من المدرسة الفرنسية في كوباني إلى الحجرة الكردية في عامودا .
روى لي الملا إبراهيم، رحمه الله ، ولدت عام 1925م لأبوين كرديين في قرية ترمك (تَرْمِكِ پيژان) القريبة جدا من مدينة كوباني. ودخلت التعليم الابتدائي حيث تعلمت قليلاً من الفرنسية ثم انتسبت الى حلقة الكُتّاب (الخوجه) فتعلمت القرآن ومبادئ الخط والحساب البسيط. ثم كبرت إلى أن صرت في الثامنة عشرة فأشار عليّ رجل متدين بأن أسافر الى قرية “تل معروف” فهناك تُدرَّس علوم الفقه والشريعة. فقررت السفر بالقطار وسافرت الى تل معروف. لكن بعد مدة من المكوث هناك، لم يرقني الجو فرجعت أدراجي إلى كوباني وبقيت سنة فيها إلى أن نصحني أناس بالسفر إلى عامودا، ففيها مدرسة شرعية للفقهاء يدرّس فيها عالم جليل يدعى ملا عبداللطيف، وهو خليفة الشيخ أحمد الخزنوي. فسافرت نشطاً متفائلاً. وصلت إلى عامودا وكان ذلك عام 1946/1947.
وفعلاً وجدت ضالتي، حيث التقيت بأرقى شابين من سني تقريباً هما، الشيخ عفيف الحسيني وأحمدى سيدا… ورأيتهما ينشدان أشعاراً لملايى جزيري ففرحت أيّما فرح وكأني كنت على موعد مسبق مع الرجلين..!! وهما بدورهما فرحا لما تعرفا علي ورأياني أعرف التركية والأرمنية ..؟! هناك، استقرت نفسي واطمأن وجداني وأكملت دراستي الشرعية عند الأستاذ، سيداي ملا عبد اللطيف، كما درّسني كلٌ من ملا بشير وملا حسين اللذان صارا فيما بعد أخوالاً لأولادي…
بعد اكمال دراستي عرض علي بعضهم فكرة الزواج ببنت الصوفي شريف أخي الشيخ صالح الكرمي… فوافقت حينئذ ووافق والدها لكن بعض أولاد عمومتها عارضوا ذلك كعادة الناس آنذاك…!! لكن ابن عمها، الملا بشير، وقف الى جانبي وكان رجلاً جسوراً له هيبة بين عائلته المنتمية إلى عشيرة كُرُمان. وأخيراً، تزوجت من السيدة سعدية على بركة الله ، حيث استأجرت منزلاً قرب منزل ابن أستاذي، أحمدى سيدا رحمه الله..! وتوظفت في محطة بنزين الحج أورخان دبّاغ بأجر كافٍ يناسب عائلة متوسطة بل يزيد…!
بقيت في عامودا أكثر من خمسة عشر عاماً. وهناك واجهنا تياراتٍ عدة، أقواها التيار الصوفي الذي لم أهضمه كثيراً… ولما ظهرت حركة الإخوان في أواسط الخمسينات تقربنا منها أنا والشيخ عفيف الحسيني ومعنا الأستاذ المتحرر، عبد الوهاب ملا، الذي كان من أنشط طلاب الحجرة العامودية الشرعية…! حيث كان رساماً وخطاطاً وموهوباً في الشعر والكتابة والنقد الأدبي وما إلى ذلك. وكنت آنذاك بعامودا حينما قام بطبع كتابه “ الحب والأدب” والذي لم يرق للمتعصبين من رجال الفقه والملالي وغيرهم. ولكننا كنا نشجعه و نبارك خطوته الأدبية و نزعته نحو التحرر والوعي الجديد.
هنا تظهر حركة جديدة كردية عام 1957م ، زاحمت حركتي التصوف والإخوان بالإضافة إلى الحركة الشيوعية القوية أيضاً. من جهتنا فقد آثرنا الحركة الكردية، أقصد الپارتي، حيث لامست صدىً طيباً في نفوسنا. فكنا نجتمع كثيراً بسيداي جگرخوين، الذي كان بدوره خريج نفس المدرسة الشرعية هو وأستاذنا ملا عبد اللطيف. كما كنا نلتقي بالعم أوسمان صبري رحمه الله، وكان شاعراً وكاتباً متحمساً لكن دون مستوى سيداي جگرخوين الذي كان شِبهَ موسوعة بالنسبة لنا. طبعاً كنا نحفظ شعر جگرخوين إضافة إلى شعر أوسمان صبري وقدري جان أيضاً. بالإضافة إلى اطلاعنا اليومي على قصائد ملاي جزيري و سيداي خاني وإنشادنا لها. وكان حضور قصائدهما قوياً في مجالس طلبة العلم ( فه قه ) والملالي في عامودا وعموم الجزيرة. وكان لهما دور كبير في تهيئة كرد الجزيرة للنزعة القومية الكردية لما عرف عنهما من الأمر.
في عامودا ولدت جميلة، ابنتي الأولى وكبرى أولادي عام 1952، ثم تلتها ابنتي الثانية سلمى. أما بقية أولادي، بناتاً و صبياناً، فقد ولدوا في كوباني… طبعا رجعت الى كوباني بعد أحلى رحلة في عالم المعرفة والصداقة والحراك الاجتماعي والسياسي والعلمي… وذلك بتشجيع من بعض أهل كوباني الذين أقنعوني بالعودة الى مسقط رأسي بقرية ترمك، بحجة العمل في أملاكنا من كروم و حقول قمح في أراضي القرية.
رجعت لكني لم أعمل في أي حقل ولا زرع بل عملت كشأني في عامودا، وهنا في محطة بنزين الحاج مصطفى درويش ،رحمه الله. بقيت أعمل الى عام 1970 حيث بني مسجد كُچِكان وسط كوباني فطلبوني فيه إماماً وخطيباً… ظللت أؤم الناس وأخطب فيهم حتى سنة 2008 حيث تركت الأمر لمضايقات أمنية و بسبب تقدمي في السن أيضا.
فيما يتعلق بمعرفتي بالأرمنية فقد تعلمتها من حي الأرمن في كوباني أما التركية فمن بعض أهالي الرها (أورفا) الساكنين بكوباني وبفضل السفر بالقطار الى المناطق الكردية شمال سكة الحديد. والعربية اتقنتها نحواً وصرفاً في حجرة أستاذي، سيداي ملا عبد اللطيف أومركي. وكانت خزانتي تحوي كتب الأدب الكردي كملحمة مم و زين وديوان ملاي جزيري وأشعار جگرخوين و غيرهم. واقرأ قصصاً لموسى عنتر مثل، بِرينا رَش، وغيرها مما توفر في الساحة.
في كوباني انتسبت كمؤيد للپارتي، القيادة المرحلية، عام 1970. وكنت أنشر الثقافة الكردية، وأخطب الجمعة ملتزماً بالمذهب الحنفي في الفقه الاسلامي. ونلنا شرف الإسهام في نشر الوعي القومي والاجتماعي والديني في جوانبه الحضارية الإنسانية.
هذه كانت جولتنا مع الرجل الطيب الكريم السموح الصبور، حيث لم يكن يغضب حين المناقشة ولا يرفع صوته أبدا كشأن الكثيرين. كان رحمه الله مضيافاً يتمتع بحسن النكتة مبتسما في وجه رفقائه. كان إلى جانب ذلك جميل الخط، جيد الفهم للنصوص، يكتشف التناقض ويضحك منه ويدعو إلى إعمال العقل والمنطق في الحياة كلها… كان محباً للسفر وبالرغم من كبر سنه يركب الدراجة النارية، الموتوسيكل، ويسافر بها الى الجزيرة ليلتقي أصدقاءه القدماء كالشيخ عفيف الحسيني والملا سعد الدين سيدا نجل أستاذه بعامودا وغيرهم…!! يحب ايضا عشرة الجيل الجديد وينفر من الذهنية العشائرية .
توفي رحمه الله في مدينة الرها عام 2015 ، بعد نزوحه إليها عام 2014 عقب هجوم الإرهابيين الدواعش على مدينة كوباني، عن عمر ينوف على التسعين عاماً.