لماذا فشلنا وكيف نجحوا؟!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

ثمة بحث قيّم للبروفيسور روبرت سنايدر بعنوان الانتفاضة العربية واستمرار الملكيات، يجيب فيه على سؤال هام ومحيّر يتبادر إلى الأذهان شرقاً وغربا”: كيف يمكن تفسير سقوط حكام الجمهوريات واستمرارية حكام الملكيات؟ إذ إنها مفارقة من جهة أن الملكيات على وجه الخصوص كانت عبر التاريخ عرضة للحركات الثورية!

وفي هذا السياق يقفز إلى الاذهان تساؤل ذو صلة وثيقة بالسؤال السابق ولا يقل أهمية عنه:  لماذا تراجعت الدول التي حكمها “التقدميون” وكيف تقدمت الدول التي يحكمها “الرجعيون” ؟

لا شك بأن سؤالاً بهذا الحجم  يتطلب دراسة تفصيلية وبحث لا يقل أهمية عن البحث المذكور، لذلك سيتم تناول جزئية صغيرة قد تصلح مدخلاً لتفسير حالة التناقض التي يطرحها السؤال. هذه الجزئية هي: ما هي الأسس التي اعتمدها “التقدميون” في حكمهم على الأنظمة الملكية العربية بأنها رجعية؟

المقصود هنا بـ “التقدميون ” ليس فقط أنظمة الجمهوريات العربية التي بدأت بالاستيلاء على مقاليد السلطة مع مطلع النصف الثاني القرن الماضي، وليس فقط النخب الثقافية الموالية لها، بل كذلك طيف عريض من النخب الثقافية المعارضة، الحزبية منها أو المستقلة. إذ أن تعبير الرجعية التي وُصفت به الأنظمة الملكية، والخليجية على وجه الخصوص، استُخدم من قبل كل هؤلاء “التقدميون” على حدٍ سواء؛ وهو توافق يحتاج بحد ذاته إلى بحث خاص لا مجال للخوض فيه في هذه العجالة.

إذن دعونا نحاول معرفة  المعايير أو المقاييس التي استند إليها “التقدميون” في إطلاق صفة الرجعية على الأنظمة الملكية الخليجية.

إذا كان المعيار الذي يستخدمه “التقدميون” هو البنية السياسية الداخلية لهذه الأنظمة، من حيث كونها أنظمة عائلية وهو نظام متخلف ولى زمانه ولم يعد يتناسب مع روح العصر، وأنها لا تسمح بالانتخابات، وليست هناك برلمانات وأن الحكومة فيها مشكّلة من العائلة الحاكمة (باستثناء الأردن والمغرب حيث الحكومة والوزراء من خارج دائرة العائلة أو المعروفة بالملكية غير الأسرية)، فأنه معيار صحيح في العموم، لكن إلى أي حد يحق للأنظمة “التقدمية”، استثناء نفسها من هذا المعيار؟ ألم تسعى بكل ما أوتيت من قوة وحيلة  إلى تحويل دولها إلى دولة العائلة ؟  ألم تصبح عائلة الحاكم “التقدمي ” في الأنظمة الجمهورية العربية أكثر نفوذاً وسلطةً وثراءً من عائلة الحاكم “الرجعي” في الأنظمة الملكية ذاتها؟!

صحيحٌ أنه ليس هناك انتخابات بلدية وبرلمانية في الأنظمة الملكية العربية (مرة أخرى باستثناء الأردن والمغرب)، لكن أليست عملية  الانتخابات في ظل الأنظمة “التقدمية” صورية وللتصدير الخارجي، وأن القوائم الانتخابية تكون معدة بشكل مدروس من قبل الأجهزة “التقدمية”؟

أما موضوع كون رئيس الحكومة والوزراء في الأنظمة الملكية العربية (عدا الأردن والمغرب) من العائلة الحاكمة، فهو انتقاد موضوعي ومقبول، لكن استخدامه من الأنظمة “التقدمية” يعرّضها إلى انتقاد أقوى؛ أليس الوزراء في الجمهوريات العربية “التقدمية” مجرد موظفون ينفذون التعليمات والأوامر ؟ هل يملكون صلاحية أو شجاعة إصدار أي قرار قبل الرجوع إلى النظام “التقدمي”؟ أليس وجود هذه الهيئة في الواقع هو فقط لإيهام الناس بأنهم يعيشون في دولة مؤسسات؛ دولة “تقدمية”؟ّ

أما إذا كان المقياس المتّبع في هذا التقييم هو السياسة الخارجية  لهذه الملكيات، أي علاقاتها مع الغرب “الاستعماري- الامبريالي”، فأنه مقياس شعبوي بامتياز، وهو مقياس مستخدم  ليس فقط من قبل أنظمة الجمهوريات العربية بل والنخب الثقافية المعارضة أيضاً!

ولا يحتاج إلى تفنيده إلا إلى مجرد مقارنة بسيطة بين نتائج تجربة علاقة “التقدميين” مع دول المعسكر الشرقي في القرن الماضي وتجربة علاقة “الرجعيين” مع دول المعسكر الغربي.

أي العلاقتين كانت له انعكاسات إيجابية على الدولة والمجتمع؟ هل كانت ثمار التعاون العلمي ، على سبيل المثال لا الحصر، في الحالة الأولى أفضل واكثر فائدة من الحالة الثانية أم بالعكس؟ هل عاد الطلاب الذين أرسلتهم الأنظمة الملكية للدراسة في الجامعات الغربية بشهادات خلبيّة كما كان الحال مع الكثير من طلاب الأنظمة الجمهورية الذين اشتروا شهاداتهم بحفنة من الدولارات؟   

أي العلاقتين ساهمت في تطوير الصناعة والتكنولوجيا وادخل برامج التنمية الاقتصادية والبشرية ؟

 الأسئلة غير منتهية، لكن ألا يُظهر هذا العرض السريع بأن “الرجعيين”  كانوا أكثر وضوحاً في التعامل مع مجتمعاتهم من تعامل “التقدميون” مع مجتمعاتهم ، وربما مع أنفسهم أيضاً إذ أنهم أقروا، ولو ضمنياً، بقدراتهم المحدودة في إدارة البلاد، وبحاجتهم لدول آخرى متقدمة من أجل مساعدتهم في تطوير بلدانهم!

وعلى فرض أنها رجعية، لماذا شغل “التقدميون” أنفسهم بها وحاولوا زعزعة استقرار تلك الدول من خلال تصدير الشعارات والأوهام ؟ لماذا  لم يهتموا بشؤون بلدانهم ويتركوا الآخرين في “تخلفهم” أو “رجعيتهم”؟

وإذا كانوا كذلك كما يصفهم “التقدميون”، كيف تمكنت إذن هذه الأنظمة “المتخلّفة – الرجعية” من تطوير بلدانهم، وجذب الاستثمارات والكفاءات وتحقيق مستوى معيشة لشعوبها أعلى بكثير من حال شعوب دول “التقدميين”؟

أما مقارنة نتائج تجربة مجلس التعاون الخليجي التي أسسها “الرجعيون” مع نتائج تجارب “الوحدة” التي نفذها “التقدميون” فتظهر أي التجربتين كانت خطوة هادئة إلى الأمام  وأي منها كانت خطوة أو خطوات متهورة إلى الوراء على صعيد العلاقة بين دول “الوحدة” التي تحققت والتي كادت أن تتحقق !

ألم تثبت التجارب بأن النظام الملكي هو الأنسب للشعوب التي لم يسبق لها العيش في ظل دولة مؤسسات، أو بالأحرى الدولة الحديثة الولادة. إذ أن وجود النظام الملكي (الاستقرار السياسي) يقطع الطريق أمام الصراع على السلطة ويدفع المشتغلين بالشأن العام إلى تركيز اهتمامهم على الجانب الاقتصادي والاجتماعي  للبلد؟!

أخيراً وليس آخراً، أليس من الممكن  أن يكون فرض الزعامة “التقدمية ” هو الهدف الكامن وراء محاربة الأنظمة الملكية تحت يافطة “الرجعية”، وأن كل ما سبق ليست سوى حجج واهية لشحن الشعوب بأجندة الزعيم ورفاقه؟!

شارك هذا المقال: