الديمقراطية والمسيحية متوافقتان؟!

شارك هذا المقال:

كيڤورك خاتون وانيس

ثمة اعتقاد شائع في أوساط  الكثير من الدارسين والباحثين والمهتمين بمسألة المجتمعات والديمقراطية، بأن مسيحية الغرب هي منبع أو ملهمة ديمقراطيته أو بالأحرى الديمقراطية والمسيحية متوافقتان، مستندين في استنتاجهم هذا على ثلاثة معطيات: كل الديمقراطيات في العالم هي دول مسيحية، وافتقار العالم الإسلامي لأي دولة ديمقراطية (الديمقراطية التركية حالة خاصة سيتم تناول بعض جوانبها في النهاية)، وثالثاً استمرار وجود أحزاب سياسية مسيحية في الدول الديمقراطية.

قد يبدو هذا الاستنتاج للوهلة الأولى محاكياً للواقع وبنفس الوقت مقبولاً بالنسبة للكثيرين وخاصة الذين يتّخذون من الإحصاءات منهجاً مطلقاً في الحكم على الكثير من الظواهر. لكن هل يمكن الوثوق دائماً بعملية الرصد الظاهري الآني وخاصة في تطور المجتمعات والثقافات؟ أليست مراجعة بسيطة لإرهاصات العلاقة بين الديمقراطية والمسيحية ضرورية ومفيدة  في الوصول إلى نتيجة أشمل وأكثر عمقاً؟

فلو تناولنا تاريخ اتخاذ أوروبا للمسيحية  ديناً رسمياً لدولها (إي إدخال الدين في السياسة)، والذي هو القرن الرابع للميلاد، لرأينا أنها متوافقة تقريباً مع تاريخ دخول أوروبا في عصور الظلمات أو ما يعُرف بالقرون الوسطى، ولما استطعنا العثور طوال تلك الفترة، التي امتدت لأكثر من ألف عام، على أي دولة في أوروبا عرفت نوع من الديمقراطية، بل على العكس كانت أحلك فترة في تاريخ أوروبا على مستوى الحريات وحقوق الإنسان؛ فالأفواه كانت مكممة والرؤوس كانت على المقاصل والأجساد تحرق في الساحات باسم الدين.

كما أن إقحام  المسيحية في السياسية كان السبب في دخول أوروبا في الكثير من الحروب الطائفية الوحشية؛  فمن حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) بين الكاثوليك والبروتستانت والتي أدت إلى تقسيم الدول على أساس مذهبي وراح ضحيتها الملايين، إلى سلسلة الحروب الثمانية الدينية التي تمثلت في توحش الدولة الكاثوليكية الفرنسية ضد قسم من سكانها غير الكاثوليك (البروتستانت) بالتزامن مع وحشية الدولة البروتستانتية (الأنغليكانية) الانكليزية ضد سكانها الكاثوليك!

لو تركنا التاريخ الأوربي جانباً، واتجهنا إلى الواقع المعاش على الضفة الأخرى من الأطلسي فأننا لن نستطيع  العثور على أي دولة ديمقراطية بين دول أمريكا الجنوبية والوسطى وهي جميعها دول مسيحية منذ مئات السنين؛ فهذه الدول كانت ولازال قسم كبير منها يعيش أنواع من الديكتاتورية والمافيا السياسيةّ!

أما مجادلة مقولة  بأن استمرار الأحزاب المسيحية في ظل الديمقراطيات هو دليل على نوع من التعايش أو التوافق بين المسيحية والديمقراطية، فهي تحتاج إلى معاينة ميدانية لمدى تطابق نهج هذه الأحزاب وبرامجها مع كلمة المسيحية الواردة في تسمياتها (الحزب الديمقراطي المسيحي في الكثير من الدول الأوروبية) .

المتتبع للبرامج الانتخابية لهذه الأحزاب ومن ثم نجاحها في دخول البرلمان والمشاركة في الحكومة (الاتحاد المسيحي الديمقراطي في المانيا؛ حزب المستشارة انجيلا ميركل، على سبيل المثال لا الحصر) يكتشف بسهولة خلوها من أي اتجاه ديني أو حتى مجرد ذكر الدين سواء داخل الحزب نفسه أو تحت قبة البرلمان أو الحكومة؛  باختصار لا علاقة لها برجال الدين أو الكنسية؛ إنها أحزاب تقليدية تحافظ على التسمية لغاية واحدة فقط ألا وهي كسب أصوات الجيل القديم ” المؤمن ” إلى حد ما! باختصار هي ليست أحزاب عقائدية.

فالقول أن مسيحية الغرب كانت وراء ديمقراطيته أو  أنهما متوافقتان أو متعايشتان هو أمر لا يتوافق مع هذه المعطيات لا بل  على العكس فإن أوروبا لم تعرف الديمقراطية إلا  بعد ابعاد المسيحية عن الحياة السياسية، كما أنها عرفته  في بلاد الاغريق قبل دخول المسيحية!

فأوروبا لم تستطع تأسيس ناديها الديمقراطي إلا بعد أن اعادت رجال الدين إلى معابدهم ليهتموا بشؤون السماء ويتركوا ترتيب شؤون الدنيا الاقتصادية والمجتمعية والسياسية لخبرائها  وفلاسفتها وعلمائها. لقد اعادوا تعريف الدين إلى أصله والذي كان وسيظل علاقة الفرد الروحية مع ربه وإلهه، تلك العلاقة التي تتكفل الدولة بحمايتها.

أما لماذا تم في المقدمة اعتبار الديمقراطية التركية حالة خاصة يستوجب التوقف عندها رغم مشهد الانتخابات الأخيرة الذي ادهش العدو قبل الصديق، فيمكن ايجازه ببعض النقاط الأساسية:

ممارسة الحق الانتخابي هو شرط لازم للديمقراطية لكنه غير كافٍ؛ فالانتخابات هي عملية ديمقراطية وليست الديمقراطية بأكملها، بعبارة أخرى الدولة الديمقراطية هي دولة القانون والدستور وليست دولة الرئيس حتى وإن أتى بالانتخابات.

لا يمكن تسمية أي دولة بأنها ديمقراطية إذا منح الدستور رئيسها صلاحيات مطلقة وخاصة في تعيين كل المسؤولين المدنيين رفيعي المستوى، وإعادة هيكلة الوزارات والإدارات العامة حسب تقديراته، وتعيين نصف قضاة الدولة في المراكز العليا، والنصف الأخر من حق البرلمان (فماذا لو حدث وان كان الرئيس والكتلة البرلمانية الأكبر من نفس الحزب؟)

لا يمكن إطلاق صفة الديمقراطية على أي دولة  إذا كان قانونها يتضمن مادة “إهانة الأمة”  أو “وهن نفسية الأمة”؛ المادة  301 من قانون العقوبات التركي الذي تم استخدامها سياسياً ولازال لتكميم الأفواه!

بعيداً عن التعابير المستخدمة في تعريف الديمقراطية، الدولة الديمقراطية ببساطة هي الدولة التي يعيش فيها الانسان دون خوف وخاصة من “الحيطان التي لها آذان” !

أما أكبر مؤشرين على افتقار الدولة للديمقراطية فهما: معدلات الهجرة ومسألة الاعتقال السياسي؛ أي الذّل!

شارك هذا المقال: