لقد ولّى زمن النموّ المعجزة وكانت الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب القشّة التي قصمت ظهر البعير

شارك هذا المقال:

Dani Rodrik

https://www.nytimes.com/2025/04/06/opinion/tariffs-vietnam-cambodia-globalization.html

ترجمة: مسلم عبد طالاس

من حديقة الورود في البيت الأبيض، وصف الرئيس ترامب هذا اليوم بأنه “يوم تحرير” للولايات المتحدة، لكن في مصانع الملابس بهانوي وبنوم بنه، بدا إعلانه عن “الرسوم الجمركية المتبادلة” كإعلان حرب اقتصادية.

على مدار أكثر من سبعة عقود، اتبعت العديد من الدول نفس الاستراتيجية للخروج من الفقر. اي تصنيع المنتجات وبيعها في الخارج. هذه الاستراتيجية، المعروفة باسم “التصنيع للتصدير”، كانت قائمة على إصلاحات اقتصادية داخل كل دولة، ولكنها استفادت إلى حد بعيد من انفتاح الاقتصاد العالمي بقيادة الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية.

لم يكتفِ ترامب بإنهاء هذا الانفتاح بشكل مفاجئ، بل فرض حواجز تجارية غير مسبوقة منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. وستواجه فيتنام وكمبوديا الآن رسومًا جمركية عقابية تصل إلى 46% و49% على صادراتهما إلى السوق الأمريكية. وتُشكّل هذه الرسوم صدمة قاسية، فتلك الصادرات تمثل ما يقارب ثلث الناتج المحلي الإجمالي في كلا البلدين .

يحقّ لصنّاع السياسات والمستثمرين في الدول التي علّقت آمالها على التجارة الدولية أن يشعروا بالقلق من تبعات التوجه الحمائي الأمريكي. لكن الحقيقة هي ان استراتيجية “التصنيع للتصدير” فقدت زخمها منذ عقود، ولم تعد مجدية في معظم الدول النامية. وإذا أرادت هذه الدول استعادة النمو، فعليها تجاهل سياسات ترامب والتركيز على التحديات الجوهرية: تنمية الأسواق المحلية، ودعم الطبقة المتوسطة، وتوسيع قطاعات الخدمات لتوليد فرص عمل لائقة.

لقد مثّل نموذج “النمور الآسيوية الأربعة” – تايوان، كوريا الجنوبية، هونغ كونغ، وسنغافورة – نموذجا تقلده الدول الفقيرة الطامحة في التنمية الاقتصادية. ففي خمسينيات القرن الماضي، كانت هذه الدول فقيرة وتعتمد على الزراعة والمواد الخام، لكنها استفادت من التجارة, اي التصدير, في تطوير صناعات متقدمة – من الألعاب والملابس إلى الصلب والسيارات والإلكترونيات، وصولًا إلى أشباه الموصلات – ومن خلال ذلك وصلت إلى أحدث التقنيات والآلات.

وسرعان ما اتبعت الصين ايضا هذا النموذج، وأتقنته لدرجة جعلتها القوة التصنيعية الأولى عالميًا، وانتشلت أكثر من 800 مليون شخص من الفقر المدقع، لتصبح أبرز منافس اقتصادي للولايات المتحدة. (وربما كانت الصين ناجحة أكثر مما ينبغي، إلى حد أن “مواجهة” صعودها بات هدفًا مشتركًا للحزبين الأمريكيين مع تولّي جو بايدن الرئاسة).

مع ارتفاع تكاليف العمالة في الصين، انتقل جزء من الاستثمارات الأجنبية إلى فيتنام، التي شرعت في تبني استراتيجية التصنيع للتصدير منذ الثمانينيات، وربما تكون آخر قصة نجاح حقيقية لهذه الاستراتيجية. وبالنظر إلى المعجزات الاقتصادية التي حققتها النمو والصين وفيتنام (جزئيا)، فليس من المستغرب أن تطمح دولٌ فقيرةٌ أخرى لتكرار التجربة. أصبح التصنيع للتصدير ركيزة أساسية في أدبيات التنمية وسياسات الدول الفقيرة.

لكن منذ التسعينيات، ادى التطور في التكنولوجيا وتنظيم الإنتاج الصناعي إلى تراجع فاعلية هذا النموذج أو الاستراتيجية. فقد سهّلت الأتمتة والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد احلال الالة محل العمال ، مما قلّص الميزة النسبية الأساسية التي تتمتع بها الدول الفقيرة. اي وفرة اليد العاملة الرخيصة.

من المؤكد أن العديد من الدول النامية شهدت نموًا سريعًا بعد تسعينيات القرن الماضي، وخاصة قبل جائحة كوفيد، ولكن ليس من خلال زيادة صادرات الصناعات التحويلية. تشكل إثيوبيا مثالًا واضحًا. قبل عقدين من الزمن، كان من المتوقع أن تقود موجة جديدة من التصنيع الموجه نحو التصدير بالترافق مع ارتفاع تكاليف العمالة في الصين. كما حدث في المعجزات الآسيوية في بداياتها، كان لدى إثيوبيا وفرة من الشباب المتحمسين للعمل الثابت في المصانع. وقد سعت الحكومة الإثيوبية جاهدةً إلى جذب المستثمرين الصينيين وغيرهم، وبنت مناطق صناعية للشركات الأجنبية، ولكن في النهاية، لم تُخلق هذه الاستراتيجية سوى فرص عمل قليلة في المصانع. في المقابل هندست إثيوبيا نموها السريع من خلال الاستثمار العام في النقل وتحسين أنظمة الري للمزارع، مما أنعش الأسواق المحلية.

ربما حال ضعف روابط إثيوبيا بالأسواق الدولية دون أن تصبح قوة صناعية. ولكن الآن، لننظر إلى المكسيك، التي تشترك في حدود طويلة مع أكبر اقتصاد في العالم، والتي جعلت من التكامل الاقتصادي مع أمريكا الشمالية حجر الزاوية في استراتيجيتها للنمو منذ تسعينيات القرن الماضي. على عكس إثيوبيا، ازدادت الصادرات والتصنيع والاستثمار الأجنبي بشكل ملحوظ في المكسيك بعد إبرام اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا). لكن معظم الفوائد ظلت محصورة في شريحة ضيقة من الاقتصاد المكسيكي، بينما ركد باقي الاقتصاد، وظل النمو الإجمالي منخفضًا. تكمن المشكلة في ضعف اندماج المصانع الحديثة المُنشأة لخدمة سلاسل التوريد في أمريكا الشمالية في الاقتصاد الوطني الأوسع، وفشلها ببساطة في خلق فرص عمل كافية.

لا شك أن رسوم ترامب الجمركية ستكون مؤلمة لفيتنام وكمبوديا والمكسيك ودول أخرى تعتمد بشكل كبير على الصادرات إلى السوق الأمريكية. ستتحمل هذه الدول وطأة هذه الرسوم، وقد تُدفع إلى الركود. ولكن إذا كان أداء المكسيك سيئًا حتى عندما كانت تتمتع بإمكانية الوصول دون عوائق إلى الأسواق الأمريكية، فإن ذلك يشير إلى أن تصدير السلع إلى الاقتصادات الغنية لم يعد خيارًا مثاليًا للدول النامية، بغض النظر عما يفعله ترامب.

فكيف يُمكن لهذه الدول تحسين أوضاعها بطريقة أخرى؟ مع أن التصنيع لا يزال مهمًا، إلا أنها بحاجة إلى تطوير الخدمات المحلية، مثل الرعاية الصحية وتجارة التجزئة والضيافة، حيث ستُوفر معظم الوظائف. ويتمثل التحدي الذي تواجهه الدول النامية في بناء اقتصادات الطبقة المتوسطة من خلال خلق وظائف أفضل وأكثر إنتاجية في هذه الخدمات. وهذه مهمة شاقة: فإنتاجية الخدمات المحلية تأخرت تاريخيًا عن التصنيع.

ولحسن الحظ، هناك بعض الأفكار الواعدة لنوع جديد من السياسات الصناعية للخدمات التي تستوعب العمالة. وتتراوح هذه الأفكار بين تشجيع الشركات الكبيرة، مثل شركات التجزئة وشركات المنصات على الانترنت، على التواصل بشكل أفضل مع الاقتصاد المحلي وتوظيف المزيد من العمال المحليين، ومساعدة الشركات الصغيرة ذات الطابع الريادي على التوسع من خلال التكنولوجيا والتدريب. ومن غير المرجح أن تُحقق هذه التدخلات نموًا بنفس سرعة النمو في دول شرق وجنوب شرق آسيا خلال ذروة التصنيع المُوجه نحو التصدير. ولكن من خلال استهدافها المباشر لخلق فرص عمل جيدة للغالبية العظمى من الباحثين عن عمل من ذوي التعليم المنخفض، فإنها تتمتع بميزة تحقيق نمو من القاعدة إلى القمة بدلًا من النمو المتساقط من أعلى لاسفل.

بالنسبة لمليارات البشر الذين ما زالوا يعيشون في فقر، قد يبدو طريق الرخاء مختلفًا تمامًا عما كان عليه بالنسبة للعالم الغني والدول ذات الأداء المتميز في آسيا. حتى قبل أن يُعلن السيد ترامب حربه التجارية العالمية، كان عصر النمو المعجز كما عرفناه على وشك الانتهاء. وأكثر من أي وقت مضى، أصبح مصير الدول النامية الآن في أيديها إلى حد كبير.

وبالنسبة للمليارات الذين ما زالوا يعيشون في فقر، فإن طريق الرخاء في القرن الحادي والعشرين قد يبدو مختلفًا تمامًا عن ذاك الذي سلكه العالم الغني والنمور الآسيوية. حتى قبل أن يُشعل ترامب فتيل حربه التجارية، كان عصر النمو المُعجز كما عرفناه يقترب من نهايته. واليوم، بات مصير الدول النامية بيدها أكثر من أي وقت مضى.

شارك هذا المقال: