القول الذي بدأتُ به المقال حول كون الكرد مسلمين ضعفاء [الإيمان] يعطي فكرة خاطئة عن حقيقة كونهم قدموا أعداداً كبيرة من علماء الإسلام الكبار الذين كان لهم تأثير امتد إلى ما وراء حدود كردستان إلى حد بعيد. خلال القرون الستة الماضية احتل العلماء الكرد مناصب رفيعة في البلاط العثماني وأصبحوا معلمين مشهورين في جامعة الأزهر الشهيرة وفي المدن المقدسة في جزيرة العرب. الصدفة الجغرافية هي التي وضعت الكرد بين المناطق الثقافية الرئيسية للإسلام وكان الكثير من العلماء الكرد يعرفون الفارسية والتركية إضافة إلى العربية والكردية بالطبع. وقد أعطاهم هذا دوراً مهماً كوسطاء ثقافيين ولعبوا دور الوسيط بين المسلمين الهنود الذين كتبوا باللغة الفارسية من جهة والأتراك والعالم العربي من جهة أخرى. الأكراد الذين درّسوا في مكة والمدينة تركوا تأثيراً دائماً وصل إلى حدود إندونيسيا[1]. كانت المدارس الإسلامية التقليدية لكردستان ذات سمعة جيدة ولكن ما من شك أن النخبة فقط كانت قادرة على الدراسة هناك. لكن تطور التعليم العلماني الحديث (وإغلاق المدارس [الدينية] في تركيا بقيادة أتاتورك) قد استنزف إلى حد ما الفكر في تلك المدارس. رغم ذلك فإن المدارس [الدينية] الكردية السرية كانت المكان الوحيد في تركيا الذي استمر فيه التعليم الإسلامي التقليدي في ذروة الكمالية وكان ينبغي على الطلاب من كل أنحاء البلاد أن يذهبوا إلى المناطق الكردية لتلقي التعليم [الديني] التقليدي[2].
العلماء المثقفون كانوا بالطبع نخبة صغيرة وليسوا ممثلين عن الأكراد بشكل عام. كانت تقواهم وتعليمهم موضع إعجاب واحترام وبشكل خاص من قبل أولئك الذين يفتقرون تلك المزايا. عامة الناس كانوا يعتقدون بأن وجود العلماء بين ظهرانيهم يمكن أن يعوّضهم عن مواطن الضعف لديهم. كان يُنظر إلى رجال الدين غالباً كوسطاء بين الناس العاديين والله الذين من خلال شفاعتهم يمكن أن يضمن الخلاص للأتباع. هذا الاعتقاد منح العلماء المقدامين قدراً كافياً من الرافعة السياسية. وقد حازت فئة معينة من السلطات الدينية على قدر كبير من السلطات الدنيوية. وكان من هؤلاء شيوخ وزعماء طرق صوفية.
الفهم الكردي للإسلام ذو نغمة توافقية صوفية قوية والكثير من العلماء الكرد كانوا منتسبين إلى طريقة صوفية ما. لكل طريقة ممارستها الصوفية المتميزة والتي تتألف من ذكر أسماء الله أو أشكال أخرى من التقوى وضبط التنفس وأشكال مختلفة من أساليب الزهد والتأمل. يقود الطريقة شيوخ يُعتبرون مرشدين روحيين لمريديهم وهم لا يقودونهم فقط إلى الطريق الروحي القويم بل هم أيضاً وسطاء بينهم وبين العالم غير المرئي. عادة ما يكون لدي الشيوخ البارزين عدد من الخلفاء, الذين يُمنحون بعضاً من سلطات الشيوخ ويكونون ممثلين لهم في مناطقهم و، إذا جاز التعبير، وسطاء بين المريدين العاديين والشيخ. وبذلك تكون الطريقة ذات بناء تراتبي يتعزز أكثر حسب أهمية الطقوس. إذ ليس كل مريدي الشيخ ملقنين ومن أجل الاشتراك في الطقوس الصوفية للطريقة عليهم، أن يتلقوا التوبة التي تكون في الوقت ذاته قسماً بالولاء للشيخ.
كانت عدة طرق [صوفية] ناشطة في كردستان في الماضي ولكن في الوقت الحاضر تلعب طريقتان فقط دورا هاماً وهما النقشبندية والقادرية. في العراق, الطالبانية والبارزانية عائلتان معروفتان من الشيوخ حيث الأولى مرتبطة بالقادرية بينما الثانية مرتبطة بالنقشبندية. الملا مصطفى البارزاني وجلال الطالباني،الشخصيتان القوميتان الرئيسيتان في كردستان العراق، لم يكونا شيوخاً بحد ذاتهما ولكن الأول بشكل خاص مدين بالكثير للدور الديني التقليدي لأسرته. كما إن الشيخ محمود البرزنجي الذي يُعتبر أهم قائد قومي كردي في كردستان الجنوبية في العشرينات [من القرن الماضي] والذي أعلن نفسه ملكاً لكردستان كان بدوره زعيماً لأهم أسرة من شيوخ القادرية. معاصره الشيخ سعيد، الذي قاد أول ثورة كردية ضد نظام أتاتورك في تركيا، كان بدوره نقشبندياً وكذلك كان أهم القادة المحليين في الثورة. كما إن أول ثورة ذات طابع قومي كانت بقيادة شيخ نقشبندي آخر هو الشيخ عبيد الله النهري في هكاري في 1880. في النصف قرن الذي جاء بعد انتفاضة الشيخ عبيد الله. كان الشيوخ بشكل رئيسي هم من يتولون قيادة الحركة القومية الكردية الناشئة.
قبل ذلك كان هناك بين الحين والآخر شيوخ ذوي تأثير كبير في كردستان[3] ولكن اعتباراً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتنا نرى شيوخ طريقة يبرزون كأهم طبقة من القادة السياسيين. وذلك مرتبط بشكل رئيسي بالتغيرات في المحيط السياسي الذي جاء بدوره رداً على الإمبريالية الأوربية[4]. فالحكومة العثمانية وتحت ضغط أوربي باشرت بسياسة إصلاح إداري فألغت إمارات كردية شبه مستقلة ووضعت لأول مرة المنطقة تحت سيطرتها المركزية المباشرة. معظم القبائل في السابق شكّلت جزءاً من تلك الإمارات، لذلك فإن صراعاتها كانت تُضبط من قبل سلطة أعلى متمثلة بالأمير الكردي الذي كان بإمكانه توحيد القبائل لأغراض عسكرية. مع زوال تلك الإمارات الجامعة، تفتت الشعب المجتمع الكردي إلى قبائل متحاربة ومتعادية. الشخصيات الكردية الوحيدة التي تجاوزت سلطتها الحدود القبلية تمثلت في الشيوخ. صحيح أن بعض القبائل كانت بالكامل أتباع هذا الشيخ أو ذاك ولكن معظم الشيوخ جذبوا مريديهم من أكثر من قبيلة واحدة، واستطاع الدهاة منهم أن يقيموا [سلطتهم] على الحدود بين قبيلتين هامتين أو أكثر.
عامل آخر ساهم في تنامي أهمية الشيوخ خلال نصف القرن التاسع عشر هو النشاطات الواسعة للبعثات التبشيرية الأوربية بين الأقليات المسيحية والتي تسببت في القلق من الدوافع الخفية للأوربيين في المنطقة. رد الفعل ضد الأوربيين والمسيحيين أجج المشاعر الإسلامية وبذلك عززت من مكانة الشيوخ.
الطريقة النقشبندية بشكل خاص هي التي استفادت من تلك التغيرات باعتبارها أكثر ديناميكية من [الطريقة] القادرية. ففي الطريقة الأخيرة أصبحت منزلة الشيخ وراثية وتم احتكارها من قبل عدة أسر. أما النقشبنديون فقد شهدوا صحوة دينية من خلال النشاطات التي قام بها مولانا الشيخ خالد ذو الشخصية الكاريزمية وهو كردي من منطقة السليمانية والذي تم قبوله في فرع إصلاحي للطريقة في الهند والذي عين- بين عودته في عام 1811 ووفاته في 1827 – أكثر من ستين خليفة نصفهم في كردستان والبقية في كل أنحاء الشرق الأوسط. في معظم الحالات هؤلاء الخلفاء الذين فوّضهم مولانا خالد أن يتصرفوا كشيوخ بناءً على كفاءاتهم لم يكونوا ينتمون إلى أسر الشيوخ ، وبذلك تم خرق احتكار الأسر المشيخية القائمة. عيّن الكثير من خلفاء الشيخ خالد بدورهم خلفاءهم الخاصين لذلك في غضون عدة عقود تم تغطية كل كردستان بشبكة من الشيوخ والخلفاء النقشبنديين، حيث اكتسب بعضهم نفوذاً سياسياً كبيراً. لم يكن الشيوخ الكرد، بشكل عام، شخصيات روحانية حيث الكثير منهم يشعرون بالراحة والسيطرة وهم على سجادة الصلاة ويمسكون ببنادقهم بثقة مثلما يمسكون سبحاتهم. شيوخ كهؤلاء أصبحوا قادة أو شخصيات رئيسية في بدايات الحركة القومية. لقد أظهرت الشبكة النقشبندية أنها قادرة على تحشيد أعداد كبيرة من الرجال من قبائل مختلفة لعمل مشترك.
الشيوخ والدولة الحديثة
بعد ثورة الشيخ سعيد حظّرت الحكومة التركية كافة الطرق [الدينية] وهو حظر لا يزال رسمياً قيد التنفيذ. وحتى في السنوات الأخيرة كتبت الصحف تقارير بين الفينة والأخرى عن مداهمات قامت بها الشرطة على بيوت حيث تُعقد فيها لقاءات سرية للطريقة. في الثلاثينات والأربعينات كانت السيطرة محكمة حقاً. ورغم أن الممارسات الباطنية للطرق قد توقفت (أو في أحسن الأحوال تُعقد سراً في حلقات ضيقة) فإن الشيوخ لم يفقدوا مكانتهم واعتبارهم بين الناس. بعد إعادة إدخال نظام التعددية الحزبية في تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، بات الزعماء القبليون والشيوخ مصدراً هاماً لكسب أصوات الناخبين بالنسبة للأحزاب السياسية. وسرعان ما أدركت الأحزاب السياسية أنه من المستحيل أن تفوز بالانتخابات في المناطق الكردية بدون دعم الشيوخ أو زعماء قبليين أقوياء. مقابل تسليمهم أصوات مريديهم، استطاع الشيوخ أن يحصلوا على الكثير من الخدمات من الحكومة المحلية أو الإقليمية أو حتى المركزية. وهذا بدوره ساعدهم أن يحصلوا على رعاية وبالتالي الحصول على مزيد من الأتباع. تلك العملية أعطتهم حقاً مكتسباً في الوضع القائم حينئذ، ورغم أن بعض الشيوخ ربما كانت لديهم عواطف قومية كردية، فإنهم تصرفوا بحذر تجاه أي تغيير جذري.
التحالفات مع الأحزاب السياسية تركزت على أسس براغماتية (نفعية) صرفة ولم يكن لها أية علاقة بموقف الأحزاب السياسية. تبدو بعض التحالفات للوهلة الأولى مثيرة للاستغراب: فأحفاد القائد القومي الكردي الشيخ سعيد، مثلاً، انتسبوا بشكل غير متوقع إلى حزب العمل القومي التركي الفاشي مثلما فعل الكثير من شيوخ الطريقة النقشبندية في منطقة ملاطيا- ألعزيز. كما أن فرداً آخر (سيد أحمد أرواسي S. Ahmet Arvasi) وهو من عائلة مشيخية مشهورة في كردستان أصبح أحد المناصرين الرئيسيين للجناح التركي القومي اليميني ومعارضاً قوياً للنزعة الانفصالية الكردية[5]
مع تزايد نفوذهم السياسي، بدأ العديد من الشيوخ مرة أخرى بالقيام بدور أساتذة باطنيين. لقد باتت النقشبندية مرة أخرى قوة بارزة في السياسة التركية. فالعديد من الشيوخ لهم تأثير على المستويات السياسية (معروف أن أسرة الرئيس أوزال ذات صلة بالطريقة النقشبندية) بينما لبعض الشيوخ الكرد تأثير على أفراد الطبقة الوسطى في تركيا كلها[6].
في العراق وإيران لم تكن الطرق [الصوفية] محظورة أبداً ولكن على النقيض من ذلك فإنه لم يكن للشيوخ أي نفوذ سياسي كالذي استحوذه نظرائهم في تركيا بفضل نظامهم السياسي الليبرالي هناك. كان كل من الشيخين محمود برزنجي في السليمانية والشيخ أحمد البارزاني في شمالي العراق قائدين شعبيين للمقاومة ضد البريطانيين في العشرينات. والدعم الشعبي الذي نالوه استند على المشاعر القومية الكردية مثلما استند على الولاءات الدينية التقليدية. شقيق الشيخ أحمد الأصغر ملا مصطفى، كان أول من وحَّد الأكراد على أساس قومي بحت. من بين الأكراد الذين مدّتهم الحكومة العراقية بالسلاح والمال لقتال البارزاني وأنصاره القوميين نجد منافساً تقليدياً لعائلة البارزاني، وبشكل خاص الشيخ النقشبندي المنافس له في شمالي العراق الشيخ رشيد لولان. في جنوبي العراق، تعاون شيخ من العائلة البرزنجية هو الشيخ عبد الكريم الكربجني (نسبة إلى قرية كِرْبِـجْنه التابعة لناحية سنكاو- كركوك وهو من مشايخ الطريقة الكَسْنَزانية– مدارات كرد) مع الحكومة ضد الحركة الكردية. لكن، هؤلاء الشيوخ فقدوا تدريجياً تأثيرهم على الجيل الشاب ووصلوا إلى حد عدم الأهمية بتاتاً.
إلى حد بعيد الشيخ الأكثر تأثيراً في كردستان الجنوبية في أواسط السبعينات [من القرن الماضي]، عندما كنتُ أقوم بالدراسة الميدانية، كان الشيخ عوسمان تهويلێ في منطقة هورامان الجبلية. وهو سليل أسرة مشيخية غنية وهامة على الجانب العراقي من الحدود. بعد الانقلاب اليساري الشعبي للعقيد عبد الكريم قاسم في 1958 فرّ الشيخ إلى إيران مثلما فعل الكثيرون من ملاكي الأراضي الزعماء القبليين وأقام علاقات ودية مع السلطات الإمبراطورية التي لم تتدخل في سيل زوراه من أجانب وأكراد إيرانيين وتركمان. كان أتباعه يتألفون بشكل أساسي من الفلاحين وسكان المدن الفقراء من كافة أنحاء كردستان الجنوبية. عندما أسقطت الثورة الشاه وأُقيم نظام شيعي في طهران، قام الشيخ عوسمان- الذي بلغ في حينه أكثر من السبعين- بتأسيس حركة مضادة للثورة أطلق عليها اسم Supahi Rizgari (جيش التحرير) الذي تلقى السلاح والتمويل من العراق وكان،ربما، آخر جيش من الدراوشة ويتألف بشكل رئيسي من أتباع الشيخ الهورامانيين ولكنها لم تظهر كقوة مقاتلة فعالة إذ سرعان ما سيطرت المنظمتان العلمانيتان كومله والحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران على المقاومة ضد الحكومة المركزية والقوى الشيعية المختلفة في إيران. بعد نحو عام تقريباً انحل “الجيش” كلياً وغادر الشيخ أولاً إلى أوربا ومن ثم إلى السعودية. ويبدو أن تأثيره قد تضاءل في كردستان الجنوبية بسبب تلك الأحداث.
ولكن ليس كل شيوخ الطرق [الصوفية] في كردستان إيران قد شهدوا تقلص أدوارهم. استثناء هام من ذلك هو الشيخ محمد خالد البارزاني، ابن الشيخ أحمد[7]. لقد بقي إلى حد ما غير بارز إذا فاقه بريقا الملا مصطفى وأبناؤه فعاش ضمن حاشية الأخير في المنفى الإيراني منذ 1975. لكنه في منتصف الثمانينات [من القرن الماضي] ظهر فجأة على المسرح الكردي العراقي من جديد بصفته قائداً للگيريلا التي أطلقت على نفسها حزب الله في كردستان وأقسم على طرد الأحزاب اليسارية من منطقة الشيخ المتوارثة عن أسلافه. لقد قام النظام الإيراني، من خلال الاستمرار في دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني –العراق بقيادة أبناء ملا مصطفى البارزاني، بمحاولات متعددة لتأسيس أحزاب إسلامية بين أكراد العراق يسهل التحكم بها في طهران. من بين عملائها المختلفين كان الشيخ محمد خالد هو الأكثر جدارة بالثقة لأنه كان بإمكانه المطالبة بالسلطة التقليدية لأسرته. لقد تم تجنيد بيشمركته من بين اللاجئين الكرد المؤيدين للبارزاني في إيران. منظمة الشيخ التي تم تمويلها وتسليحها بسخاء من قبل إيران شكلت منافسا خطيراً لأبناء عمه في الحزب الديمقراطي الكردستاني وتهديداً حقيقياً لوحدات اليبشمركه اليسارية في المنطقة. إنه التشكيل الإسلامي الوحيد بين أكراد العراق الذي لم يكن وجوده آنياً. ورغم أنه لم يهيمن أبداً إلا أنه لا يزال قوة يُحسب لها الحساب[8].في الوقت الذي يدين به الملا مصطفى البارزاني بمكانته كقائد قومي علماني لسلطة عائلته الدينية، فإن الدعم الإيراني للشيخ محمد خالد قد عزز البعد الديني للعائلة وقويت مكانة الشيخ مقابل الفرع العلماني من العائلة.
