فلاديمير مينورسكي العلامة الفذ

شارك هذا المقال:

فلاديمير فيودورفيج مينورسكي = (Владимир Фёдорович Минорский ):

مستشرق روسي شهير (5 شباط 1877 – 25 آذار 1966م), تخصص في الإيرانلوجيا والكردلوجيا وآسيا الوسطى.

قسم الباحث طارق عبد الرحيم سيرة مينورسكي منذ ولادته حتى وفاته إلى أربع مراحل:

(1)   في روسيا وإيران (1877-1919)

(2)   في فرنسا   (1919-1932)

(3)   في بريطانيا (1932-1944)

(4)   التقاعد في بريطانيا (1944-1966)

ولد فلاديمير مينورسكي في بلدة (Korcheva – كورجيفا) شمال غرب مدينة موسكو على شاطئ نهر الفولغا, في عائلة ميسورة ومثقفة. كان اسم والده (فيودوريج) واسم والدته (أولغاني كولوبتيسكي). إجتاز المراحل الدراسیة الإبتدائیةّ و المتوسّطة والثانویةّ في مدارس موسكو ونال ميدالیة ذھبية لتفوّقه، و في ١٨٩٦ إلتحق بكلیة الحقوق بجامعة موسكو، وتخرج فیھا سنة ١٩٠٠ بتفوّق أیضا،ً لكنه لم یمارس المحاماة، وإنمّا إلتحق بـ  (معھد لازاریف للغات الشرقیة) الذي كان یعُنى بإعداد الدبلوماسیین الشباب للعمل في القسم الشرقي بوزارة الخارجیة الروسیة، أو الممثلیات الدبلوماسیة الروسیة في بلدان الشرق. وقد حظي مینورسكي بالترشیح للعمل الدبلوماسي، علما أًن الإلتحاق بالسلك الدبلوماسي لمْ یكنْ یسیراً  وھینّا, إذ كان إنتقاء المرشحین ی تم وفق شروط صارمة، حیث كانت مناھج الدراسة في المعھد مكثفة تشتمل على تعلم لغات البلدان التي سیعمل فیھا الخریجون لاحقا،ً فضلا عن دراسة تاریخ وثقافات شعوبھا وأوضاعھا العامة، وعلاقاتھا الخارجیة، لا سیمّا مع روسیا؛ فقد كان من مھمّات أولئك العاملین في السّلك الدبلوماسي إقامة علاقات واسعة مع المسؤولین المحلیین ووجھاء المجتمع المتنفذین في تلك البلدان، وبذل قصارى جھودھم؛ في سبیل تعزیز النفوذ الروسي في مناطق عملھم،” ولكن معظم الخریجین، على الرغم من اعدادھم اعدادا مھنیّاً )صارما ( وربما بسبب ذلك – كانوا مجرد موظفین بیروقراطیین تتسم وجھات نظرھم بالانتھازیة السیاسیة ومشبعین بالروح الإمبریالیة وبمشاعر الاستعلاء القومي تجاه شعوب الشرق. ما عدا قلة قلیلة كانت تحاول التعرف عن كثب على الجوانب المختلفة للحیاة في بلدان الشرق وتأریخ وحضارة شعوبھا، والذین اصبحوا فیما بعد مستشرقین بارزین مثل )فاسیلي نیكیتین) و )فلادیمیر مینورسكي (على حدّ تقییم الأستاذ جودت ھوشیار.

وھنا تجدر الإشارة إلى أن مینورسكي قد تتلمذ خلال سنيِّ دراسته (١٩٠٠- ١٩٠٣ )على أیدي أساتذة معروفین أكفاء: ف. أ. كورش، میرزا جعفر محللاتي،عبد الله غفاروف، البارون ر. س تاكلبرك، ستافروس ساكوف، س. دزریونیان، أ. ي. كریمسكي، میخائیل یوسف عطایا، و ف. میللر. و یذُكَر أنه كان طالبا ناشطا؛ً فقد ترجم عن الألمانیة قسماً من كتاب )مقدّمة في اللغات السّامیةّ(  للمستشرق نولدكه، وفي صیف ١٩٠٢ زار إیران ضمن تطبیق میداني لمعھد لازاریف، حیث تعرّف إلى بعض أتباع دیانة یارسان (أھل الحق) وحصل على مصادر ثمینة نادرة، و كذلك زار القوزاق الروس في آسیا الصغرى، وكتب عنھم لاحقاً دراسته (زیارة إلى القوزاق ), و كانت حصیلة نشاطه في المعھد ثلاث دراسات موزّعة على محاور اللغات الثلاث: الفارسیةّ، التركیة والعربیة. فدراسته في الفارسیةّ  عن النشاطات الإیرانیة في ما وراء القفقاس، وفي التركیّة تحقیق متن كتاب تركي، وفي العربیّة تناول بالنقد كتاباً لاتینیاّ قًدیما عن قواعد اللغة العربیةّ (بالتعاون مع أستاذه كریمسكي).

وبعد تخرّجه في معھد لازاریف، إلتحق بالسّلك الدبلوماسي في وزارة الشؤون الخارجیةّ الروسیةّ, حیث عمل خلال السنوات (١٩٠٤- ١٩٠٨ ) في إیران، منھا، سنتان في القنصلیة الروسیةّ بمدینة تبریز بصفة مترجم، ثم اّنتقل إلى طھران بوظیفة السكرتیر الثاني في القنصلیةّ، ثمّ واصل عمله خلال ( ١٩٠٨-١٩١٢) في بطرسبورغ، حیث تعزّزت علاقته مع بارتولد أبرز مستشرقي روسیا، ثمّ نقل إلى تركستان بصفة ملحق دبلوماسي للإدارة العسكریةّ، حیث تھیأ له المجال للإطلاع على الشؤون المغولیةّ.

و یذُكَر انه قد عقد في ١٩١١ معاھدة مع ممثلي بریطانیا في شمال غربي إیران، و في السنة نفسھا دعا الرئیس محمد حسین خان مكري مینورسكي إلى أروميه، وبعد زیارته إلى أرومیه، إصطحبه إلى قصره في مدینة بوكان.

وفي ١٩١٢ عُینّ بمنصب السكرتیر الثاني للسفارة الروسیةّ في إستانبول، وبعد سنة أختیر ممثلا لًلإمبراطوریةّ الروسیةّ في لجنة ترسیم الحدود التركیّة- الإیرانیةّ، حیث تزوّد بمعرفة طوبوغرافیة و لغویة غنیة جدّا؛ً آزرته في دراساته اللاحقة. ومن ثمّ تعیّن ممثلاً لروسیا في طھران. وفي ١٩١٣ تزوّج من تاتیانا شیبونیا حفیدة المستشرق الروسي الكبیر سمیرنوف، والتي أصبحت رفیقة دربه و قاسمته حلاوة الحیاة و مرارتھا، بلْ یذكر بنفسه : ” بأنه لمْ یجرِ مداداً على ورق إلاّ وكان بخطّ یدھا”!

وفي السنة نفسھا، عاد مینورسكي إلى مواصلة تثبیت الحدود  العثمانیة- الإیرانیة بصفته ممثلّاً لروسیا في اللجنة الرباعیّة المتكونة من ممثلّيّ الدول: العثمانیة، إیران، بریطانیا و روسیا. وفي شباط ١٩١٤ باشرت اللجنة بتثبیت الحدود منطلقة من خرّم شھر(المحمّرة)  صعودا إلى الشمال حتى جبال آرارات، وقد سمّي خطّ الحدود ب( خط مّینورسكي)؛ لممارسته تأثیرا كبیرا في ترسیمھا بفضل معرفته الدقیقة بجغرافیةّ المنطقة. ولئن إستغرقت المھمّة ثمانیة شھور؛ فقد توسّعت آفاق معرفة مینورسكي بالمنطقة، حیث تعرّف عبر مروره بالمناطق الكردیة الحدودیة إلى شخصیاّت كردیةّ، بلْ عثر على مخطوطات نفیسة. و بعدھا عاد مینورسكي إلى روسیا، حیث نشر دراسته المھمّة (الأكراد، ملاحظات وإنطباعات)  ثمّ عاد إلى طھران، حیث عين في ١٩١٦ بمنصب السّكرتیر الأوّل في السفارة الروسیةّ، ورقي في السنة التالیة ( ١٩١٧ ) إلى القائم بأعمال السفارة، و قد واصل زیاراته إلى المناطق الكردیةّ فترتئذ، وإلتقى سعید خان كردستاني في طھران، حیث تحاورا في شتى المواضیع، و خاصّة في أدب الـ (یارسان)  و قد إستفاد كثیراً من مشاھداته وعلاقاته و لقاءاته؛ فعُني بالآثار كتب دراسات عن (آثار ماكو)  و مسلّة (كیله شین)، وطوبزاوه في حوض بحیرة أرومیه.

