رأسمالية المحاسيب Crony Capitalismفي دمشق ما بعد الأسد: من وهم التحرير إلى إعادة إنتاج الإقصاء

شارك هذا المقال:

مسلم طالاس، باحث في المعهد الألماني للتنمية والاستدامة IDOS بون

غيّر سقوط نظام الأسد المشهد السوري جذرياً وفتح أبواب المستقبل أمام احتمالات شتى. وللمرة الأولى منذ عقود، بدا أن صفحة جديدة تُكتب في تاريخ سوريا، وأن الوطن على أعتاب إعادة البناء على أسس من العدالة والشفافية، بعيداً عن القمع والإقصاء. امتلأت الساحات بخطابات التحرير والنهضة، وتدفقت الوعود بإرساء قواعد جديدة للحكم الرشيد. غير أن من يتابع التفاصيل بعين اقتصادية ناقدة يكتشف سريعاً أن الأمل وحده لا يكفي لبناء دولة حقيقية، وأن أخطر ما يتهدد التجربة السورية اليوم ليس فقط تحديات الإعمار والانتقال السياسي، بل عودة نمط رأسمالية المحاسيب، بل وربما ترسخه بأشكال أكثر تعقيداً وعمقاً من ذي قبل.

على السطح، تبدو السلطة الجديدة منهمكة في رسم صورة لنهضة اقتصادية خاطفة: اتفاقيات استثمارية بمبالغ ضخمة، زيارات لوفود أجنبية، وحديث متكرر عن تغييرات جذرية في القوانين والنظام النقدي، وربما حتى تغيير العملة. لكن المتأمل في طريقة إدارة هذه التحركات سرعان ما يدرك أن كل ذلك يجري في مناخ يغيب عنه البرلمان المنتخب، وينعدم فيه القضاء المستقل، ويتوارى فيه الإعلام الحر، بينما تغيب تماماً أدوات الرقابة الشعبية والنقاش العام المفتوح. في مثل هذا الفراغ، تتحول الدولة من جديد إلى ساحة مغلقة، تُصاغ فيها السياسات الاقتصادية في غرف مغلقة، لا يدخلها إلا المقربون من مركز السلطة مهما تغيرت الشعارات.

جوهر رأسمالية المحاسيب، كما تشرحها أدبيات الاقتصاد السياسي المعاصر، يكمن في ذلك التحالف غير المعلن بين رأس المال والسلطة. فبدلاً من أن تمنح الامتيازات الاقتصادية بناءً على الجدارة والمنافسة النزيهة والابتكار، تُوزع الفرص بحسب القرب من دوائر الحكم. القطاع الخاص لا يجد نفسه مضطراً لتطوير أدواته أو تحسين كفاءته، بل يُضطر للبحث عن سبل التقرب من صناع القرار، أو نسج علاقات مع النخب الحاكمة الجديدة. في مثل هذا المناخ، تتحول القوانين الاقتصادية إلى أدوات مرنة تُفصّل حسب رغبة النافذين، ويصبح النجاح في السوق مرهوناً بالحصول على “ختم الرضا” من الحلقة الحاكمة. ومع الوقت، ينكمش المجال الاقتصادي الحقيقي، وتتركز الثروة والفرص في يد فئة ضيقة من المحاسيب والمنتفعين، فيما يدفع المجتمع كلفة الإقصاء وتهميش الكفاءات.

ليست هذه الظاهرة طارئة على المجتمع السوري. فقد عرفتها البلاد عقوداً طويلة، منذ أن احتكرت حفنة من العائلات والأجهزة الأمنية مفاصل الاقتصاد، واحتكرت معها فرص التقدم والثروة. في التسعينيات، حين أعلن النظام القديم عن سياسة “الانفتاح الاقتصادي”، ساد اعتقاد أن سوريا ستتحول إلى مركز اقتصادي إقليمي، غير أن الواقع كشف أن تلك السياسات كانت غطاءً لتحويل أصول الدولة إلى أملاك خاصة لشبكات قريبة من النظام، من آل مخلوف إلى آخرين من المنتفعين. العامل المشترك كان دائماً أن من يملك علاقات شخصية أو سياسية مع السلطة هو وحده القادر على التوسع والنجاح، بينما يُحاصر ويُقصى من يحاول العمل خارج تلك الدوائر.

ما يجري اليوم في دمشق يحمل نفس الملامح، حتى وإن تغيرت اللافتات. الاتفاقيات الاستثمارية الكبرى لا تمر عبر نقاشات علنية أو قنوات تشريعية منتخبة، بل تُبرم في الخفاء بين حكام سوريا الجدد وبعض رجال الأعمال أو الشركاء الإقليميين الساعين إلى تثبيت موطئ قدم في العاصمة. وفي ظل هذا المشهد، يجد صغار المستثمرين ورواد الأعمال أنفسهم خارج اللعبة، ما لم يحظوا بكفالة سياسية أو عسكرية من الحلقة الضيقة للسلطة. هكذا تتحول الآمال في اقتصاد تعددي وتنافسي إلى سراب، وتزداد شراسة الإقصاء والاحتكار باسم النهضة.

هذه الظاهرة لا تقتصر على سوريا وحدها، بل تتكرر في كل بلد يخرج من الصراع دون عقد اجتماعي واضح ومؤسسات قوية. العراق بعد 2003 يمثل نموذجاً صارخاً: فمع انهيار النظام الشمولي، أُعيد توزيع الثروة والفرص عبر شبكات الولاء الطائفي والحزبي، لا عبر الكفاءة أو النزاهة، فبقي الاقتصاد مشلولاً والتنمية محاصرة رغم تدفق مليارات الدولارات. في روسيا التسعينيات، أدت الخصخصة غير المنضبطة إلى صعود طبقة الأوليغارشية التي استحوذت على مقدرات الدولة بفضل قربها من السلطة، لا بفضل تفوقها الاقتصادي.

تتجلى خطورة رأسمالية المحاسيب في قدرتها على إعادة إنتاج نفسها، حتى مع تبدل الأنظمة وتغير الشعارات. فهي ليست مجرد انحراف مؤقت، بل بنية كاملة تنمو في غياب الشفافية والمنافسة وضعف المجتمع المدني، حين تتحول الدولة إلى غنيمة يتقاسمها المنتصرون. في مثل هذه البيئات، يتحول الاقتصاد إلى شبكة مغلقة من توزيع الريع، وتذهب الموارد الأساسية – من النفط إلى الجمارك والمعابر والعقارات – إلى الحلقة الضيقة للسلطة الجديدة، التي تعيد توزيعها على أساس الولاء والمصلحة الشخصية. ومع الوقت، تتآكل الثقة بين المواطن والدولة، وتُغلق أبواب تطوير اقتصاد منتج أو بناء طبقة وسطى قوية، ويصبح المستقبل مرهوناً بقرب الأفراد أو بعدهم عن مراكز السلطة.

لا يخفى على رأس المال الجاد، سواء كان محلياً أو أجنبياً، أن البيئة التي تسودها المحسوبية والفساد هي بيئة عالية المخاطر. في مثل هذه الأجواء، يتردد المستثمرون الحقيقيون عن ضخ أموالهم، ويفضل المواطنون الهجرة أو البحث عن وساطة لدخول عالم الأعمال، أو حتى الانخراط في السوق السوداء واقتصاد الظل، الذي ينمو ويزدهر في غياب المؤسسات والمساءلة. وهكذا نجد أنفسنا في دوامة تعيد إنتاج الأزمات القديمة وإن تبدلت الوجوه والأسماء.

التحذير من رأسمالية المحاسيب ليس رفاهية فكرية أو دغدغة للخيال السياسي، بل هو ضرورة موضوعية لفهم مآلات المرحلة المقبلة إذا بقيت إدارة الاقتصاد والسياسة محكومة بمنطق الغرف المغلقة وتوزيع المغانم بعيداً عن الرقابة والمشاركة. إن أي اتفاقيات استثمارية كبرى، ما لم تخضع للرقابة البرلمانية والقضائية والشعبية، ستتحول حتماً إلى أدوات لشراء الولاءات وتكريس النفوذ، ولن تصنع اقتصاداً وطنياً مستقلاً. إن التنمية الحقيقية تتطلب أولاً بناء مؤسسات شفافة، ومناخاً عاماً يتسم بالرقابة والمشاركة والعدالة.

الحقيقة أن أي إصلاح اقتصادي أو قانوني لا ينبع من عقد اجتماعي جديد، يُشرك الجميع ويؤسس لتنافسية عادلة، هو وهم يعيد تدوير الكارثة لا أكثر. التاريخ يعيد نفسه أمام أعيننا، والشعوب التي لا تتعلم من أخطائها تظل رهينة للماضي. فنهضة الاقتصاد تبدأ بتحرير السياسة وفتح الفضاء العام، لا بتوقيع الصفقات خلف الأبواب المغلقة، ولا بتكريس أنماط الإقصاء والمحسوبية باسم التحرير أو الاستقرار.

شارك هذا المقال: