في تأبين الأمير جلادت عالي بدرخان [1]

شارك هذا المقال:

وفاة أمير كردي

وليام غراهام الفينسون[2]

ترجمة عن الإنكليزية راج آل محمد

يستدعينا نبأ رحيل الأمير جلادت عالي بدرخان في دمشق مؤخرا، إلى وقفة تأمل أمام الإرث الذي خلّفه هو وعائلته، أمراء إمارة بوطان، في مسيرة الحركة القومية الكردية الحديثة.

في عام ١٨٢١، أصبح جده، بدر خان، أميرًا على [جزيرة] بوطان. وكان سليل عائلة تُرجِع نسبها إلى تلك الأيام التي بنى فيها الخليفة عبد العزيز ابن الخليفة عمر، بلدة جزيرة ابن عمر على ضفاف دجلة، والتي صارت منذ ذلك الحين عاصمة لإمارة بوطان.

في عام ١٨٢٦ أقدم السلطان العثماني محمود الثاني على سياسةً جديدة تهدف إلى مركزية الإدارة والحد من صلاحيات شيوخ العشائر شبه المستقلين؛ فأدى ذلك إلى وصول مسؤولين أتراك غرباء إلى بوطان والتدخل في الشؤون، التي كانت حتى ذلك الحين من اختصاص أميرهم، وبالتالي إثارة السخط بين الأكراد. وبحلول عام ١٨٣٦ بدأت نيران التمرد تتقد.

انتهز بدر خان فرصة الانشغال التام للجيش العثماني في صد الغزو المصري بقيادة محمد علي عام 1840، فشكّل تحالفاً مع أمراء وأغوات الأكراد من مناطق وان، وهكاري، ومُكس، وقارص، وأردلان. وأعلن قيام حكومة كردية مستقلة، تولى هو قيادتها بنفسه.

      دام حكمه حتى عام ١٨٤٥، عندما أدى تدخل القوى العظمى إلى إزالة التهديد الذي شكله الغزو المصري على الدولة العثمانية، مما أتاح للسلطان حرية التفرغ لمواجهة بدرخان وتجميع قوات كافية لإجباره على الاستسلام. فعاش أسيرًا في كريت لمدة عشر سنوات، وتوفي في دمشق عام ١٨٦٨.

     أما ابنه الأكبر، أمين عالي وبقية أفراد العائلة، فقد تم إبقاءهم كرهائن من قبل الأتراك في القسطنطينية لضمان حسن سلوك قبيلتهم. وهناك [في القسطنطينية] نشأ أبناء أمين عالي بدرخان الثلاثة: ثريا وجلادت وكاميران. وقد نجح العمان، عثمان وحسين، في الفرار في عام ١٨٧٨ وأعادا حكم العائلة في بوطان لمدة ثمانية أشهر. لاحقاً، حاول أمين عالي، وشقيقه مدحت، العودة إلى بوطان مرة أخرى في عام ١٨٨٩، إلا أنه تم القبض عليهما وإعادتهما إلى القسطنطينية.

     وفي خضم تنامي الحركة القومية الكردية بين النخبة الكردية الخاضعين للإقامة الجبرية في القسطنطينية، قرر هؤلاء حوالي عام 1887 إصدار صحيفة لدعم هذه الحركة. ونظراً لاستحالة تحقيق ذلك تحت سيطرة السلطات العثمانية، فرّ مدحت بك إلى القاهرة وأصدر منها صحيفة أسماها “كردستان”. لكن تحت الضغط التركي على مصر، اضطرت الصحيفة للانتقال مرة أخرى، فتسلّم إدارتها شقيق آخر هو عبد الرحمن بدرخان، الذي أصبح رئيساً للتحرير، فنقلها إلى جنيف ثم إلى إنجلترا، حيث صدرت من مدينة فولكستون عام1842.

  لقد أغرى صعود جمعية الاتحاد والترقي إلى السلطة واصدارها للدستور التركي الجديد آل بدرخان بالعودة إلى القسطنطينية، وفي عام 1908 شكّل القوميون الكرد جمعية سياسية كردية أطلقوا عليها اسم (جمعية تعالي وترقي كردستان) التي كان من بين مؤسسيها أمين عالي بدرخان.  تمكنت الجمعية من العمل في العلن لبعض الوقت وبموافقة ظاهرية من تركيا الفتاة، ولكن بات واضحاً للكرد في عام 1912 أن جمعية الاتحاد والترقي تنوي قمعهم. لذلك، اضطرت الجمعية على العمل في السر واضطر أعضاءها البارزون -ومن بينهم أمين عالي بدرخان- إلى مغادرة تركيا.

   عندما أعلن الأتراك الحرب على بريطانيا العظمى خلال الحرب العالمية الأولى، كان الابن البكر لعالي بدرخان، ثريا، موجوداً في القاهرة وتمكّن من هناك استئناف إصدار صحيفة كردستان بدعم وتشجيع بريطاني. لذلك، عندما دخل الحلفاء إلى القسطنطينية بعد الهدنة، كان من الطبيعي أن تتواصل الاستخبارات البريطانية أولاً مع القيادات القومية الكردية.

   بعد فترة وجيزة، وتحديداً في عام 1919، انضم اثنان من أولاد أمين عالي بدرخان- جلادت وكاميران- الى العقيد الركن البريطاني أ. و. نويل، في جولة استطلاعية إلى ماردين، ودياربكر وملاطية بهدف استطلاع آراء الكرد المحليين ومعرفة مشاعرهم تجاه استقلال كردستان. إلا أن الرحلة قُطعت بسبب تدخل مصطفى كمال الذي بدأ يسيطر على شرق تركيا. (وفي تلك الجولة قابلت لأول مرة الأميرين جلادت وكاميران بدرخان بك).

   حينما استلم مصطفى كمال السلطة، توقع الكرد سياسة ليبرالية تجاههم، ولكن سرعان ما تبين، خاصة بعد توقيع اتفاقية لوزان، أنه ينوي صهر الكرد في بوتقة الأمة التركية.

   اضطرت عائلة بدرخان مرة أخرى إلى مغادرة تركيا كلاجئين، وعاشت لفترة في فرنسا وألمانيا. ونظراً لعدم وصول أية أموال إليهم من تركيا، فقد اضطروا للعمل لكسب لقمة عيشهم، وقد أخبرني جلادت بيك أنه عمل كبستاني، ونادِل، ودهّان، وعامل طباعة في مطبعة. وقد مكّنته المعرفة التي اكتسبها من هذه المهنة الأخيرة من طباعة ونشر صحيفة كردية لاحقًا بمفرده باسم “هاوار” عندما عاش في دمشق بعد سنوات.

   شكّل قيام الانتداب الفرنسي في سوريا حافزاً لزعماء الكرد المنفيين على التجمع هناك، وفي عام 1927، عقد القوميون الكرد مؤتمراً واسسوا خلاله جمعية باسم “خويبون” لتنسيق الحركة. وتم انتخاب جلادت عالي بدرخان أول رئيس لهذه اللجنة.

    كان القوميون الأكراد قد خططوا لمساندة الثورة الكردية بقيادة الشيخ سعيد بيران التي اندلعت عام 1925. إلا أن الشيخ سعيد أعلن الثورة قبل الأوان [المخطط له]، ولم يصل إليه أي دعم يذكر عبر الحدود. إلا أن “خويبون” تمكنت من تقديم الدعم لإحسان نوري باشا في تمرده، الذي استدعى مواجهة 60 ألف جندي تركي في منطقة جبل أرارات من آذار/مارس لغاية تشرين الأول/ أكتوبر عام 1930.

    تسببت أنشطة الجمعية في خلق بعض التوتر بين الفرنسيين والأتراك، مما دفع الفرنسيين إلى مطالبة المهاجرين الكرد بتجنب إثارة أي شكاوى إضافية من الأتراك، طالما يسُمح لأعضاء “خويبون” بالعيش في سوريا تحت الحماية الفرنسية.

    حافظ قادة خويبون بإخلاص على الاتفاق الذي تم التوصل إليه بينهم وبين الجنرال ويغان وعندما دخل البريطانيون سوريا إلى جانب الفرنسيين الأحرار، جدد قادة “خويبون” وعودهم للسلطات البريطانية.

    شهدت السنوات القليلة التالية لحظات كثيرة كان الأكراد فيها متلهفين لاستغلال انشغال الحكومة التركية بالمخاطر الخارجية. إلا أن نصائح جلادت عالي بدرخان والأعضاء المعتدلين الآخرين في “خويبون” نجحت في أن تردع أتباعهم الأكثر حماسة من اتخاذ إجراءات طائشة قد تسبب حرجاً للبريطانيين في تعاملهم مع الأتراك.     وقد تجلّى مدى الولاء الذي يكنّه جلادت بك لأصدقائه البريطانيين في اليوم الذي وصلت فيه أخبار سقوط طبرق إلى دمشق، حيث حضر إلى مكتبي ثلاث مرات ليعرب عن تعاطفه، وليعد بالدعم الكامل الحركة القومية الكردية للجنرال ويلسون إن هو احتاج إليها. لم يكن صديقًا وفياً في أوقات الرخاء فقط.

    ركز جلادت بك جهوده على تطوير الثقافة الكردية، وسعى عبر الصحيفتين اللتين قام بنشرهما “هاوار” و”روناهي” – كانت الثانية منهما مصورة – إلى تحقيق وحدة ثقافية بين الكرد من خلال تذكيرهم بموروثهم وفولكلورهم.

    بعد انتهاء الحرب، بقي جلادت بك في دمشق، بينما ذهب شقيقه، كاميران بك، إلى باريس، حيث افتتح مكتبًا للدراسات الكردية يأمل من خلاله إبقاء القضية الكردية حاضرة في عالم الغرب. وقد قدم عريضة إلى أمين عام الأمم المتحدة يطلب فيها تطبيق مبادئ ميثاق الأطلسي وميثاق منظمة الأمم المتحدة على الأقليات الكردية في تركيا وإيران والعراق.

   لقد تغيرت المطالب الكردية كثيرًا منذ أن أقام بدرخان حكومة كردية مستقلة في شرق تركيا: فكل ما يطالب به أحفاده الآن هو أن يُسمح للأكراد في تركيا وإيران والعراق للتعبير عن شخصيتهم الكردية بوضوح، والتحدث باللغة الكردية، وارتداء ملابسهم القومية، واستخدام الكردية لغةً للتعليم في المدارس الابتدائية، وأن يكونوا أحرارًا في إصدار الكتب والصحف بلغتهم، وأن يكون الموظفون المعينون في المناطق الكردية من الأكراد أو على الأقل لديهم بعض المعرفة باللغة والتقاليد الكردية.[3]

    بمجرد ضمان هذه التنازلات، لا يوجد أي سبب يمنع الأكراد من أن يكونوا رعايا مخلصين للدول التي يعيشون فيها، مع الحفاظ على إخلاصهم لتقاليدهم الخاصة. وبهذه الطريقة يمكنهم أن يصبحوا عاملاً هاماً في توحيد، أو على الأقل تقريب، دول الشرق الأوسط التي يشكلون فيها أقليات الآن.

لا يمكنني إنهاء هذه المقالة القصيرة على نحو أفضل دون اقتباس ما ورد في رد [الأمير] كاميران بك على رسالة التعزية التي أرسلتها له:

عزيزي العقيد،

لقد تأثرت بعمق بالمشاعر الصادقة التي عبرتم فيها عن حزنكم لوفاة أخي الأكبر جلادت. كان هو أيضًا يكن لكم محبة كبيرة. إن خسارته تجعلني شبه وحيد في النضال الذي بدأناه سويةً. كان دائماً سندي وملهمي ومعلمي.”.

كاميران عالي بدرخان.

في الحياة السياسية الكردية، حيث تشتدُّ الأحاسيس وتتوتر النفوس غالبًا، وقد تنشب خصومات ومنازعات، غير إنني لم ألقَ شخصاً – حتى من بين أشد معارضيه- من لا يكّن الحب والتقدير لجلادت بدرخان. لقد كان ودوداً، يجمع ما بين الحكمة والبساطة، واللطف والشجاعة.


[1]  نُشر المقال في مجلة الجمعية الملكية [البريطانية] لآسيا الوسطى، العدد 39، 1952 ص91-94 (أنا ممتن للصديق الدكتور نضال حاج درويش الذي تفضل بتأمين المادة الأرشيفية)

[2] وليا م غراهام الفينسون: وُلد في 5 يونيو 1886. خدم في الجيش البريطاني في الهند وتقلّد مناصب عدة هناك. أصبح عضواً في الجمعية الملكية لآسيا الوسطى في 1962 وانتُخب عضواً في مجلس إدارتها سنة 1947 واعتزل في يونيو 1952 بسبب مشاكل في القلب. لديه أرشيف في كلية سانت أنطوني في أكسفورد يحتوي على محاضرات ومقالات عن الكرد. منها هذا المقال إضافة إلى “Kurds and the Kurdish Question” — Journal of the Royal Central Asian Society, Vol. 35 / Pt 1 (January 1948)، ص. 38–51 (مع خريطة مذكورة في الفهرس).

“The Azizan Family or The Princes of Bhotan” — Journal of the Royal Central Asian Society, Vol. 36 (1949)، ص. 249–251.

توجد إشارات وفهارس تظهر مقالات/مداخلات إضافية له في أعداد أو سنواتٍ أخرى من المجلة؛ فهرس المكتبات والببليوغرافيات المتخصِّصة يسجّل اسمه في قوائم مصادر عن الكرد وكردستان.

[3]  النشرة الشهرية لمركز الدراسات الكردية، باريس، العدد 8، ص 3.

شارك هذا المقال: