أزمة نجلاء المنقوش ودور تركيا في دفع قطار التطبيع مع إسرائيل؟

شارك هذا المقال:

د. طه علي أحمد

باحث في شؤون الشرق الاوسط وسياسات الهوية

بعد لجوء وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، إلى تركيا عقب إعفائها  من مَنْصِبِها على خلفية لقائها  بنظيرها الاسرائيلي في إيطاليا في 22 أغسطس المنصرم، وفقاً لبيانٍ عن الخارجية الاسرائيلية، يبدو التساؤل منطقياً حول عُمْق العلاقات التركية الاسرائيلية، وخاصة مع مزاعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بِعَدائه  لدولةِ إسرائيل، ومناهضته لسياساتها العنصرية تجاه الفلسطينيين. وهنا يمكن صياغة سؤالٍ رئيس مفاده: هل تتوازى أم تتقاطع السياسات التركية مع السياسات الاسرائيلية في الشرق الأوسط؟ أو بعبارة أخرى، هل يتبنَّى الرئيس التركي موقفاً مُعارضاً لإسرائيل منذ وصوله للسلطة في عام 2002م؟، بل يمكن توسيع نطاق هذا التساؤل ليصبح: هل تتوازى السياسات الإسرائيلية التركية أم تتعارض سواء فيما يخص القضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا الإقليمية في الشرق الأوسط؟. وللإجابة على هذا التساؤل العريض، يمكننا البدء بالعودة على النشأة التاريخية للعلاقات بين الدولة التركية التي تأسَّسَت عام 1923م وإسرائيل التي تأسَّسَت بعدها برُبْع قرنٍ فقط، أي في 1948م.

اليهود والقومية الطورانية في التركية

نظراً لمكانةِ اليهود في مَسيرة تأسيس الدولة التركية، فإن العلاقة بين الطرفين قد تأسَّست تاريخياً على قَدْرٍ من الاعتماد المتبادل بين الطرفين، فقد لَعِبَ “يهود الدونمة” دوراً مُثْبتاً تاريخياً في إسقاط الدولة العثمانية، حيث ترجع البدايات الأولى لوجود اليهود في الدولة العثمانية إلى عهد السلطان سليمان القانوني (1494م – 1566م) الذي تزوج من جارية روسية الأصل، تدعى روكسلانة، وهي التي أنجبت له ولديه سليم الثاني وبايزيد.

كما تميَّزت مكانةُ اليهود في تأسيس ما يُعرَف بـ “الحركة الطورانية”، التي يُعَد المفكر اليهودي الصهيوني الفرنسي “ليون كاهو” Léon Cahun (1841م – 1900م) أول المنظرين والمؤسسين لها في كتابه الذي يحمل عنوان “مدخل إلى تاريخ آسيا: الترك والمنغوليين منذ نشأتهم حتى عام 1405م”، حيث أفاض كاهون في كتابه في مدح قادةٍ تاريخيين مثل جنكيز خان وتيمور لنك وغيرهما واعتبرهم أبطالاً قوميين الأمر الذي عزَّز ثقة الأتراك فيه لدرجةٍ جعلت أفكاره عماد الحركة الطورانية القومية المتطرفة، ثم تأسَّسَت على مدار القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين محافل ماسونية متعددة في القسطنطينية مما أتاح للشخصيات القيادية في جمعية الاتحاد والترقي أن يشكلوا دائرة داخلية متحدة للروابط الماسونية لتدعيم الحركة الطورانية ومبادئها. ولعل في ذلك ما يجعل الروابط بين تركيا واسرائيل تقوم على أُسُسٍ وثيقة، فكانت تركيا هي الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بإسرائيل في 28 مارس 1949، تأسَّسَت أول بعثة دبلوماسية لتركيا في تل أبيب في 7 يناير 1950. وهو ما تلاقى مع الرؤية الجيوبوليتيكية لبن غوريون الرامية لمحاصرة العالم العربي فيما يُعرَف بـ “نظرية التخوم” والتي تقوم نسج شبكة من العلاقات المتينة مع القوى الإقليمية المحيطة بالعالم العربي مثل تركيا وإيران وإثيوبيا.

التطرف القومي والتقارب التركي الاسرائيلي

نتيجة للتشابه في النزعة القومية المتطرفة لدى كلا الجانبين، وموقفهما المعادي من أي نزعة قومية ناشئة بين شعوب المنطقة كالعرب والكرد وغيرهم، فقد اتخذ مسار العلاقات بين تركيا واسرائيل شَكلاً متوازياً ومتكاملاً على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، وذلك في إطارٍ من التنسيق لمواجهة التحديات المحيطة بكلا الجانبين، كالتحدي القومي العربي لدى الإسرائيليين وحرص الأتراك على إخماد أية حركة قومية كُردية في محيطها الإقليمي، وقد تجلَّى ذلك في اتفاقية للتعاون الأمني الذي وقعها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق دافيد بن غوريون (1886م – 1973م) ونظيره التركي عدنان مندريس (1899م – 1961م) في عام 1958م، وقد شمل هذا الاتفاق تبادل المعلومات الاستخبارية والدعم العسكري.

واستمراراً لذلك، وقَّعَت الحكومتان الإسرائيلية والتركية على اتفاق للتجارة الحرة حيث دخلت حيز التنفيذ في أبريل 1997م بالإضافة إلى اتفاقٍ عسكريٍ مُوَسَّعٍ، تم التوقيع عليه في 1996، وقد شمل التعاون في مجالات البحوث الاستراتيجية المشتركة، واستخدام القوات الإسرائيلية للأجواء التركية للقيام بتدريبات عسكرية وطلعات جوية تعويضا لمحدودية المجال الجوي الإسرائيلي، وصيانة المعدات العسكرية، وتبادل الطيارين 8 مرات سنوياً، بجانب إجراء مناورات مشتركة وأمور أخرى. وبجانب العمق التاريخي للعلاقات بينهما، فقد جاء هذا الاتفاق في إطار انفتاح تركيا على قوى تراها أنقرة فاعلة إقليمياً، فضلاً عما قد يترتب على ذلك من دوافع تعزز مسيرتها التفاوضية بشأن الانضمام للاتحاد الأوروبي، بالإضافة لمنح القوات الجوية الاسرائيلية حرية الحركة في الشمال السوري والاستفادة من ذلك في الحصول على معلومات استخباراتية تخص مواقع قوات حزب العمال الكردستاني التي تلاحقها تركيا في هذه المنطقة. وفي هذا الإطار، أجرى الجانبان مناورات عسكرية تحت مسمى “عروس البحر الآمنة” في 1998م.

حزب العدالة والتنمية ومزاعم العداء المُصْطَنَعَة

وَصَلَ حِزبُ العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا عام 2002، وقد بلغت مفاوضات الالتحاق بالاتحاد الأوروبي ذروتها خلال هذه الفترة (2002 – 2005)، وهو ما أسهم في تعزيز وتيرة العلاقات التركية الاسرائيلية، إذ يقدم كلاهما نفسه للغرب كداعمٍ أو وكيلٍ إقليمي في الشرق الأوسط، بل واتسعَ نطاقُها على خلاف المزاعم التركية. وفي هذا السياق تواصلت التفاهمات العسكرية التي شَمَلتَ تحديث 170 دبابة  تركية من طراز M6، وذلك في إطار صفقة بلغت 668 مليون دلار. وفي 2005، قام أردوغان، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بزيارة تل أبيب حيث أبرم اتفاق بقيمة 500 مليون دولار لتحديث مقاتلات من طراز فانتوم F4, F5، كما حصلت أنقرة على نظم محطات أرضية وصواريخ أرض جو. وفي 5 سبتمبر 2007 نَفَذَّت إسرائيل عمليةً عسكريةً تجاه سوريا عُرِفَت باسم “عملية البستان” زعمت أنها تستهدف مفاعل نووي قرب دير الزور.

على أيةِ حال، فقد مَضَت مسيرةُ العلاقات الاسرائيلية التركية في تنامٍ ملحوظٍ رُغم المزاعم بمعاداة إسرائيل التي تضمنها الخطاب السياسي الذي استخدمه عند مخاطبة الرأي العام، في تركيا وكذا الدول العربية، بشأن سياساته الإقليمية، وهو ما يمكن أن نقرأه في السياق العام لواقعتَي الانسحاب من جلسة “الحوار حول السلام في الشرق الأوسط”، بمنتدى دافوس العالمي في 29 يناير 2009م، وأحداث اعتداء القوات الاسرائيلية على أسطولٍ مُكَونٍ من سِت سُفُن، بينهما ثلاث سفن تركية، كانت تحمل نشطاء داعمين للقضية الفلسطينية في مايو 2010م، وقد قُتِلَ خلالها، بين آخرين، عشرة أتراك. ففي الواقعة الأولى عَمَلَت الآلةُ الإعلامية (التركية وغير التركية) الموالية لحزب العدالة والتنمية على تصوير الموقف باعتباره بطولة من جانب الرئيس التركي الذي انسحب من جلسة يشارك فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، لكن واقع الأمر تكشف عنه رواية اثنين من شهود العيان، من كبار المسؤولين المشاركين في هذا الحدث، الأول هو الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، والثاني هو أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركية المرافق لأردوغان خلال الواقعة المشار إليها، حيث قال عمرو موسى أن اعتراض أردوغان وانسحابه إنما جاء في الدقيقتين الأخيرتين من مُشاركةِ أردوغان في الفعالية، وما كان انسحابه إلا احتجاجا على عدم السماح له بالحديث خلال هاتين الدقيقتين، وليس احتجاجاً على مشاركة بيريز كما روَّجت الدعايةُ التركية. أما داوود أوغلو، وهو أحد رجال أردوغان ووزير خارجيته ، الأسبق ، والمُلَقَّب بـ “مهندس السياسة الخارجية التركية”، فقد كَشَفَ في وقتٍ لاحق أنه كان يجري تحركات دبلوماسية بنفسه من وراء الستار لتسوية الأمر وتطويق أية تبعات لموقف أردوغان. أما بالنسبة لواقعة أسطول الحرية، فقد تمَّت تسويتُها بموجب صفقةٍ قضت بدفع إسرائيل 20 مليون دولار كتعويضات لضحايا الحادث مقابل أن تُسْقِطَ تركيا الملاحقات القضائية ضد العسكريين المتورطين في الحادث، واستعادة العلاقات الطبيعية بين الجانبين في يونيو 2016م.

إن السياق العام للواقعتين السابقتين يؤكد على الصبغة البراجماتية للعلاقات القائمة على المصالح المتبادلة بين تركيا واسرائيل؛ فخلال الفترة من 2008 – 2013، التي وَقَعَت فيها هاتين الواقعتين، بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 2.6 مليار دولار، وفي 2014 بلغ 5.8 مليار دولار، وذلك مقارنة بـ 1.4 مليار دولار في عام 2002، بل أن أنقرة حصلت على منظومة إنذار مبكر متطورة من إسرائيل في فبراير 2013م بقيمة 200 مليون دولار، وذلك رُغْمَ الأزمة الدبلوماسية التي شابت العلاقات بينهما، وهو ما يعني تضاعف التبادل التجاري بين تركيا واسرائيل أكثر أربعة أضعاف منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة. وفي إطار مساعي أنقرة للاستفادة من التطورات المتصلة باكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، قال أردوغان، في فبراير 2022، إن بلاده يمكنها نقل الغاز الاسرائيلي لأوروبا، وفي مارس من نفس العام قام رئيس اسرائيل، إسحق هيرتزوغ، بزيارة تركيا بدعوةٍ من أردوغان، وبعدها بأسابيع أجرى وزير الخارجية التركي السابق، مولود شاويش أوغلو، زيارةً لتل أبيب والتقى رئيس الوزراء الاسرائيلي يائير لابيد. وفي أغسطس أعلن الجانبان اتفاقهما على استعادة العلاقات الكاملة بين الجانبين، حيث تم تعيين إيريت ليليان كسفيرةٍ لإسرائيل لدى تركيا في 19 سبتمبر 2022م. وفي اليوم التالي التقى أردوغان مع لابيد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما التقى قادة اليهود بالولايات المتحدة وأعلن آنذاك نيته زيارة اسرائيل في وقت قريب. وكمُحَصلةٍ لذلك، تجاوز حَجْمُ التبادل التجاري بين البلدين 10 مليارات دولار في نفس العام 2022، وذلك فقاً للسفير التركي في اسرائيل الذي كشف طموح البلدين لزيادة هذا الرقم إلى 15 مليار دولار شاكر أوزكان تورونلار.

وهكذا، فإن المتتبع للمسار التاريخي للعلاقات بين تركيا واسرائيل، يجد أنها تُمَثِّل نموذجاً مثالياً للبراجماتية السياسية التي تنطلق من التوافقات التاريخية، والمشتركات الجيوستراتيجية، لاسيما مع العداء التاريخي بين المشروعين الصهيوني والتركي مع المشروع القومي العربي  الذي ترتب على إخفاقه إفساح فضاءٍ استراتيجيٍ لكليهما تمددا فيه خلال العقود الأخيرة.

لقاء المنقوش ودفع أنقرة لقطار التطبيع

ولذلك، وعودةً للتساؤل الرئيس حول مدى عمق العلاقات بين تركيا واسرائيل، فإن السَّرْدِ السابق لجوانب العلاقات السياسية والاقتصادية بين أنقرة وتل أبيب، يضرب بجذوره في بنية النظام الإقليمي للشرق الأوسط كأحد مرتكزات التهديد الاستراتيجية لشعوب المنطقة، فمع اتساع نطاق مساعي التطبيع بين اسرائيل وعدد من الدول العربية خلال السنوات الأخيرة، تبدو علاقة أنقرة بحكومة شرق ليبيا، بقيادة عبد الحميد الدبيبة، ومن قبله فائز السراج، كمحطةٍ مركزيةٍ في توجيه قطار التطبيع إلى ليبيا، بغرض تحقيق عَدَدٍ من المصالح لكافة الأطراف المعنية. فرغم إدانة حكومة الدبيبة للقاء وزيرة خارجيتها نجلاء المنقوش مع نظيرها الاسرائيلي وإعفاءها من منصبها، إلا أن ذلك لا يعدو كونه تضحيةً بالمنقوش كـ “كبش فداء” لحكومة الدبيبة، لاسيما وأن مثل هذا اللقاء ما كان له أن يتم بدون تعليمات من عبد الحميد الدبيبة نفسه، كما أن الاسرائيليين أنفسهم اعترفوا بأن اللقاء كان بترتيب إيطالي ووساطة من اليهود الليبيين في روما وتل أبيب، وأن التنسيق لهذا اللقاء إنما تم على أعلى المستويات.

وعلى ما سبق، فإن لجوء نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية الليبية “المُقَالة” التي عُرِفَت بتردُدِها كثيراً على تركيا ولقاءاتها وعلاقاتها الجيدة مع مسؤولين اتراك كبار مثل وزير الخارجية السابق والنائب الحالي بالبرلمان التركي مولود جاويش أوغلو، ورئيس الاستخبارات التركية السابق و وزير الخارجية هاكان فيدان، إنما يؤكد على دور أنقرة في تنفيذ مخططات التطبيع الإسرائيلية مع دول الشرق الأوسط، في مقابل ترسيخ التعاون العسكري مع تل أبيب، والذي يتيح لأنقرة، الاستفادة من القدرات التكنولوجية والاستخبارية في ملاحقة قوات حزب العمال الكردستاني وإجهاض أية تجربة سياسية كردية في المنطقة، مثل “الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا”، بجانب رغبة أردوغان في الاستفادة من وضع إسرائيل كعضو مؤسس في الإطار التنظيمي لمنتدى غاز شرق المتوسط عسى يمكنه نقل الغاز الاسرائيلي لتركيا وهو الهدف الذي لطالما فشلت أنقره في تحقيقه، حيث تسعى تل أبيب للموازنة في علاقاتها مع دول المنطقة كمصر وقبرص واليونان.

شارك هذا المقال: