يرجع الكثير من الباحثين والمهتمين بقضايا الدول ذات التعدد الاثني او القومي أو الديني أو اللغوي، والتي تشهد توترات عنيفة فيما بينها، السبب الرئيسي لهذه النزاعات إلى نظام الحكم المركزي الشمولي الذي يحظر على هذه المكونات أبسط حقوقها، كالمحافظة على تراثها الثقافي واللغوي، تصل حد معاملة السلطة لأبناء هذه الاثنيات كرعايا وليس كمواطنين. كما يرون بأن الدولة الاتحادية بمختلف أشكالها وتدرجاتها ( لامركزية موسعة، حكم ذاتي، فيدرالية، كونفدرالية…….الخ) هي الحل الوحيد للتوترات التي تحصل بين مكونات الدولة الواحدة وأنها الضامن الأوحد لاستقرار هذا النوع من الدول وديمومتها.
لكن إلى أي مدى يمكن الركون إلى نتائج تطبيق هذه النظرية، بمعنى آخر هل هي صالحة لكل الحالات أم أنه لا بد من توافر آليات وتوافقات معينة وبشكل مرحلي حسب تركيبة كل دولة وإلا فأنها تقود إلى نتائج كارثية؟!
أليست التجربة هي الحكم والفيصل على مدى صحة وواقعية أي نظرية أم أننا سنظل نردد: النظرية صحيحة بالمطلق وأن الخطأ يكمن في التطبيق؟ حتى للنظريات العلمية أي التي تتعامل مع الماديات ثمة شروط لتطبيقها، فعلى سبيل المثال نظرية سقوط الأجسام تقول بأن تسارع سقوط جسمين مختلفي الكتلة من نفس الارتفاع هو نفسه، أي انهما يصلان الأرض بنفس اللحظة لكن بشرط أن يتم ذلك في الفراغ (أي دون وجود هواء) !
حتى لا نتوه في دهاليز المصطلحات والنظريات، لندخل في صلب الموضوع ونأخذ نماذج عن الدولة الاتحادية (الفيدرالية) من التاريخ القريب سواء تلك التي أثبتت نجاحها أو لم يكتب لها النجاح، ونبحث في أسباب وظروف النجاح لكي نستفيد منها وكذلك الفشل لكي نتجنبها.
قبل تناول هذه التجارب دعونا نستعرض في عجالة أمرين هامين: ماهية الفيدرالية، وطريقة تشكيلها.
من المعروف بأن الدولة الفيدرالية هي دولة تتكون من حكومة مركزية تدير الوزارات السيادية (حسب المتفق عليها بين مكونات الدولة)، وحكومات أقاليم تدير كل منها بعض الوزارات التي تهتم بالشؤون الداخلية لسكان كل أقليم، ومن المعروف أيضاً بأن مسار تشكل الفيدرالية هو اتفاق مقاطعات او أقاليم أو كانتونات فيما بينها على تشكيل كيان دولة اتحادية توكل إليها مهمة إدارة الشؤون الخارجية والدفاع والداخلية وغيرها من الإدارات التي يتم التوافق عليها بين الأقاليم. الأمر الذي يجعلنا نستنتج بأن الفيدرالية طريق ذو اتجاه واحد، مع وجود استثناءات أثبتت نجاحها حتى الآن رغم أنها سلكت الاتجاه المعاكس؛ أي أنها تحولت من دولة مركزية إلى دولة اتحادية!
بما أن تجارب الفيدرالية بأشكالها المتعددة كثيرة ومن المحال عرضها جميعاً لذلك أقترح أن نبحث في ثلاثة منها: سويسرا وبلجيكا ويوغسلافيا، كونها ثلاث نماذج معروفة للجميع ومتدرجة بين الناجحة والأقل نجاحاً والفاشلة، ومن ثم نعود إلى شرقنا ونرى مدى إمكانية تطبيقها في بعض دوله ذات التركيبة المتعددة القوميات والأديان واللغات.
تعتبر الفيدرالية أو على الأصح الكونفدرالية السويسرية من أهم التجارب الناجحة وأكثرها استقراراً رغم التركيبة المعقدة لهذا الاتحاد (26 كانتون أو إقليم، أربع لغات، العديد من المذاهب الدينية ……الخ). لكن ما هو سر نجاحها واستقرارها؟
أولاً، تعتبر طريقة تشكل الاتحاد السويسري من أهم عوامل هذا الاستقرار؛ فسويسرا الحديثة هي دولة تشكلت قبل أكثر من 150 سنة من اتفاق كانتونات أو أقاليم في ما بينها على تشكل دولة اتحادية تدير شؤونهم المشتركة.
ثانياً، كان تحوّل سويسرا إلى دولة علمانية ( إبعاد الدين عن مؤسسات الدولة ) بمثابة رش الماء على النار الكامنة تحت الرماد؛ ما أدى إلى قطع الطريق على أية حرب أهلية على أساس المذهب الديني.
ثالثاً، الغياب شبه المطلق للأحزاب الإيديولوجية بمختلف مشاربها (قومية، دينية، مادية……)، الأمر الذي يجنب الدولة صراعات عقائدية داخلية، وتبعدها عن سياسة المحاور.
أما مملكة بلجيكا فقد سلكت الطريق المعاكس إلى الفيدرالية (ابتداءً من 1973 وبشكل تدريجي عبر 4 مراحل من إعادة تشكيل الدولة وصولاً إلى إعلان الفيدرالية في 1993) بعد أن كانت مركزية لأكثر من قرن ونيف من الزمن (1830 – 1993) لكنها تجربة لازالت معرّضة للانكسار لولا الوضع الشائك للعاصمة بروكسل المتنازع عليها ما بين المتحدثين بالفرنسية (الوالون) والمتحدثين بالهولندية(الفلاندرز) إذ أن معظم سكان بروكسل يتحدثون الفرنسية فيما يدّعي الفلاندريون بأنها مدينة فلاندرية. ويزيد هذا الواقع تعقيداً، وقوع بروكسل جغرافياً ضمن محيط فلاندري!
على الرغم من أن مسار تشكل الاتحاد اليوغسلافي كان أفضل من مثيلتها البلجيكية، إذ أنها سارت وفق المسار النظامي لتشكل الدولة لفيدرالية؛ أي من أقاليم أو دويلات إلى دولة اتحادية، لكن اتحادها كان ارتجالياً وقسرياً بالإضافة إلى أنها عاشت حوالى نصف قرن ضمن نظام حكم شمولي قمعي، بعبارة أخرى كانت فيدرالية صورية لكنها في الحقيقة مركزية قمعية من حيث النظام السياسي الحاكم، الامر الذي أدى إلى دخولها في نفق مظلم تطلب الخروج منه أثماناُ باهظة، فقد نشبت صراعات دموية على أسس قومية ودينية ومذهبية وتشظت الدولة الفيدرالية ولازال الانشطارات كامنة حتى بعد انفراط عقد الاتحاد (دولة البوسنة والهرسك المكونة من فيدرالية البوسنة والهرسك، وجمهورية سربسكا، لازالت على سبيل المثال تعاني من عدم استقرار خطر).
كما سبق وذكرنا الأمثلة كثيرة لكن ما يهمنا هنا في هذه العجالة هو الوقوف امام السؤال الجوهري: ما هو الشرط اللازم والكافي لنجاح تجربة الفيدرالية في الدول ذات التعدد الإثني بمختلف مكوناتها؟
قبل كل شيء، وفقاً لمعطيات الوضع الراهن في الشرق الأوسط، لا تتوفر هناك أي إمكانية لتشكيل دولة اتحادية وفق المسار الطبيعي لتكون الفيدرالية؛ أي من أقاليم مستقلة إلى دولة اتحادية (كما في الحالة السويسرية).
إذن نحن أمام الحالة العكسية، أي تحويل الدولة المركزية الشمولية إلى دولة اتحادية بإحدى صياغاتها( لامركزية موسعة، حكم ذاتي، فيدرالية، كونفدرالية…….الخ) والتي تستوجب دراسة متأنية فهي عملية فصل معقدة محفوفة بالمخاطر ومضاعفاتها قاتلة (تجربة تفكك الاتحاد اليوغسلافي على سبيل المثال)!
يجمع معظم الدارسين والمختصين في هذا الحقل على أن نجاح الفيدرالية يتطلب توافر شروط معينة أهمها: الإرادة المشتركة والتوافق بين سكان الأقاليم على نوع الإدارة التي تناسبهم، وأن لا تقوم انطلاقا من إيديولوجية معينة وشعاراتها التي تدغدغ المشاعر بل يجب أن تستند معطيات الواقع المعاش الاقتصادي – الاجتماعي للفرد والمجتمع، أما الشرط الثالث (الأخطر والأهم برأيي الشخصي) فهو أن تتم بالحوار والتفاوض وعلى مراحل بحيث تأخذ كل مرحلة وقتها من التجريب؛ فالانفصال العنيف والاتحاد القسري كليهما له عواقب وخيمة، والتاريخ أصدق شاهد!