وفي أكتوبر ١٩١٧ إندلعت ثورة أكتوبر البلشفیةّ التي قلبت الأوضاع، لا سیمّا السیاسیة في روسیا القیصریةّ ھزّت المنطقة والعالم قاطبة،ً ولم تحدث التحوّل في مصیر روسیا فحسب، بلْ في مصائر الكثیر من الشعوب الأخرى، وفي مصیر مینورسكي نفسه، إذْ كان وقتذاك یشغل منصب القائم بالأعمال الروسي في طھران؛ فأصبح من رجال العھد البائد، وانقطع السبیل بینه و بین بلاده، و قد صرّح حین ذاك لصدیقه جھانبھاني: ” یجب أن نتریّث و نتأنّى كثیراً أمام ھذه التغییرات الھائلة في بلد عدیم الثروة والمال و مثقل بالحروب. وإن لھذه الثورة آثاراً ستظھر على العالم” و رغم تنبؤه الصائب؛ عارض الثورة، وظل على ولائه للحكومة المؤقتة، التي كانت تحكم روسیا بعد ثورة شباط ١٩١٧ واستمرت في الحكم حتى اندلاع ثورة اكتوبر في العام نفسه، إذْ ظلت السفارة الروسیة في طھران – موقفھا موقف معظم السفارات الروسیة في البلدان الأخرى – موالیة للحكومة المؤقتة، وظل مینورسكي في طھران حتى سنة ١٩١٩ ، ثم انتقل الى باریس، حیث دشّن المرحلة الفرنسیةّ (١٩١٩- ١٩٣٢) من سیرته؛ إذْ عمل في السفارة الروسیةّ أربع سنین (١٩١٩-١٩٢٣) و بعدما یئس من وضع روسیا الجدید؛ إعتزل العمل السیاسي نھائیا،ً وكرّس حیاته  ونشاطه العلمي منذ ١٩٢٣ للعمل الإستشراقي، حتى وفاته في سنّ التاسعة والثمانین.

ففي ١٩٢٣ عمل في تدريس اللغة الفارسية وأدبها في المعهد الوطني للغات الشرقية الحية في باريس = Ecole National des langues Oreintal Vivants ثم عّمل في تدریس اللغة التركیة و التاریخ الإسلامي، في المعھد نفسه و عمل خلال الفترة (آب ١٩٣٠ – كانون ثاني ١٩٣١ ) سكرتیرا شرقیاّ لمعرض الفن الإیراني في لندن، برعایة الشّاه رضا بھلوي نفسه.

وفي عام ١٩٣٢ انتقل مینورسكي الى لندن، حیث بدأت مرحلته البریطانیة (١٩٣٢ -١٩٤٤ ) فعمل مدرّساً في مدرسة الاستشراق، و نال درجة الأستاذیةّ في سنة ١٩٣٧ ثمّ درّس في جامعة كامبرج منذ سنة ١٩٣٩ حتى تقاعده في سنة  ١٩٤٤ ، و عینّ عضوا فًخریاّ بًدرجة أستاذ متمرّس في الجامعة نفسھا.

و في ھذه المرحلة توسّعت دائرة اھتمامات مینورسكي و تضاعف نشاطه البحثي؛فتسنىّ له أنْ یقدّم أھمّ أعماله، حیث ” كان في أوج قوّته، و كان عقله قادرا دوماً على استیعاب المعلومات الجدیدة، و كان قلمه دفاّقا،ً و نھما لًلمعرفة حتى النھایة”على حدّ توصیف المستشرق بوزورث.

