سقط كل شيء ما عداه!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

ثمة إجراء قضائي تلجأ إليه المحاكم في بعض الجرائم الشائكة وهو إعادة تمثيل الجريمة (Reconstruction) بقصد كشف بعض الملابسات الغامضة والحصول على صورة منطقية للتسلسل الحقيقي للأحداث التي أدت إلى وقوع الجريمة.

واليوم، بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية، نحن أمام حالة تشبه ذلك الاجراء، إذ أننا نشهد إعادة تمثيل المشهد الأول والأهم من مسرحية: الاستبداد والخوف… الأدوار المتبادلة.

إنه مشهد يستحق الاهتمام والتأمل كونه يناقض المشهد الأخير المترسخ في الاذهان والذي تمكّن من اقناع المتفرج بأن  الاستبداد هو من يصنع الخوف، وليس العكس كما في المشهد الأول!

في المشهد الأول، حيث تسقط المنظومة المستبدة ويبدأ عهد جديد، ينتقل الخوف الذي كان يعيشه مناهضو العهد السابق إلى أنصاره  (فهذا أمر طبيعي)، لكنه لا يخرج تماماً من عقول وقلوب  من كانوا ضد النظام السابق رغم أن حقبة جديدة قد بدأت خالية من الاستبداد، وأن الذين استولوا على السلطة ما يزالون في مرحلة استجداء الشرعية الشعبية، وبالتالي من المفترض أن يكون الخوف قد زال مع سقوط النظام السابق!

يتمظهر أخطر أنواع هذا الخوف في شكل تأييد شبه مطلق ( على شكل سوق تبريرات غير منطقية على الاطلاق ) من قبل عدد لا بأس به من  أفراد المجتمع (العامة والنخبة على حد سواء) لكل القرارات والإجراءات التي تتخذها السلطة الجديدة ( رغم أنها سلطة انتقالية او بالأحرى سلطة أمر واقع !).

إذن نحن أمام حقيقتين تستحقان قراءة متأنية ونقدية في آن معاً:  سقوط شجرة الاستبداد لا يعني بالضرورة موت تربته، الخوف هو منشأ الاستبداد وليس العكس كما قد توحي كل الفصول التي تلي المشهد الأول!

بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية وفي ظل هاتين الحقيقتين لم يعد مقنعاً أو مجدياً القول بأن شمس الحرية بكل ما تعنيه الكلمة قد بزغت وأن السلطة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن حجبها. ولابد من الانتقال إلى سؤال أهم وأكثر جدوى ألا وهو ممن نخاف نحن كشعوب بعد سقوط النظام القمعي المستبد؛ إذ أن خوفنا، قبل تمكن السلطة من أدواتها، هو شرط لازم وكافٍ  لها لكي تتحول من جديد إلى سلطة مستبدة أو قائد الدولة والمجتمع!

في المشهد الأخير يظهر بأن النظام الاستبدادي هو المسؤول الأول عن زرع الفرقة وبالتالي الخوف بين أفراد المجتمع لكي تسهل السيطرة عليها، لكن المشهد الأول، حيث لم تتحول السلطة إلى مستبدة بعد، يظهر بأن الكثير من النخب والوعاظ يتحملون مسؤولية كبيرة عن زراعة هذا الخوف بين الناس وتغذيته؛ في أحيان كثيرة لهدف معين، وفي أحيان قليلة دون قصد أو تفكّر. فإذا بحثنا في الحروب الاهلية لرأينا بأن الناس بمختلف منابتها كانت متعايشة ولا تعير اهتماماً لهذه التمايزات التي تُمارَس بشكل تقليد شعبي أكثر من كونها عقيدة متقوقعة ترفض وجود الاخر!

لكن لكي لا نضع كامل المسؤولية على النخب ونعفي أنفسنا كشعوب من أي مسؤولية، من المفيد هنا التذكير بمقولة شعبية بسيطة ذات دلالة عميقة  يتم تداولها في المجتمعات الواقعة تحت نير الاستبداد: الحيطان لها آذان. والمقصود بها أن  السلطة موجودة في كل  مكان، لكن من هم آذانها وكيف تيّسر لها امتلاك هذا الكم الهائل من الحيطان؟ 

مع بدء المرحلة الجديدة الخالية من الديكتاتورية والمستبدين، يمكن تمييز مسارين خطيرين  تسلكه الكثير من النخب: الشعبوية، والسذاجة السياسية.

تنتشر الشعبوية في أوساط الكثير من المهتمين بالشأن العام (النخب بمختلف مشاربها)، والتي تعني ببساطة الخوف من وصف الوقائع كما هي وقول الحقائق، خشية خسارة جمهورهم؛ هذا الجمهور الكبير الذي التف حول هذه النخب المناهضة  للنظام السابق، فهل تجرؤ على انتقاد السلطة الجديدة والتفريط بهذا الكم الكبير من المعجبين؟

ونحن نتحدث عن دور النخب، تتطلب الموضوعية وعدم التهرب من طرح سؤالين هامين:  ما مدى أهمية آراء النخب في بناء دولة خالية من الاستبداد ؟ كم هي  حاجة السلطة كبيرة إلى النخب في تمكين سيطرتها على الدولة والمجتمع؟

كلما طٌرح موضوع  نهضة الشعوب وتطور أنظمة الحكم في أي بقعة من العالم، يأتي في المقدمة ذكر دور رواد هذه النهضة ( فلاسفة، فنانين، روائيين، كتّاب، شعراء….الخ)، وأكبر مثال على هذا الدور هو حركة التنوير التي قادتها هذه النخب في أوروبا. من هنا يتضح بأن دورهم حيوي في نهضة مجتمعاتهم؛ فأصواتهم وآرائهم مسموعة ومقروءة ومؤثرة في تشكيل رأي شعبي ذات ثقل كمي ونوعي.

إن مجرد مراجعة بسيطة لتاريخ  العلاقة بين السلطة و النخب نستكشف بسهولة مدى حاجة الأنظمة  لصوت وكتابات وآراء هذه النخب في تلميع صورتها وتبرير كل ما تقدم عليه وبالتالي تخدير الشارع واقناعه بوسائل شتى، أهمها بأن لا صوت يعلو على صوت الثورة أو المعركة وفق التعبير القديم!

وتتجلى هذه الحاجة والعلاقة بشكل أوضح في منعطفين هامين  اهتزاز عرش النظام القائم ، وبداية العهد الجديد. ففي الأولى يحتاج لخطابها ومواقفها من أجل  الحفاظ على الولاء الشعبي المطلق، وفي الثانية يحتاجها من أجل الحصول على تأييد شعبي واسع كخطوة ضرورية لتوطيد أركان السلطة والتمكّن من أدواتها وتحويل هذا التأييد بالتدريج  إلى ولاء مطلق باستخدام أسلوبي الترهيب والترغيب

تُعتبر أغلب النخب الثقافية المهتمة بالشأن العام ( كتّاب، أدباء، فلاسفة…..الخ) او ذات التأثير الشعبي ( فنانين، اعلاميين….الخ) في العموم ساذجة سياسياً ( هناك طبعاً ثلة انتهازية وصولية تعرف من أين تؤكل الكتف )، وبالتالي يسهل في بعض الحالات خداعها من قبل أصحاب القرار السياسي، وفي حالات أخرى تقوم هي نفسها بممارسة خداع الذات!

إن صفة السذاجة السياسية  ليست شتيمة أو نقيصة في حق النخب المهتمة بالشأن العام ومكانتها وإنما هي استنتاج تؤكده الكثير من التجارب شرقاً وغرباً، وهي في ذات الوقت جرس إنذار لها لكي لا تدخل في وحل السياسة وتنسى دورها الأخلاقي والريادي تجاه المجتمع.

في الحقيقة أمام النخب المهتمة بالشأن العام مساران لا ثالث لهم: قول الحق ونقل الحقيقة أو التزام الصمت، وكلاهما خيار وموقف محترم ومفهوم.

أما المسار الثالث والذي يتمظهر على شكل تزوير الحقائق وتجميل الواقع المرير وتلميع السلطة وتبرير الممارسات الخاطئة والتجاوزات والانتهاكات الإنسانية، فهو المسار الذي كتب عنه الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا عام 1927 في كتابه “خيانة المثقفين” وأُعيد طباعته في 1946 (بعد الحرب العالمية الثانية) كتأكيد على صحة رصد بندا لدور المثقفين ومسؤولياتهم.

شارك هذا المقال: