محمود هدايت
“في الواقع، أنا مرتبط جدا بالفضاء، بالمكان، بتعرّجات النهر، بالأبعاد بين شجرتين. حين يتموضع المكان في قلبي، يبدأ السَّرد. تقريبا، أغلب الأحيان عملت بهذه الطريقة، أعتقد أن الفضاء هو من يُبدع الجمل، وأنا كاتب أمكنة. إنها تُبدع الشخصيات. وبحسب الأمكنة يتغيّر الناس، يأخذون بُعدا آخر. أرى الناس بشكل أفضل حين أُموقعهم في الغابة على سبيل المثال. وبالطريقة عينها أشعر بأني أفضل حين تُثلج في الغابة”
ــ بيتر هندكه
الكتابةُ – بوصفِها تمارينَ في التأتأةِ ــ جريمةٌ في كاتدرائيةِ العقلِ.
تبقى ظاهرةُ الجنونِ في الأدبِ والفنِّ إحدى جواذبِ مشاغلي الرئيسةِ، فقد نضدْتُ عددًا من النصوصِ والدراساتِ بغيةَ تعميقِ هذا الجرحِ وتأصيلِهِ في الروحِ والذاتِ بوصفِهِ مهمازَ خيالاتٍ بعيدةٍ، وكان لخضير ميري الحضورُ الأوفرُ حظًّا في ما كتبْتُ وفكرْتُ، ومردُّ ذلك يعودُ إلى أهميةِ هذه التجربةِ: «ميري» التي في مقارنتِها مع بيئتِها الثقافيةِ والاجتماعيةِ، لاشكَّ أنّها ستشكّلُ ظاهرةً على مستوى الإبداعِ والحياةِ، وليس خافيًا على المتتبعِ لمسارِ حركةِ الثقافةِ العراقيةِ، ذلك الأثرُ اللافتُ والحضورُ المختلفُ اللذان تركَتْهما هذه التجربةُ في عمومِ الساحةِ الإبداعيةِ، بخاصَّة اعتمادُ المكانِ كوثيقةٍ سريةٍ يمتاحُ منها خيالُ الكتابةِ عالمَهُ الفريدَ والحيويَّ الذي سينضحُ تجربةً نصيةً فارقةً وبالغةَ الخصوصيةِ في آنٍ ، سواءً أكان ذلك يتعلّقُ باتخاذِهِ الشماعيةَ سكنًا فكريًّا أو بما ألقَتْ به تجربةُ المكانِ من ظلالٍ على ما كتبَ من رواياتٍ ومروياتٍ رصدَتْ كواليسَ الحياةِ في أروقةِ المصحاتِ التي لا يمكنُ توثيقُها إلّا بتوفرِ عينٍ تجحظُ لموتِها غيابًا يرشحُ عنه حضورًا أسطوريًّا، كما في ( أيام العسل والجنون) و ( الذبابة على الوردة) و ( الهجوم على مستشفى المجانين) والأمرُ ذاتُهُ في كتبِهِ القصصيةِ التي تتحرّكُ تحتَ سقفِ سردياتِ الجنونِ العراقيِّ، وإنْ كان ثمّةَ ما يُميّزُ هذه المؤلفاتِ، فدونما شكٍّ أنّ توظيفَهُ للمكانِ يأتي في مقدمةِ سماتِ تجربةِ ميري وجودتِها، إذ إنّه استطاعَ أنْ يؤثّثَ شواشَهُ الخاصَّ بكتابةٍ جمعَتْ بينَ الواقعيِّ والخياليِّ تحتَ لافتةٍ واحدةٍ .
أعراس المادّة
كتبَ «خضيرُ ميري» خارجَ دائرةِ المشهورِ الثقافيِّ، ونزحَ بالخيالِ إلى حيثُ تنوضعُ الكلمةُ حاسّةً جديدةً في جسدِ اللغةِ، ممّا دفعَهُ إلى اللعبِ مع اللغةِ كما نمورُ «فيليني» على سيركِ الدهشةِ الكبرى في ذلك الاحتفالِ المحفوفِ بالمجانينِ من كلِّ ناحيةٍ، لتبدوَ الشماعيةُ كرنفالًا رابليهيًّا حضرَ فيه «خضيرُ ميري» ليس كاتبًا فحسبُ، بل رئيسُ احتفالاتٍ مقامةٍ على حافةِ عقلٍ موشكٍ على الانقراضِ، عندئذٍ لم يكنْ أمامَهُ سوى قضمِ تفاحةِ حيرةِ هاملت:(الجنون) والسكنِ في أكثرِ الأماكنِ أمانًا للحواسِّ في زمنٍ مفرطٍ في عقلانيتِهِ، الصورةُ ذاتُها تُذكّرُ بـ«نيتشه» حينَ عانقَ الحصانَ انتماءً لإنسانٍ أُرهقَ في البحثِ عنه ولن يجدَهُ. بل أكثرُ من ذلك، ربما تكونُ الكتابةُ لدى «خضير ميري» هي ذلك الحصانُ نفسُهُ، أو معادلًا فكريًّا وجماليًّا له. كذلك يمكنُ عدُّ (الشماعيةِ هي المعادلُ الذاكراتيُّ) لنسخةِ «سالومي» التي أودعَ فيها نيتشه خفايا وخبايا أسرارِهِ، في كلتا الحالتينِ كان ينبغي على ميري ونيتشه أنْ يختارا ما يحفظُ حركتَهما السريةَ والوجوديةَ، فما بينَ (سالومي العشيقةِ والشماعيةِ الذاكرةِ) ثمّة الكثيرُ من المشتركاتِ و التشابهِ اللذين سوف يحيلانِ إلى أثرٍ يعسرُ على العقلِ محوُهُ واستيعابُهُ في آنٍ، لكنْ ما لا ينبغي إغفالُهُ يكمنُ في أنّ حالةَ نيتشه وميري لا يمكنُ سبرُ أغوارِها دونما العودةِ إلى الوثيقةِ المتمثّلةِ بـ(الشماعيةِ وسالومي).
الشماعية كمكان هي ذلك المتصوّف البلانشوي.
إذن، السكنُ في الشماعيةِ ربما يكونُ من وجهةِ نظرِ ميري محاولةً في الوصولِ لسالومي خاصّتِهِ، التي سيودعُ فيها أسرارَ ومسوّداتِ خيالاتِهِ ومخطوطاتِ ألمِهِ الإنسانيِّ والفكريِّ، وفي ظلِّ هذه الرؤيةِ تبرزُ قيمةُ اللعبِ مع المكانِ وليس اتخاذُه سكنى فحسبُ، فالشماعيةُ بالنسبةِ لمفكرٍ وكاتبٍ مثلُ خضير ميري لا تحضرُ إلّا بكونِها بوصلةَ أحلامٍ ومهمازَ خيالاتٍ تفوقُ التوصيفَ، كما أنّه لم يلجأْ إلى هذا المكانِ بدافعِ الاحتماءِ به من بطشِ السلطةِ آنذاك كما يُعبّرُ ضيقو الأفق، إنّما تبنى ذلك كترفيهٍ عن الفكرِ بخيالاتٍ واقعيةٍ ليسَتْ في حاجةٍ لمَن يمارسُ لعبةَ التخييلِ معها، بل جلُّ ما تحتاجُ إليه هو كاميرا وثائقيةٌ، ترصدُ بعمقٍ وشفافيةٍ ما يحدثُ هناك.
استطاعَ المكانُ في كتابةِ «خضير ميري» أنْ يعبّرَ عمّا يتحرّكُ تحتَ جلدِهِ المرئيِّ، ممّا أعطى للخيالِ حافزًا للعملِ على توسيعِ أفقِهِ، وبذلك يكونُ اللعبُ مع الأزمنةِ أمرًا ممكنًا، فكلّما حازَ المكانُ أسطورتَهُ الشعريةَ، صارَ بإمكانِ الكاتبِ والفنانِ أنْ يمتدَّ مع الزمنِ كوثيقةٍ موازيةٍ، وهذا عينُهُ ما تنبهُّنا إليه الفنونُ البصريةُ وعلى وجه الخصوصِ الفنُّ التشكيليُّ والسينما، إذ ما يُميّزُ هذين الفنّينِ أنّهما يُزمّنانِ الخيالَ باعتمادِ فهمٍ خاصٍّ للوثيقةِ الواقعيةِ للتجربةِ: المكانِ، بذلك نكونُ أمامَ حالةٍ من التخليقِ الموازي تنتجُ عنها وثيقةٌ أخرى يمكنُ تسمِّيتُها بالوثيقةِ الزمانيةِ، متأتيةً من شغفِ الخيالِ في الذوبانِ بالواقعيِّ، وهذا الاشتغالُ غالبًا ما يحضرُ في الشعرِ، لا بل الآكدُ أنّه اهتمامٌ شعريٌّ يزحفُ أحيانًا متسلّلًا للنصوصِ السرديةِ كاليومياتِ على وجهِ التحديدِ .
ينفردُ المكانُ باحتيازِ شعريتِهِ الخالصةِ، ذلك في تأصيلِهِ جرحًا سريًّا في حياةِ وتجربةِ الكاتبِ، ويبدو لي أنّ في ذلك وحدَهُ يحضرُ المكانُ بأبعادِهِ الأسطوريةِ داخلَ العملِ الإبداعيِّ، و قد ارتسمَتْ ملامحُ هذا الفعلِ بجلاءٍ في سردياتِ «خضيري ميري» الذي عبرَ بالخيالِ من الواقعيِّ الحياتيِّ إلى الواقعيِّ الأسطوريِّ ، أي من النصِّ إلى النصيةِ، كما في مشهدِ انفجارِ ثلاجةِ الموتى في روايةِ (أيام العسل والجنون) أو ممارسةِ المجانينِ اللعبَ مع الطائراتِ الحربيةِ المحلّقةِ في سماءِ الشماعيةِ، على أنّها نوعٌ من أنواعِ البطِّ، لكنّ هذه المشاهدَ الهائلةَ بواقعيتِها الغرائبيةِ لا يمكنُ لنا تخايلُها خارجَ أسوارِ جنةِ الأشباحِ ( الشماعيةِ). ممّا يعني أنّها سيرةٌ شعريةٌ لمكانٍ استطاعَ أن يبلغَ أعماقَهُ كذاكرةٍ أسطوريةٍ من خلالِ انشباكِهِ مع الكارثةِ والتلاشي فيها، كما فراشةُ «جلال الدين الرومي» الذائبةُ في طوافِها حولَ النورِ، إذن، على وفقِ هذا يُفهمُ تمسّكُ «خضير ميري» بالشماعيةِ على أنّه محاولةٌ في بلوغِ سالوميةِ المكانِ ـــ (نسبةً إلى سالومي) عشيقةِ نيتشه؛ ذلك لأنّه كان في حاجةٍ لذاكرةٍ حسيةٍ تكونُ جديرةً بحفظِ تجربةِ الحياةِ والكتابةِ بوصفِهما خلاصةَ وجودٍ يُفتّشُ عنه «ميري» في الزوايا المنسيةِ لأرواحٍ منطويةٍ على كارثتِها بينَ جدرانِ مصحةٍ يشكلُ النطقُ باسمِها حالةً من الرعبِ التدميريِّ في الذاكرةِ العراقيةِ.
لا مكانَ للمجنونِ سوى حركتِهِ، إنّه يمتدُّ معها ليبلغَ فضاءَهُ الخاصَّ، يعني أنّه في حاجةٍ للفضاءِ وليس المكانُ، بل إنّ المكانَ نفسَهُ يُأفضنُ عندما يتماسُّ مباشرةً مع الجنونِ، الأمرُ ذاتُهُ نجدُهُ في الفنونِ البصريةِ، حيثُ يذوبُ المكانُ خياليًّا ليدركَ شعريتَهُ عن طريقِ الإمساكِ بالفضاءِ المتولدِ من احتدامِ الفعلِ وانزياحِهِ عن التراتبيةِ التي يتطلبُها المكانُ ويمقتُها الفضاءُ، فالأولُّ يتنامى ويحضرُ تحتَ سقفِ الحريةِ المشروطةِ، في حينِ يتحرّكُ الفضاءُ وينشطُ كشعرنةٍ للشواشِ المبثوثِ في (الصمتِ الهائلِ) المتمثّلِ بالفعلِ الإبداعيِّ الخارقِ لحدودِ المألوفِ، وحركةِ المجنونِ في ذلك المكانِ. وأنّ ثمّةَ مزيةً أخرى تفصلُ بينَ المكانِ والفضاءِ، هي أنّ المكانَ إفراطٌ وتفريطٌ، في حينِ الفضاءُ اقتصادٌ وتفريدٌ.
تداريب في التلاسن الناري
يكتبُ «خضيرُ ميري» بلهبِ شمعةِ ليلِ الكارثةِ، فتبدو كلماتُهُ كما لو أنّه يمارسُ لعبةَ تجديلِ الأعصابِ بأصابعِ الحواسِّ ، وبطبيعةِ الحالِ، فإنّ هذا الضربَ من الكتابةِ أقربُ إلى استكناهِ الغيابِ بشعريةِ الغيابِ نفسِهِ، وبعبارةٍ أخرى، إنّه يكتبُ ليضعَنا أمامَ حقيقةِ عجزِ الكتابةِ ــ الكلامِ عن توثيقِ تلك الأهوالِ التي عاشَها في جنّتِهِ المحظورةِ: (الشماعيةِ) بهذا يمكنُ عدُّ كتاباتِهِ على أنّها (تمارينُ في التأتأةِ) ففي هذا النوعِ من الخيالاتِ تتخلّى اللغةُ عن الكلامِ وتدخلُ كليًّا في عالمِ التأتآتِ اللانهائيةِ، بل حتى المكانُ يلتزمُ جانبَ التأتأةِ القصوى، كما يدُ المجنونِ السابحةُ في فضاءِ صمتِها الأسطوريِّ، إنّها لا تتحرّكُ بل تُتأتئُ . اللحظةُ التي يغدو فيها الجسدُ كأسًا مقدسةً تسقي وتغيبُ في آنٍ.
المكانُ يتكلمُ ، الفضاءُ يُتأتئُ كما حركةُ المجنونِ التي هي ليسَتْ سوى لسانٍ عرفَ كيف يتمرنُ على بلوغِ عبقريةِ النسيانِ من خلالِ تلمسهِ أعماقَ التأتأةِ، صلةً بذلك، يمكنُ لنا أنْ نسمّيَ الجنونَ بـ(فنِّ التأتأةِ) بمعنى أنّ الجنونَ هو الكلامُ الأسطوريُّ للزمكانِ، إنّه هيأةُ الصمتِ المتشكّلةُ من انقطاعاتِ اللسانِ وارتدادِهِ على ما يرومُ الوصولَ إليه. وفي مقابلِ ذلك يحضرُ وجهُ المجنونِ على أنّه مكانٌ يُتأتئُ ــ يتنامى في جغرافيةٍ حسيةٍ مرتجلةٍ كنقصٍ سيميولوجيٍّ؛ ذلك لأنّ المجنونَ وحدَهُ مَن يملكُ وجهًا أرخبيليًّا يتأتئُ ليتصلَ انفصالًا.
الكتابةُ لغةٌ تُتأتئُ، لسانٌ صارَ يدًا، أو مكانًا ذابَ في التخييلِ فضاءاتٍ لا نهائيةً، عمليةٌ تشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ ذوبانَ المجنونِ في حركةٍ صاعقيةٍ ــ مرتجلةٍ ، كأنّما أجسادٌ قد ذابَتْ إيروسيًّا ببعضِها، فالجماعُ أيضًا هو أجسادٌ عرفَتْ كيف تتأتئُ على طريقتِها الخاصةِ لتجدَ فضاءَها الخاصّ، كما الكيوكراف الذي هو في الأساسِ أسفارٌ استطيقيةٌ تبحثُ عن أجسادٍ تتأتئُ. كذلك ثمّةَ فرشاةٌ تتأتئُ دوائرَ وألوانًا ، ذلك لما تملكُ من توهّجاتٍ بصريةٍ انفلتَتْ سياقاتِ الشكلِ المعدِّ مسبقًا، وتتجلّى التأتأةُ في الفنِّ التشكيليِّ بوضوحٍ في أعمالِ كلٍّ من «خوان ميرو» بسرياليتِهِ الارتجاليةِ ، و«فان غوغ» بعواصفِهِ وحقولِهِ المدوّرةِ، و«بيكاسو» بوجوهِهِ المكعبةِ. بمعنى أنَّ الفنَّ الأصيل لا يتكلمُ، إنَّما يُتأتئ.
إنّ وجهَ المجنونِ هو المعادلُ السيميائيُّ لـ(المكان المعادي) الذي نظّرَ وأشارَ إليه «ميشيل فوكو» في مؤلَّفهِ الموسومِ بـ ( المراقبة والعقاب) إذ بمجردِ النظرِ في ذلك الوجهِ ، نكونُ قد دخلْنا في (الميتا معادي) إنّه الجغرافيةُ السيميائيةُ المحظورةُ على ذي الإحساسِ التراتبيِّ ــ السيمرتيِّ؛ لاعتمادِها التضاريسَ المرتجلةَ، وهذا في ذاتِهِ اشتغالٌ فنيٌّ، فكما نعلمُ أنّ الفنَّ ، وبخاصّة البصريُّ منه ينبثقُ من وثيقةِ الآن وليسَتْ الخطاطاتُ المعدَّةُ سلفًا، إذن، فمقاربةُ المكانِ المعادي بوجهِ المجنونِ متأتيةٌ من امتلاكِهِ بلاغةَ الخرقِ السيميائيِّ القادرِ على إحداثِ فارقٍ على مستوى الحضورِ والأثرِ . وفي اعتقادي، أنَّ في هذا وحدَهُ نستطيعُ تحريرَ النظرةِ والإحساسِ، بل الفنَّ بمجملِهِ، من العلمنةِ العقليةِ، والعودةِ به إلى أحضانِ الروحانيةِ الكبرى.
*محمود هدايت، كاتب وباحث في مجال الفلسفة والفنون