بين إرث الدم وغياب الحكاية؛ ابن شهريار” الذكورة الجريحة”…

شارك هذا المقال:

تقديم: مثال سليمان

 تأويل خطاب ابن شهريار ( الراوي الضمني ) في قصة ” أبي شهريار” للكاتب إبراهيم محمود. المنشورة في موقع -الأنطولوجيا- ١٩ تموز ٢٠٢٥.

يقدّم النص نفسه على هيئة اعتراف، باعتباره مرآةً داكنة لذكورةٍ تتغذى من ميراث العنف وتستبطن التفوّق بوصفه حقاً موروثاً لا يحتاج إلى تبرير. صوت الراوي – وهو الابن المتخيّل لشهريار – يهيمن منذ العبارة الأولى، متكئاً على ضمير المتكلم، في بناءٍ سردي يُشبه الاعترافات الحميمة، لكنه في جوهره “اعتراف مضاد”، لا يسعى إلى مغفرة، بقدر ما يلجأ إلى تأليه الجريمة، وتكريسها كحقيقة تتماهى مع “الدم الملكي”.

الراوي هنا ليس فرداً يبحث عن خلاص، إنما ظلٌّ يتلوّن بهيبة الأب، يتماهى معه حتى الذوبان، في محاولة يائسة لأن يكون “النسخة الأبرز” من النموذج الذكوري الناجز. غير أن هذا التماهي يُنتج ذاتاً مشروخة، فاقدة للإسم، غارقة في تقليد بلا روح ويغدو السرد وسيلة  لمسح الذات في صورة الأب.

يُطالعنا النص بذكاء أسلوبي في تقاطع رمزي بين الأسطورة والواقع، حيث تتجاور “الليالي” مع وسائل العصر الحديث (واتساب، يوتيوب)، ليؤكد أن الزمن تغيّر، لكن الذهنية لم تتبدل. الذكورة المريضة التي تبرّر القتل باسم الخيانة لا تزال حية حتى أنها تزداد دهاءً، تُعيد إنتاج نفسها وتُلبس العنف أثواباً لغوية شديدة الزخرف، كأنها قصيدة تُروى بالدم.

العنف في القصة لا يمكن اعتباره لحظة غضب أو فعلًا استثنائياً، إنما طقساً تطهيرياً فحسب،  يُجسّد الذكورة في أبهى (وأبشع) تجلياتها. “عاقبتها بطريقة مختلفة، حولتها إلى أجزاء…”، جملة تقتلع المرأة من ذاتها، وتجعل جسدها أثراً، رماداً يُنثر في مجرور العائلة الملكية، في إسقاط رمزي يُنزِل الأنثى إلى قاع لا يُرى، وكأنها قذارة يتوجب محوها لا دفنها.

من منظور سردي رمزي، يُعيد الراوي تأويل الخيانة كجوهر أنثوي، كطبيعة لا فكاك منها. كأنّ المرأة هنا ليست إلا فكرة أكثر من كونها كائناً – خطراً دائماً يستدعي الحذر والتطويع، بل وربما التدمير الوقائي. ولعل أكثر ما يكشف عن ذلك التحيز هو اختطاف صوت شهرزاد، لا لتكريمها كمحكية أنقذت بنات جنسها بالحكاية، بل لتوظيفها كدليل على “حق الرجل في الولاية”، في قلبٍ حاد للتراث التأويلي الذي طالما جعل من شهرزاد رمزاً للحكمة والبقاء.

الخطاب الذكوري في النص يعيد تمجيد السلطة و يُفرغ الحكاية من دورها التاريخي – أن تكون خلاصاً عبر الخيال – ليجعلها مجرّد وسيلة لتثبيت الهيمنة. وهنا تظهر المأساة الكبرى: أن الراوي فشل في إيجاد “شهرزاد أخرى”، لأنه لم يعُد قادراً على رؤية المرأة إلا كتهديد دون أن يمنح فرصة أخرى غير ذلك، وبهذا، لم يُتقن من إرث أبيه سوى القتل، بينما فشل في جوهر الحكاية التي أنقذت شهريار نفسه.

هذا العجز يُفضي إلى لحظة انكسار موجعة: “تلك كانت سقطتي!”، اعتراف صادم على فشل تحويله إلى أسطورة، إلى قصة تحفظ الاسم والهيبة. فابن شهريار لم يكن قاتلاً فحسب، بل قاتلاً بلا مجد، بلا لغة، بلا “راوية” تُمسك بخيوط الزمن وتنقذه من الفراغ. لقد افتقر إلى الخيال، فسقط في التكرار الأعمى، وأصبح مجرّد صدى لصوتٍ قديمٍ لم يفهم منطقه.

الأسلوب البلاغي في النص يُعزز هذه الثنائية القاتلة: لغة شعرية مرهفة تُغلّف العنف كأنه طقس جمالي وتناص مع “ألف ليلة وليلة” لا يستدعي التراث بقدر ما يعيد كتابته من الداخل، ليُحيله إلى سلاح ضد نسائه. فحتى الذكرى، وحتى القصة، تُؤدلج لتخدم بنية السلطة، وتُمحى فيها كل إمكانات المقاومة.

أما البنية الرمزية للنص، فتغوص في تشقق الهوية الذكورية حين تنقطع عن الحكاية وتُسرف في التماهي مع صورة لا حياة فيها. الابن ليس سوى شبح، لا اسم له ولا قدرة على الابتكار، فقط يكرّر، يبطش، ويفتخر، قبل أن يكتشف – بعد فوات الأوان – أن العنف دون سردٍ يُحوِّله إلى قاتل عادي، لا إلى ملك تُحكى عنه الحكايات.

في ضوء هذا كلّه، يمكن اعتبار النص وثيقة أدبية محكمة ترصد أزمة الذكورة المعاصرة حين تتماهى مع إرث دموي وتفشل في خلق سردية بديلة. إنّه صوتٌ مأزوم، يُصرخ من الداخل، لأنه لم يعد يملك أداة التعبير إلا من خلال الجريمة. وإذا كانت ألف ليلة وليلة قد خلّدت الحكاية بوصفها خلاصاً، فإن ابن شهريار – في هذه القراءة – يقدّم نموذجاً مضاداً: كيف يمكن للذكر أن يسقط حين يُفقد الحكاية، ويتحول إلى يد تقتل بلا غاية فقط لأنها لا تعرف سبيلاً آخر للوجود.

وهكذا، لا يعود النص تمجيداً للسلطة، إنما تفكيكاً خفياً لها. سردٌ يُعيد مساءلة الأسطورة من داخلها، ويكشف هشاشة من يحاول استنساخها بلا وعي. فالحكاية لم تكن يوماً أداة للهيمنة، بل وسيلة للفهم، ولعل هذه هي السقطة الحقيقية: أن تقتل الحكاية، ظناً منك أنك تُحكم بها العالم.

———-

إبراهيم محمود، أبي شهريار… قصة …

لطالما كنت، ولم أزل مفتخراً بأبي شهريار. كيف لا أفتخر به، وهو ملك زمانه، وملك الرجال الذين يعرفون عنه أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم، في رجاحة عقله، وسياسته مع النساء، ودمه يجري في عروقي؟ وإذا كنت أكنُّ الود والاحترام والتقدير لأمي شهرزاد، وأبرّها، كما أقدَّر خالتي دنيازاد، وكذلك، فإنني لا أخفي احترامي الكبير لجدي الوزير، سوى أن لأبي مكانة واعتباراً ومأثرة قيمة استثنائية.

ولأكن صادقاً هنا، حين أشير إلى علاقة أبي مع النساء، وكيف اقتص منهن، بحزم، بدءاً بزوجته الأولى التي خانته، وهي في نعيمه، وأن سيرته مع أمي شهرزاد، وحكايات ألف ليلة وليلة التي روتها أمي له، لتنال تلك الحظوة الخاصة لديه، وتكسب عفوه، وتكون زوجته، كان لها تأثير كبير علي، حيث إنني حفظتها عن ظهر قلب، واحتفظت بنسخة خاصة، عن طريق ورّاق خاص، حيث لا تمر ليلة، إلا ويكون لي معها حوار، واستئناس بها، وتحليق بالخيال في عالم البشر والجان، في الواقع وغرائبه.