التجديد الديني والراديكالية
حتى قبل أن يحظّر أتاتورك الطرق الصوفية كان ثمة عالم ديني كردي معروف باسم سعيد الكردي قد أعلن موقفه منها –ليس على أسس سياسية بل على أسس دينية. سعيد الكردي (الذي فضّل أن يُعرف باسم سعيد النورسي، نسبة إلى مكانة ولادته، نورس) ربما كان أهم مفكر إسلامي أصيل يظهر في تركيا في هذا القرن. لقد تلقى في شبابه الثقافة الكردية التقليدية في المدارس التقليدية وكان أحد مدرّسيه على الأقل شيخاً نقشبندياً. في السنوات الأولى من هذا القرن انتقل إلى استانبول حيت كان على اتصال مع مجددين مسلمين وقوميين أكراد بارزين على حد سواء حيث انخرط في التعليم الشعبي. خلال حرب البلقان والحرب العالمية الأولى خدم [الجيش] كقائد لقوات المليشيا الكردية وميّز نفسه عن الآخرين بأن أنقذ عائلات أرمنية من مجازر 1915. كان حلمه أن يعلّم شعبه وأن ينتشلهم من حالة الجهل والتخلف الذي يرزحون فيه. وكانت الطرق [الصوفية] في حالتها جزءاً من ذلك التخلف. والتعليم الذي اقترحه كان إسلامياً وعلمياً.
في بداية العشرينيات انشق الشيخ سعيد عن الحركة القومية التي انتسب فيها إلى الجناح الذي لا يدعو إلى الانفصال وكرّس نفسه لكتابة عمله الضخم رسائل النور Risale-i Nur. والكتاب عبارة عن سلسلة من النصوص المتفاوتة في طولها وتتناول مواضيع دينية وأخلاقية شتى بناء على أحلامه ورؤاه وذات لهجة صوفية قوية ومكتوبة بلغة عثمانية مميزة. وقد بات ذلك الكتاب المقدس للأعداد المتزايدة من فقهائه الذين باتوا يُعرفون بالنورجيين “أتباع النور الإلهي” . على الرغم من الاضطهاد الذي مارسته الدولة بحق الحركة النورانية فإنها ازدادت عدداً وفي الوقت الحاضر هناك عدة ملايين من أتباعها في تركيا وتضم في صفوفها أكراداً و أتراكاً أيضاً[9].
ربما تكون الحركة النورجية الحركة الأكثر تسامحاً وانفتاحاً من بين كل الحركات الإسلامية السنية في تركيا وتميزت منذ البداية بموقفها الإيجابي من العلم الحديث. هذا لا يعني أنه من بين أتباع حركة كبيرة كهذه لا توجد هنا أو هناك جماعات متعصبة. إنه من السخرية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار رفض سعيد النورسي للطرق الصوفية، أن تأخذ حركته بعضاً من الخصائص البنيوية للطريقة من حيث جهة التنظيم الهرمي الذي يعتمد على القرب من آخر أستاذ (شيخ) ودرجة الاندماج في الأسرار الملغزة للنصوص الرئيسية. ولقد التقيتُ بنفسي ببعض من النورجيين من الأكراد الذين كانوا نقشبنديين في نفس الوقت.
في الوقت الحاضر ثمة عدة تيارات مختلفة ضمن الحركة النورجية مع آراء متناقضة عن الموقف السياسي التي يجب على الحركة أن تتبناها. من النورجيين الكرد هناك تيار قومي معتدل برز في الثمانينات الذي يطلقون على أنفسهم مدرسة الزهراء تيمناً باسم الجامعة التي حلم سعيد نورسي بإقامتها في كردستان وهؤلاء يؤكدون على الدور الذي لعبه سعيد في بدايات الحركة الكردية التي تغاضى عنها طويلاً المتحدثون باسم الحركة. تلك المجموعة تمّثل، على ما يبدو، طبقة الشباب المدنيين المثقفين جيداً من عائلات ذات خلفيات نورجية. فظهور الشعور القومي الكردي داخل الحلقات الإسلامية ليس حدثاً استثنائياً. إذ نجد تطوراً موازياً في الجماعات الإسلامية الأخرى بين الأكراد رغم موقف الإسلام السلبي من القومية.
لم تكتسب الحركات الإسلامية السياسية الكثير من الأتباع أبداً. بعد الثورة الإيرانية مباشرة، وقبل أن تتمكن الأحزاب السياسية من تنظيم أنفسها، برزت شخصيات دينية كمتحدثين باسم الأكراد. كان ذلك بلا شك رداً على الدور الذي لعبه علماء الشيعة أثناء وبعد الثورة ولم تعكس عودة مفاجئة إلى الدين. أبرز تلك الشخصيات هو عز الدين الحسيني من مهاباد وهو موظف ديني تكلم كقائد قومي أكثر منه كرجل دين وتحالف مع اليسار الراديكالي. مثال آخر أكثر وضوحاً عن سياسي إسلامي هو أحمد مفتي زاده من سنندج الذي سعى إلى التعاون مع الشيعيين الليبراليين نسبياً حول بني صدر.
تم تهميش الرجلين في الحال عندما عزز كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران وكومله العلمانيين مكانتهما وقاما بتنظيم الجماهير. لقد خسر الحسيني دعمه الشعبي المبدئي ولكنه لم يفقد التعاطف الشعبي. وقد شارك مع مجموعة صغيرة من أتباعه في أعمال حرب العصابات عندما بدأ الجيش الإيراني وقوات الحرس الجمهوري بإعادة احتلال كردستان وهو يعيش في أوربا منذ أواسط الثمانينات. أما مصير مفتى زادة فقد كان أكثر تراجيدية. فقد اختلف أولاً مع القوميين الأكراد الذين رأوه ألعوبة في يد طهران ومع السلطات الإيرانية أيضاً التي نظرت إليه على أنه غير متعاون بما فيه الكفاية. فقد مكث في سجن إيراني لمدة عقد من الزمن حتى لحظة كتابة هذا البحث (1991). ما من تنظيم إسلامي هام أو نزعة إسلامية بين أكراد إيران في الوقت الحاضر ومن الواضح ما من دعم ممكن لتلك الحركة أيضاً.
مثلما أشرنا من قبل فإن سلطات ما بعد الثورة الإيرانية قامت بمحاولات شتى من أجل تأسيس تنظيمات إسلامية بين أكراد العراق، ولكنها لم تلق نجاحاً كبيراً. هناك بعض التشكيلات الصغيرة بقيادة عباس شبك، وهو رفيق سابق للطالباني، ونجيب البارزاني وهو عضو غير بارز من العائلة المشيخية المعروفة، واللذان يتم تمويلهما وتسليحهما من قبل إيران ولكنهما لم ينجحا كثيراً. القوة الوحيدة البارزة هي حزب الله الكردي بقيادة الشيخ محمد خالد البارزاني والذي يربط قواته مع بعضها هو الولاء لشيخ بارزان أكثر من الايدولوجيا الإسلامية. ورغم أن الكثير من أكراد العراق مسلمون أتقياء، فإن الإسلام ليس قوة استقطاب.
يبدو الموقف مختلفاً في كردستان تركيا. إذا تمكن حزب الإنقاذ الوطني وخليفته حزب الرفاه، وكلاهما حزبان إسلاميان، من نيل 20% من الأصوات في المناطق الكردية وهو أعلى من المعدل القومي [الوطني]. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن نفس تلك النسبة العالية من الأكراد قد تبنوا مثل الإسلام السياسي. فالحزب يمثّل مصالح فئة مميزة ونعني بها تجار البلدات الصغيرة والمقاولين الذين يرون الاندماج الكامل بالاقتصاد الغربي تهديداً حقيقياً. لذلك فإنه من الطبيعي أن يتلقى مزيداً من الدعم في المناطق المتخلفة اقتصادياً. ثانياً لطالما امتنع الحزب عن الموقف الشوفيني التركي تجاه الكرد الذي ميّز كافة الأحزاب السياسية الأخرى تقريباً في تركيا. علاوة على ذلك فإن التصويت الكردي غالباً ما يعتمد على علاقات القرابة أكثر منه على دوافع إيديولوجية. إن صوتاً كردياً لصالح حزب الرفاه لا يعني بالضرورة صوتاً إسلامياً بل بالعكس صوّت الكثير من المسلمين الملتزمين لصالح أحزاب أخرى. (معظم شيوخ الأكراد وأيضاً النورجيين،مثلاً، تحالفوا مع أحزاب أخرى).
الالتزام السياسي بالإسلام واضح لدى مؤيدي الجماعات الإسلامية السرية وشبه السرية. وسريتها تلك تجعل من الصعب إيجاد معلومات يعوّل عليها عن تلك الجماعات. في أواخر السبعينات والثمانينات،وتحت تأثير الثورة الإيرانية، كانت هناك جماعة لم تدم طويلاً أطلقت على نفسها اسم جيش التحرير الإسلامي مع بعض المؤيدين في مناطق تطوان و باطمان. طلاب مدارس الوظائف الدينية ( imam-hatip liseleri التي تديرها الدولة موجودة في الكثير من البلدات الكردية) شكّلوا شبكات غير رسمية للراديكاليين الإسلاميين والتي جذبوا إليها الكثير من شباب المدينة. في النصف الثاني من الثمانينات بدأت تلك الجماعات الإسلامية تؤكد بشكل متزايد على هويتها الإسلامية في معارضة العمليات العسكرية التركية في كردستان. والعلاقات التي اتسمت بالعدائية في البداية بين الجماعات الإسلامية وحزب العمال الكردستاني PKK والتي أخذت شكل حرب عصابات في عام 1984 باتت ودية تماماً.
يبدو أن التشكيل الإسلامي الرئيسي بين أكراد تركيا في الوقت الحاضر هو الحزب الإسلامي الكردستاني (PIK, Partiya Islamiya Kurdistan) وهو في الواقع حزب قومي إضافة إلى كونه حزباً إسلامياً وفي الحقيقة فإن لسان حاله (جودي) يكتب عن الكرد أكثر من الإسلام وهو يلقى بعض الشعبية في أماكن مثل باطمان (والتي هي أيضاً معقل حزب الرفاه) وفي مناطق شهدت مواجهات سنية-علوية مثل ملاطيا. من غير المحتمل أن يلعب ذلك الحزب دوراً يُذكر في المستقبل القريب رغم أن بعض المقالات في الصحافة التركية حاولت تقديمه باعتباره تنظيماً محارباً خطيراً[10]. مقارنة مع الأحزاب العلمانية مثل PKK أو الأحزاب الأخرى والتشكيلات اليسارية الأضعف منه بكثير، فإن إمكانية التعبئة لدى الحزب الإسلامي الكردستاني تبقى منخفضة جداً.
خاتمة: الإسلام والقومية
كان الإسلام هو العامل الذي وّحد الأتراك والأكراد في أعقاب الحرب العالمية الأولى ضد الكفار المنتصرين والمسيحيين المحليين (الأرمن واليونانيين). وقف الكثير من المسلمين إلى جانب الحركة الكمالية لأنها كانت حركة المسلمين ضد غير المسلمين. وعندما ألغى مصطفى كمال (أتاتورك) النظام الإسلامي بعد تأسيس الجمهورية التركية، فإنه قوّض آخر أساس للوحدة التركية-الكردية. ومن الصعوبة بمكان الفصل بين الكردي و الشعور الإسلامي في الثورات الأولى ضد نظامه، ولكن الارتباط بالإسلام في تلك الثورات أخذ شكل الارتباط بقائد إسلامي، شيخ طريقة عادة.
والأمر كذلك حتى يومنا هذا. فتدين الأكراد السنة يتم التعبير عنه غالباً في ولائهم لشيخ ما. التيارات المعتدلة والمتطرفة في الإسلام لم تجد أي تقدم لها بين الأكراد. والحركة الوحيدة التي بدأت كحركة تحديثية (وإن كانت ذات طابع خاص) أي الحركة النورجية، فإنها أصبحت بين الأكراد بمثابة تنظيم يشبه الطريقة. حركة إخوان المسلمين والحركة المتطرفة المشابهة لها لم تجد أي تأثير لها بين الكرد كما إن تأثير العقائديين المسلمين للثورة الإيرانية محدود. الجماعة الهامة الوحيدة المدعومة إيرانياً بين الأكراد هي التي يتزعمها شيخ نقشبندي وهو محمد خالد البارزاني.
عندما استولى العسكر على السلطة في عام 1980، فإن المخاطر الثلاث الملموسة التي هددت الدولة الكمالية تمثلت في الشيوعية والنزعة الانفصالية الكردية والراديكالية الإسلامية. حينها بدا أن شرعنة ورعاية النشاطات الإسلامية المعتدلة ،التي تم حظرها من قبل، أفضل طريقة لمحاربة الخطرين الأولين ومنع الخطر الثالث من التطرف. مع القمع الشديد لليسار والقوميين الكرد، أعطت السياسة أكلها وتمثلت في عدم تسييس المجتمع وعودة عامة إلى الدين. غير أن المواجهة الأخيرة بين القوات المسلحة والأكراد، والقمع الجسدي الذي لم ينج منه أحد، شكّلت عودة قوية للقومية الكردية. وفي الوقت الذي تنّكر فيه المسلمون الراديكاليون في بداية الثمانينات أية صلة بالقومية، فإن معظم الإسلاميين الكرد أصبحوا على ما يبدوا قوميين أيضاً. القوميون ، من ناحية أخرى، بما فيهم PKK تخلوا عن موقفهم المتغطرس من الإسلام معترفين أن بأنه حراك اجتماعي هام وربما تقدمي.
[1] ملاحظات عن سيرة العلماء الأكراد المهمين تم جمعها من قبل عبد الكريم محمد المدرّس في كتابه علماؤنا في خدمة العلم والدين (بغداد: دار الحرية، 1983). عن دورهم كوسطاء ثقافيين وتأثيرهم في إندونيسيا انظر [بحثي] “العلماء الكرد وطلابهم الاندونيسيون” في De Turcicis aliisque rebus commentary Henry Hofman dedicati (Utrecht: Instituut voor Talen en culturen, 1992)pp. 205-227.
[2] الملا التركي توران دورسن الذي أصبح ملحداً فيما بعد نشر مقالات في غاية الجدلية ضد الإسلام في أسبوعية 2000’e Dogru حيث درس كفتى في المدارس الكردية. إنه يكتب بإسهاب وبحقد عن ذلك التعليم في سيرته الذاتية التي كتبها بذاته المعنونة Kulleteyn (Istanbul: Akyȕ, 1990) دورسن الذي تم اغتياله في 1990 كان رجلا مثقفاً ويملك ناصية المصادر الإسلامية أكثر من معارضيه الأتقياء –وهو ما يُعزى إلى نوعية تعليمه.
[3] تم مناقشة مثال بارز في القرن السابع عشر في مقالتي “الطريقة النقشبندية في القرن السابع عشر في كردستان في كتاب مارك غابوريو Marc Gaborieau وآخرون Naqshbandis: Historical Development and Present situation of a Muslim Mystical Order (Istanbul and Paris: Isis, 1990) pp.337-360
[4] ما يلي من فقرات عبارة عن ملخص لما جاء بشكل أكثر تفصيلاً (في الآغا والشيخ والدولة)
[5] س. أحمد أرواسي (المثل التركي-الكردي الأعلى) مجلدين Istanbul: Tȕrk Kȕrtlȕr Yayini, 1980) ) فحوى الكتاب أنه يحاول أن يعطي القومية التركية صبغة إسلامية محافظة. مثل غيره من الكتاب الأتراك الأوائل السابقين، يزعم أرواسي أن الأكراد أتراك أقحاح. في وقت سابق من القرن العشرين كان فرد آخر من الأسرة ذاتها هو الشيخ شفيق أرواسي قد لعب دوراً نشطاً في الحركة القومية الكردية.
[6] عن النقشبندية في تركيا الحديثة انظر Hamid Algar, “Der Nakşibendi-Orden in der republikanischen Tȕrkei in Jochen Blaschke and Martin van Bruinessen, eds., Islam und politik in der Tȕrkei (Berlin: Express, 1985) pp. 167-196; Ruşsen Ϛakir, Ayet ve slogan: Tȕrkiye ve islam oluşumlar ( الآية القرآنية والشعار: التشكيلات الإسلامية في تركيا) Istanbul: Metis, 1990) pp.17-76
[7] عن علاقات السلطة والخلافة ضمن العائلة البارزانية، راجع الحواشي التفصيلية المرافقة للمخططات النسبية في كتابي الآغا والشيخ والدولة، الفصل الرابع، الملحق.
[8] القوة العسكرية الفعلية لحزب الله بقيادة الشيخ محمد خالد تبقى غير واضحة واعتماده الحالي على إيران غير جلي. أول لقاء منشور على حد علمي يعود إلى آذار/مارس 1991 أجراه الصحفي الكردي جواد قورقماز Cevat Korkmaz الذي نشره في كتابه Kurt Kapani (الفخ الكردي) Ankara: Yurt, 1991) pp.49-69 يحاول قورقماز بشكل غير مقنع أن يورط الشيخ في الإرهاب الإسلامي المزعوم في تركيا ويلقى القليل من الضوء على نشاطاته في كردستان العراق.
[9] عن سعيد نورسي وتعاليمه الدينية انظر Hamid Algar, “Said Nursi and the Risala-i Nur” in Islamic Perspectives: Studies in Honor of Sayyid A!a Mawdudi (London, 1978), Şerif Mardin, Religion and Social Change in Turkey of Bedȕzzaman Said Nursi (Albany: State University of New York Press, 1989). عن الحركة النورانية انظر Paul Dumont “Disciples of the Light: The Nurju Movement in Turkey, “Central Asian Survey 5:2 (1986):330 راجع أيضاً ملاحظات روشن شاكر في) Ayet ve Slogan, p77-99
[10] في آذار 1990 أُعتقِل أكثر من ثلاثون عضواً مزعوماً من الحزب الإسلامي الكردستاني وصُودِرت بعض الأسلحة في مداهمات للشرطة في استانبول وأنقرة وملاطيا. وقد أطلقت الصحافة على المعتقلين صفة ” إرهابيين إسلاميين” وزعمت أن PIK أعلن الجهاد بهدف إقامة دولة كردستان المستقلة على أسس إسلامية. (جمهوريت، الثالث من نيسان/إبريل، 1990)