يقول دوستوفسكي: “إنَّ الخطأ هو الميّزة الوحيدة التي يمتازُ بها الكائن الإنساني على سائر الكائنات الحيّة، من يُخطئ يصل إلى الحقيقة، أنا إنسان لأنني أُخطئُ وهذا في ذاته ليس فيه ما يعيبُ”. ليس بالضرورة إقحام الخطأ بالندم، وليس دائماً كلّ الأخطاء تدفعنا للندم، لما ينتابنا الندم بعدما حققنا أمراً كنا سعيدين بإنجازه، ما الذي يدفع المرء للندم، هل هي الأخطاء السّابقة أم أنه أحياناً يعود لأمور قد نقوم بها ولكننا نتجاوزها ولا نهتم بها، ثمّ لنشعر بعد ذلك بالندم ..!، هل ثمّة ما يستدعي النّدم من جانب كيليطو؛ سواء كان مخطئاً أم لم يخطئ، حتى يلاحقه الندم الفكري.
عبد الفتاح كيليطو؛ المؤلف المتميّز باختيار عناوين كتبه، والتي غالباً ما يستقيها من أقوال أو عبارات من مؤلفات لكتّاب معروفين، كما عنوان كتابه الجديد والموسوم بـ “في جو من النّدم الفكري“، المستقى من عبارة لباشلار يقول فيها” إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء، فإننا نلفي الحقيقة في جو من النّدم الفكري، والواقع أننا نعرفُ ضد معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء، وتخطي ما يعرقل، في الفكر ذاته، عمليّة التفكير”. الكتاب صادر حديثاً عن منشورات المتوسط بإيطاليا 2020، وكعادته فهرسَه الكاتب بأربعة عشر عنواناً تشدُّ القارئ، ولا تبتعدُ به كثيراً في مضامينها عن كتبه السّابقة، فهو مبهرٌ في انتقاء العناوين، والربط الممتع بين الحديث والقديم التاريخي، إذ يقدّم التراث/ النصّ القديم بقراءة حديثة ومغايرة، وهو المعروف بأنه رائد التجديد في التراث، فكيليطو لا يغادر أو ربما لا تغادره الكتب التراثية، فهي التي تمدّهُ أو يستمدُّ منها أفكاره ومادته، ويبني عليها مشروعه الكتابي، ويعترفُ بذلك، بأنه حبيسُ طريقة كتابة وهو أسلوبه الذي يتبعه في كتبه، بدءاً من ألف ليلة وليلة إلى ابن خلدون والكثير من الكتب التراثية القديمة، ولا يخفى الأسلوب الذي يتبناه كيليطو في الكتابة، ويقرُّ بذلك؛ فهو “الوثب والقفز” و”الاستطراد” كما هي طريقة مونتيني والجاحظ في الكتابة، ويقول: “ليست طريقتي في الكتابة من اختياري، أنا لا أكتبُ بطريقة أخرى”، فتأتي موضوعاته مُتاخمة وأفكاره كثيرة وعميقة وعناوينه مؤتلفة، هي كتابة قائمة على التنوع والتشكيل السردي.
في كتابه الجديد كأني به يبحثُ في مفهوم القراءة الأولى/ المرّة الأولى أيّ البدايات، ففي العنوان الأولى من الكتاب “المقامات”، يُظهر كيليطو إنهُ يكتب على طريقة المقامات، فمن يقرأ في كتب كيليطو يستلذّ بنصوصه، وكأنها مقامات متفرّدة، لكلّ منها طعم ومذاق خاص.
وأغلب عناوينه/ نصوصه الفرعية المتوزعة في أغلب كتبه، هي متفرقات، منفصلة عن بعضها، وليس من ثمّة بداية أو نهاية تربط النصوص والمواضيع، هي سرديات ممتعة، تأخذ بالقارئ إلى كلّ الاتجاهات الأدبية، فتجدهُ يسرد كقاص، ثم يسيرُ بك إلى ميدان النقد، يقفزُ بالقارئ من فكرة لأخرى، وهو يعترف؛ بأن الأسئلة والإجابات لا تتفق دائماً، فلكلّ سؤال وقته ومزاجه ولغته وسائله، أي بمعنى ليس من ثمّة قراءة أولى، فكلّ قراءة أولى؛ هي قراءة ثانية، لأنّ هناك قراءة سابقة. كيليطو الآن على أعتاب السبعين من عمره أو تجاوز ذلك، فهل يريدُ بهذا الكتيب الصغير السلس والبسيط في طروحاته المتعددة، أن يُظهرَ بأنّ ثمّة أشياء ارتكبها وها هو هنا يُعلّقُ عليها نادماً أو يستذكرها لقارئه. كيليطو في كتيبه الجديد، يأخذ بأطراف الأحاديث ويخلقُ منها مواضيعه وندمه، الذي يشعرُ بها في عدة عناوين مثل “أخت فرانسوا الأول ـ فن الخطأ”، كما أنّ التأويل في سرديات كيليطو مباح إلى آخر درجاته تحت عنوان “الفتحة التي تختفي وراء الكسرة”، فهو يعودُ إلى كتابه “بحِبر خفي”.
كما أنَّ الأخطاء أحياناً تحدثُ في حالة من اللاوعي، كما في “فنّ الخطأ”، فالمؤلف قد يكون متأثراً بقصة أخرى قرأها، فينسى ثمّ يضمّها لكتابه وهو لا يدري، أنه خطأ ربما يندم عليه لاحقاً عندما يكتشفها بطريق الصدفة، إذ يتطرقُ إلى فكرة النوم التي يسردها في كتابيه “الغائب وأنبئوني بالرؤيا“، فهل ثمّة خطأ، ما هو هذا الشيء الذي شدّهُ، أيّةُ متاهة فُتحت أمامه ليكتبَ عن فكرة النوم ويعيد في القراءة مرة أخرى ـ وكأنه يعود للقراءة الأولى. وفي “العميان” تحتَ هذا العنوان، يشيرُ لكتابه السّابق “من نبحثُ عنه بعيداً يقطنُ قربنا”، وكأنّ الفرد منا أعمى عما سيحصلُ له لاحقاً، هل يكتب المرء لتستحيل كتابته بعد ذلك وباءً عليه، هل ما نحبه يغيب، وما نحتاجه نفتقدهُ، فبورخيس يتساءلُ بأي لغة سيموت، ولا علم لديه، أنه سيتعلم العربية لاحقاً ويموت على أثرها. فالعناوين مفاتيح لنصوصها ومع كلّ ترجمة ربما يختلفُ المفتاحُ، ومن الصعب الولاء للعنوان الأصلي، لأن نقل العنوان إلى لغة أخرى يؤدي إلى عنوان جديد، وقد تناول ذلك في “على هامش الرؤية”. فالكتابة عند كيليطو تتأسس على فكرة قائمة مسبقاً ولم تخطرْ على باله إلا متأخراً. أما فيما يخصُّ عنوانه “النقطة الفاصلة” فهو يرى فيها “جوهر العمل الأدبي، ومكوّنه الأساسي وحجر الزاوية فيه، ذلك أنها تنهي الجملة دون أن تنهيها، تختمها وفي آن تجعلها تتطلع إلى شيء زائد، إلى إضافة وتكملة”. وفي “مجرد حرف” يتوقفُ عند كتابه “لن تتكلم لغتي”، فيطرحُ الأسئلة والملاحظات على كتبه وكتب غيره من المؤلفين الكبار أمثال كافكا، وكأنه يبحثُ في أسرار النصوص التي يتطرقُ إليها، فالقراءة لديه ليست قراءة بحتة مجردة، بقدر ما هي قراءة تقوم على تفجير التساؤلات، وربما هذا تأكيد لعنوان كتابه المذكور “لن تتكلم لغتي”، ومن خلال نقاش يدور بينه وبين صديق فرنسي، يتوصل كيليطو بأنه على المرء أن يتكلم لغته، ولا يكون متطفلاً على لغة الآخر.
فالقارئ عندما يقرأ في الأدب الكلاسيكي لأول مرّة، لا يقول إنني أقرأ، إنما أعيدُ القراءة فيه، لأنه مسبقاً لديه المعلومات والمعرفة بالنتاج الكلاسيكي، وهذا ما يشيرُ إليه كيليطو في “لهذا نقرأ الأدب الكلاسيكي”، فنحنُ لا نقرأ القدماء، إنما نعيدُ في القراءة/ في المعرفة المكتسبة الأولى ــ أيّ القراءة الأولى ــ، وفي معرض حديثه؛ كيف تصبح كاتباً ومؤلفاً، يذكرُ مقولة لابن خلدون بما معناه، لتكون مؤلفاً وأديباً عليك الاطلاع على أربعة كتب من عيون الأدب، وهي أدب الكتاب لابن قتيبة، الكامل للمبرد، البيان والتبيين للجاحظ، والنوادر للقالي، ولكن كيليطو يأخذ العبرة من شخصية لنجيب محفوظ الواردة في “خان الخليلي” الذي لم يصبح كاتباً مع أنه قرأ الكتب الأربعة، فاكتفى كيليطو بالجاحظ دون غيره، فكان “أديباً ناقصاً” كما يقول عن نفسه. يقول: “إنَّ الأدب الفرنسي لا يحتاجني، ولا ينتظرون مني أن أكتب عن أدبهم، على العكس من ذلك لم يفارقني شعور، ساذج بلا شك، أن الأدب العربي يحتاجني بقدر ما أنا أحتاجه”، ربما الأفضل أن يتعمّق ويراجع في أصول وتاريخ الأدب العربي، وفي أحد المرات لم يشارك كيليطو في عمل دعاه إليه مشرفه الفرنسي. في البداية ندمَ على ذلك، ولكن كان هذا الندم مبعثاً للفخر عنده، فهو فخور بدراسة لم ينجزها، يقول “ما أجمل ما لم أقم بكتابته”، ربما “جيد … هذا الأمر”، فهل سيستمر كيليطو في أجواء الندم أم ستنتهي مع انتهاء صفحات هذا الكتيب، وإن كان ندماً جميلاً، فالندمُ لديه قائم بحالتين، حالة إن كتبَ ثم يراوده شعور بأن ثمّة أخطاء قد وردت، والحالة الثانية التي يقدمُ فيها أنه لم ينجز وأحجمَ عن الكثير من الأعمال، ولم يبادر في الكتابة عنها، ولكنه في الحالتين فخور بكلّ الدّراسات التي أنجزها أو لم ينجزها “فالخطأ ليس شيئاً يحدث أو لا يحدث، إنه على العكس المكون الأساسي للكتابة، معدنها وطبعها، أن تكتب معناه أن تخطئ”.