann 1904؛Amêdî 1977؛ Sharafqandi 1982). ألف ملاي جزيري سوناتة كما فعل مولوي في القرن التاسع عشر، وكما يفعل الشعراء الكرد في وقتنا الحاضر، ويهيمن الغزل على مشهد ديوانه على نحو ملحوظ، ولعل ذلك راجع إلى تأثره بالشعراء الفرس وخاصة حافظالشيرازي، ففي سياق الشعر الصوفي يحتفي الشاعر بنشوة الخمر ولذة وعذاب الحب الصوفي في شكله المثالي. عُدَّ ملاي جزيري،مثله مثل الكثير من الشعراء الصوفيين، قديسا في أثناء حياته، وكثرت الأساطير ونُسجت الحكايات الشعبية حول حياته، اختار ملاي جزيري أن يكتب بلهجة عائلة عزيزان، أمراء إمارة بوتان، الذين يؤسس التراث علاقة بينهم وبين أبطال عديدين في بدايات الإسلام هناك عام 1514. كما أنه استلهم مضمون شعره من تقاليد الشعر الفارسي.
صاغ الشعراء الكرد والفرس شعرهم على أشكال الشعر العربي، رغم بعض الاختلافات التي لا يمكن تجنبها؛ فقد اتخذوا قوافي وأوزاناً مبنية على علم عروض الشعر العربي،بالرغم من الاختلافات المهمة بين اللغة العربية واللغات الإيرانية في هذا السياق.
جاب ملاي جزيري كافة أنحاء كردستان، وكان له العديد من الأتباع (الطلاب)،وبهذه الطريقة أصبحت معاييره الأدبية وكذلك لغة أمراء بوتان عناصر أساسية في الأدب الكردي الكلاسيكي. فمن طلاب ملاي جزيري الذين يستحقون الذكر محمد مكس (Mohammad Mikis) الذي يعرف باسم فقي طيران ( Feqiyê Teyran) (-1590- 1660) الذي ألف “قصائد” و”غزليات”، ومن الممكن أنه كان أول شاعر كردي يكتب رواية شعرية مستخدما “المثنويات” ذات الأسلوب الشعري الوسيع.فقد ترك عدة أعمال موقعة بأحرف ه. م.: “قصة شيخ صنعان”، و”قصيدة الحصان الأسود”،و”قصة برسياي”، بالإضافة إلى مرثية عن موت معلمه ملاي جزيري.
كان أحمدي خاني (-1650- 1707) شاعرا صوفيا وفيلسوفا، فهم الناس ورأى نفسه واحدا منهم، فأعظم أعماله “مم وزين” (Mem û Zîn)، وهي مثنوية غنية بالصور الشعرية والمشاهد الغنائية، مبنية على القصة الشعبية الرومانسية “ممى آلان” (Memê Alân) التي تسرد قصة حب عذري بين الأمير مم والأميرة زين(Lescot 1999).
استعار أحمدي خاني الصور من الشعر الفارسي، قد يكون أُلهِم من قبل “ليلىِ ومجنون” لنظامي كنجوي، الذي ألّف قصيدته بأسلوب المثنوية وببحر الهزج. فهذا البحر الشعبي الشعري المدمج و الخفيف والموسيقي والسريع يناسب العبقرية الطبيعية للغة الكردية.فهذه القصة الرومانسية الحزينة مليئة بالرمزية القومية. يقدم الشاعر هذه القصيدة الرومانسية كردة فعل ضد الشعور القومي المتنامي للإمبراطوريتين العثمانية والصفوية، مبرزاً التميز الكردي وحقوقهم في الاستقلال والحرية. صاغ أحمدي خاني المشكلات الأربع للأدب الكردي: مهنة الكاتب؛ دور الشعر؛ العلاقة بين اللغة والأدب والمجتمع؛ وأخيراً وضع اللغة الكردية ذاتها.
3 – الأدب الكردي باللهجة الگورانية:
ففي نفس الفترة في أقصى جنوب كردستان، توصل هالو خان (-1585-1616)،أحد أفراد عائلة أردلان الكردية الحاكمة إلى اتفاق مع شاه عباس في أصفهان؛ ففي مقابل دفع جزية وحماية الحدود الغربية للإمبراطورية الفارسية يُعطى الكرد السلام ودرجة من الاستقلالية. فقد أعاد هالو خان وخليفته أحمد البلدات رعى الأدباء والشعراء الذين ألّفوا أعمالهم بالعربية والفارسية وبشكل خاص باللغة الگورانية، التي كانت أكثر انتشارا آنذاك من اليوم. فكان بين هؤلاء الناطقين بالگورانية أن ولدت عقيدة أهل الحق التي كانت ستكسب الكثير من الأتباع في السنين اللاحقة،فأصبحت الگورانية اللغة الأهم في التقليد النصي الكلاسيكي لأهل الحق؛إذ فضل الأمراء الأردلانيون، الذين ربما قد اتخذوا هذه العقيدة سرا، الگورانية التي أصبحت لغة القصر،وتمَّ تشجيع الأدب الگوراني، وأصبحت الگورانية اللغة الأدبية الشائعة في جنوب كردستان، وفي قصور عوائل بابان وسوران الحاكمة، التي كانت قد استقرت على السفوح الغربية لجبال زاغروس.
طورت الگورانية شعرها الديني والأسطوري والغنائي (MacKenzie 1965 Mokri 1956) مستخدمة أوزاناً شعرية من عشرة مقاطع لتنظيم الشعر قوافي مثنويات مع توقف بين شطرين. يميز هذا الشكل الشعر الفلكلوري وموسيقى منطقة گوران والمناطق الكردية التي استخدمت الگورانية كلغة أدبية.
يُعتقد أن يوسف ياسكا (1592- 1636) أول شاعر كتب “غزليات” بالگورانية، ويشبّهه الباحثون الكرد بالشاعر الفارسي رودكي؛ فقد أسس مدرسة للشعر، وكان له العديد من الطلاب، من ضمنهم الشيخ أحمد تاختي مردوخي (-1617- 1692)، والشيخ مصطفى بسراني (-1640- 1702) وأحمد بجي كوماسي (1877-1986) بالإضافة إلى آخرين. يُعرف الشاعر كاناي قوبادي (-1700- 1759) بملحمته الرومانسية “شيرين وخسرو”، كما يُعرف ملا بولاد خان (توفي 1885) بقصيدته الجميلة “ليلى ومجنون”. كان السيد عبد الرحيمي ملا سعيدي تاوكوزكي (-1806- 1882) آخر وأشهر شاعر كتب بالگورانية. فقد تحول قبره إلى مزار، وهو كان سليل عائلة قديمة ترجع أصولها إلى بير خدري شاهو الذي عاش في القرن الرابع عشر في خانكاه و باوا في منطقة هورامان. كتب الشعر باسم “معدوم أو معدومي”، لكنه كان يُعرف باسم مولوي أكثر، فقد كتب قصائد مدح دينية ( المدائح النبوية) بالعربية والفارسية والگورانية مستلهما كتاباته من الصوفية، و احتفل، مثل الشاعر الفارسي الصوفي جلال الدين الرومي، بنشوة الخمر الصوفية، إلا أنه يعرف أكثر لقصائده الرومانسية ولأغانيه المكتوبة بلغةٍ تمزج اللهجات الهورامية والتاوكوزية؛ فهو يستخدم المثنوية المقفى التي تميز الشعر الگوراني الشفاهي ذا المقاطع العشرة، ففي شعر غنيِّ بصورٍ غير معتادة يغني الشاعر الطبيعة، وهو الذي رسم الصورة التقليدية للفتاة الكردية في الشعر الكردي الموروث، وكانت الگورانية مؤثرة جدا كلغة الشعر لدرجة أن الكلمة، أي كوراني، أصبحت تعني “أغنية” باللهجة السورانية.
4 – بداية اللهجة السورانية كلغة أدبية:
في الجانب الغربي لجبل زاغروس، على سهل شهرزور، حكمت عائلة بابان الكردية أراضي شاسعة، امتدت من الزاب الأدنى إلى نهر سيروان (ديالى)، وكانت هذه المنطقة تضم كوي سنجق وخانقين وأجزاء أخرى من گرميان (كركوك) وغرب بلاد فارس. قام محمود باشا عام 1781 باتخاذ الخطوات الأولى لنقل عاصمته من قارا/قالا شوالان إلى موقع جديد، يقع حوالي عشرين كيلومترا إلى الجنوب الغربي وسمّاها السليمانية، على شرف باشا بغداد، ثم قام حفيده إبراهيم باشا بابان الذي أتى إلى الحكم عام 1783، بتطوير ودعم إدارة المدينة.
أما ابن عمه عبد الرحمن باشا بابان (Abd-al-Rahmân Pâşa Baban) فقد أتى إلى الحكم سنة 1789، وحكم ثلاثة وعشرين عاماً بشكل متقطع. وكأمير طموح حلم عبد الرحمن بابان بإزاحة أمان الله خان أردلان، الذي كان يحكم سينه (سنندج)، ولكي يبرز استقلاليته عن حاكميه، سواء أكانوا الفرس أم العثمانيين، ويؤكد اختلافه عن منافسيه التاريخيين، الأردلانيين، قرر عبد الرحمن أن يشجع لهجة منطقة شهرزور؛ فقد دعا الفنانين والأدباء والشعراء، وشجّعهم على التخلي عن اللهجة الگورانية، وطلب إليهم أن يتخذوا بدلا عنها اللهجة المحلية التي تعرف بالسورانية.
كان أول ما قام به هؤلاء الأدباء والشعراء أنهم قاموا “بترجمة” الأعمال العظيمة من التقليد الشفاهي باللهجة الكورمانجة إلى اللهجة السورانية، وكانت هذه هي المهمة التي كرّس لها علي بارداشاني نفسه، وهو الذي كتب أولى النصوص باللهجة السورانية، وكذلك ألّف “قصائد” وحُوِلت “الغزليات” التي كتبها إلى أغان موسيقية، و كانت موهبته معروفة لمعاصريه، وكان يُدعى “شاعر إمارة بابان”.
في القرن التاسع عشر وعلى وقع ظهور حركات قومية في المنطقة، ظهرت حركة قومية كردية أيضا، على الرغم من أنها كانت ممزوجة بالطابع العشائري/القبلي. ازدهر الأدب الكردي، إلا أن معظم الأدباء استخدموا اللغة الفارسية أو العربية أو التركية، ولوقت طويل عُدَّت الكردية لهجة فارسية، إلى درجة أن النخبة استخدموا الفارسية كأداة تعبير.
شهد الجزء الأول من القرن التاسع عشر ازدهار “مدرسة” نالي (Nalî) للشعر أو”المدرسة البابانية” في السليمانية برعاية الأمير أحمد باشا حفيد عبد الرحمن باشا بابان، إذ نجحت هذه المدرسة في تحقيق قبول لهجة السليمانية كلغة أدبية تقدمت بسرعة في المنطقة، الأمر الذي يبدو واضحا من خلال عدد المؤلفين الذين استخدموا هذه اللهجة. كان مؤسس مدرسة نالي هو ملا خضري أحمدي شاويسي ميكائيلي أو ملا خضري شارَزور (Mela Xidire Şarezûrê)، وهو أديب بارع يعرف باسم نالي؛ إذ ولد نالي عام 1880 في خاك وخول، هي قرية قريبة من السليمانية، وتوفي في إسطنبول 1856.ومثل ملاي جزيري استخدم نالي تقنيات شعرية اقتبسها من الشعراء الفرس، و كرّس نالي “غزليات” عدة لمجد الأمير أحمد باشا، راعيه وأحد المعجبين به، بالإضافة إلى عائلة بابان الحاكمة، فقد كان لشعر هذه المدرسة في بدايته نبرة دينية، حيث كانت هذه الفترة التي ازدهرت فيها الأخويات الصوفية إلا أن قصائده الغنائية هي التي حققت نجاحا كبيرا.
كان أحد الأعضاء الآخرين في هذه “المدرسة” هو عبد الرحمن بك صاحِبْقِران (Ewrehmen Begê Sahibqiran) (-1805- 1869) الذي ساهم في إرساء دعائم هذه اللغة الأدبية الجديدة، وكان يكتب تحت اسم سليم (Salîm) قصائد غنائية، وقصائد المدح والهجاء، وقصائد ذات مواضيع تاريخية، وهذه الأخيرة هي التي جلبت له الشهرة، إذ استخدم سالم في شعره بحر الهزج الذي يتناسب مع عبقرية اللهجة السورانية.
في تلك الفترة، عندما حاول العثمانيون إعادة حكمهم وفرضه على السكان المسلمين في الإمبراطورية العثمانية وذلك بحلِّ الإمارات الكردية وإرسال الأمراء والقادة التقليديين الكرد إلى المنفى، تفككت كردستان وأصبحت مسرحا لفوضى عارمة. وعندما أُطيح بعائلة بابان الحاكمة ونُفِيَ الأمير أحمد بابان إلى إسطنبول غادر الشعراء السليمانية؛ فاستقر سالم في طهران، وكتب قصائد تعبر عن آلام المنفى، عاد إلى السليمانية ليموت هناك سنة 1889.
كذلك كان مصطفى صاحبقران (-1800- 1859)، ابن عم سالم، ينتمي إلى مدرسة نالي. يتميز شعره بأسلوبه الغنائي والتعبير عن المشاعر القومية، و كتب في البداية باسم كردي، وبعدما غادر السليمانية أصبح يكتب باسم هجري (المنفي)، كانت قصائد كردي الغنائية، التي تتمتع بجمال استثنائي، مشوبة بمشاعر الحزن، وبعد ذلك تطور الشعر السوراني خارج حدود إمارة بابان في گرميان (كركوك) وموكريان وأردلان.
كان بين الجيلين الثاني (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) والثالث (القرن العشرين) شعراء أكثر موهبة وشعبية من أعضاء مدرسة نالي، فبفضل هؤلاء الشعراء اللاحقين أصبحت السورانية لغة أدبية ليس فقط في منطقة السليمانية، وإنما أيضا في كافة أنحاء ما يعرف اليوم بـ”كردستان الجنوبية”، الممتدة من الزاب الأعلى في الغرب إلى محافظة كردستان الإيرانية، حيث حلت محل الگورانية.
كانت السليمانية أول مدينة كردية فيها مدرسة علمانية (المكتبة الرشدية) التي تأسست عام 1893. أكمل الطلاب الموهوبون تعليمهم العالي في إسطنبول، حيث احتكّوا مع المثقفين من كافة أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وكذلك تعلموا اللغات الأوروبية هناك،فوسَّعت الأفكار الجديدة في إسطنبول آفاقهم، ولدى عودتهم إلى السليمانية عُهِدَت إلى هؤلاء الأشخاص وظائف عسكرية أو إدارية في المنطقة، وبذلك أصبحت السليمانية مكانا لتدريب المعلمين والأدباء والعلماء.
هناك شاعران لهما أهمية خاصة هما: حاجي قادري كويي (Hacî Qadir Koyî)، والشيخ رضا طالباني(Şêx Riza Telebanî)؛ ولد حاج قادر ملا أحمد، الذي يعرف باسم حاج قادر كوي، حوالي سنة 1816 في قرية بالقرب من كوي سنجق،التي كانت وقتها مركزا مهما للدراسات الإسلامية،فبعد إكمال دراسته غادر إلى إسطنبول حيث أصبح معلما لأولاد بدرخان باشا الذي كان تحت الإقامة الجبرية منذ إزاحته عن حكم إمارة بوتان عام 1847،ومن ثم عرف اللغة الكرمانجية وأدبها وبشكل خاص أعمال أحمدي خاني، كما أنه تواصل مع المفكرين الأجانب، و أشاد بأستاذَيْه نالي وكورد اللذين وصفهما بالرؤيويين العظيمين. “قصائد” كوي مكتوبة بلغة بسيطة يفهمها الناس عامة، وهي ذات محتوى اجتماعي مميز؛ فهي تمثل ردا على التقدم الذي يراه العلم ممكنا، فقد حاجج ضد كسل الملالي الذين انتقد بلادتهم الفكرية وأنانيتهم التي تقف عقبة في وجه حرية التفكير، كما أنه نقد هشاشتهم وضعفهم في مواجهة الحياة الحديثة، وكان أولَ شاعر استقدم إلى شعره أحداثاً معاصرة وأسماء ومصطلحات أجنبية معاصرة مثل؛ التلغراف والقطار والروس وفرنسا واليابان والصين. كانت قصائد الشاعر حاجي قادري كُويي القومية كالموسيقى في آذان جميع طبقات المجتمع الكردي، حتى بالنسبة لأولئك الذين يسكنون قرى نائية، فقد دخلت الكثير منها الحياة اليومية، والبعض منها أصبحت مثلاً يُضرَب بين الناس (Paul-Margueritte 1939)، توفي حاجي قادري كويي في إسطنبول سنة 1894.
وهناك شاعر آخر معروف هو الشيخ رضا طالباني الذي استقدم الهجاء إلى الشعر الكردي. وُلد حوالي 1835 في طالبان، هي قرية قريبة من گرميان (كركوك) لعائلة قديمة ومؤثرة من شيوخ الطريقة القادرية، الذين كانت لهم تكايا في قرى عدة في كردستان. وفي مرحلة مبكرة تصادم الشيخ رضا مع عائلته التي اتهمها بسرقة أملاكه، سافر كثيرا وقضى ثماني سنوات تحت رعاية الوزير الأعظم كمال باشا، وكان معلما خاصا للغة الفارسية لابن خديوي مصر سنتين، وبعد رحلة حج إلى مكة عاد إلى كركوك حيث قضى بقية حياته فيها مع عائلته. نُشِرت بعض قصائد الشيخ رضا طالباني لأول مرة باسم مجهول عام 1921،ثم نشرت في “مجلس أدباء الكرد” ثم في دورية “هدية من كردستان” (-1925 -1926بغداد). ظهرت أخيراً مجموعة من أشعاره سنة 1946 حررها حفيده. يمكن تصنيف أعماله في خمسة موضوعات؛ السيرة الذاتية والذكريات؛ والغزل؛ وهجاء القبائل المتنافسة المتصارعة؛ والمدائح و الأهاجي؛ وذم البخلاء (Edmonds، 1935). تتميز أعماله بلغة قوية، تلامس الفاحش وتخدش الحياء، نجدها بشكل خاص في قصائد تهجو الطقوس والمعتقدات الدينية لأهل الحق،توفي في بغداد سنة 1910.
ثمة شاعر آخر يتوجب ذكره هو محوي،اسمه ملا محمود ابن ملا عثماني بلخي، الذي تتميز “قصائده” و”غزلياته” بنبرة صوفية غنائية، وتمتاز بعذوبتها العظيمة. ولد محوي لعائلة نقشبندية في قرية بالقرب من السليمانية حوالي 1830، درس في سنندج ومهاباد، وفي سنة 1859 وُسِمَ برتبة الملا من قبل العلامة زهاوي، مفتي بغداد الشهير، منحه السلطان عبد الحميد الثاني مرتبا وعيّنه مديرا لـ”خانقه” سليمانية التي عرفت باسم “خانقه” محوي، حيث توفي سنة 1906. إحدى الثيمات المركزية في أعماله هي المحبوبة التي من خلالها يبلغ الحقيقة، وفي نهاية المطاف يصل إلى المقدس (الإلهي)، نٌشِر “ديوانه” (Divân) سنة 1922 (Âghâzâde 1922).
شرقا في منطقة موكريان على السفوح الشرقية لسلسلة جبال زاغروس عاش عبد الله بك أحمد إبراهيم (توفي 1916)، الذي كتب باسم أدب (Edeb)، لكنه يعرف أكثر باسم مصباح الديوان (Misbah al-Diwân). ولد في قرية بالقرب من صبلخ لعائلة كردية مرموقة ودرس في طهران، تزوج من نصرت خانم التي أحبها كثيرا، والتي تركته وتزوجت من حاكم صبلخ عندما تدهورت حالته الصحية. تتسم أعماله بسحر جمالي كبير مستوحى من مأساته الشخصية، وقصائده، التي تصف جمال نصرت خانم، انتُقِدت بشدة من قبل أنصار الشعر الكلاسيكي الذين رأوا فيها مخالفة للمعايير، وتشويهاً لمثالهم الأعلى المتمثل في محبوبة لا شخصية، وأدّت أعماله دورا مهماً في تطور الأدب المكتوب في كردستان إيران.
كذلك شهد القرن التاسع عشر بداية حركة لتحرير المرأة؛إذ تعد ماهْ شرف كردستاني (-1805- 1847)، التي تعرف باسمها المستعار مستورة كردستاني، بكل تأكيد تعد من خيرة الشخصيات النسائية لتلك الفترة في مجال الأدب في الشرق الأوسط. كانت الزوجة المفضلة لوالي أردلان خُسْرُو خان الذي كان هو نفسه شاعرا يكتب باسم, ناكام. وكان يُعتَقَدُ لوقت طويل أن مستورة كتبت فقط بالفارسية، إلا أنه اكتُشفت قصائد لها بالگورانية. كان لها كتاب غير منشور عن اللاهوت بعنوان “عقائد”، وهي كذلك مؤلفة “مجمع الأدباء”، أما أهم أعمالها فهو “تاريخ أردلان”، وهو تاريخ سلالة الأمراء الأردلانيين من القرن الثاني عشر حتى عام 1847، مكتوب بالفارسية سنة 1847، ونٌشِر للمرة الأولى من قبل ناصر آزادبور في سنندج سنة 1946، و ترجمه إلى السورانية حسن جاف وشكر مصطفى في بغداد سنة 1989 ثم ترجمه فاسيليفا إلى الروسية في موسكو سنة 1990. كان الشاعر نالي معجبا إعجاباً شديدا بشعر مستورة وكرّس إحدى “قصائده” لها. كذلك جدير بالذكر الإشارة، إلى جانب أخريات، إلى الشاعرة مهرابان (-1858- 1905) ابنة ملا حسني برواري، وكذلك سيرا خانم (-1814- 1865) من دياربكر، وأخيرا خاتون خورشيد، ابنة شيخ معروف كه لُوس.
5 – الصحافة الكردية:
واكب تطور الصحافة الكردية الحركة القومية الكردية، وكان تأثيرها في الثقافة والحياة القومية الكردية مهماً للغاية؛ إذ ظهرت أول جريدة باللغة الكردية في القاهرة عام 1898 باسم “كردستان”(Kordestân)، وكانت باللغتين الكردية والتركية، أسسها كلٌّ من مقداد مدحت بك وعبد الرحمن بن بدرخان باشا أمير جزيرة بوتان الذي عُزِل سنة 1847، و كان المنفيون الكرد الذين تجمعوا في الجريدة متأثرين بالثقافة الأوربية وأفكارها الجديدة. فعلى سبيل المثال أدان هؤلاء مجازر الأرمن التي ارتكبت بين عامي -1894- 1896، وأدى موقفهم هذا المعادي للنظام في إسطنبول إلى أن ينقلوا مضطرين مقر الجريدة إلى جنيف ثم إلى لندن وفوكستون ثم إلى جنيف مرة أخرى، حيث صدر هناك العدد الأخير من الجريدة (ع.31 أبريل 1902). أما في إسطنبول ففي سنة 1913 تحولت جريدة “اليوم الكردي” (Rôji Kord) إلى “الشمس الكردي” (Hatâwi Kord)، وفي عام 1916 نشر ثريا بدرخان الجريدة الأسبوعية “الحياة” (Jin) بالتركية، التي نادت بشعار “كردستان للكرد”، كذلك نشر الجريدة الأسبوعية “كردستان” (Kordestân) عامي -1917- 1918 (37 عدد).
أدت الحرب العالمية الأولى إلى تغيير وضع الكرد؛ فبعد تقسيم كردستان بين الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية جاء تقسيم الأراضي الكردية بين تركيا والعراق وإيران وسوريا وبعض مناطق القفقاز السوفياتية، ومن ثم أصبح قدر الكرد وتطور لغتهم وأدبهم يعتمد، جراء هذا الوضع الجديد، على درجة الحرية التي نالوها في ظل حكم الحكومات المركزية لتلك الدول.