و في مرحلة التقاعد (١٩٤٤-١٩٦٦)  تفرّغ مینورسكي كلّیا لًلبحث العلمي والتألیف، و كان جمّ النشاط في مشاركاته في العدید من الندوات و المؤتمرات والملتقیات والمھرجانات ذات العلاقة بالإستشراق عموما،ً في شتى البلدان…

وبعد وفاته، راحت زوجته تاتیانا تنفذ وصیتّه بإخلاص؛ ففي ١٩٦٧ أرسلت القسم الأھمّ من مكتبته و أرشیفه كھدیة إلى مكتبة معھد الإستشراق في لینینكَراد (بطرسبورغ حالیاّ)، و نقلت رفات زوجھا إلى دیر نوفودفیجي في موسكو، كما نشرت كتابین جدیدین له، و ظلّت تعیش في بریطانیا، علماً أن مینورسكي قد إتخذ الغرب وبالأخصّ إنكَلترا ملجأً له حتى وفاته ، حیث كان یعمل بحرّیّة، و یحظى بإعتراف عالمي بصفته من أبرز المستشرقین، لكنه لمْ یتجنسّ بالجنسیةّ البریطانیةّ، بل ظلّ دائم الحنین إلى وطنه، الذي تعذّر علیه الرجوع إلیه في عھد ستالین؛ فظلّ حتى وفاته متعاطفا مع (روسیا)  في السرّاء و الضرّاء، و متابعا لنشاط الإستشراق الروسي، و سرّه إندحار الوحش النازي أیمّا سرور. و في سنة ١٩٦٠ حظي مینورسكي بدعوة الحضور إلى المؤتمر الاستشراقي العالمي الخامس والعشرین في موسكو، وكان محل تقدیر بالغ وحفاوة كبیرة داخل أروقة المؤتمر وخارجه، بلْ قام بجولة في بعض المدن المحببة الى قلبه: لیننغراد، باكو و تبلیس.

و في أوائل ستینات القرن الماضي، أولى المستشرقون الروس إھتماما كبیراً بتآلیف مینورسكي ، والتي كانت ممنوعة التداول في عھد ستالین، حیث ترجمھا كبار المستشرقین الروس إلى اللغة الروسیة، و تمّ نشرھا على نطاق واسع.

و بخصوص مكتبة مینورسكي وأرشیفه و مخطوطاته المھداة إلى معھد الإستشراق في (بطرسبورغ)  یشیر الأستاذ جودت ھوشیار إلى أن أرشیفه “یحتوي على مخطوطات قیمّة من تألیفه ومخطوطاته شرقیة قدیمة، كان قد اقتناھا خلال عمله في ایران وتركیا، ورسائل متبادلة مع كبار المستشرقین في العالم ومع العلماء والشخصیات الكردیة البارزة، ووثائق على جانب كبیر من الأھمیة تتعلق بالقضیة الكردیة والقضایا الأخرى في المنطقة في العقدین الأول والثاني من القرن العشرین. ویقول تلمیذه الروحي المؤرخ الشھیر العلامّة (میخائیل لازاریف)  انه استفاد كثیراُ من مخطوطة ثمینة بقلم مینورسكي عن الكرد و كردستان لمْ تُنشر لحدّ الآن، ولمْ یتسنَّ للباحثین الكرد الإطلاع على محتویات أرشیف مینورسكي، ربما بسبب كون معظم مؤلفاته المخطوطة وأوراقه ورسائله مدوّنة باللغتین الفرنسیة والإنجلیزیة”.

لقد تعرّف مینورسكي في روسیا، إیران، فرنسا، بریطانیا و غیرھا على شخصیاّت مھمّة في شتىّ المجالات، وكانت صداقاته مثمرة، ومن أصدقائه الإیرانیین: العلامّة محمد عبدالوھاب قزویني، العلامّة مجتبى مینوي و سیدّ حسن تقي زاده… و كان عرفانه مشھودا بفضل و جمیل الأصدقاء، فمثلا أًھدى كتاب (حدود العالم) للعلامّة قزویني قائلا: ” وعبارة إھداء الكتاب؛ تعزّز دیني للعالم الفارسي العظیم، الذي كان – خلال صداقتنا التي إمتدّت لخمسة عشر عاما-  سخیاًّ في مدّ ید العون لي في مئات من المصاعب العلمیّة التي واجھتھا، وإنّ حواراتي المطوّلة والمفیدة دائما معه قد مثلّت واحدة من أكثر الذكریات سعادة في حیاتي”

والجدیر ذكره ھو تعلقّه الحمیم بإیران: “..فمنذ إثنین و خمسین عاما ما قضیت یوما إلا قّرأت أو فكّرت أو كتبت عن إیران…وأنت تعرف ما ھو وطني الثاني” حسبما جاء في رسالة إلى صدیقه جھانبھاني، و من ھنا أیضاً جاء إھتمامه المشھود بالكرد و كردستان.

و طالما إنتقد مینورسكي الـ  (پان ترکیسم = الطورانیة)  فقد قال: ” أینما تظھر مسألة علمیة غیر محلولة في مجال ثقافات الأقوام الشرقیة القدیمة؛ یھرع الترك لدسّ أنفسھم ھناك!” حیث یجد المؤرّخون الطورانیون ثغرة لتزویر التاریخ، ودعم مقاصد الإیدیولوجیة الطورانیة. و یحسب مینورسكي المؤرّخین الترك من الطورانیین سرّاق الحضارات الشرقیةّ القدیمة و دعاواھم باطلة، مستندة إلى التلفیقات والأغالیط والأضالیل.

كتب الباحث طارق محمد عبد الرحیم: ” یشھد له جمیع أصدقائه الإیرانیین بأنه صاحب نفس رفیعة. و قد آثر في الحیاة بساطة العیش زاھدا فیما یمكن أنْ یجنیه من دراساته و أعماله المختلفة من مكاسب مادّیةّ. و كان عاشقا للعلم و خادما له”.

وقد أصاب باحثنا طارق محمد في تمییز مینورسكي عن مستشرقین روس آخرین: ” إستطاع أن یحقّق ما عجز الروس عن تحقیقه، ألا و ھو الخروج من جلده السیاسي؛ فقد قفز إلى عالم الأكادیمیة الصّرفة، و تحرّر من الولاء للسیاسة والسیاسیین؛ إثر قیام ثورة أكتوبر، و ھجرته إلى فرنسا، و من بعدھا إلى بریطانیا.

و قد خرج أیضا مًن جلده الروسي عندما إقتفى خطى أستاذه بارتولد، و قدّم نفسه للعالم الغربي، الذي أعجب بإمكاناته الإستثنائیةّ، و عجز غیره عن مجاراته؛ فأُقِرّ له بالتفوّق طوال حیاته”

لا شكّ في أنّ مینورسكي علامّة موسوعيّ نادر النظیر؛ برغم عدم استكماله مراحل الدراسات العلیا (الماجستیر و الدكتوراه)   وعدم حصوله على شھادة أكادیمیّة علیا، وإنّما حاز على لقب البروفیسور بكفاءته المشھودة بما قدّمه من أبحاث و تحقیقات و ترجمات ودراسات أكادیمیة راقیة؛ فقد أربى عدد أعماله على الـ  (٣٠٠ )في مجالات التألیف، الترجمة، التحقیق، النقد، مابین مقالة و دراسة وكتاب باللغات: الروسیة، الفرنسیة، الإنكَلیزیة، الفارسیة والعربیة..في شتىّ المجالات: السیاسیةّ، الجغرافیةّ، التاریخیةّ، الدینیةّ و الأدبیةّ.

لقد كان مینورسكي واسع الإطلاع و یتابع أعمال الآخرین باللغات الغربیة والشرقیةّ، و یقدّم مراجعات (قراءات)  لبعضھا؛ فمثلا قدّم في المرحلة الفرنسیة ١٢ مراجعة..و كان مینورسكي یسعى دوما إلى بحث مواضیع غیر مطروقة، و” لمْ یكنْ مستبدّا برأيه، و غالبا ما ینفي وصوله إلى نتائج قاطعة في أحكامه، ویترك الباب مفتوحا لًمن یأتي بعده؛ للإستزادة من البحث والدراسة”حسب تأكید الباحث طارق محمد عبد الرحیم.

وكانت كتاباته كافةّ باللغات : الروسیة، الفرنسیة والإنكَلیزیّة، ولمْ یكتب شیئاً یُذْكَر باللغات: الفارسیةّ، التركیةّ و العربیةّ، رغم كونھا ضمن تخصّصه في معھد لازاریف؛ و لعلّ العلةّ تكمن في إدراكه ضرورة مخاطبة القرّاء و المختصّین في الغرب. وكان أسلوبه یتّسم بالإیجاز الشدید: ” أنا أكتب بشكل مختصر ما أمكنني؛ فعباراتي تحتاج إلى دقّة كاملة” و رغم كونه مترجما؛ أقرّ أنّ: ” الترجمة عملیةّ صعبة؛ حتى لو كانت عن الفرنسیةّ إلى الإنكَلیزیةّ؛ فكیف بالترجمة بین الفارسیة والإنكَلیزیة؟! فمن المناسب وجود صلة بین المترجم والمؤلفّ” و لذا كان یعتب على الذین یترجمون أعماله بدون علمه.

كان مینورسكي یستند في أعماله إلى شتى المصادر والمراجع التي یظفر بھا باللغات التي یتقنھا: الروسیةّ، الفرنسیةّ، الإنكَلیزیةّ، الألمانیةّ، وباللغات التي یلمّ بھا إلماما جیدا: الفارسیة، التركیة، العربیة، الكردیة، التركیة الآذریة، الأرمنیة والكَرجیة. وقد نالت أكثریة أعمال مینورسكي تقاریظ مستشرقین و بحّاثة كبار أمثال: إدمونز، لانك، فایر، لازاریف، أرشاك بولادیان، عبد العزیز الدوري وھاملتون كَب، الذي قیمَّ أحد أعماله قائلا:” جمع البروفیسور مینورسكي بصبر ومھارة ممیّزة تاریخ القوقاز الشرقي المتشتت في القرنین العاشر و الحادي عشر المیلادیین. و أساس ھذه الدراسة ھو فصل من كتاب بالعربیة..لكنّ ھذا النصّ بمفرده لا یعني إلاّ القلیل؛ فالنصّ العربي في أكثر الأحیان ناقص وغیر دقیق. وما منح ھذا الكتاب أھمّیة، بغضّ النظر عن إحتوائه على خزین من المعلومات الجغرافیة و التاریخیة التي لا نظیر لھا، نقول: إنّ أھمّیته تتجلى في توليّ مینورسكي معالجته من خلال تناول موضوعات مختلفة كإستغلال سكّان المرتفعات الإیرانیةّ الفراغَ، الذي نتج عن موقف البویھیین المتسامح و عجزھم عن السیطرة على تلك المرتفعات، و دخول الكرد كعنصر إضافي في ذلك الخلیط من الأعراق والثقافات و الدیانات في أرمینیا…”

و ثمّة شھادات عدیدة تقیمه تقییما عالیا، و منھا قول البحّاثة الإیراني الكبیر مجتبى مینوي: ” بوفاة مینورسكي؛ رحل أبرز المستشرقین و أعلمھم..و أصبح الوسط الإستشراقي خالیاً، لاسیمّا في حقل الدراسات الإیرانیة” و قول المستشرق الكبیر لانك: ” القلائل من العلماء البارزین جمعوا ذلك العلم الغزیر مع تلك البساطة والإخلاص…و أنا أتذكّر جیدّا عًندما كنت مبتدئا في دراسة النقود القفقاسیةّ، كنت أتلقى من الأستاذ مینورسكي صحفا سوفییتیة تتحدّث عن إستكشافات مھمّة عن النقود القدیمة، و معلومات غیر متوفرّة في أماكن أخرى” و المستشرق أ.س. تریتون: ” الشّيء العظیم عن مینورسكي ھو إنه لمْ یكنْ مرتبطا بأیة جھة. و كان راغبا في حضور تجمّعات أكادیمیة”  والمستشرق ج. بویل: ” إنّ طالبا في الدراسة التركیة أو المغولیة مدین لمینورسكي أكثر من طالب في الدراسات الإیرانیةّ…وإنّ معرفته لا یباریھا إلا وّفرة نتاجاته”.

مستل من كتاب: الكردلوجيا_موسوعة موجزة, تأليف وترجمة: جلال زنگابادي. 2014

شارك هذا المقال: