كيڤورك خاتون وانيس
ثمة قناعة مطلقة لدى معظم المهتمين والمشتغلين بالشأن العام وهي أنه ليس هناك من أمل أو فرصة لإحداث أي تطوير أو تحديث في الدولة والمجتمع بوجود النظام الشمولي (نظام الحزب الواحد)، إذ أن التفرّد والعنف والاقصاء والقمع هي من صلب تركيبة هذا النوع من الأنظمة ، كيف لا وهي تعتبر وتعلن نفسها قائد الدولة والمجتمع!
وهي حقيقة لا تقبل النقاش أو الجدال خاصة من طرف من عاش في كنف هذه الأنظمة، لكنها للأسف الشديد تهتز أمام حقيقة أخرى وهي : لماذا يسلك أصحاب هذه النظرية عندما يصلون إلى السلطة نفس المسار الذي سارت عليه السلطة السابقة التي عانوا منها الأمرّين؟
تستند هاتان الحقيقتان على مقارنة حال الدولة والمجتمع في ظل كلا النظامين، السابق واللاحق؛ حالة القمع وغياب الحريات العامة فضلاً عن استمرار الحالة المعيشية السيئة للمواطن، أي باختصار العودة إلى نقطة الصفر هذا إلى لم نقل إلى مستوى أدنى منها في بعض الحالات!
يزخر تاريخ الثورات والانقلابات وخاصة تلك التي وقعت في القرن العشرين بشواهد كثيرة عن تلازم الحقيقتين المتنافيتين فيما بينهما، فالذين دعوا إلى الثورة في روسيا القيصرية انطلقوا من ذات القناعة المذكورة (استعصاء التغيير) في بداية حديثنا، ومع ذلك عندما تسلموا مقاليد السلطة حكموا بطريقة أسوأ من قياصرة آل رومانوف. والذين دعوا إلى الثورة في كوبا وقادوها، تخلوا أو نسوا كل المبادئ التي نادوا بها والمظالم التي وقعت عليهم عندما وصلوا إلى السلطة. ونفس السيناريو تكرر في منطقتنا عندما وصل الانقلابيون إلى السلطة في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر!
في هذا السياق ثمة مفارقة غريبة لكنها أيضاً حقيقة، فرغم الفارق النوعي بين الثورة والانقلاب، إلا أنهما ينتجان أنظمة متماثلة؛ بعبارة أخرى، لا يختلف النهج الذي يتبعه الذين يصلون إلى السلطة عن طريق الثورات عن الأسلوب الذي يحكم به من يستولون على مقاليد السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، بل أنهم يتبادلون الحيل، فقادة الثورة يرتدون البدلة العسكرية لكي يذكروا الناس بانهم لازالوا في حالة ثورة وبالتالي لا صوت يعلو عليها أو على الأصح عليهم (على قادة الثورة)، بينما يخلع الجنرالات البدلة الكاكية اللون حتى ينسوا الشعب بأنه محكوم بالبسطار؛ بعبارة أخرى الانقلابيون والثوريون يتبادلون الأدوار فقط في المظهر عندما يصلون إلى السلطة!
لكن أليس من الممكن أن يكون الذين وصلوا إلى السلطة قد حاولوا أن يطوروا أوضاع بلدانهم لكنهم واجهوا صعوبات على أرض الواقع لا تتوافق مع رؤيتهم النظرية؟
حسناً، على فرض أنهم حاولوا وفشلوا،إذن ، لماذا تمسكوا بالسلطة كما فعل النظام الذي ثاروا عليه؟ لماذا نصّبوا أنفسهم أوصياء على الشعب ولم يتركوا الخيار للشعب من خلال السماح بتشكيل منظمات المجتمع المدني التي يمكن أن تساهم في عملية التطوير والتحديث، ولم يحتكموا رأي الشعب (الذي من المفترض أنهم ثاروا من أجله) من خلال صناديق الانتخابات؟
إذا كانت الوقائع والممارسات التي تحدث بعد الوصول إلى السلطة تهز القناعة أو الحقيقة التي تستند على معطيات الواقع المعاش قبل الوصول إلى السلطة، أين يكمن الخلل إذن؟
هل يمكن تصنيف التمسك بهذه القناعة أو الحقيقة في باب: كلام حق يُراد به باطل؟ أي أن يكون الوصول إلى السلطة هو الهدف الكامن؟ أم أن هذه الحقيقة تهمل بعض المسائل في سياق دراسة تركيبة وعقلية الأنظمة الشمولية؟
عند التدقيق في جذور هذه القناعة أو الحقيقة المتعلقة باستحالة التغيير في ظل الأنظمة الشمولية، يتبين بأنها تقوم على الفرضية التالية: النظام الشمولي ليس إلا مجرد عدة شخصيات في رأس هرم السلطة، وأن كل فئات الشعب ضده!
قد يكون من المقبول القول بأنه في البداية هم ثلة أو مجموعة استولت على الحكم (عن طريق الانقلاب أو الثورة)، لكن من غير المقبول القول بأن هذه المجموعة الصغيرة تستطيع لوحدها حكم الدولة والمجتمع لسنوات طويلة دون أن يكون لها داعم شعبي!
وهذه أيضاً حقيقة تدعمها شواهد كثيرة، فلو أخذنا النازية والفاشية كأوضح مثالين عن الدولة الشمولية لرأينا بأن اتباعهما كانوا يعدّون بالملايين في المانيا وإيطاليا، ولم يكونوا فقط من عامة الشعب بل أساتذة جامعات ونخب فكرية مثقفة من فنانين وأطباء ومهندسين …..الخ
والأمر نفسه ينطبق على الأنظمة الشمولية التي وصلت إلى السلطة في منطقتنا، فقد كان جزء كبير من المجتمع مشاركاً ومنفذاً لسياسات النظام الشمولي؛ البعض من باب الحصول على مكاسب شخصية سلطوية أو مادية، والبعض الآخر عن إيمان وأمل بهذا النظام (وهو ذات الأمل الذي سيناله قادة النظام الجديد من جزء آخر من الشعب)!.
بل أن نسبةً لا يستهان به من الشعب كانت تقدم ولاءً أكثر مما تتطلبه أو تتوقعه السلطة؛ الوشاية لدى أجهزة السلطة ( التي لا يمكن تبريرها بأي شكل كان) على سبيل المثال، كانت منتشرة بشكل كبير، وهي تعتبر أقوى دعامة لاستمرار النظام الشمولي.
أخيراً وليس أخراً، ثمة حقيقة أخرى وهي أنه لا يمكن لأي نظام استبدادي مهما بلغت قوته وتماسكه أن يستمر طويلاً في السلطة بالاعتماد على العنف فقط؛ لابد لاستمراره من شرعية شعبية، وهذه الشرعية تتكون من أرضيتين: الاخضاع والخضوع؛ الأولى يحصل عليها النظام باستخدام العنف، والثانية يحصل بالخضوع الطوعي الناتج عن ايمان وثقة جزء من الشعب بسياسة هذا النظام (وهذه أيضاً حقيقة سواء قبلناها أم لا).