تأثرت كثيراً بأبي في طبيعة تعامله مع النساء، كما قلت، وإلى الآن، وجرّاء إعجابي الكبير به، ودهائه، كنت أحاول نيل إعجابه، أن أكون المثال الأبرز في حقيقة مقولة ” هذا الوالد من ذاك الوالد “، وهو ما حاولت تطبيقه في علاقتي مع زوجتي التي لم تدم، ولم أتزوج بعدها لهذا السبب.

لقد كنت أراقبها، مقتدياً بأبي. أحببتها كثيراً. كانت بارعة الجمال، قوامها عصي على الوصف، وهذا الجمال كان يحرّك داخلي مشاعر وهواجس تدقع بي لأن أكون أكثر يقظة، فلا أكثر من الحالات التي يصبح فيها جمال المرأة مصدر هلاك لها.التجارب تعلّم!

وقد تمكنت ذات يوم، وفي لحظة لم تتنبه لها، من ضبطها، وهي تتفرج على يوتوبيات، وفيها الكثير من مشاهد المجون والخلاعة، وعثرت في واتسابها على أسماء مشبوهة، أكدت لي، ومن خلال متابعة ومساءلة، عن أنها تقيم علاقات مع آخرين، رغم أنني وفّرت لها كل أسباب السعادة، وهناءة العيش، كيف لي، وأنا ابن ملك، وما نملكه من المال والممتلكات، ومن يخدموننا من خدم وحشم وحراس يتحدى كل حساب.

تذكرت في الحال أبي وكيف تعامل مع زوجته الأولى، ورددت في نفسي: حقاً إن المرأة هي هكذا، يستحيل الأمان معها.

عاقبتها بطريقة مختلفة، حولتها إلى أجزاء، وأحرقتها، ونثرت رمادها في مجرور قريب لقصرنا المالكي، وقد نال جزاءها.

بعد أن انتهيت من كل ذلك، اطلعت أبي على ما جرى معي. ما كان منه إلا طبطب على كتفي، واحتضنني، وهو يقول:

-حقاً أنت من صُلبي، وتستحق أن تحمل اسمي، وأشدد على جرأتك وجسارتك ورباطة جأشك..سوى أنك نسيت شيئاً مهماً جداً.

فتحت عيني على وسعهما، وأنا أنظر إليه، في انتظار ما تشوقت إلى سماعه:

-بنيّ..طريقة تعاملك مع الخائنة زوجتك أنهيتها سريعاً، لا أسهل منها، وأنت تستخدم يديك في الذي خططتَ له.. بينما التأثير الأكبر هو في كيفية إطالة المدة، مدة الانتقام، واستمرار التأثير، وجعل فعل القتل الذي تقوم به جلاب مديح لك عبر العصور..انظر، كيف تصرفت مع أمك شهرزاد! لقد جعلتها تتكلم على امتداد ألف ليلة وليلة، وفي كل حكاية، إشارة إلى ضعف المرأة، إلى خيانتها، إلى غوايتها وغرورها، بحيث يظن السامع والقارىء، أنها تروي حكاياتها، وتمليها علي، وكما تريد، والعكس هو الصحيح، لقد رغبتُ فيها وهي تروي تلك الحياة في الليالي تلك كلها، حيث ولدتكَ أنت وأخوين لك، وكلكم ذكور، وكأنها وبصوتها، وبلغتها، وهي من وضعي، تعترف بحقيقة المرأة. وهناك جهلة، ومخدوعون بها، بأنها تكلمت وكسبت الحياة، والصحيح هو أنها تكلمت لتثبت أن الرجل هو الذي يستحق أن يكون ولي أمرها.

لقد رحل أبي، سوى أن صوته لا يزال يتردد بصداه في أذني وروحي، ولكم كنت أتمنى أن أعثر على شهرزاد من نوع آخر، وهي تسرد علي حكايات بامتداد ليال تتناقلها أجيال البشر، وباللغات كافة، ليكون لي اسم معتبَر مثل أبي شهريار.. تلك كانت سقطتي !

——-

رابط القصة:

https://alantologia.com/blogs/85775
شارك هذا المقال: