“ما نراه لا يتجسّد أبداً في ما نقوله”
ــ ج. دُلوز، ترجمة: إبراهيم محمود
إلى عدي حاكم
الشبحُ الذي خبأَ تحتَ أظافرِهِ «الدُلوزيةِ»
رذاذَ سعالِ الكارثةِ،
وأرخبيلاتِ الجنونِ.
ــ كلُّ ما تحتاجُ إليه الصورةُ المُتأتأةُ هو عينٌ سيمرغيةٌ، بل الأخيرةُ نفسُها هي المعادلُ الأدائيُّ للتأتأةِ، بمعنًى آخرَ، إنّ التأتأةَ بشقيها اللسانيِّ والبصريِّ، هي مظهرٌ من مظاهرِ الرحلةِ السيمرغيةِ، كذلك الأخيرةُ هي تأتأةٌ أيضًا.
ــ في السينما الصورةُ تُتأتئُ غيابَها ـ تلتفُّ حولَ نفسِها، منتجةً زمنَها الأسطوريَّ الخاصَّ، الذي سيكونُ ماثلًا في العينِ الغامضةِ جراءَ ما تواجهُ من صمتٍ يحوّلُ كلَّ شيءٍ إلى رهبنةٍ كبرى.
ــ في سينما «جيل دُلوز»، الصورةُ سيسموغرافُ الفكرِ، في حينِ الحركةُ قناعٌ زمنيٌّ لمفاهيمَ في طورِ التبلورِ.
ــ تختنُ السينما الزمنَ بالحركةِ الجديرةِ برصدِ زحفِ الفكرِ في الصمتِ عبرَ صورةٍ تنفرجُ وتنكمشُ على نفسِها في آنٍ واحدٍ، صورةٌ لا تقولُ شيئًا، إنما تلتفُّ حولَ نفسِها في تجديلٍ لامرئيٍّ، مستندةً إلى رغبةٍ كبرى في تكريسِها كلحظةِ انفصالٍ «سيمرغيٍّ» توجزُ مهامَها في تظهيرِ العاصفةِ وتقديمِها على طاولةِ الرؤيةِ الخالدةِ .
ــ ما لونُ الزمنِ المتسربِ من خيالِ الشاعرِ في بلورةِ «جان كوكتو»، لاسيما في فيلمِ (دمِ الشاعرِ)؟ حيثُ المرايا في تزاورٍ لا مرئيٍّ دائمٍ تحتَ جلدِ الرؤيةِ.
ــ الصورةُ السينمائيةُ تأتأةٌ بلوريةٌ، وبعبارةٍ أخرى، إنّها ليسَتْ سوى مرايا تتمرنُ على الكلامِ، إذن، هي تُتأتئُ موتَها لتحيا في شريطِ الحركةِ زمنًا آخرَ، بمعنى” أنّ التحدي الأساسي للسينما ليس جماليا فحسب، بل أعمق من ذلك بكثير ــ حماية حقيقة العالم بعد موت الله والاختفاء التدريجي للأمم” حسبُ «بيير زاوي».
ــ لا يمكنُ تخيّلُ سينما «تاركوفسكي» إلّا كمزحةِ غيبوبةٍ مع جمالِها السريِّ الآخذِ في التسربِ عميقًا في طبقاتِ التبلورِ، الحالةُ التي تكونُ فيها الصورةُ نوعًا من التداوي بالغيابِ.
ــ في سينما «تساي مينع»، الصورةُ زمنٌ مختونٌ بروحانيةِ المكانِ، وليس زمنًا مختومًا كما جاء في عنوانِ كتابٍ لـ«تاركوفسي».
ــ الصورةُ السينمائيةُ المتأتأةُ هي مغناطيسيةُ أثرٍ يتوزعُ بينَ العينِ كمتحفٍ ليليٍّ، والرؤيةِ كظاهرةِ صمتٍ، وهذا عينُهُ ما يتجلّى في سينما « فيليب جاريل» في فيلمهِ (سرّ الطفل)، التي تكونُ فيه الصورةُ طراسةٍ طبقيةٍ تنسربُ فيها السينما كعالمٍ في عينٍ تغيبُ لتجدَ سيمرغيتَها.
ــ تتشكلُ الصورةُ من المسرحِ من عودةِ الجسدِ إلى فضائِهِ الإيروسيِّ، أما في السينما فيتمُّ تشكيلُ الصورةِ كفضاءٍ سيمرغيٍّ. ولتحققَ ذلك يلزمُها توفرُ ” عين مغلقة باتساع” في عينِ العاصفةِ، بمعنى، إنّها بحاجةٍ لعينٍ تجيدُ التلبسَ في حركةِ الصورةِ كما حيرةِ الروحِ وتذبذبِها لدى المتصوفِ، وهذا النوعُ من السينما هو فنٌّ سيمرغيٌّ بامتيازٍ .
ــ في السينما الشعريةِ، الصورةُ يُحدّدُها الغيابُ الشعريُّ للأشياءِ والشخصياتِ كتلاميحَ لزمنٍ ما، في سياقٍ «ديماسيٍّ» غائرٍ في تجاويفَ وطبقاتِ حركةٍ شديدةِ الذوبانِ في عينِ الصمتِ، أيْ فعلُ ما بعدَ الرؤيةِ.
ــ لن تتمكنَ الكاميرا من بلوغِ شعريةِ الأشياءِ إلّا في تماهي العينِ مع فكرةٍ مفادُها: أن تكونَ عينُ الثقبِ هي الصورةُ نفسُها، وقد تحققَ ذلك في سينما التشيليّ «راؤول رويز»، لا سيما في فيلمِهِ ( مدينة القراصنة).
ــ السينما لدى «تاركوفسكي» لا يمكنُ لي تخيلُها إلّا كصورةٍ لنوم ِ الموتِ في قاربٍ عائمٍ في ضبابٍ، أو تدوينٍ لما تخلّفُهُ أبخرةُ المتصوفةِ على جدرانِ مغارةِ التعازيمِ .
ــ بينَ مساءِ الشعرِ وليلِ الكاميرا، تمتدُّ صورةُ الفكرِ في مرآةٍ مائيةٍ، فتبدو السينما كما لو أنّها تحديقةٌ أخيرةٌ في ظلامٍ لا نهائيٍّ، هناك حيثُ الرؤيةُ ذرًى ومرتفعاتٌ حواسيةٌ كما في الانكشافاتِ الصوفيةِ الكبرى، وتجلَّتْ هذه التلاميحُ في سينما المجريِّ «بيلا تار». وكان الناقدُ «دومينيك شاتو» قد لمسَ العصبَ الحسّاسَ لثنائيةِ الشعرِ والفنِّ في السينما ، إذ يقول : ” ليس الفنان، شاعرا بالساعد فحسب ولكنه شاعر بالفكر كذلك”.
ــ دماغٌ مائيٌّ ، انتثارٌ بلوريٌّ، تزاورٌ ومراسلاتٌ هدفُها تكاثرُ الارتداديِّ المرآويِّ، هي ذي ملامحُ عبقريةِ السينما في مجرّةِ «ألآن رينيه»، كما الحال في فيلمِهِ ( العام الماضي في مارينباد) التحفةُ الفنيةُ التي رصدَتْ فيها الكاميرا منامةَ (نادجا) في رائعةِ «أندريه برتون»، فـ” الجهاز السينمائي لا يعني فقط وقتًا يتدفق، أو تسلسلا زمنيا ننزلق فيه كما لو كنا في حاضر دائم، بل أيضًا وقتا معقدًا ومتعدد الطبقات، نتحرك فيه على عدة مستويات في وقت واحد، الحاضر والماضي والمستقبل ـ وليس فقط لأننا نجعل ذاكرتنا وتوقعاتنا تعمل هناك، ولكن أيضًا لأن السينما، عندما تصرّ على مدة الأحداث، فإنها تجعلنا تقريبًا ندرك الوقت” «جاك أومون».
ــ السينما انفصالٌ شبحيٌّ ـ مؤتمرٌ لعبقرياتِ النسيانِ الشبحيِّ، يُعقدُ في عينٍ ذي هالةٍ شبحيةٍ، انفصالٌ ثم انفصالٌ ثم ظاهرةُ انفصالٍ ،هكذا تمضي الصورةُ إلى حيثُ تنوجدُ إقامةً على حدودِ الغيابِ الشعريِّ ، ويحضرُ هذا الإيقاعُ على وجهِ الخصوصِ في أفلامِ «جان لوك غودار».
ـــ لا أستطيعُ تخيّلَ صالةِ السينما إلّا كأنّها جمجمةُ هاملت، الجلوسُ فيها يشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ حضورًا في مغارةِ تعازيمَ ، حيثُ يكتشفُ مشاهدُ الفيلمِ أنّه ليس سوى ظلٍّ راشحٍ من شبحٍ ما.
ـــ بينَ النظرةِ وصمتِها يقعُ الزمنُ الذي تتحركُ فيه الصورُ السينمائيةُ كأشباحٍ لا هدفَ لديها سوى ترتيقِ الحضورِ بغيابٍ أكثرِ ألفةً، ناجمٍ عن غورٍ عميقٍ في تجاويفِ دهشةِ التقاء الفكرِ بصورتِهِ.
ـــ لا توجدُ صورةٌ بل أثرٌ، وليس ثمّةَ حركةٌ أيضًا بل زمنٌ يَتنفّسُ، ولا حضورَ لشخصياتٍ وأشياءَ أخرى على الشاشةِ أيضًا بل غيابٌ يظهرُ ويختفي هنا وهناك على هيئةِ أشباحٍ، هذا ما يحدثُ تمامًا في فيلمِ رصيف لـ«كريس ماركر». فسينما من هذا النوعِ هي انتثارٌ أقصى للعالمِ في صورةٍ.
ـــ على طاولةِ «جاك دِريدا» الفلسفيةِ، السينما تنويمٌ شبحيٌّ للعالمِ بصورٍ تُوقّعُ أثرَها في العينِ ختانًا بما يحاولُ أنْ يظهرَ ، أي بالأشباحِ المترددةِ كيدِ هاملت، صورٌ تظهرّ لتغيبَ فينا، وتغيبُ لنتمظهرَ فيها غيابًا آخرَ كما في فيلمِ ( المحاكمة) لـ«أرسن ويلز».
ــ لكلِّ كاتبٍ ومفكرٍ وفنانٍ أشباحُهُ الخاصةُ، بل الإبداعُ بمجملِهِ هو وليمةُ أشباحٍ في رأسِ العالمِ، ومراسلاتٌ شبحيةٌ لا حدودَ ومواقيتَ لها؛ ذلك لأنّ “الشبح هو خارج الزمن، وهو ينتمي إلى خارج الزمن الذي يشكّل اللحظة الطيفية” حسبُ كاترين باوليتي.
محمود هدايت، كاتب وباحث عراقي في مجال الفلسفة والفنون
ــــــــــــــــــــــــ
السيمرغ: طائر الرحلة في ملحمة فريد الدين العطار.
الديماسي: فصيلة من الفئران المعروفة بالحفر الدائم عميقا في طبقات الأرض، كفأر الخلد.