الفتاة الأخيرة: قصتي عن الأسر وكفاحي ضد الدولة الإسلامية

شارك هذا المقال:


تأليف: نادية مراد بالاشتراك مع جينا كرايسكي.

1

كوجو قريةٌ إيزيديّة، استقرّ فيها المزارعون والرعاة البدو الذين وصلوا إليها أولاً، وقرّروا بناء منازل فيها لدرء الحرّ الشبيه بِحرّالصحراء عن زوجاتهم. اختاروا الأرض التي ستكون صالحة للزراعة، لكنها كانت أيضاً موقعاً جغرافياً محفوفاً بالمخاطر على الحافة الجنوبية من منطقة سنجارفي العراق، حيث يعيش معظم الإيزيديين في البلاد، ولقربها كذلك من الجزء غير الإيزيدي من العراق.
عندما وصلت العائلات الإيزيدية الأولى في منتصف خمسينات القرن العشرين، كانت كوجو مسكونةً من قبل مزارعين من العرب السُنّة يعملونَ لحساب ملاك الأراضي في الموصل. لكن العائلات الإيزيدية تلك وكّلتْ محامياً لشراء أراضٍ هناك. المحامي إياه كان مسلماً أيضاً، ولا يزال يُعدُّ بطلاً في نظر الإيزيديين. حين ولدتُ كانت كوجو قد نمت ْلتضمَّ حوالي مائتي أسرة، كلهم من الإيزيديين.
تلك الجغرافية التي جعلتنا ذو خصوصية، جعلتنا أيضاًغير مُحصنين. لقد تعرض الإيزيديون خلال قرون إلى الاضطهاد بسبب معتقداتهم الدينية.وبالمقارنة مع معظم البلدات والقرى الإيزيدية الأخرى، فإن كوجو بعيدةٌ عن جبل سنجار، الجبلُ المرتفع والمحصور الذي يأوينا منذ أجيال.
لفترة طويلة تمَّجرُّنا من قبل القوى العراقية المتنافسة (العرب السنة والكرد السنة)، وطُلب من االتنكر ُلتراثنا الإيزيدي والتوافق مع الهويتين الكردية أو العربية.

2

الإيزيديةُ ديانةٌ توحيديةٌ قديمة، تُنشَرُشفاهياً من قبل رجال مقدسين أنيطَ بهم سرد ُمروياتنا، وهي تضمُّ عناصر مشتركة مع العديد من الأديان في الشرق الأوسط، من الميثرانية والزرادشتية إلى الإسلام واليهودية. إنها ديانة فريدةٌ حقاً ويمكن أن تكون صعبة حتى بالنسبة لأولئك الرجال المُقدسين الذين يحفظون مروياتنا لتفسيرها. أتخيلُ ديانتي شجرةً قديمةً بآلاف الحلقات، كل حلقة منها تروي قصة في تاريخ الإيزيديين الطويل. العديد من تلك القصص، للأسف، هي مآسٍ.
اليومَ لا يوجد سوى مليون إيزيدي في العالم. ديانتنا التي جمعتنا كإيزيديين جعلتنا أيضاً هدفاً للاضطهاد من قبل مجموعات أكبر، من العثمانيين إلى البعثيين في عهد صدام، الذين هاجمونا أو حاولوا إكراهنا على التعهد بالإخلاص لهم.لقد جعلوا ديننا يتدهور، عبر القول إننا نعبد الشيطان أو أننا قذرين. لقد نجا الإيزيديون لأجيال من الحملات التي كانت تهدف إلى القضاء عليهم، سواء من خلال قتلنا، أو إجبارنا على التحول إلى الإسلام، أو ببساطة إخراجنا من أراضينا ومصادرة كل ما نمتلكه. قبل عام 2014، حاولت القوى الخارجية إبادتنا 73  مرة، وقد اعتدنا على تسمية تلك الحملات بـ “الفرمانات”، وهي كلمة عثمانية، قبل أن نتعلم كلمة الإبادة الجماعية.
يعتقد الإيزيديون أن الله وقبل أن يخلق الإنسان قد قام بخلق سبعة كائناتٍ إلهية، كانوا مظاهراً له، غالباً ما تسمى الملائكة.بعد خلق الكون من قطع كروية محطمة تشبه اللآلئ، أرسل الله ملاكه الرئيسي طاووسي ملك إلى الأرض، حيث اتخذ هيئة طاووس ولوّن العالم بالألوان الزاهية لريشه.
تذهب القصة إلى أن طاووسي ملك يلتقي على الأرض بـ آدم، الإنسان الأول الذي جعله الله خالداً وكاملاً، ويتحدى طاووسي ملك قرار الله، ويقترح ألا يظل آدم خالداً ولا كاملاً إذا كان سينجبُ ذرية.على آدم والحالة هذه تناول القمح الذي منعه الله من تناوله. يقول الله لطاووسي ملك أن هذا القرار متروكٌ له، واضعاً بذلك مصيرَ العالمِ في يد طاووسي ملك. يأكل آدم القمح ويُطردُ من الجنة، ثم يولدُ الجيل الثاني من الإيزيديين في العالم.
بعد إثباته لجدارته أمام الله، أصبح طاووسي ملك صلةَ الوصل بين الإله والأرض، وصلة الوصل بين الإنسان والسماء. عندما نصلي فإننا نصلي لطاووسي ملك، والاحتفال برأس السنة الجديدة لدى الإيزيديين هو احتفالٌ باليوم الذي هبط فيه طاووسي ملك إلى الأرض. لكن المسلمين العراقيين يحتقرون طاووسي ملك ويفترون علينا لأسباب ٍليست لها جذورٌ حقيقيةٌ في سردياتنا.
إن السردية التي نستخدمها لشرح جوهر إيماننا وكل ما نعتقده بشأن الدين الإيزيدي هي السرديةُ التي يستخدمها آخرون لتبرير الإبادة الجماعية بحقنا.

3

في يونيو 2014، استولى تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، والتي تقع على بعد ثمانين ميلاً شرق كوجو. بعد سقوط الموصل، أرسلت حكومة إقليم كردستان قوات إضافية من البيشمركة إلى قضاء سنجار لحماية البلدات الإيزيدية. وصل البيشمركة في شاحنة، مؤكدين لنا أنهم سيُبقوننا في أمان. البعض الذي أخافه تنظيم داعش أوالشعور بأن كردستان العراق أكثر أمناً، أراد أن يغادر سنجار إلى المخيمات الكردية التي كانت بالفعل مليئة بالنازحين المسيحيين والشيعة والسنة واللاجئين السوريين. لكن السلطات الكردية حثتنا على عدم المغادرة، وتم إعادة الإيزيديين الذين حاولوا مغادرة سنجارمن قبل البيشمركة في نقاط التفتيش حول قراهم، وأخبروهم بألا يقلقوا.
رأتْ بعض العائلات أن البقاء في كوجو انتحارٌ، محتجين “نحن محاصرون من ثلاث جهات من قبل داعش” وكانوا على حق.
دعا أحمد جاسو (مختار قرية كوجو) إلى اجتماع في المضافة، وقرروا في الاجتماع أن يبقى جميع من في القرية، مؤمنين حتى النهاية بأن علاقاتنا مع القرى العربية السنية حولنا قوية بما يكفي للحفاظ على سلامتنا، وهكذا بقينا في القرية.

4

وصل داعش إلى أطراف كوجو في وقت مبكر من صباح يوم 3 أغسطس 2014، قبل أن تشرق الشمس. كنت مستلقية بين شقيقتي آدكي وديمال على الفراش على سطح البيت حين جاءت شاحنات داعش الأولى. لم ينم أحد تلك الليلة. قبل بضع ساعات من ذلك، شن تنظيم الدولة الإسلامية هجمات مفاجئة على عدة قرى مجاورة، دافعاً الآلاف من الإيزيديين لمغادرة منازلهم نحو جبل سنجار في تجمعٍ مذعور، وخلفهم، قتل مسلحو داعش كل من رفض اعتناق الإسلام أو كان عنيداً للغاية أو محاولاً الهرب، وطارد أولئك الذين كانوا يسيرون ببطء، مُطلقين النار عليهم أو قاطعين أعناقهم. كانت الشاحنات، عندما اقتربت من كوجو، تبدو وكأنها قنابل يدوية في الهواء الريفي الهادئ. لقد انكمشنا من الخوف والتصقنا ببعضنا البعض.
سيطر داعش على سنجار بسهولة، حيث واجه فقط مقاومة من مئات الرجال الإيزيديين الذين قاتلوا دفاعاً عن قراهم بأسلحتهم الخاصة التي سرعان ما نفذت ذخيرتها.
سرعان ما علمنا أن العديد من جيراننا العرب السنة رحبوا بمسلحي داعش، بل وانضموا إليهم، مغلقين الطرق مانعين الإيزيديين من الوصول إلى بر الأمان، ما سمح للإرهابيين بالقبض على الجميع من غير السنة الذين فشلوا في الهرب من القرى القريبة إلى كوجو، ثم نهبوا القرى الإيزيديّة الخالية إلى جانب الإرهابيين.
صُدمنا أكثر من الكرد الذين أقسموا على حمايتنا. في وقت متأخر من الليل، ودون أي تحذير، وبعد شهور من التأكيد لنا بأنهم سيقاتلون من أجلنا حتى النهاية، فرَّالبيشمركة من سنجار، متكدسين في شاحناتهم ومتراجعين إلى مكان آمن قبل أن يصل مسلحو الدولة الإسلامية إليهم.كان ذلك “انسحاباً تكتيكياً” كما قالت الحكومة الكردية فيما بعد. لم يكن هناك ما يكفي من الجنود للاحتفاظ بالمنطقة، كما أخبرونا، واعتقد قادتهم أن البقاء سيكون انتحاراً، وأن معركتهم سوف تكون أكثر فائدة في أجزاء أخرى من العراق.
مع ذهاب البيشمركة، شغل مسلحو داعش المواقع العسكرية المهجورة ونقاط التفتيش بسرعة، وحاصرونا في قريتنا. لم يكن لدينا خطة للفرار، وسرعان ما سدَّ داعش الطريق الذي يربط بين القرى جنوب سنجار المؤدية إلى الجبل، الذي كان ممتلئاً بالعائلات التي تحاول الاختباء. تم أسرُ الأسر القليلة التي حاولت الهرب أثناء فرارهم وتم قتلهم أو اختطافهم. حاول ابن شقيق والدتي أن يفر مع أسرته، وعندما أوقفهم داعش في سيارتهم، قاموا بقتل الرجال على الفور. أخبرتنا أمي بعد تلقيها مكالمة هاتفية “لا أعرف ما حدث لزوجة ابن اخي”، وهكذا أصبحنا نتخيل الأسوأ. بدأت قصص مثل هذه تملأ بيوتنا بالخوف.
لقد اتصلنا بكل شخص عرفناه في القرى العربية السنية وفي كردستان، ولكن لم نحصل على أي أمل لدى أي شخص. لم يهاجم داعش كوجو في تلك الليلة أو في ذلك الصباح، لكنهم أعلموا أهل القرية أنه إذا ما حاولنا الفرار فإنهم سيقتلوننا. وأخبرنا أولئك الذين كانوا يعيشون على طرف القرية كيف كان شكلهم. كانوا مُقنَّعينَ وملتحين. يحملون أسلحة أمريكية حصلوا عليها من المواقع التي أخلاها الجيش العراقي، وكانت تلك الأسلحة قد منحت إلى الجيش العراقي عندما غادر الأمريكيون العراق. بدا المسلحون تماماً كما كانوا على التلفزيون وفي مقاطع الفيديو الدعائية على الإنترنت. لم أتمكن من رؤيتهم كبشر. بالنسبة إليَّ كانوا مجرد أسلحة، وكانوا يستهدفون قريتي الآن.

5

في اليوم الأول، 3 أغسطس، جاء قائد ٌمن داعش إلى كوجو، ودعا أحمد جاسو الرجال إلى المضافة. ولأن إلياس كان أكبر إخوتي سناً فلقد ذهب لحضور الاجتماع. انتظرناه في فناء المنزل، جالسين في الظل بجانب خرافنا الغافلة عما يحدث. عاد إلياس، واتجه الجميع نحوه. كان يتنفس بسرعة، محاولاً أن يُهدئ نفسه قبل أن يبدأ في الحديث “لقد طوّق داعش كوجو،ولا يمكننا المغادرة”.
وقد حذَّر ذلك القائد الداعشي الرجال في المضافة من أنهم إذا ما حاولوا الهرب فسيتم معاقبتهم. قال إلياس نقلاً عنه “إن أربع عائلات قد جربت ذلك بالفعل. لقد أوقفوهم. ولأن الرجال رفضوا اعتناق الإسلام تمَّ قتلهم. أما النساء فلقد تم فصلهن عن الأطفال، ثم أخذوا بناتهم وسياراتهم”.
“مؤكد أن البيشمركة سوف تأتي”، همست والدتي من حيث تجلس، “علينا أن نصلي، سوف ينقذنا الله”. فيما قال أخي مسعود غاضباً”سوف يأتي أحدٌ ما لمساعدتنا، لا يمكنهم تركنا هنا”.
فعلنا ما طلب منا المسلحون القيام به. عندما انتقلوا من بيت إلى بيت لجمع أسلحة القرويين، قمنا بتسليم كل شيء ما عدا بندقية واحدة دفناها في مزرعتنا. لن نحاول الهرب. في كل يوم كان إلياس أو أخ آخر لي يذهب إلى اجتماع المضافة للحصول على أوامر من القائد الداعشي، ثم يعود إلى البيت لينقل إلينا آخر الأخبار.
في 12 أغسطس، قام أحد قادة تنظيم الدولة الإسلامية بزيارة المضافة مع إنذار نهائي: “إما أن نعتنق الإسلام ونصبح جزءاً من دولة الخلافة أو نتحمل العواقب” وأن “أمامنا ثلاثة أيام لنقرر” أخبرنا إلياس جميعاً، وهو يقف في فناء منزلنا، وعيناه تجولان بجهدٍ مجنون”بداية قالوا إذا لم نقم بالاعتناق، فسوف نضطر لدفع الجزية”.
في اليوم التالي أولمَ مختار قريتنا أحمد جاسو لخمسة من شيوخ عشيرة سنية في جوار كوجو، وذلك في محاولة ديبلوماسية بحثاً عن حل لأزمتنا.خلال وليمة الغداء، حاول مختارنا إقناع الشيوخ السنّة لمساعدتنا. من بين جميع جيراننا، كانت هذه العشيرة الأكثر محافظة دينياً ومن المرجح أن يكون لها نفوذ لدى داعش. هزَّالشيوخ رؤوسهم وقالوا لأحمد جاسو: “نريد أن نساعدك، لكن ليس هنالك ما يمكننا القيام به، لأن داعش لا يستمع لأي شخص، ولا حتى إلينا”.
بعد 45 دقيقة من ذلك طلب داعش من أهل القرية التجمع في المدرسة الابتدائية للقرية.

 

6

لم أدرك مدى صغر قريتي إلى أن رأيت أن كل سكان كوجو يمكن احتوائهم في باحة المدرسة. محتشدين وقفنا على العشب الجاف في باحة المدرسة. بعضهم يهمس إلى البعض، ويتساءل ما الذي يحدث. آخرون صامتون وفي حالة صدمة. لم يكن أحد يفهم بعد ما يحدث. منذ تلك اللحظة فصاعداً، كل تفكيري وكل خطوة قمت بها كانت مناشدة الله العون. صوّب المسلحون بنادقهم إلينا. صرخوا “النساء والأطفال إلى الطابق الثاني”، “الرجال، ابقوا هنا”.
كان مقاتلو داعش لا يزالون يحاولون إبقائنا هادئين. “إذا كنت لا ترغب في اعتناق الإسلام، سنسمح لك بالذهاب إلى الجبل”، وهكذا مضينا إلى الطابق الثاني عندما طلبوا منا ذلك، بالكاد كنا نوّدع الرجال الذين تركناهم في الباحة. أعتقد أنه لو كنا قد عرفنا حقيقة ما سيحدث للرجال، لما تركت امرأةٌ ابنها أو زوجها هناك.
بدأ بعض المسلحين يتجولون في أرجاء الغرفة حاملين أكياس كبيرة مطالبين إيانا بتسليم هواتفنا الخلوية ومجوهراتنا وأموالنا. ألقت النساء أشياءهن في الأكياس المفتوحة خائفات. خبأنا ما كان في وسعنا. رأيت النساء يأخذن البطاقات الشخصية من حقائبهن ويزلن أقراطهن من آذانهن، ويحشوهن تحت ملابسهن وفي حمالات الصدر.ودفعت أخريات بعض الأشياء في عمق حقائبهن عندما لم يكن المسلحون ينظرون إليهن. كنا خائفات، لكننا لم نستسلم. ظنناأنهم يرغبون في سرقتنا أولاً قبل نقلنا إلى جبل سنجار.
ملأ المسلحون ثلاثة أكياس كبيرة بأموالنا وهواتفنا الخلوية وخواتم الزفاف والساعات والبطاقات الشخصية الصادرة من الدولة وبطاقات التموين. حتى الأطفال الصغار تم تفتيشهم بحثاً عن أشياء ثمينة. أحد المسلحين أشار ببندقيته إلى قرطي فتاة صغيرة. عندما لم تتحرك كانت والدتها تهمس”أعطها للرجل حتى نتمكن من الوصول إلى الجبل”، ونزعت الفتاة القرطين من أذنيها ووضعتهما في كيس مفتوح. أما أمي فقد تخلت عن خاتم زواجها، وهو أثمنُ شيء تملكه.
وأخيراً طلب أحد المسلحين من مختارنا أن يسلم هاتفه الخلوي. سألوه: “أنت تمثل القرية. ماذا قررت؟ هل ستعتنقون الإسلام؟”.
قضى أحمد جاسو حياته في خدمة كوجو. عندما كانت هناك نزاعات بين القرويين، كان يدعو الرجال إلى اجتماع المضافة في محاولة لحلها. عندما توترت الأمور بيننا وبين قرية مجاورة، كان أحمد جاسو مسؤولاً عن محاولة تسوية الأمور. جعلت عائلته كوجو فخورة، ونحن وثقنا به. والآن يُطلبُ منه تقرير مصير القرية بأكملها.
“خذونا إلى الجبل” قال أحمد جاسو، وهذا يعني أنه يرفض مُمثلاً عن القرية اعتناقَ الإسلام.
في الخارج، كان المسلحون قد أمروا الرجال بالوقوف في طوابير عند الشاحنات المتوقفة خارج المدرسة، وكانوا يدفعونهم إلى الطوابيروإلى الشاحنات، لكي تقل كل منها عدداً كبيراً من الرجال. تهمس النساء معاً أثناء مشاهدتهن ذلك من النوافذ، خائفات من أنه إذا رفعن أصواتهن فإن أحد المسلحين سوف يغلق النوافذ. تم وضع الأولاد -وبعضهم في الثالثة عشرة- في الشاحنات مع الرجال، وبدا الجميع يائساً.
لقد قمت بالتدقيق في الشاحنات بحثًا عن أشقائي. رأيت مسعود واقفاً في الشاحنة الثانية، محدقاً إلى الأمام مع الرجال الآخرين، ومتجنباً النظر إلى النافذة المزدحمة حيث النساء أو إلى القرية. مع توأمه سعود الآمن في كردستان، بالكاد تحدث إلينا مسعود بعشر كلمات أثناء الحصار. كان دائما أكثر إخوتي اتزاناً. كان يحب الهدوء والعزلة، وكان عمله كميكانيكي يناسبه.كان أحد أقرب أصدقاء مسعود قد قُتل عندما حاول هو وأسرته الفرار من كوجو والذهاب إلى الجبل، لكن مسعود لم يقل كلمة واحدة عنه أو عن سعود أو عن أي آخر. كان قد أمضى فترة الحصارمشاهداً التقارير التلفزيونية من جبل سنجار كما فعلنا جميعاً، وفي الليل كان يأتي إلى السطح لينام. لكنه لم يأكل، ولم يتحدث، وعلى عكس شقيقيَّ حزني وخيري، اللذين كانا أكثر عاطفية دائماً، لم يصرخ مسعود أبداً يوماً.
بعد ذلك رأيت شقيقي إلياس سائراً ببطء في اتجاه الشاحنة نفسها. بدا الرجل الذي كان أبًا لنا جميعًا بعد وفاة والدنا مقهوراً تماماً.نظرت إلى النساء من حولي وشعرتُ بالارتياح لعدم رؤية كاترين عند النافذة. لم أكن أريد لها رؤية والدها بهذا الشكل.لم أستطع المضي بعيداً عن النافذة. كل شيء حولي تلاشى، ضجيج النساء اللواتي يبكين، والخطوات الثقيلة للمسلحين، وشمس الظهيرة القاسية، وحتى الحرارة بدت وكأنها اختفت، بينما كنت أشاهد أشقائي يتم وضعهم في الشاحنات، مسعود في الزاوية وإلياس في المؤخرة.
أُغلقتِ الأبواب، وانطلقت الشاحنات بعيداً إلى ما وراء المدرسة. بعدئذ سمعنا أصواتَ طلقاتٍ نارية.

 

7

أمرنا مسلحٌ بالنزول، فتبعناه إلى الطابق الأول. كان مسلحو داعش الآن هم الرجال الوحيدون في القرية. كان تم أخذ صبي يبلغ من العمر اثني عشر عاماً يدعى نوري إلى الخندق مع الرجال، كان طويل القامة قياساً إلى سنه، مع أمين، شقيقه الأكبر. أُصيب أمين بالرصاص مع الرجال، إلا أن نوري كان قد أُعيد إلى المدرسة بعد أن طلب المسلحون منه رفع ذراعيه عالياً واكتشفوا أن لم ينبت شعر له على الإبط. قال أحد قادة المسلحين “إنه طفل، أعيدوه”. كان الولد نوري محاطًا الآن بعماته المذعورات.
حين رأينا الشاحنات تعود إلى بوابة المدرسة، توقفنا عن البكاء من أجل الرجال وبدأنا نصرخ من أجل أنفسنا. بدأ المسلحون بتقسيمنا إلى مجموعات، لكن كانت هناك فوضى. لم يرغب أحد في ترك أخته أو أمه، وظللنا نسأل: “ماذا فعلتم برجالنا؟ إلى أين تأخذوننا؟” تجاهلنا المسلحون، وأرغمونا بقوة السلاح على ركوب الشاحنات وسيارات البيك آب. بعد نصف ساعة وصلنا إلى أطراف مدينة سنجار.
مع ترك داعش المسلمين السنة فقط في مدينة سنجار، شعرتُ بالدهشة لرؤية الحياة تسير كالمعتاد في المدينة. النساء تتسوقن، في حين أن أزواجهن يدخن السجائر في المقاهي.كان سائقو سيارات الأجرة يتفحصون الأرصفة بحثاً عن الركاب، فيما آخرون كانوا يسوقون أغنامهم إلى المراعي. ملأت السيارات المدنية الطريق أمامنا وخلفنا.كان السائقون بالكاد يحدقون في الشاحنات المليئة بالنساء والأطفال. لم نكن نستطيع أن نبدو طبيعيين، محشورين في الشاحنات. كنا نبكي ونضم بعضنا البعض. لماذا إذن لم يساعدنا أحد؟
حاولت البقاء متفائلة. كانت المدينة لا تزال مألوفة بالنسبة إليّ، وهذا ما أراحني. ربما كنا ذاهبين إلى الجبل بعد كل شيء. ربما لم يكن يكذب المسلحون وكانوا يريدون فقط التخلص منا، وتركنا عند أسفل جبل سنجار لنهرب منهم نحو الظروف الصعبة على سفح الجبل. استطعت رؤية الجبل في الأفق، عالياً ومسطحاً عند  قمته.كنت أود أن أطلب من السائق مواصلة السير نحو الأمام. لكن الشاحنة تحولت شرقاً وبدأت تبتعد عن جبل سنجار. لم أقل أي شيء، على الرغم من أن الرياح التي تمر عبر الشاحنة كانت صاخبة جداً لدرجة أنني كنت أصرخُ دون أن يلاحظ أحدٌ ذلك.
وصلنا إلى بلدة صولاغْ قبل غروب الشمس بقليل، وتم إنزالنا أمام مبنى مدرسة صولاغ. كان المبنى كبيراً ويقع خارج البلدة. كنت أنا وشقيقتي ديمال من بين الأوائل الذين تم إنزالهم من الشاحنات، جلسنا في الباحة نراقبُ النساء والأطفال الذين ينزلون مُتعثرينَ من السيارات الأخرى ثم ينهضون.كانت والدتي في إحدى السيارات الأخيرة. لن أنسى أبداً كيف بدتْ حينها وقد دفعت الريحُ وشاح َرأسها الأبيض إلى الخلف، كاشفاً عن شعرها الداكن الذي كان مُشعثاً وغير مرتب، وكان غطاءُ رأسها يغطي فمها وأنفها فقط. كانت ملابسها البيضاء مُتربة، وتعثرتْ عندما تم سحبها من السيارة. صاح أحدالمسلحين في وجهها”انطلقي”، دفعها نحو الحديقة، ضاحكاً عليها وعلى نساء مسنات أخريات لم يستطعن التحرك بسرعة. سارت أمي نحونا في شبه غيبوبة. دون أن تقول كلمة واحدة، جلستْ واضعةً رأسها على ركبتي. أمي لا تستلقي أمام الرجال.
طرق أحد المسلحين الباب بقوة حتى فتح، ثم أمرنا بالدخول “اخلعن أغطية رؤوسكن قبل الدخول”.
فعلنا ما طلب منا. ومع الكشف عن رؤوسنا تفحصنا المقاتلون عن كثب، ثم أرسلونا إلى الداخل. كان الأطفال يتشبثون بتنانير أمهاتهم، والمتزوجات الصغيرات أصبحت عيونهم حمراء لكثرة البكاء على أزواجهن القتلى. كبرت كومة أغطية الرؤوس التي تضم الأوشحة التقليدية البيضاء الشفافة مع الأوشحة الملونة المفضلة لدى الفتيات اليزيديات. قام أحد المسلحين، وكان شعره طويلا ًبتوجيه سبطانة بندقيته إلى كومة الأغطية ضاحكاً وقائلاً: “سأعيد بيع هذه الأغطية إليكم مقابل مائتين وخمسين ديناراً”، كان المبلغ ضئيلاً – حوالي 20 سنتاً أمريكياً – ولكن لم يكن لدينا مال على الإطلاق.

8

بدأ المسلحون بفصلنا إلى مجموعاتٍ أصغر. المتزوجاتُ مع أطفالهن الأصغر سناً تمَّ إبقائهن في الداخل، فيما أمروا بإخراج النساء الأكبر سناً والفتيات إلى الباحة. أصبنا بالذعر مجدداً، لا نعرف ماذا تعني هذه الخطوة أيضاً. الأمهاتُ أمسكن بأطفالهن الأكبر سناً رافضاتٍ السماحَ لهم بالرحيل. حول الغرفة كان المسلحون يجرّون أهاليهم بقوة. عدت إلى الباحة، وأمسكنا أنا وابنة أخي كاترين والدتي بإحكام، لكن المسلحين سحبونا بقوة ودفعونا إلى جدار الباحة، فيما تركوا أمي هناك وحيدة.
سمعتُ والدتي تقول للمسلح “دعني هنا، لا أستطيع التحرك، أشعر بأنني سأموت”. ردَّ عليها: “هيا، سوف نأخذك إلى مكان فيه مكيف هواء”،نهضتْ أمي وتبعته ببطء بعيداًعنا.
لإنقاذ أنفسهن، بدأن بعض الشابات العازبات الأكبر سناً يكذبن، قائلات للمسلحين بأنهن متزوجات أو يمسكن بأطفال يعرفن ويدعين أنهم أطفالهن. لم نكن نعرف ما الذي سيحدث لنا، لكن على الأقل بدا أن المسلحين أقل اهتماماً بالأمهات والنساء المتزوجات.
سحبت شقيقتاي ديمال وآدكي إثنين من أولاد إخوتنا إليهن، وقالتا “هؤلاء أبناؤنا”، حدَّق فيهم المسلحون للحظة ثم مروا بهم. لم تشاهد ديمال أولادها منذ طلاقها، ولكنها لعبتْ بإقناعٍ دور الأم، وحتى آدكي التي لم تتزوج قط، مثلت الدور بشكل جيد. لقد اتخذتا القرار في أجزاء من الثانية. إنها مسألة البقاء والنجاة. لم أكن أود وداع أخواتي قبل أن يصار إلى جمعهن في الطابق العلوي مع الأولاد الصغار الذين لا يزالون يمسكون بأطرافهن.
وصلت ثلاث باصات كبيرة. كانت من النوع الذي يُستخدمُ عادة لنقل السيّاح والحجاج إلى جميع أنحاء العراق أو إلى مكة. عرفنا فوراً أنها جاءت من أجلنا. كنا مذعوراتٍ من فكرة أنهم سيأخذوننا إلى سوريا. بدا كل شيء ممكناً. وكنت واثقة الآن أننا سوف نموتُ في سوريا.
حين كنت واقفة في الحشد جاءني المسلح الذي كان يستهزأ بأغطية رؤوسنا. سألني “هل ستتحولين إلى الإسلام؟”. هززتُ رأسي أن لا. “إذا أسلمتِ يمكنك البقاء هنا” مشيراً إلى المدرسة حيث والدتي وأخواتي “يمكنك أن تبقي مع أمك وأخواتك وتطلبي منهم اعتناق الإسلام أيضاً”. مرة أخرى هززتُ رأسي رافضة.
تم إركابُ الفتيات مثلي في باصين، أما الأولاد بما فيهم المراهقين مثل نوري وابن أخي مالك الذين نجوا من القتل في كوجو لكونهم صغاراً فقد تم إركابهم الباص الثالث. كانوا خائفين مثلنا. وكانت هناك سيارات مدرعة مليئة بمسلحي الدولة الإسلامية واقفة لمرافقة الباصات كما لو أننا ذاهبين إلى حرب.
في الباص، كان هناك مسلحٌ يسيرُ جيئة وذهاباً في الممر. كان طويلاً ويبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً تقريباً ويدعى أبو بطاط. بدا مستمتعاً بعمله، إذ يتوقف عند بعض الفتيات وينعم النظر فيهن، ويسحب بعض الفتيات إلى مؤخرة الباص ويلتقط لهن الصور ضاحكاً ومتسلياً بالذعر الطاغي على الفتيات. فجأة شعرت بقبضةٍ على كتفي الأيسر. فتحت عيني لأرى أبو بطاط واقفاً بجانبي مبتسماً وعيناه الخضراوان هائجتان. شعرت وكأنني صخرةٌ جالسة هناك، غير قادرة على الحركة أو التحدث. أغلقت عيني مرة أخرى وأنا أدعو في سري أن يذهب، ثم شعرت بأن يده تتحرك ببطء عبر كتفي، تمسد عنقي، ثم تنحدر إلى مقدمة ثوبي حتى توقفت عند ثدي الأيسر. شعرت وكأنما هناك حريق. لم يسبق لمسي هكذا من قبل. فتحت عيني ولكنني لم ألقي نظرة عليه. أمسك أبو بطاط بثديي بشدة ثم ابتعد.
كل ثانية مع داعش كانت جزءًا من موتٍ بطيء ومؤلم للجسد والروح، وكانت تلك اللحظة في الباص مع أبو بطاط هي اللحظة التي بدأت فيها موتي،لأني نشأت في أسرةٍ  صالحة، وكلما كنت أغادرُ المنزل كانت أمي تتفحصني “زرري قميصك جيداً يا نادية” و “كوني فتاة جيدة”. أما الآن فإن هذا الشخص الغريب كان يلمسني بهمجيةٍ ولم يكن بمقدوري فعلُ شيء. عندما جاء لي مرة أخرى، أمسكت يده في محاولة لمنعه. كنت خائفة جداً من التحدث. بدأت أبكي، وسقطت دموعي على يده، لكنه لم يتوقف. اعتقدت أن هذه هي الأشياء تحدث بين العشاق عندما يتزوجون. كانت هذه رؤيتي عن العالم، والحب، حتى اللحظة التي لمسني فيها أبو بطاط وحطم هذه الرؤية.

9

وصلنا إلى الموصل قرابة الساعة الثانية ليلاً، وتوقفنا أمام بناءٍ ضخم بدا أن ملكيته تعود إلى عائلة ثرية جداً. كان هناك مسلحون في كل مكان يرتدون بزات عسكرية ويحملون أجهزة لاسلكي، وقاموا بتوزيعنا على ثلاثة غرف. أشار مسلحٌ إلى المكان الذي كنت أجلس فيه “تعالي معي”، ثم التفت وسار نحو الباب”لا تذهبي” قالت كاثرين وهي تلفُّ ذراعيها الصغيرتين حولي في محاولة لمنعي من الذهاب. لم أكن أعرف ما يريده، لكنني لم أكن أعتقد أنني أستطيع أن أقول له لا. “إذا لم أقم بذلك، فإنهم سوف يجبروني فقط”، قلت لكاثرين، وتبعتُ المسلّحَ.
قادني إلى المرآب في الطابق الأول، حيث كان الداعشيان أبو بطاط ونافع ينتظران مع مسلحٍ  ثالث. المسلحُ الثالث تحدث باللغة الكردية وصُدمتُ عندما تعرفتُ عليه. إنه صُهيبْ، الذي كان يملك متجراً في مدينة سنجار. كان الإيزيديون يترددون على متجره دائماً، وأنا واثقة من أن الكثيرين كانوا يعدونه صديقاً.
حين عدت إلى الغرفة، رأيت كاثرين جالسة بجوار امرأة مع طفليها. لم تكن المرأة من كوجو، كانت موجودة هنا قبلنا. سألت المرأة: ما الذي يحدث هنا؟ ماذا فعلوا بكم؟. “هل تريدين حقاً أن تعرفي؟” سألتْ. أومأتُ لها موافقة. “في الثالث من أغسطس، تم أخذ حوالي أربعمائة من النساء والأطفال الإيزيديين من هنا، إنه مركز للدولة الإسلامية، حيث يعيش المسلحون ويعملون. هذا هو السبب في وجود الكثير منهم هنا، لكنه أيضاً المكانُ الذي يتمُّ فيه بيعنا”.
سألتُ: “لماذا لم يتم بيعك؟”.
قالت: “لأني متزوجة، سينتظرون أربعين يوماً قبل أن يعطوني لشخصٍ مسلّح لأكون سبيته. لا أعرف متى سيأتون من أجلك. إذا لم يختاروك اليوم، فسوف يختارونك غداً. كلما أتوا يأخذون بعض النساء. يغتصبوهن ويتمَّ إعادتهن، أو أحيانا أعتقد أنهم يحتفظون بهن. أحيانا تُغتصبُا لنساء هنا في إحدى غرف المنزل.لن يستغرقَ الأمرُ الكثير من الوقت، سوف يأتون، وسوف يأخذونك أيضاً، وسوف يغتصبونك. بعض الفتيات تفركن وجوههن بالرماد والتراب، أو تفسدن شعرهن، ولكن ذلك لا يهمهم، لأنهن تجبرن على تنظيف أنفسهن مجدداً. لقد انتحرت بعض الفتيات هنا، أو حاولن الانتحار عن طريقِ قطع أوردة معاصمهن في الحمام. يمكنك رؤية الدم على الجدران”.
اُفتتحَ سوق السبايا ليلاً. كان بوسعنا سماع الضجيج في الطابق السفلي حيث كان المسلحون يسجلون وينظمون، وعندما دخل الرجل الأول إلى غرفتنا، بدأت جميع الفتيات بالصراخ. كان ذلك مثلما يحدث في مشهد يعقبُ انفجاراً. كنا نئنُ وكأننا مصابات ونتقيأُ،ولكن أياً من ذلك لم يوقف المسلحين. كانوا يسيرون في أرجاء الغرفة، بينما كنا نصرخ ونتوسل. الفتيات اللواتي تجدن العربية توسلن بالعربية، والفتيات اللواتي يعرفن الكردية فقط صرخن بأصوات عالية، لكن الرجال بدوا غير مكترثين بذلك.
انجذبوا نحو أجمل البنات أولاً، سائلين: “كم عمرك؟” وفحصوا شعورهن وأفواههن. “هن عذارى، أليس كذلك؟” سألوا أحد الحراس الذين هزَّ رأسه وقال: “بالطبع” مثل صاحب متجر يفخر بمنتجه. أخبرتني بعض الفتيات أنهن قد تعرضن للكشف من قبل طبيب للتأكد من أنهن لم يكن يكذبن بصدد عذريتهن، في حين أن أخريات مثلي، قد سُئلوا فقط. وأصر عدد قليل من الفتيات على أنهن في الواقع لسن عذارى، معتقدات أن ذلك سيجعلهن غير مرغوبات، لكن المسلحين يمكنهم أن يكذبوهن.”إنهن صغيراتٍ جداً، وهن إيزيديات، ولا فتاة إيزيدية تمارس الجنس ما لم تكن متزوجة”. كان المسلحون يلمسوننا في أي مكان من أجسادنا يريدون، ويديرون أيديهم على أثدائنا وسيقاننا، كما لو كنا حيوانات.
في تلك الليلة تم شرائي من قبل شخص نحيفٍ يدعى حاج سلمان، يعمل قاضياً لداعش في الموصل.
حاج سلمان الذي اشتراني حاول أن يغتصبني في الليلة الأولى، لم يقتنع حين حدثته أنني في فترة الدورة الشهرية، إلى أن أدرك أني لا أكذب، لكنه في كل الأحوال كان يطلب مني التعري والتمدد بجانبه على الفراش ويداعبني. ثم أخذني إلى المحكمة في الموصل بعد عدة أيام لتسجيلي كسبية له وتسجيلي في القيود كمعتنقة للإسلام. القاضي الذي قام بالإجراءات قال لحاج سلمان بعد الانتهاء “إنها سبيتك الآن، افعل بها ما تشاء”.
لقد عاملني كل عضو من أعضاء تنظيم الدولة بقسوة، وكان الاغتصاب دائماً هو نفسه، لكني أتذكر بعض الاختلافات الصغيرة بين الرجال الذين أساءوا إلي. كان حاج سلمان الأسوأ بينهم، لأنه كان أول من اغتصبني، ولأنه كان يتصرف وكأنه يكرهني. وكان يضربني إذا حاولت إغلاق عيني. بالنسبة إليه لم يكن اغتصابي كافياً، لقد أهانني بقدر ما يستطيع، وضع العسل على أصابع قدميه وجعلني ألعقها أو أجبرني على ارتداء ملابسه. كان مرتجى يتصرف كطفلٍ عندما جاء ليغتصبني، ولن أنسى أبداً الحارس الآخر، كما كان لطيفاً معهم وسيئاً جداً معي. أتذكر أبو معاوية، عندما جاء إلى الغرفة حوالي الساعة الثامنة مساءً، أمسكني من فكي ودفعني إلى الحائط. سأل: “لماذا لا تقاومين؟”. لقد افترضت من كمية الملابس الإيزيديّة في منزله أنه كان مع العديد من السبايا الإيزيديات، وربما قاومن جميعهن باستثنائي أنا. كان صغيراً، لكنه كان قوياً جداً.
كل سبية لديها قصة مثل قصتي. لا يمكنك تخيل الفظائع التي يمكن لداعش ارتكابها حتى تسمع عنها من أخواتك وأولاد عمومتك وأخوالك وجيرانك وزملائك في المدرسة. كان الرجال جميعهم متشابهين: لقد كانوا جميعاً إرهابيين اعتقدوا أن من حقهم أن يؤذونا.

 

10

المسلحُ الآخر الذي أخذني هذه المرة كان يدعى حاج عامر، وافترضت أنه مالكي الجديد. بعد أن اغتصبني في المرة الأولى قال لي: “سوف تبقين في هذا المنزل لمدة أسبوع، بعد ذلك قد تذهبين إلى سوريا”.قلت له متوسلة: “أنا لا أريد الذهاب إلى سوريا، خذني إلى أي منزل آخر في الموصل، لكن لا ترسلني إلى سوريا”.قال لي: “لا تخافي، هناك العديد من السبايا مثلك في سوريا”.
خرج حاج عامر إلى السوق لشراء عباءة جديدة لي. كنت وحدي الآن. لم يكن هناك أشخاص آخرون في المنزل ولا ضجيج. كنا خارج الموصل إلى حد ما، وكانت الشوارع هادئة، مع عدد قليل من السيارات. من نافذة المطبخ، استطعت رؤية بعض الناس يسيرون من منزل إلى آخر، وما وراء ذلك الطريق الممتد من الموصل. كان الحي يبدو مسالماً، وليس مخيفاً مثل ذلك الجزء من المدينة حول منزل حاج سلمان. وقفت إلى جانب تلك النافذة لمدة نصف ساعة تقريباً حتى قبل أن يتبادر إلى ذهني أن الطرق كانت خالية، ليس فقط من الناس بل من داعش أيضاً.
للمرة الأولى منذ معاقبة حاج سلمان لي بعد محاولتي الهروب، أفكر ُبالهروب  مجدداً. التعذيب والاغتصاب الوحشي في نقطة التفتيش قبل شراء حاج عامر لي والحديث عن نقلي إلى سوريا قد أعاد إشعال الحاجة الملحة للفرار. كنت أفكر في الهرب من نافذة المطبخ، لكن قبل أن أذهب مشيت إلى الباب الأمامي لأرى ما إذا كان حاج عامر قد ترك الباب مفتوحاً. كان الباب ثقيلًا وخشبيًا. أدرت المقبض الأصفر، وانخطف قلبي خوفاً. لم يتزحزح الباب. ظننت أنه لن يكون غبياً لدرجة أن يتركه غير مقفل، لكن لحسن الحظ، دفعته لمرة أخيرة وسقط المقبض حين فُتحَ الباب.
وقفت في حالة ذهول. توقعت أن أسمع أصوات حرّاس أو يصوّب أحدٌ السلاح عليّ، لكن لم يكن هناك أحد. كان هناك جدار منخفض لحوش المنزل وكان بإمكاني القفز فوقه بسهولة إذا ما استخدمتُ سلة المهملات.
عدت إلى داخل المنزل بسرعة وحملت حقيبتي ونقابي. من يعلم متى يعود حاج عامر، وماذا لو كان على صواب وقاموا غداً بنقلي إلى سوريا؟. واقفة فوق سلة المهملات نظرت فوق حائط الحوش. كان الشارع خالياً. إلى اليسار كان هناك مسجد كبير، كان يجب أن يكون مليئاً بمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين ربما يصلون المغرب، لكن إلى يميني وأمامي كانت شوارع حيّة عاديّة كان سكانها داخل منازلهم، ربما يصلون أيضاً، وربما يطبخون العشاء. كنت أسمع أصوات السيارات. في المنزل المجاور امرأة تسقي فناء منزلها. فكرت في القفز فوق الحائط إلى حديقة أحد الجيران بدلاً من الشارع، حيث كنت أخشى أن يعود حاج عامر. لم تكن هنالك كهرباء في أي من المنازل. كنت قد استبعدت بالفعل الذهاب من خلال باب الحوش، لخشيتي من أن يتم ضبطي خارجة من منزل داعشي.كنت أعلم أنه إذا ما فكرت في الأمر كثيراً، فسوف أضيع الوقت ولن أهرب. كان عليّ أن أقرر. وفي غمضة عين رميت حقيبتي فوق الحائط، ثم تسلقته ونزلت برفق في الجانب الآخر.


11

لم أسر في اتجاهٍ مستقيم. بدلاً من ذلك تحركت بين السيارات المتوقفة أمام المنازل، وعبرت وتجولت في الشوارع نفسها مراراً وتكراراً، آملةً أن يعتقد مراقب عادي أنني أعرف وجهتي. كان قلبي يدق بقوة لدرجة أنني كنت قلقة من أن الناس الذين مررت بهم سوف يسمعون دقاته ويعرفون من أنا. كانت المنازل التي مررتُ بها مضاءةً بواسطة المولدات الكهربائية ومحاطة بحدائق واسعة مليئة بالشجيرات المزهرة باللون الأرجواني والأشجار العالية. كان حياً جميلاً بني لعائلات كبيرة ومترفة. ولأنه الغروب، كان معظم الناس بداخل منازلهم أويتناولون العشاء أو لوضع أطفالهم في الأسرة.
كنت خائفةً من ليل الموصل. كانت الشوارع خاليةً إلا مني ومن الرجال الذين يبحثون عني.هكذا كنت أفترضُ. وكنت أفترضُ أن الحاج عامر قد عاد إلى المنزل ومعه عباءتي الجديدة واكتشف هروبي. وربما كان نبأ هروبي قد أذيع. ربما كان يبحث بصرامة الآن ويطرق الأبواب ويسأل الناس في الشوارع ويوقف أي امرأة تمشي بمفردها.
وبينما كنت أمشي، تحولت المنازل الآن من منازل فارهة لأناس أثرياء مع السيارات الفارهة المتوقفة أمامها والمولدات الصاخبة إلى مساكن متواضعة، معظمها من طابق أرضي أو طابقين. كانت الأضواء أقل، وأصبح الحي أكثر هدوءاً. كنت في حي فقير الآن. شعرت فجأة أن هذا هو ما كنت أبحث عنه. إذا كان أي سنَي في الموصل سيساعدني، فالمرجح أن يكون سنّياً فقيراً، ربما أسرة بقيت في الموصل فقط لأنهم لم يكن لديهم المال ليغادروا، وربما كانوا مهتمين بمعيشتهم الخاصة أكثر من اهتمامهم بالسياسة في العراق. انضمتْ الكثير من العائلات الفقيرة إلى داعش. لكن في تلك الليلة ومع عدم وجود شيء يرشدني ولعدم وجود أي مبرر للثقة بأحد أردتُ فقط العثورَ على عائلة ٍفي مثل حال عائلتي.
لم يكن لدي أي خيار. كان من المستحيل أن أغادر الموصل بمفردي. حتى لو اجتزتُ حاجز التفتيش، وهو أمر غير مؤكد، فسوف أكتفي بالسير على الطريق أو سأموت من العطش قبل الوصول إلى كردستان. كان أملي الوحيد في الخروج حية من الموصل يكمن في أحد هذه المنازل. لكن أي منزل؟.
اشتدت الظلمةُ بحيث أصبح من الصعب عليّ الرؤية. كنت أسير منذ ما لا يقل عن ساعتين، ولا أستطع المشي إلى الأبد. في أحد الزوايا وقفت بجانب باب معدني كبير. رفعت يدي على وشك أن أطرقه، ولكن في اللحظة الأخيرة، أنزلتُ يدي وبدأت في المشي مرة أخرى. لا أعرف لماذا.ثم بعد ذلك توقفت عند باب معدني أخضر أصغر من الباب الأول. لم تكن هناك إضاءة منبعثة من المنزل الذي كان عبارة عن طابقين على غرار بعض المنازل الجديدة التي بنيت في قريتي كوجو. هذه المرة حين رفعت يدي، وجدت يدي تطرقان مرتين على الباب. وقفت في الشارع في انتظار معرفة ما إذا كنت سأكون في أمان.
فُتحَ الباب، ووقف أمامي رجل بدا أنه في الخمسينات من عمره. سألني: “من أنت؟”، لكني دفعته ودخلت دون أن أقول شيئاً. في الحديقة الصغيرة للمنزل رأيت العائلة جالسة. لقد وقفوا جميعاً في ذهول، لكنهم لم يقولوا شيئاً. عندما سمعت باب الحديقة يغلق رفعتُ النقاب عن وجهي.قلت لهم: “أتوسل إليكم، ساعدوني”. كانوا صامتين، وهكذا واصلت الحديث. قلت لهم: “اسمي نادية”. أنا من إيزيديي سنجار. جاء داعش إلى قريتي، وجعلني سبية هنا في الموصل. أمسك الرجل الخمسيني بذراعي وسحبني إلى داخل المنزل، موضحاً “هنا أكثر أماناً، لا يجب أن تتحدثي عن هذه الأمورفي الخارج”.

12

في اليوم الثاني قررت العائلة نقلي إلى بيت صهرهم بشير على مشارف الموصل، وكانت الخطةُ الآن هي الحصول على بطاقة هوية مزوّرة من أجلي باسم إحدى نساء العائلة، ثم سيرافقني أحد رجال العائلة من الموصل إلى كركوك عبر التظاهر بأننا زوج وزوجة وأن أهلي يقيمون في كركوك.
تقرر أن يذهب ناصر ابن العائلة الموصلية معي وليس صهرهم بشير. عاد ناصر في اليوم الثالث ببطاقة هوية عراقية. وكان اسمي على البطاقة سوسن ومسقط رأسي كركوك، لكن البطاقة تضمّنت جميع المعلومات المتعلقة بصفاء زوجة ناصر، وطلب مني ناصر “حفظ كل شيء على بطاقة الهوية” وإلا ستكون نهاية الأمر وخيمة.
في حوالي الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم المقرر للمغادرة، بدأنا أنا وناصر بالمشي إلى الطريق الرئيسي، حيث أقلتنا سيارة أجرة إلى كراجات الموصل، حيث كانت هناك سيارة أجرة أخرى تنتظرنا، كان ناصر قد اتفق مسبقاً مع سائقها ليقلنا إلى كركوك. لم نتحدث أنا وناصر هناك، وحاولت ألا أنظر إلى الأشخاص الذين مررنا بهم ليقيني من أن الخوف في عيني سيخبرهم على الفور أنني إيزيدية.
كانت نقطة التفتيش الأولى لداعش داخل الموصل، وهي عبارة عن هيكل كبير مصنوع من أعمدة عالية وفوقها سقف معدني. كانت إحدى نقاط التفتيش التابعة للجيش العراقي في يوم من الأيام، وهي تعرض الآن بفخر راية الدولة الإسلامية، وكانت المركبات التابعة للدولة الإسلامية والتي كانت تابعة أيضاً للجيش العراقي يوماً متوقفة أمام مكتب صغير،وكانت مغطاة أيضاًبالرايات السوداء والبيضاء.انحنى المسلّحُ الداعشي على نافذة السيارة. نظر إلى السائق، ثم إلى ناصر، ثم نظر إليّ وإلى الحقيبة بجانبي،وقال لناصر:”السلام عليكم، إلى أين تذهب؟”. رد ناصر: “كركوك،حجي”وأعطاه هوياتنا من النافذة. مضيفاً بدون ارتباك “زوجتي من كركوك”.
أخذ المسلح بطاقات الهوية إلى كشك الحراسة، حيث رأيت كرسياً ومكتباً صغيراً ومروحة صغيرة في الزاوية، وزجاجة مياه شبه فارغة. ثم رأيت صورتي معلقة على الجدار، مع ثلاثة صور أخرى.إنها الصورة التي التقطت لي في غرفة المحكمة في الموصل في اليوم الذي أجبرني فيه حاج سلمان على اعتناق الإسلام. كانت هنالك كتابة تحت صورتي ولكن لم يكن ممكناً قراءة ما هو مكتوب.لكنني خمنت أنها معلوماتي الشخصية مدرجة تحت الصورة.
أعاد إلينا المسلح بطاقاتنا وسمح للسائق بمتابعة السير.

 

13

لاحقاً علمتُ عن وجود شبكات تهريب أنشئتْ لمساعدة الفتيات الإيزيديات على الهرب من أسر داعش، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه من مسكنه في مخيم اللاجئين، سيساعد أخي حزني في ترتيب هروب العشرات من الفتيات. بدأت كل عملية في حالة من الخوف والفوضى، ولكن بعد أن تتمكن أسرة كل ضحية من الحصول على ما يكفي من المال، فإنها ستبدأ بالكشف عن صفقة تجارية وذلك باستخدام نظام للمهربين. هناك وسطاء معظمهم من العرب والتركمان وسوريين وعراقيين وكرد عراقيين، يحصلون على بضعة آلاف من الدولارات لدورهم في المخطط. بعضهم سائقي سيارات الأجرة الذين يهربون الفتيات في سياراتهم. يعمل آخرون كجواسيس في الموصل أو تلعفر، ويسمحون للعائلات بمعرفة أماكن وجود الفتيات، فيما يساعد آخرون في نقاط التفتيش أوالمساومة مع سلطات الدولة الإسلامية. عدد قليل من اللاعبين الرئيسيين داخل أراضي الدولة الإسلامية هم من النساء، يمكنهم بسهولة الاقتراب من السبية دون مشاكل. على رأس هذه الشبكات هناك عدد قليل من الرجال الإيزيديين، الذين يستخدمون معارفهم في القرى السنّية، ويقومون بإنشاء الشبكات، والتأكد من أن كل شيء يسير وفق الخطة الموضوعة. كل فريق يعمل في منطقته، بعضهم في سوريا وبعضهم في العراق. كما هو الحال مع أي عمل، تطورت المنافسة فيما بين هذه الشبكات، حيث أصبح من الواضح أن تهريب السبايا هو وسيلة جيدة لكسب المال أثناء الحرب.
عندما تم وضع خطة تهريبي إلى خارج الموصل، كانت شبكات التهريب قد بدأت للتو بالنمو، وكان حزني يستطلع إمكانية المشاركة فيها. أخي شجاعٌ وصالح، ولن يسمح لأي شخص أن يعاني إذا كان بإمكانه المساعدة. وحين اتصلت به تلك العائلة الموصلية نيابة عني، كان حزني قد اتصل في تلك الفترة بآخرين طلباً للمساعدة، وكان على اتصالٍ بمسؤولين في حكومة إقليم كردستان الذين يعملون على تحرير الإيزيديات، بالإضافة إلى أشخاص محليين بارزين في الموصل وأماكن أخرى في العراق يسيطر عليها داعش. سرعان ما أصبح التهريب وظيفته غير مدفوعة الأجر بدوام كامل.

14

اشترى داعشي ضخم يدعى سلوان ابنة أخي روجيان التي كانت صغيرة وبريئة جداً. بعد سنوات لا زلت أفكر فيه بأشدغضب ممكن،وأحلم في يوم من الأيام بإمكانية جلب جميع متشددي داعش إلى العدالة، وليس فقط القادة مثل أبو بكر البغدادي، بل جميع الحراس ومالكي السبايا، كل رجل قام بالضغط على الزناد دافعاً جثث إخوانه إلى مقابرهم الجماعية، كل مسلح حاول غسل أدمغة الأولاد الصغار ليكرهوا أمهاتهم لكونهن إيزيديات، كل عراقي رحب بالإرهابيين في مدينته وساعدهم. يجب أن يخضعوا جميعاً للمحاكمة أمام العالم بأسره، مثل القادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، وعدم منحهم الفرصة للاختباء.
في خيالاتي، سلوان هو أوّلُ من يُحاكم، وجميع الفتيات من ذلك البيت الثاني في الموصل يتواجدن في قاعة المحاكمة ليشهدن ضده. “هذا هو ذلك الشخص” وأشير إلى ذلك الوحش سلوان. “إنه ذلك الشخص الضخم الذي أرعبنا جميعاً”. ثم بإمكان روجيان إذا شاءت أن تخبر المحكمة بما فعله بها. إذا كانت روجيان خائفة أو مصدومة جداً سوف أتحدث نيابة عنها، وكيف أن سلوان اشتراها وأساء معاملتها مراراً، لقد ضربها كلما كان ذلك ممكناً. وكيف أنه حين خططت روجيان للهرب اشترى والدتها واستعبدها انتقاماً.كانت لأم روجيان طفلٌ رضيعٌ عمره ستة عشر يوماً أخذه سلوان منها وأخبرها أنها لن تراه مرة أخرى. أود أن أقول للمحكمة كل التفاصيل، وأدعو الله أن يتم القبض على سلوان حياً حين يُهزمُ داعش.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، سمعت الكثير من القصص عن نساء إيزيديات أخريات تم أسرهن واستعبادهن من قبل داعش. كنا جميعاً ضحايا نفس العنف.سوف يتم شراؤنا في السوق، أو يتم تقديمنا كهدايا إلى مجندين جدد أو قائد رفيع المستوى،حيث سنغتصب ونُذّل، ومعظمنا يتعرض للضرب كذلك. ثم سنباعُ أو نقدم كهدية مرة أخرى، ومرة أخرى سوف يتم اغتصابنا وضربنا، ثم بيعنا أو تسليمنا إلى متشدد آخر، والاغتصاب والضرب من قبله،وبيعنا واغتصابنا وضربنا مجدداً، وقد سارت على هذا النحو طالما كنا مرغوبين بما فيه الكفاية ولم نمتْ بعد.وإذا ما حاولنا الفرار، فسوف نُعاقبُ بشدة. وكما حذرني حاج سلمان، قام داعش بتعليق صورنا عند نقاط التفتيش، وأُمر سكان الموصل بإعادة السبايا إلى أقرب مركز للدولة الإسلامية. قيل لهم أنهم سوف ينالون حينها خمسة آلاف دولار كمكافأة إذا فعلوا ذلك.
كان الاغتصاب الجزءُ الأسوأ. لقد جردنا من إنسانيتنا وجعلنا نفكر في المستقبل، واستحالة العودة إلى المجتمع الإيزيدي، أو الزواج، أو إنجاب الأطفال، أو السعادة. كنا نتمنى أن يقتلونا بدلاً من ذلك.عرف داعش كم هو أمر مدمر لفتاة إيزيدية غير متزوجة اعتناق الإسلام وفقدان العذرية، وقد استخدموا أسوأ مخاوفنا -أن مجتمعنا وزعمائنا الدينيين لن يرحبوا بنا- ضدنا. وقد قال لي حاج سلمان “حاولي الهرب، لا يهم، لأنك لو عدت إلى المنزل، سيقتلك والدك أو عمك. أنت لم تعودي عذراء، كما أنك الآن مسلمة”.
تحكي النساء قصصاً عن كيف أنهن حاربن المعتدين عليهن، وكيف حاولن التغلب على الرجال الذين كانوا أقوى بكثير منهن رغم أنه لم يكن بمقدورهن أبداً أن يتفوقن على المتشددين الذين كانوا مصممين على اغتصابهن، إلا أن معاركهن سمحت لهن بأن يشعرن بتحسنٍ نفسي بعد ذلك. تقول فتيات إيزيديات ناجيات من أسر داعش “لم نتركهم لمرة يغتصبوننا بهدوء،كنا نقاوم، نضرب، نبصق على وجوههم، كنا نفعل أي شيء”. سمعت عن فتاة فضّتْ عذريتها بنفسها بواسطة زجاجة حتى لا تسلم نفسها عذراء لمغتصبها.هناك أخريات حاولن إشعال النار في أنفسهن. كل رسالة منهن مهما كانت صغيرة كانت رسالة إلى مسلحي داعش بأنهم غير مسيطرين عليهن.
أنا لم أقاتل مثل الإيزيديات الأخريات عندما جاء حاج سلمان أو أي شخص آخر ليغتصبني. أغلقت فقط عيني وتمنيت أن يمضي ذلك بسرعة. لم أعترف بذلك لأحد. الناس يقولون لي طوال الوقت”أوه، أنتِ شجاعة جداً، أنت قوية جداً”، لكنني لا أتكلم، لكني أريد تصحيح معلوماتهم الآن وأخبرهم أنه في حين أن الفتيات الأخريات قاموا بلكم المعتدين عليهن، أنا لم أكن شجاعة مثلهن، أنا كنت أبكي فقط. أريد القول، أنني لست قلقة بشأن ما قد يفكر فيه الناس حولي. فيما يتعلق بالإبادة الجماعية أصبح التركيز على الاعتداء الجنسي على الفتيات الإيزيديات هو الأساسي. بينما أنا أريد التحدث عن كل شيء (قتل إخواني، اختفاء أمي، غسيل الدماغ للأولاد الإيزيديين) وليس فقط الاغتصاب. ربما ما زلت خائفة مما يعتقده الناس عني، لكن استغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن أتقبل نفسي كما أنا.

* ملاحظة: المادة أعلاه مقاطعٌ مختارة من كتاب”الفتاة الأخيرة: قصتي في السبي وكفاحي ضد الدولة الإسلامية” للناشطة الإيزيدية نادية مراد التي نالت جائزة نوبل للسلام لعام 2018 من اللجنة النرويجية لجائزة نوبل، وقد وضعت نادية مراد هذا الكتاب بالاشتراك مع الصحافية الأمريكية جينا كرايسكي المتخصصة في التغطية الصحفية لمنطقة الشرق الأوسط. وقد تم تحرير هذه المقاطع لتعبرعن السياق السردي الكامل للكتاب.

** العنوان الأصل للكتاب ودار النشر:
The Last Girl: My Story of Captivity and My Fight Against the Islamic State
Nadia Murad with Jenna Krajeski
Tim Duggan Books, New York, 2017

شارك هذا المقال: